اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

الثالث : النفاق ، وهو لغة إبطال الشخص خلاف ما يظهره ، وعرفا إظهار الإيمان وإبطان الكفر.

الرابع : الفسق ، وهو لغة الخروج ، والفأرة فويسقة ؛ لخروجها عن بيتها ، وعرفا الخروج عن طاعة الله تعالى مع الإيمان ففاعل الكبيرة مؤمن لتصديقه ، وقال الحسن البصري: هو منافق ، وقالت الخوارج : هو كافر ، وقال الزيدية : كافر نعمه ، وقال جمهور المعتزلة : غير كافر ولا مؤمن بل له منزلة بين منزلتي : الإيمان والكفر ، والحقّ ما قلناه.

الثاني : في الأحكام ، وفيه مسائل :

الأولى : حكم المؤمن في الدنيا المدح والتعظيم والمناكحة والموارثة والغسل والصلاة والدفن في مقابر المسلمين ، وفي الآخرة استحقاق الثواب الدائم ؛ للإجماع ودلالة النصّ والعقل. وأطفالهم تابعون لهم في ذلك كلّه ؛ لقوله تعالى : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١).

الثانية : حكم الكافر في الدنيا ضدّ ما تقدّم في المؤمن ، وفي الآخرة العقاب الدائم والتخليد في النار ؛ للاجماع ودلالة القرآن.

قال الجاحظ والعنبري : إنّ الكافر المبالغ في الاجتهاد وطلب (٢) الحقّ ومات ولم يصل إليه معذور عند الله ، وهو غير مخلّد.

وقال البيضاوي : يرجى له العفو ، وقال أكثر المسلمين بعدم الفرق.

وأما أطفالهم فالحقّ أنّ عقابهم قبيح ؛ لعدم التكليف فلا مخالفة فلا عقاب ، ويجوز التفضّل عليهم ؛ لعموم (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٣) وللكافر المرتدّ وغيره أحكام هي بالفقه أنسب ، والمنافق إن أظهر الإسلام عومل بأحكامه في الدنيا.

الثالثة : حكم الفاسق المؤمن (٤) المدح والتعظيم لإيمانه والذمّ والاستخفاف

__________________

(١) الطور ٥٢ : ٢١.

(٢) الطلب ـ خ : (د).

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٦.

(٤) المؤمن ـ خ : (د).

٤٤١

لعصيانه ، فهو ممدوح مذموم باعتبارين ، وأمّا في الآخرة فإن كانت معصيته صغيرة فهي مغفورة إجماعا ، وإن كانت كبيرة ومات ولم يتب منها فقطع المرجئة بعدم عقابه ، وإلّا لكان مخزيا ؛ لقوله تعالى : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (١) وكلّ مخزيّ كافر ؛ لقوله : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

وقطع الوعيدية بعقابه وتخليده لما يأتي من حجّتهم ، وقالت الأشاعرة وأكثر أصحابنا : يجوز عقابه وعدمه ؛ لأنّه حقّه تعالى فجاز له تركه ، لأنّه لا لوم ولا ذمّ على من ترك حقّه(٣) وجائز له أخذه ، لكن لو عوقب لكان عقابا (٤) منقطعا ، وهو الحقّ ؛ لما يأتي.

الرابعة : حيث تعرّضنا لذكر الكبيرة فلنذكر ما قيل في تفسيرها ، فنقول : قال قوم من أصحابنا : إنّ الذنوب كلّها كبائر ؛ نظرا إلى اشتراكها في المخالفة ، وإنّما سمّي بعضها صغائر بالنسبة إلى ما فوقه ، كالقبلة فإنّها صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، وكبيرة بالنسبة إلى النظر (٥).

وقالت المعتزلة : الكبيرة والصغيرة يقالان بالإطلاق وبالإضافة.

أمّا الأوّل فالصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله في كلّ وقت ، والكبيرة ما يزيد عقابه عن ثواب فاعله في كلّ وقت.

وأمّا الثاني فبالإضافة إلى معصية أو طاعة ، فالصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب تلك الطاعة أو عقاب تلك المعصية في كلّ وقت ، والكبيرة هو الذي يزيد عقابه على ثواب تلك الطاعة ، وقيّد في هذه الصور لكل وقت ؛ لأنّه لو اختلفت الأوقات لوجب التقييد ، فيختلف الاسم.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٩٢.

(٢) النحل ١٦ : ٢٧.

(٣) على ترك حقّه ـ خ : (آ).

(٤) عقابه ـ خ : (آ).

(٥) النظرة ـ خ : (آ).

٤٤٢

وأمّا الفقهاء والمفسّرون فقالوا : الكبيرة ما توعّد عليه بالنار (١) فبعضهم عدّ سبعة ، وبعض سبعين ، وقال ابن عباس : هي إلى سبعمائة أقرب ، غير أنّه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.

الثالث : في انقطاع عقاب صاحب الكبيرة ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : أنّه لمّا بطل التحابط وجب استحقاق هذا الثواب بإيمانه والعقاب بمعصيته ، فإن وصلا إليه دفعة فهو محال عقلا وإجماعا ، وإن وصلا على التعاقب فإن أثيب أوّلا فهو باطل ؛ للاجماع على أنّ من يدخل الجنة لا يخرج منها ، وإن عوقب أوّلا فهو المطلوب.

الثاني : أنّه لو خلّد في النار لزم مساواته للكافر الذي أتى بأعظم المعاصي ، مع أنّ الفاسق انضمّ إلى معصيته إيمان ، واللازم باطل عقلا ، فكذا الملزوم.

الثالث : أنّه يقبح منه تعالى أن يعبده إنسان ألف سنة ، ثمّ يفسق مرّة واحدة فيحبط تلك الطاعات العظيمة بتلك المرّة الواحدة.

