اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

أمّا الأوّل : فاعلم أنّه قد ثبت أنّه تعالى قادر على كلّ ممكن ، وأنّه عالم بالجزئيات ، وأنّ الجوهر الفرد متحقّق وكذا الخلاء ، وأنّ الإنسان عبارة عن الأجزاء الأصلية. فأمّا أن نقول بجواز إعادة المعدوم فالإمكان ظاهر بعد ثبوت المقدّمات المذكورة أو نقول بامتناع (١) إعادة المعدوم فيفسّر الإعدام بالتفريق. ولا شكّ أنّ جمع تلك الأجزاء ممكن كابتداء خلقها والأحياز خالية فتصحّ حركة بعض الأجزاء إلى بعض ، وهو تعالى قادر وعالم بكمية الأجزاء وكيفية ترتيبها ، فالإمكان ظاهر أيضا.

وأمّا الثاني ؛ فلوجوه :

الأوّل : أنّه لو لم يجب لزم بطلان الجزاء ، واللازم باطل وإلّا لزم الظلم والسفه ، وهما عليه تعالى محالان ، فكذا الملزوم.

وبيان الملازمة : أنّا نرى المطيع والعاصي يدركهما الموت من غير أن يصل إلى أحدهما ما يستحقّه ، فلو لم يحشر التوصّل (٢) إليهما الجزاء ، لزم بطلانه.

الثاني : خلق العبيد إمّا لا لغرض وهو عبث محال على الحكيم ، أو لغرض. فإمّا التعب وهو محال على الحكيم أيضا أو الراحة وهو المطلوب (٣) ، فأمّا أن تكون حاصلة في الدنيا وهو باطل ؛ لأنّ كلّ ما يعتقد في الدنيا لذّة فهو دفع ألم ، كالأكل فإنّه دفع ألم الجوع ، ولهذا فإنّ أوّل لقمة تكون ألذّ ممّا بعدها ، وكذا في الثانية بحسب ضعف ألم الجوع وكذا سائر اللذات ، وإن فرض هناك لذّة فهي قليلة لا يحسن جعلها أجزاء على هذه الآلام ، الحاصلة بالتكاليف الشاقّة ، فلم يبق إلّا أن تكون تلك الراحة حاصلة في دار أخرى ، وهي المعاد.

الثالث : تواتر النقل عن الأنبياء عليهم‌السلام أنّهم أخبروا بذلك مع إمكانه ، فوجب القطع به ؛ لما علم من عصمتهم الدافعة للكذب عنهم.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون إخبارهم به إقامة لنظام النوع في بعث العوام على

__________________

(١) بعدم ـ خ : (د).

(٢) ليصل ـ خ : (آ).

(٣) من قوله : فإمّا التعب ـ إلى قوله : ـ وهو المطلوب ـ ساقط من ـ خ : (آ).

٤٢١

القيام به؟ حيث لم يتصوّروا المعاد الروحاني فعبّروا لهم بالجسماني ، ليكون ذلك المعلوم باعثا لهم ، فإنّهم لو خوطبوا بالروحاني لم يتصوّروه ولم يصدّقوا به ، ولم ينبعثوا ، كما عبّر في صفات الله بالمتشابهات (١) المشعرة بالجسمية ؛ لعدم تصوّرهم المجرّدة ، ثمّ أوّلت لمن له عقل ، فكذا نقول هنا : يجب تأويل ما ورد من كلامهم.

وأيضا لو أكل إنسان إنسانا بحيث صارت أجزاء المأكول أجزاء للآكل ، فلا يرد إليهما معا يوم القيامة وإلّا لكان الجزء الواحد جزء لبدنين ، وهو محال ، ولا إلى أحدهما خاصة وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح ، مع أنّه يلزم ضياع الآخر.

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ التأويل إنّما يصار إليه إذا لم يكن الحمل على الظاهر ممكنا ، كالمتشابهات المذكورة. وأمّا هنا فلا لعدم المعارض أوّلا ولقيام الدليل على وجوبه ثانيا ، ولما علم من دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالضرورة ، أنّه كان يثبت المعاد الجسماني ، ويكفّر من أنكره ثالثا.