الرابع : أنّ معصية الفاسق متناهية فلا يحسن استحقاقه عقابا غير متناه ، ولا ينتقض بالكافر ؛ لأنّه أتى بأعظم المعاصي (٢).

الخامس : قوله تعالى : (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٣).

وجه الاستدلال أنّ المستثنى إمّا الأوقات أو الأشخاص ، فإن كان الأوّل فليس

__________________

(١) الظاهر أنّ مراد المصنف (ره) من ذلك التوعّد بالنار في الكتاب الكريم ، ولكن التحقيق هو أن يقال : إنّ الكبيرة ما توعّد عليه بالنار في الكتاب والسنّة التي ثبتت حجّيتها في الفروع والأحكام الشرعية ، فكل معصية توعّد عليها النار في الكتاب الكريم والسنة الثابتة الحجية في الأحكام فهي كبيرة ، وقد ذكرنا تفصيلها في رسالة مستقلّة ، كما كتب سيدنا العلّامة العالم الشهير السيد عبد الحسين دستغيب الشيرازي المعاصر أطال الله بقاءه كتابا مستقلا في هذا الباب بالفارسية ، وهو مطبوع منتشر ، فراجع.

(٢) وهو الكفر والشرك بالله تعالى وصفاته ، والكفر بما لا يتناهى يكون عقابه غير متناه ، وليس الفاسق كذلك ، ومن هنا يرتفع إشكال : أنّ الكافر كيف يخلد في النار؟ فإنّ الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له ، فيكون جهلا ولا يتناهى فكذا عقابه.

(٣) الأنعام ٦ : ١٢٨.

٤٤٣

المراد ما قبل الدخول ، كما قيل ؛ للزوم الإضمار من غير (١) ضرورة ، ولقبحه في اللفظ فيكون بعد الدخول.

ويؤيّده : كون الخلود إنّما يكون بعد الدخول ، وليس تلك الأوقات للكفار ؛ للإجماع ، فيكون للفسّاق وهم من فعل الكبيرة ، إذ الصغائر مكفّرات إجماعا ، وإن كان الثاني فالمطلوب ظاهر ؛ إذ لا خلاف أنّ الكافر لا يخرج من النار.

إن قلت : كان يجب أن يقول على هذا : إلّا من شاء الله ؛ لأنّ الفاسق من أولي العلم.

قلت : المحقّقون على أنّ «من» يشترط في مدلولها العلم ، وأما «ما» فلا يشترط فيها العلم ولا عدمه ، فقد يطلق على أولو العلم كقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٢) وكذا الاستدلال بقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٣).

السادس : ورد متواترا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : يخرج قوم من النار كالحمم والفحم فيراهم أهل الجنّة فيقولون : هؤلاء جهنّميون ، فيؤمر بهم فيغمسون في عين الحيوان فيخرج أحدهم كالبدر.

احتجّ القائلون بالتخليد بعموم آيات نحو قوله تعالى : (مَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٤) (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٥) وغير ذلك ، وعموم أخبار وهي كثيرة.

والجواب أنّا نحمل الخلود على المكث الطويل ؛ لاستعماله فيه كقولهم : وقف مخلّد ، وقول الفقهاء : إنّ السارق يخلد السجن في الثالثة ، وفي الدوام كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) (٦) فيكون للقدر المشترك ؛ لأنّ الاشتراك والمجاز خلاف

__________________

(١) بغير ضرورة ـ خ : (د).

(٢) الشمس ٩١ : ٥.

(٣) هود ١١ : ١٠٦ ، ١٠٧.

(٤) النساء ٤ : ١٤.

(٥) طه ٢٠ : ٧٤.

(٦) الأنبياء ٢١ : ٣٤.

٤٤٤

الأصل ، فيكون أعمّ ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ ، فإذا دلّ الدليل على التخصيص وجب المصير إليه ، وقد بيّنا ذلك.

أو نحمله على الكافر ؛ جمعا بين ما ورد (١) وبين قوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٢) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٣) وقوله : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٤) وقوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٥) وقوله : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٦) على أنّ المراد بالآية الأولى فيما ذكروه الكافر ؛ لأنّ الحدود جمع مضاف وهو للعموم ـ كما بيّن في الأصول ـ فيدخل فيه الإيمان ، والفاسق غير متعدّ للإيمان ، وكذا الثانية لقوله بعدها : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) (٧) مع أنّ المراد بالفاجر (٨) الكامل في فجوره ، وهو الكافر بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٩).

الرابع : في المسقط العام للعقاب وهو التوبة ، وفيه مسألتان.

الأولى : لا بدّ فيها من الندم على فعل المعصية ، وتركها في الحال ، والعزم على عدم المعاودة في الاستقبال ، وهل العزم المذكور جزء منها أو خارج؟ وعلى الثاني هل هو شرط أو لازم؟

ذهب إلى كلّ واحد قوم بعد اتّفاقهم على أنّه لا بدّ من الكلّ ، وهي واجبة في الجملة ؛ لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) (١٠) وتقع مقبولة لقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ

__________________

(١) أوردوا ـ خ : (آ).

(٢) التحريم ٦٦ : ٨.

(٣) الزلزلة ٩٩ : ٨ ، ٧.

(٤) النحل ١٦ : ٢٧.

(٥) سبأ ٣٤ : ١٧.

(٦) طه ٢٠ : ٤٨.

(٧) طه ٢٠ : ٧٥.

(٨) الفاجر المستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) يعني العاصي الفاجر ، وهو الكامل في فجوره.

(٩) عبس ٨٠ : ٤٢.

(١٠) النور ٢٤ : ٣١.

٤٤٥

التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (١) ويسقط العقاب مع القبول ؛ لقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)(٢) واختلف في مسائل :

الأولى : أنّها هل تجب من جميع الذنوب؟ مذهب أصحابنا ذلك ؛ لدفعها الضرر اللازم بكلّ ذنب ؛ لأنّها إمّا عن فعل محرّم أو ترك واجب (٣) ، وكلاهما قبيح يجب تركه ؛ ولعموم الآية.

وقال أبو هاشم : تجب عن الكبائر لا غير ؛ لعدم حصول الضرر بالصغائر.

والجواب بالمنع من ذلك ؛ إذ غفرانها تفضّل.

الثانية : هل تصحّ من قبيح دون آخر؟ قال أبو علي : نعم وإلّا لم يصحّ الإتيان بواجب دون واجب ، واللازم باطل إجماعا.

بيان الملازمة بأنّه تجب التوبة عن القبيح لقبحه ، وفعل الواجب لوجوبه ، والاشتراك في العلّة يوجب المساواة في الحكم.

وقال ابنه : لا يصحّ ؛ (٤) إذ لو صحّ لكشف عن أنّه لم يتب عنه لقبحه ، وفرق بين الواجبات والقبائح ، فإنّه فرق بين الفعل والترك ، فإنّ من أكل الرمانة لحموضتها

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٢٥.

(٢) الشورى ٤٢ : ٢٥.

(٣) أمّا التوبة عن ترك المندوب وفعل المكروه فمرتبة المعصومين ، والتوبة عن الالتفات إلى غير الحقّ مرتبة السالكين ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي لأستغفر الله في اليوم سبعين مرّة» من هذا المعنى ؛ لاشتغال قلبه في بعض أحوال العباد عن التوجّه شطر الحقّ ، ثمّ بعد ذلك كان يتوجّه بكلّيته إلى الحقّ سبحانه فيستغفر الله تعالى ، وكان يتوب إليه من ذلك الالتفات والاشتغال ، وذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب غاية الكمال ، لعلوّ درجته بحيث لا يبلغ إليها أحد من الأولين والآخرين ، ولأنّه في مرتبة أعلى من مرتبة السالكين والالتفات عندهم ذنب ، ومن ذلك قيل : «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» فالقارئ الكريم يعرف ممّا ذكرناه إجمالا معنى ما ورد في الأدعية المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام من كثرة الاستغفار عن الذنوب والخطايا والتوبة والإنابة الصادرة عنهم إلى الله تعالى ، ولا شكّ أنّهم في كلّ الأوصاف الكمالية مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا النبوة ، فالتوبة والاستغفار الواردة في كلماتهم ليس معناها إلّا المعنى الذي ورد في كلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٤) نقل هذا القول القاضي عبد الجبار المعتزلي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وعن الإمام عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، انظر إلى إرشاد الطالبين ، ص ٢٠٨ طبعة بمبئي وشرح الأصول الخمسة ، ص ٧٩٧ طبعة مصر.

٤٤٦

لا يجب عليه أكل كلّ رمانة حامضة ، ومن ترك أكلها لحموضتها وجب عليه ترك كلّ رمانة ، وإلّا لكشف أكله منها عن أنّه لم يتركها لحموضتها.

والتحقيق : أنّ القبائح مقولة بالتشكيك ، فإذا تاب عن قبيح (١) له مشارك في جهة قبح وجب التوبة عن مشاركه ؛ للعلة المشتركة ، ولا يجب عن غير المشارك ؛ لاختلاف الدواعي ، ولهذا لو أسلم يهودي مصرّ على صغيرة قبلت توبته عن كفره ، وبه تتأوّل النصوص.

الثالثة : هل سقوط العقاب بها واجب أم تفضّل؟ أصحابنا والمرجئة على الثاني ؛ إذ لو وجب سقوط العقاب بها لكان إمّا لوجوب قبولها وهو باطل ، وإلّا لكان من أساء إلى غيره بسائر أنواع الإساءة (٢) ثمّ اعتذر إليه يجب قبول عذره ، واللازم كالملزوم في البطلان. وإمّا لكثرة ثوابها فيلزم الإحباط وهو باطل كما تقدّم.

والمعتزلة على الأوّل وإلّا لما حسن تكليف العاصي ؛ إذ لو كلّف لا لفائدة لزم العبث ، ولفائدة (٣) غير الثواب فباطل إجماعا ، ولفائدة الثواب فهو باطل وإلّا لزم اجتماع المتنافيين؛ إذ العقاب ممكن حينئذ ، فلو وصل الثواب اجتمع المتنافيان.

__________________

(١) عن قبيح له مشاركة لعلله المشتركة ولا يجب توبته عن غير المشارك ـ خ : (د) يعني أنّ القبائح مختلفة بجهات قبحها وإن اشتركت في مطلق القبح ، فإذا تاب العبد من قبيح له مشارك في جهة قبحه وجب توبته عن ذلك القبيح الآخر ، ولا يلزم توبته عن غيره من القبائح التي ليست مشتركة في تلك الجهة لاختلاف الأغراض ، ولعلّ المصنّف (ره) أشار بقوله : وبه يتأوّل النصوص إلى أنّ ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وعن أولادهعليهم‌السلام مأوّل بهذا ، كأنّه يشير بهذا إلى جواب سؤال مقدّر تقريره : أنّه ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وعن أولاده كعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام القول بعدم جواز التوبة عن قبيح دون قبيح ، كما عرفت نقل القاضي ذلك عنهم عليهم‌السلام ، فكيف تقولون بجواز التوبة من بعض دون بعض؟ فأجاب بأنّا نحمل ما ورد عنهم عليهم‌السلام في المنع من ذلك على المنع من التوبة عن قبيح دون قبيح آخر مشارك له في جهة قبحه كما بيّنا.