وعن الثاني بأنّا بيّنا أنّ الإنسان عبارة عن الأجزاء الأصلية ، فالمأكول أجزاء فضلية بالنسبة إلى الأكل وأصلية بالنسبة إليه ، فإذا أعيدت لا يلزم ضياع الأكل لبقاء أجزائه الأصلية.

البحث الثاني : في إثبات السمعيات وهي أنواع :

الأوّل : الجنّة والنار ، والبحث فيهما في مقامين : الأوّل : في إمكانهما ، الحقّ ذلك ، لما تقدّم من عموم قدرته تعالى ولإخبار الصادق به ، ونفاه الحكماء محتجين ؛ بأنّهما لو أمكنا لكانا إمّا في هذا العالم أو غيره.

والأوّل : إما فلكياته وهو باطل وإلّا لزم جواز الانخراق عليها ومخالطتها للفاسدات.

__________________

(١) المشابهات ـ خ : (آ).

٤٢٢

وبيانه : أنّه وصف الجنّة بأنّها تجري من تحتها الأنهار ، والنار بأنّها ذات طبقات ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١) واللازم باطل ؛ لما تقرّر عندهم ، أو عنصرياته ، وهو باطل أيضا وإلّا لزم التناسخ ، وهو باطل بما تقدّم.

والثاني باطل بما تقدّم من استحالة عالم آخر ، وأيضا فإنّ الجنّة تقتضي تولّد الأشخاص من غير توالد من أبوين ، والنار تقتضي دوام الحياة مع الاحتراق ، وكلاهما باطل.

والجواب عن الأوّل : لم لا يجوز كونهما في هذا العالم؟ فالجنّة في فلكياته ، كما ورد أنّها في السماء السابعة ؛ لقوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سقف الجنّة عرش الرحمن» والعرش الفلك الثامن (٣) وامتناع الخرق ممنوع ؛ لبنائه على أصول فاسدة ، ولأنّ أدلّتكم عليه إن صحّت فإنّها تتمّ في المحدّد لا غير ، والنار في عنصرياته كما ورد أنّها تحت الأرضين (٤) السفلى.

والتناسخ الذي تقدّم بطلانه : ردّ النفس إلى بدن مبتدأ ، وهنا ليس كذلك بل هو ردّ النفس إلى بدنها المعاد أو المؤلّف من الأجزاء الأصلية ، وفرق بينهما.

سلمنا لكن لم لا يجوز حصولهما في عالم آخر؟ وقد تقدّم بيان إمكانه ، وإن سلّم عدمه فلم لا يجوز كون هذا العالم وعالم الجنّة والنار مركوزين في ثخن (٥) كرة أعظم منهما؟

وعن الثاني بأنّه مجرّد استبعاد ، وهو باطل بما تقدّم من عموم القدرة الذاتية ، والتوالد (٦) ممكن كما في آدم عليه‌السلام والإحراق مع الحياة ممكن ؛ لجواز استحالة الجسم إلى

__________________

(١) النساء ٤ : ١٤٥.

(٢) النجم ٥٣ : ١٤ ـ ١٥.

(٣) تطبيق العرش على الفلك الثامن ـ بناء منهم على الهيئة البطلميوسية التي كانت مسلّمة عندهم ، والوارد من معنى العرش في الأحاديث الدينية هو العلم والتطبيق المذكور ـ لا اعتداد به في عصرنا. انظر إلى الكتب المؤلّفة في هذا الباب.

(٤) الأرض ـ خ : (آ).

(٥) سخن ـ خ : (د).

(٦) والتولّد ـ خ : (آ).

٤٢٣

أجزاء نارية ثمّ يعيدها الله تعالى وهكذا ، مع أنّ السند يشهد بإمكانه.

الثاني : أنّهما مخلوقتان الآن. أمّا الجنّة ؛ فلقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١) شبه عرضها بعرضهما وإلّا لزم كون الجنّة نفس السماوات والأرض ، ولقوله تعالى في آية أخرى : (كَعَرْضِ السَّماءِ) (٢) ثمّ أخبر تعالى عن أعدادها وتعقّبها بلفظ الماضي ، فتكون الآن واقعة وإلّا لزم الكذب عليه تعالى ، ولإسكان آدم وخروجه عنها (٣). وأمّا النار فلقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٤) والتقرير كما سبق.