(٢) مثل إن قتل ولده وأذهب أمواله ثمّ اعتذر إليه من تلك الإساءات العظيمة وجب قبوله عذره ، ولو لم يقبل عذره كان مذموما عند العقلاء ، وهو باطل ، بل يحسن عدم قبول عذره ويحسن الإعراض عنه فلا يكون قبولها واجبا.

(٣) والفائدة ـ خ : (د).

٤٤٧

والجواب (١) : اجتماع المتنافيين لازم على تقدير دوام عقاب الفاسق ، وهو باطل لما تقدّم. سلّمنا ، لكن يمكن التخلّص على مذهبهم بأن يفعل طاعات كثيرة تزيد على معاصيه(٢) فيكفر (٣).

الرابعة : هل سقوط العقاب لذاتها (٤) أو لكثرة ثوابها؟ أصحابنا على الأوّل لوجوه :

الأوّل : أنّها قد تقع محبطة بغير ثواب كتوبة الخارجي عن الزنا ، فإنّها تسقط عقاب الزنا ولا ثواب (٥).

الثاني : لو كان كذلك لما بقي فرق بين تقدّمها على المعصية وتأخّرها عنها ، كغيرها من الطاعات التي يسقط العقاب بكثرة ثوابها ، ولو صحّ ذلك لكان التائب عن المعصية إذا كفر بعد ذلك أو فسق لسقط عقابه (٦).

الثالث : أنّه لو كان كذلك لما اختصّ بها بعض الذنوب دون بعض ، فلم يكن إسقاط عقاب هذا أولى من غيره ؛ لأنّ الثواب لا اختصاص له ببعض العقاب دون بعض ، عندي في هذين الوجهين نظر (٧).

__________________

(١) يعني أنّا نختار أنّ التكليف لفائدة هي الثواب واجتماع ... الخ.

(٢) معصيته ـ خ : (د).

(٣) فيكفرها ـ خ : (آ) يعني على قول الخصم ، وحينئذ يحسن تكليفه ، وهو المطلوب.

(٤) لا على معنى أنّها لذاتها تؤثّر في إسقاط العقاب ، بل على معنى أنّها إذا وقعت على شروطها والصفة التي بها تؤثّر في إسقاط العقاب أسقطت العقاب من غير اعتبار أمر زائد ، قاله العلّامة قدس‌سره في شرح التجريد وسيشير المصنف (ره) إلى هذا المعنى فيما يأتي من قوله : إنّ المراد بسقوط العقاب الخ ...

(٥) يعني لا ثواب لها.

(٦) مع أنّ اللازم باطل ؛ للقطع بعدم سقوط العقاب ، فمن تاب عن المعاصي كلّها ثمّ شرب الخمر لا يسقط عنه عقاب الشرب.

(٧) قال التفتازاني في شرح المقاصد : عندنا سقوط العقاب بمحض عفو الله تعالى وكرمه وتوبته الصحيحة عبادة يثاب عليها تفضّلا ، ولا تبطل بمعاودة الذنب ، ثمّ إذا تاب عنه ثانيا يكون عبادة أخرى ثمّ قال :

فإن قيل : فعندكم حكم المؤمن المواظب على الطاعات المعصوم عن المعاصي ، والمؤمن المصرّ على المعاصي طول عمره من غير عبادة أصلا ، والمؤمن الجامع بين الطاعات والمعاصى من غير توبة ، والمؤمن ـ

٤٤٨

وقال قوم بالثاني وإلّا لقبلت في الآخرة وحال المعاقبة ، واللازم باطل فكذا الملزوم.

والجواب : أنّ المراد بسقوط العقاب بها أنّها إذا وقعت بشرائطها لا تفتقر في سقوط العقاب إلى أمر زائد ، ومن جملة شروطها أنّها تقع ندما على القبيح لقبحه ، وفي الآخرة وحال المعاقبة يقع الإلجاء (١).

الثانية (٢) : يجب أن يندم على القبيح لكونه قبيحا وإلّا لكشف عن كونه غير تائب ، فإنّ من تاب عن شرب الخمر لإضرارها ببدنه غير تائب منها لقبحها ، فعلى هذا لو تاب عن المعصية خوفا من النار أو من فوات الجنة ويكون ذلك هو الغاية لم يكن تائبا (٣).

ثمّ القبيح إمّا من حقوق الله أو الآدمي ، والأوّل : إمّا فعل محرّم كالزنا والشرب (٤) ، فيكفي فيه الندم والعزم المتقدّمان ، أو ترك واجب فإن لم يكن له وقت معيّن كالزكاة والحجّ أتى به ، وإن كان له وقت معيّن فإن لم يسقط بخروج وقته وجب

__________________

ـ التائب عن المعاصي ، واحد وهو التفويض إلى مشيئة الله تعالى من غير قطع بالثواب أو العقاب ، فلا رجاء من الطاعات والتوبة ولا خوف من المعصية والإصرار ، وهذه جهالة جاهلة ومكابرة تائهة.

قلنا : حكم الكلّ واحد في أنّه لا يجب على الله تعالى في حقّهم شيء ، لكن يثيب المطيع والتائب البتة بمقتضى الوعد على تفاوت درجات ، ويعاقب العاصي المصرّ بمقتضى الوعيد على اختلاف دركات ، لكن مع احتمال العفو احتمالا مرجوحا فأين التساوي وانقطاع الخوف والرجاء؟ نعم خوفنا لا ينتهي إلى حدّ اليأس والقنوط ؛ إذ لا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون انظر إلى شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٢٤٣ طبعة إسلامبول.

أقول : إنّ التوبة الصحيحة إذا كانت عبادة وطاعة فتكون علّة لاستحقاق الثواب عليها ؛ ولأنّ التكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث لا يصدر عن الحكيم ، نعم سقوط العقاب بالتوبة تفضّل من الله تعالى ، كما تقدّم عن المصنّف (ره) بيان المطلبين.

(١) ولا ندم في صورة الإلجاء وبمنع كونه للقبح في صورة المعاينة والمعاقبة.

(٢) أي المسألة الثانية من مسألتي التوبة.

(٣) وفي ذلك نظر ، وقد حقّقنا هذا المطلب إجمالا في حواشينا على كنز العرفان للمصنّف (ره) ولا تنس قول الله تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) الصافات ـ ٦١ فإنّه يدلّ على جواز العبادة لنيل الثواب والخلاص عن العقاب ، ولا شكّ أنّ التوبة عبادة ، فالتوبة خوفا من النار أو طمعا في الجنة صحيحة.

(٤) والشراب ـ خ : (د).

٤٤٩

قضاؤه كالصلاة اليومية ، وإن سقط كصلاة العيد كفى الندم. والثاني : إمّا أن يكون إضلالا أو غيره والأوّل يجب إرشاد من أضلّه. والثاني إن كان جناية دموية يجب الانقياد لمستحقّ (١) القصاص ليعفو أو يستوفي ، وإن كان جناية مالية يجب الإيصال إلى المستحقّ أو وارثه أو الاستيهاب ، ومع التعذر العزم عليهما عند المكنة ، وإن كان حدّ قذف فكذلك ، وإن كان اغتيابا فإن بلغ ذلك إلى المغتاب وجب الاعتذار إليه ؛ لأنّه أدخل عليه ألما والندم لمخالفته الشرع ، وإن لم يبلغه كفى الندم والعزم على ترك المعاودة ، وهذه اللوازم ليست جزءا من التوبة في سقوط العقاب المتقدّم ، لكنّه إن قام بها كان إتماما للتوبة وإن لم يقم يسقط (٢) عقاب المتقدّم وتكون التبعات ذنوبا مستأنفة يجب الرجوع عنها ، ويحتمل أن تكون دلالة (٣) على عدم صحّة الندم.

وهنا فروع :

الأوّل : أنّ العاصي إن لم يكن عارفا بذنوبه على التفصيل كفى الندم الإجمالي ، وإن كان عارفا بها تفصيلا قال القاضي : يجب التوبة عن كلّ واحد مفصّلا.

وفيه نظر ؛ لإمكان الإجزاء (٤) بالإجمال.

الثاني : هل يجب التجديد كلّما ذكر الذنب قال أبو علي : نعم ؛ لأنّ قدرة المكلّف لا تنفكّ عن أحد الضدّين : إمّا الفعل أو الترك ، فإذا ذكر المعصية فإن كان نادما فالمطلوب ، وإن كان عازما فهو قبيح يجب الندم عنه. وقال ابنه : لا يجب ؛ لجواز خلوّ القادر عنهما.

الثالث : إذا رمى ولم يصب بعد ، قال الأكثر : يندم على الإصابة ؛ لأنّها هي القبيح ، وقد صارت في حكم الموجود (٥) ؛ لوجوب حصول المعلول عند حصول العلّة. قال

__________________

(١) لمستحقى ـ خ : (د).

(٢) سقط ـ خ : (آ).

(٣) دالّة ـ خ : (آ).

(٤) الإجزاء ـ خ : (د).

(٥) الوجود ـ خ : (د).

٤٥٠

القاضي : يجب ندمان : أحدهما على الرمي ؛ لأنّه قبيح ، والآخر على كونه مولّدا للقبيح ، ولا يندم على المعلول ؛ لأنّ الندم على القبيح لقبحه وقبل الوجود لا قبح.

الخامس (١) : المسقط الخاص بالمؤمنين وهو نوعان :

الأوّل : الشفاعة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، الأوّل بإجماع المسلمين ، والثاني بإجماعنا ويدلّ على الأوّل أيضا وجهان :

الأوّل : قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢) قيل : هو مقام الشفاعة.

الثاني : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) أمره بالاستغفار لنا ، فإن كان للوجوب فلا يتركه (٤) لعصمته ، وإن كان للندب فكذلك ؛ لعلوّ منزلته وعظم شفقته ، والفاسق مؤمن كما تقدّم ، فيدخل فيمن يستغفر له واستغفاره لا يردّ ؛ لقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥).

وذهب الوعيدية إلى أنّها لزيادة الدرجات لا غير ، وهو باطل وإلّا لكنّا شافعين له(٦)صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولنا : «اللهمّ ارفع درجته» وذلك باطل ؛ لأنّ الشافع أعلى رتبة من المشفوع.

احتجّوا بآيات : قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٧) والفاسق ظالم وكذا قوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٨) وقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ)(٩) [وقوله] : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١٠) والفاسق غير مرتضى (١١).

__________________

(١) أي البحث الخامس من الفصل الثاني.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٩.

(٣) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ١٩.

(٤) يترك ـ خ : (آ).

(٥) الضحى ٩٣ : ٥.

(٦) فيه ـ خ : (د).

(٧) غافر ٤٠ : ١٨.

(٨) البقرة ٢ : ٢٧٠ ؛ آل عمران ٣ : ١٩٢ ؛ المائدة ٥ : ٧٢.

(٩) المدثر ٧٤ : ٤٨.

(١٠) الأنبياء ٢١ : ٢٨.

(١١) والفاسق غير مرتضى ـ خ : (د).