ومنع أبو هاشم والقاضي عبد الجبار من وجودهما الآن وإلّا لكانتا هالكتين ؛ لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٥) لكن الثاني باطل ؛ لقوله تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (٦).

والجواب : تقدّم معنى الهلاك. سلّمنا أنّ المراد العدم ، لكنه مخصوص ؛ جمعا بين الأدلّة. سلّمنا لكن دوام الأكل ممنوع الظاهر ؛ لأنّ المأكول يفنى بالأكل ضرورة ، بل المراد أنّه كلّما فنى شيء منها حدث عقيبه مثله ، فلا ينافي ذلك عدم الجنة طرفة عين.

الثاني (٧) : عذاب القبر ، ويدلّ على وقوعه بعد كون العلم بذلك لطفا آيات :

الأولى : قوله تعالى في حقّ آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٣٣.

(٢) الحديد ٥٧ : ٢١.

(٣) فيه تأمّل ؛ فإنّ كون جنّة آدم عليه‌السلام جنة الخلد ليس من المسلّمات.

(٤) البقرة ٢ : ٢٤ ؛ آل عمران ٣ : ١٣١.

(٥) القصص ٢٨ : ٨٨. ووافقهما السيد الشريف المرتضى علم الهدى والشريف الرضي رضوان الله عليهما.

انظر حقائق التأويل للشريف الرضي (ره) ج ٥ ، ص ٢٤٥ طبعة النجف سنة ١٣٥٥.

(٦) الرعد ١٣ : ٣٥.

(٧) أي النوع الثاني من بحث إثبات السمعيات.

٤٢٤

تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١) وهو صريح في وقوع العذاب بعد الموت وقبل البعث ، وإلّا لتكرّر قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) والأوّل عذاب القبر اتّفاقا.

الثانية : قوله تعالى في قوم نوح : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٢) أتى بفاء التعقيب ، فيكون إدخالهم النار عقيب الإغراق ، وهو قبل يوم القيامة ، وذلك عذاب القبر.

الثالثة : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٣) وهو دليل على أنّ في القبر حياة وموتا آخر وإلّا لم يكن إلّا حياة مرتين ولا الإماتة كذلك.

قيل : على هذا يكون الإحياء ثلاثا فلم ذكر مرّتين فقط.

قلنا : التخصيص بالعدد لا يثبت الزائد ولا ينفيه مع أنّ التثنية جاءت للتكثير (٤) ، كقوله تعالى : (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (٥) ونحو : لبّيك وسعديك.

ومنع ضرار وجماعة من المعتزلة عذاب القبر ؛ لقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٦) ولو عذّبهم في القبر لصاروا أحياء فيه ؛ لأنّ تعذيب الجماد غير معقول ، ولو صاروا أحياء فيه لماتوا مرّة أخرى ، فلا تكون الموتة مرّة واحدة ، هذا خلف ، ولقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧) وهو دليل على أنّ من في القبر ليس بحيّ ، إذ لو كان حيا لأمكن إسماعه.

والجواب عن الأوّل : المراد أنّ نعيم الجنة لا ينقطع بالموت كما انقطع نعيم الدنيا ، وإنّما قلنا ذلك لأنّ الله تعالى أحيا كثيرا من الناس في زمن الأنبياء ثمّ أماتهم ثانيا ، فوجب حمل الآية على ما ذكرناه ؛ لأصالة عدم مجاز آخر.

وعن الثاني : أنّ عدم إسماعهم لا يلزم منه عدم إدراكهم ؛ لجواز أن لا يحصل

__________________

(١) غافر ٤٠ : ٤٦.

(٢) نوح ٧١ : ٢٥.

(٣) غافر ٤٠ : ١١.

(٤) للتكرير ـ خ : (د).

(٥) الملك ٦٧ : ٤.

(٦) الدخان ٤٤ : ٥٦.

(٧) فاطر ٣٥ : ٢٢.