٤٥١

والجواب : أنّه مخصوص للكفّار ؛ جمعا بين الأدلّة ، ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» هذا مع أنّ نفي المطاع في الآية لا يلزم منه نفي المجاب ؛ لجواز أن يكون مجابا ولا يكون مطاعا ، فإنّ المطاع فوق المطيع ، والله فوق كل موجود بالرتبة ، ونمنع أيضا كون الفاسق غير مرتضى ، بل هو مرتضى بإيمانه.

الثاني : العفو من الله والبحث إمّا في جوازه أو وقوعه.

الأوّل : فلوجهين : الأوّل : أنّه إحسان ، وكلّ إحسان حسن ، والمقدمتان ضروريتان. الثاني : أنّه حقّه تعالى وهو ظاهر ، فجاز منه إسقاطه ؛ لوجود الداعي وهو كونه إضرارا بالعبد وتركه إحسان إليه ، وانتفاء المانع إذ لا ضرار (١) عليه في تركه ولا لوم.

ومنع الوعيدية منه ؛ لأنّ العلم بذلك إغراء للمكلّف بالمعصية فيكون قبيحا.

وأجيب بأنّه معارض بالتوبة ، فإنّ العقاب يسقط معها اتفاقا ولا إغراء فيها وإلّا لقبحت (٢).

أمّا الثاني ؛ فلوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٣) وليس للتعليل نحو : ضربته على عصيانه اتّفاقا (٤) فيكون للحال ؛ لجواز ضربه (٥) على شربه ، أي حال شربه ، فيكون المراد حال ظلمهم ، خرج الكفر اتّفاقا فيبقى الباقي على عمومه.

الثاني : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(٦)

__________________

(١) ضرر ـ خ : (آ).

(٢) لا يلزم الإغراء بالمعصية لا في العفو ولا في التوبة ، فإنّ عقاب المعصية محقّق قطعي ، أمّا العفو فمعلّق على المشيئة الإلهية قال تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) وأمّا التوبة فمعلقة على القبول فالعقاب قطعي ، وأما التوبة والعفو فمعلّقتان على المشيئة والقبول فلا إغراء فلا قبح في البين ، وقد بسطنا الكلام في هذا المطلب وحقّقناه بالتحقيق والتحليل الصحيح في إضافاتنا على كتابنا التحقيق في الأربعين ، انظر ص ٥٠٦ ـ ٥١٨.

(٣) الرعد ١٣ : ٦.

(٤) لأنّه لا تناسب بين العلّة والمعلول في الآية فلا تكون : (عَلى ظُلْمِهِمْ) تعليلا لغفران الله تعالى قطعا.

(٥) نحو رجمه ـ خ : (آ).

(٦) النساء ٤ : ٤٨ و ١١٦.

٤٥٢

والاستدلال بها (١) من وجهين :

أحدهما : أنّه أخبر بغفران ما دون الشرك ، فأمّا مع التوبة فباطل ؛ إذ لا فرق حينئذ بين الشرك وغيره ، للإجماع على غفرانه مع التوبة فيكون بدونها ، فيكون العفو واقعا وهو المطلوب ، وجعل عدم غفران الشرك مع عدم التوبة وغفران ما دونه معها يخرج الكلام عن النظم الفصيح الصحيح (٢).

وثانيهما : أنّه علّق غفران ما دون الشرك بالمشيئة ، فوجب أن لا يكون مشروطا بالتوبة ؛ لأنّ الغفران معها واجب ، ولا شيء من الواجب معلّق بالمشيئة.

الثالث : قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٣) خرج من ذلك الكفر بالإجماع فيبقى غيره على حاله ، وجعل الغفران فيها مشروطا بالتوبة (٤) لتبقى على عمومها موجب للإضمار ، وما ذكرناه مخصّص ، وهو خير منه على ما تقرّر في الأصول.

وقالت الوعيدية : ما ذكرتموه معارض بآيات الوعيد نحو قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٥) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٦) وغير ذلك ، فيحمل ما ذكرتموه على الصغائر.

فالجواب : أنّ ما ذكرتموه على تقدير تسليم معارضته (٧). فهو قليل

__________________

(١) والاشتراك بها ـ خ : (د) والظاهر أنّها ليست بصحيحة ، والصحيح ما أثبتناه من ـ خ : (آ).

(٢) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

(٣) الزمر ٣٩ : ٥٣.

(٤) بالغير ـ خ ل ـ خ : (د).

(٥) النساء ٤ : ١٢٣.

(٦) الزلزلة ٩٩ : ٨.

(٧) يعني لا نسلّم المعارضة فإنّ آيات الوعيد التي ذكروها نحو قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ...) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ...) لا تعارض آيات الوعد ؛ فإنّ الآية الأولى ناظرة إلى أنّ من عمل سوءا يجز به إن لم يشمله العفو الإلهي وغفران الله تعالى ذنوب المسيء ؛ لتقييد الإطلاق بآيات العفو والغفران ، والآية الثانية ناظرة إلى أنّ من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره يوم القيامة وينظر إلى ما عمله من الشرّ ولا منافاة بين رؤية الشرّ وما عمله منه وغفران الله إياه وشمول العفو الإلهي لعامله ، وقد مرّ فيما تقدّم أنّ الإحباط باطل.

٤٥٣

ومكثور (١) بالنسبة إلى ما في طرقنا من الآيات والأخبار ، فيكون ما عندنا أكثر ، والكثرة أمارة الرجحان ، ولا نطرح (٢) ما ذكرتموه بل نحمله على الكفّار ؛ لقيام الدليل ، فأمّا حمل آياتنا على الصغائر فباطل أمّا أوّلا ؛ فلأنّه لا ضرورة إليه بخلاف حملنا ، وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه لا يحسن من الجواد المطلق من التمدّح بالعفو عن الصغير مع إمكان العفو عن الكبير مع استواء الأمرين بالنسبة إليه. هذا مع أنّ تأويل آيات الوعد (٣) أولى ؛ لأنّ إهمال الوعد لؤم ، وإهمال الوعيد كرم ، ولأنّ المؤمن العاصي أتى بأتمّ الطاعات وأعظمها وهو الإيمان ، ولم يأت بأعظم المعاصي وهو الكفر ، فوجب ترجيح جانب وعده كما قال سيد العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين : «يا ربّ إن عصيتك فقد أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التوحيد ، وإن لم أطعك فلم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الشرك» ولبعض حكماء الإسلام هنا أبيات قالها قبيل موته يحسن إيرادها وهي هذه :

إن كانت الأعضاء خالفت الذي

أمرت به في سالف الأزمان

فاسألوا الفؤاد عن الذي أودعتم

فيه من التوحيد والإيمان

تجدوه قد أدّى الأمانة فيهما

فهبوه ما أخطأ بالجثمان

والآن فلنقطع الكلام حامدين لله على آلائه شاكرين له على جزيل إنعامه وجميل بلائه ، ونسأله حيث سبق في التقدير الإلهي والعلم الأزلي أنّ كتابنا هذا آيات (٤) العفو منتهاه ، أن يجعلنا وإخواننا ممّن تكون الجنة خاتمته ومأواه ، ولا تكون النار عاقبته ومثواه ، وكيف لا يكون كذلك وقد جعلنا الله من أشرف الأمم وأتباع سيّد العرب والعجم ، ووفّقنا عند اختلاف الآراء وتشتت الأهواء للتمسك بفائح عطر ولاء جبرة الجبار وقسيم

__________________

(١) مكسور ـ خ : (آ).

(٢) يطرح ـ خ : (آ).

(٣) الوعد أولى ـ كذا في ـ خ : (د) و ـ خ : (آ) والظاهر أنّ الصحيح : الوعيد أولى ـ فتدبّر.

(٤) باب ـ خ : (د).

٤٥٤

الجنة والنار الذي يدور الحقّ معه كيفما دار وصيّرنا في سجلّات الكرام الكاتبين من عديد علماء المؤمنين المشيدين لأركان الدين ودعاة الأئمة المعصومين وأبناء سيّد الأوّلين والآخرين ، ونسأله بعد ذلك في مقام الذلّ والخضوع بفيض هوامل الدموع أن يرسل علينا من شآبيب ديم جود وابل تلك النعم ، ويفيض من سجال ينابيع ذلك الجود الأقدم على وهاد ما أظلم من صحف أعمالنا ما يزيل درن ما اكتسبناه من الذنوب واكتسيناه من العيوب ، وأن لا يستدرجنا بذنوبنا ولا يقايسنا بخطوبنا ، ولا يوفقنا في مقام النظر من عصيت بل في مقام النظر من رجوت ، ولسان الحال والمقال ينشد أبياتا قالها بعض المؤمنين المسرفين ، وقيل : إنّه غفر له بها وهي :

يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة

ولقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلّا محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرم

ها قد مددت يدي إليك تضرّعا

فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

ما لي إليك وسيلة إلّا الرجا

وعظيم عفوك بعد إنّي مسلم

والمسئول من السادة العلماء والأئمة الفضلاء ممّن يقف على هذا الكتاب أن يصلح ما عساه أن يجده في الكلام من الطغيان ، وفي النظام من السهو والنسيان ، وأن يستره بذيل العفو والغفران ، والعفو عند كرام الناس مأمول ، والحمد لله وحده ، والصلاة على من لا نبيّ بعده وآله الطاهرين الأكرمين.

ووقع الفراغ من تصنيفه يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة أربع وثمانمائة ٨٠٤ هجرية ، وكتب مصنّفه العبد المقداد بن عبد الله بن السيوري الأسدي (١) غفر الله له ولوالديه ولمن صنّفه له ، ولمن قرأ وانتفع به ، ولوالديه (٢) ولكافة المؤمنين أجمعين بمحمّد وآله الطاهرين (٣) رب اختم بخير (٤).

__________________

(١) مقداد بن عبد الله الأسدي ـ خ : (د).

(٢) ولمن ينتفع به ولوالديهم ـ خ : (د).

(٣) المعصومين ـ خ : (د).

(٤) هنا آخر نسخة : (د).

٤٥٥

هذا (١) آخر كلامه رحمه‌الله ووافق الفراغ من تعليقه عصر السبت ليلة نصف ربيع الأوّل سنة اثنين وخمسين وثمانمائة ٨٥٢ هجرية على يد أحمد بن حسين بن جمال المغيراني عفا الله عنه ، وغفر له ولوالديه ولإخوانه المؤمنين بمحمّد وآله الأكرمين ، وحشره في زمرتهم آمين ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين ، كتبه لنفسه وبعده لنسله إن كانوا من أهله وإلّا فلا تأس على القوم الظالمين.

__________________

(١) من هنا إلى آخر الكلام وهو قوله : «الظالمين» آخر ـ خ : (آ) وأمّا ـ خ : (د) فقد تمّت في قوله : «رب اختم بخير».

تمّت التعليقات بقلم مؤلّفها ومرصّفها العبد الفاني محمد علي القاضي الطباطبائي عفا الله تعالى عن جرائمه.

فلنشرع بعد ذلك بالتعليقات المضافة إلى آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

٤٥٦

تعليقات على الكتاب

٤٥٧
٤٥٨

ص ٢٠٠ ـ س ٢٠ : mz١ «كونه حيّا» mz٢.