٤٢٥

الإسماع بسبب كون القبر مانعا من وصول الصوت إلى الصماخ (١) هذا مع أنّ للآية محملا آخر ، وهو أنّ المراد : لا تقدر أن تسمع الجهّال إسماعا تاما حتّى ينتفعوا به ؛ لأنّه لمّا استعار للجهّال اسم الأموات في صدر الآية رشح الاستعارة بقوله : (مَنْ فِي الْقُبُورِ) فإنّ الميّت من شأنه أن يكون مقبورا.

الثالث : في باقي السمعيات من الحساب والصراط والميزان وتطاير الكتب وإنطاق الجوارح وأحوال الجنة والنار وكيفيات النعيم والجحيم ، والأصل في ثبوتها أنّها أمور ممكنة ، أخبر الصادق بوقوعها ، فتكون حقّا وإلّا لخرج الصادق عن كونه صادقا ، هذا خلف.

فالحساب عبارة عن إيقان العبد على أعماله الصالحة والطالحة والصراط ، كما ورد عن العسكري (٢) عليه‌السلام ، صراطان : دنيوي وهو ما قصر عن العلوّ وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعد (٣) إلى شيء من الباطل ، وأخروي وهو المراد هنا (٤).

فقيل : جسر بين الجنة والنار يمرّ عليه.

وقيل : هو الأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها ، كأنّه يمرّ عليها ويطول المرور بكثرتها ويقلّ بقلّتها.

والميزان فالمشهور أنّه توزن صحف الأعمال فترجّح على قدر تفاوت الأعمال.

__________________

(١) هذا الجواب كأصل الادّعاء أجنبيّ عن مفاد الآية الشريفة ؛ إذ لا ربط لها لمرامهم كما يشهد بذلك صدر الآية ، قال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فإنّ الله تعالى استعار للكفّار اسم الأموات ، ثمّ خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لا تقدر على أن تنفع الكفار المطبوع على قلوبهم بإسماعك إياهم ، فإنّهم لا يقبلون ذلك منك ، كما أنت لا تسمع الأجساد التي في القبور ، فإنّها مدفونة تحت الأرض بل بالية فيها لا يمكن الإسماع لهم.

(٢) الباقر عليه‌السلام ـ خ : (آ).

(٣) يعدل ـ خ : (آ).

(٤) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب في تحقيق أنّ من الاعتقادات ما هو من قبيل الواجبات المطلقة ، ومنها ما هو من قبيل الواجبات المشروطة بحصول العلم ، ومن هذا القبيل تفاصيل الصراط والميزان ... ويكفي في مقام الاعتقاد أن يحصل الاعتقاد بها إجمالا.

٤٢٦

وقيل : إنّه ملك يقابل الحسنات بالسيئات.

وقيل : هو العدل في القضاء ومعاني الباقي ظاهر مشهور ، ولا شكّ في إمكان الجميع.

الرابع : النقل الشريف دالّ على أنّه (ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١) فهؤلاء منهم من يحكم العقل بوجوب البعثة ، وهو كلّ من له حقّ أو عليه حقّ للإنصاف والانتصاف ، ومنهم من لم يحكم بوجوبه بل بجوازه كمن عدا هؤلاء.

البحث الثالث : [أنّ الحكماء لمّا منعوا من الميعاد] اعلم أنّ الحكماء لمّا منعوا من الميعاد (٢) الجسماني أثبتوا الروحاني ، بناء منهم على ما سبق من تجرّد النفس أوّلا وعلى استحقار (٣) اللذات الحسيّة وعدم الاحتفال بها ، رام جماعة من المحقّقين الجمع بين الحكمة والشريعة ، فقالوا : دلّ العقل على أنّ سعادة النفوس في معرفة الله تعالى ومحبّته ، وعلى أنّ سعادة الأبدان في إدراك المحسوسات ، ودلّ الاستقراء على أنّ الجمع بين هاتين السعادتين في الحياة الدنيا غير ممكن ؛ وذلك أنّ الإنسان حال استغراقه في تجلّي أنوار عالم الغيب لا يمكنه الالتفات إلى اللذات الحسيّة ، وإن أمكن كان على ضعف جدّا بحيث لا يعدّ التذاذا وبالعكس ، لكن تعذّر ذلك سببه ضعف النفوس البشرية هنا ، فمع مفارقتها واستمدادها الفيض من عالم القدس تقوى وتشرق ، فمع إعادتها إلى أبدانها غير بعيد أن تصير هناك قويّة على الجمع بين السعادتين على الوجه التام ، وهو الغاية القصوى في مراتب السعادة.