قال العلّامة الشيخ حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني آل عصفوررحمه‌الله تعالى في كتابه محاسن الاعتقاد واكتساب السداد (١) : إنّه تعالى حيّ ، وقد اتفق المليون والعقلاء على ثبوت هذه الصفة له ، وليست بمعنى حياة الحادث لتنزّهه عن ذلك. وقد اختلفوا في معناها بالنسبة إليه ، فالحكماء وأبو الحسن ذهبوا إلى أنّ حياته عبارة عن كونه بحيث يصحّ اتّصافه بالعلم والقدرة. وذهبت الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى أنّها صفة تقتضي القدرة والعلم ، وعن بهمنيار (٢) : أنّ الحيّ

__________________

(١) نسخة مخطوطة موجودة في مكتبتنا مع رسالة : ذريعة الهداة في بيان معاني ألفاظ الصلاة ، وكتاب سداد العباد ورشاد العباد ـ بالتشديد ـ في الفقه من الطهارة إلى آخر كتاب الخمس كلّها تأليف الشيخ البحراني الذي نوّهنا باسمه الشريف ، وقد اشترى هذا المجلّد سيدنا الجدّ الأعظم المجتهد الفقيه السيد محمد حسين الطباطبائي ، الشهير ب «شيخ آقا» ابن السيد الأجلّ الحاج ميرزا علي أصغر شيخ الإسلام بن الفقيه المجتهد الكبير السيد ميرزا محمد تقي القاضي الطباطبائي قدس‌سره في سنة ١٢٥٤ كما كتبه بخطّه الشريف في ظهر النسخة ، والنسخة أول نسخة كتبت من النسخة الأصلية سنة ١٢٣٣ ، وفرغ الشيخ البحراني (ره) من تأليفها ٢١ محرم سنة ١٢١٦ ، وفرغ من تأليف الذريعة سنة ١٢١٣ ، وتوفّي البحراني (ره) ٢١ شوال سنة ١٢١٦ ، انظر ترجمته في أنوار البدرين ، ص ٢٠٧ طبعة النجف.

(٢) أبو الحسن بهمنيار بن مرزبان الآذربيجاني المشهور بابن مرزبان ، من مشاهير الحكماء والفلاسفة ومن أعيان تلامذة الشيخ الرئيس ابن سينا رحمه‌الله ، توفّي سنة ٤٥٨ أي بعد ثلاثين سنة من وفاة أستاذه ابن سينا (ره).

ذكر المترجمون له أنّه كان مجوسيا ثمّ أسلم وحسن إسلامه ، والترديد في إسلامه ممّا لا وجه له ، فإنّ ـ

٤٥٩

هو الدرّاك الفعّال.

واستدلّوا على ثبوتها بأنّه قادر عالم ، وكلّ قادر عالم حيّ بالضرورة ، فحيث قد ثبتت قدرته وعلمه ثبت أنّه حيّ بالضرورة.

ونقل عن الرازي في بعض كتبه أنّه قال : الحياة قد يوصف بها النباتات وقد يوصف بها الإنسان والحيوانات ، والجهة التي وصف بها كلّ منها هو كونه على الوجه الذي يترتّب عليه الكمالات التي من شأنه ، فالحياة في حقّه تعالى عبارة عن كونه على الوجه الأرفع الأتمّ الذي يليق بجلال ذاته وكمال صفاته.

ولهذا جاء في بعض الأخبار كما في كتاب التوحيد عن الصادق عليه‌السلام : أنّه حيّ لا بحياة ، فيكون مجرى الحياة مجرى الصفات الذاتية ، والغرض من هذا نفي الحياة

__________________

ـ المترجمين له الذين صرّحوا بكونه مجوسيا فقد صرحوا أيضا بإسلامه ، فقبول قولهم في الأول والترديد في الثاني ممّا لا يمكن المصير إليه.

وأضف إلى ذلك أنّه إن كان باقيا في عقيدة المجوسية البائدة لكان يظهر ذلك قهرا من تضاعيف كلماته ورشحات أقلامه وفلتات لسانه ، وتتبعنا كلماته وعباراته على ما وصل إلينا منها فلم يظهر لنا إلى الآن شيء من ذلك ، وهذا ممّن كان باقيا على مجوسيته طيلة حياته في غاية البعد. ومثل هذا الحكيم وبياناته في مسائل التوحيد والخير والشرّ على طريقة الحكماء الإلهيين والإسلاميين لا يستقيم مع بقائه على المجوسية.

ولم أقف من المترجمين له أن يتردّد في إسلامه كما هو المشهور بينهم سوى بعض من هو مبتلى بمرض التعصّب القومي البغيض من أبناء العصر في بعض الموارد فقد وصفه بالمجوسي.

والحقّ أنّ القرائن الدالّة على إسلامه قويّة وأقوال المترجمين له صادقة ، فلا ينبغي الركون إلى هذه التخيّلات الواهية.

ولذلك قال المتتبع الشهير «دهخدا» في كتابه الكبير لغت نامه بعد أن وصفه بالآذربايجاني ما لفظه بالفارسية «او در أول دين گبركان داشت وسپس مسلمانى گرفت» ـ انظر ج (آ) إلى «أبو سعيد» رقم ١ ، ص ٤٠١.

ونقل الفاضل الزنوزي (ره) في رياض الجنّة من كلماته الحكيمة قوله : العقل أنيس في الغربة. واللذات العقلية شفاء لا يعقبها داء وصحّة لا يلزمها سقم. من تعلّم العلوم العقلية ولم يتخلّق بأخلاق أربابها كان جاهلا بحقائق العلوم. وكلّ حكيم طلب زيادة على صاحبه فليس له علم الحكمة وليس له ذوقها. نقل لي هذه الكلمات صديقنا الجليل آقا ميرزا جعفر سلطان القرائي عن نسخة مخطوطة من رياض الجنة موجودة عنده.

٤٦٠