قالوا : وهذا لم يقم على امتناعه برهان ، فلذلك أثبتوا المعادين. وحيث الحال كذلك فلنشر إلى تتميم هذا البحث بفوائد يظهر بها المعاد الروحاني :

الأولى : إثبات التجرّد وقد سلف شيء من أدلّته وأحكامه (٤) ، لكن نزيد هنا

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٣٨.

(٢) المعاد ـ خ : (آ).

(٣) استخفاف ـ خ : (آ).

(٤) إمكانه ـ خ : (آ).

٤٢٧

فنقول : استدلّوا عليه بالمعقول والمنقول.

أمّا الأوّل (١) ؛ فلوجوه (٢) :

الأوّل : إنّ الإنسان كلّما بالغ في التخلّي عن الدنيا وأهلها ، كان عقله وتمييزه وحدسه وعلمه وجميع الصفات التي بها يمتاز عن غيره من الحيوانات أقوى ، وإذا تخلّى عن ظاهر بدنه بالنوم يطّلع على المغيّبات ، وإذا كان منغمسا (٣) في الدنيا ومعالجة أمورها كان الأمر بالعكس ، وهذا يدلّ على أنّ النفس الإنسانية غير هذا البدن وأجزائه وأعراضه ، وأنّها مباينة له في ذاتها وأفعالها.

الثاني : أنّ البدن وأجزاءه وقواه كلّما قويت ضعف إدراك النفس ، وكلّما ضعفت بالرياضة ونفي الكبر وغير ذلك قوي إدراكها ، ولو كانت هي البدن أو جزءا من أجزائه أو قوة من قواه لكان الأمر بالعكس.

الثالث : أنّ النفس لو كانت جسما أو جسمانيا لكلّت وفترت بكثرة أفعالها مثلها ، لكنها ليست كذلك ، بل كلّما كثرت تصرّفاتها وإدراكاتها كانت أقوى في ذاتها وإدراكاتها.

وأمّا المنقول فوجهان :

الأوّل : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) (٤).

وجه الدلالة : أنّه لا شيء من الإنسان من الإنسان المقتول بميّت ، وكلّ بدن ميت ، ينتج أنّه ليس ببدن والصغرى ثابتة بالآية والكبرى ضرورية.

الثاني : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض خطبه : «حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش ويقول : يا أهلي ويا ولدي لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي» وهو دليل على أنّ الروح باقية بعد الموت لوصفها بالرفرفة ، ولا شيء من البدن وأجزائه

__________________

(١) أي المعقول.

(٢) بوجوه ـ خ : (آ).

(٣) منغمرا ـ خ : (آ).

(٤) آل عمران ٣ : ١٦٩ ، ويستفاد أيضا تجرّد النفس من الآية من قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) انظر إلى تعاليقنا في آخر الكتاب.

٤٢٨

بباق ، فلا شيء من الروح ببدن.

واعلم أنّ هذه الأدلّة كلّها تدلّ على أنّ هناك أمرا مغايرا للبدن ، وأمّا على أنّه مجرّد فلا ؛ لجواز أن يكون جوهرا لطيفا له تعلّق بالبدن ، وله قوى خاصّة يقوى بها على أمور يعجز البدن عنها ، والنقل صريح به ؛ لأنّ القتل والرفرفة يستلزمان الجسمية (١).

الثانية : اللذة ، وعرّفها ابن سينا (ره) بأنّها إدراك ونيل لما هو خير وكمال من حيث هو خير وكمال بالنسبة إلى المدرك والنائل ، فالإدراك حصول صورة من المدرك عند المدرك ، والنيل : الإصابة والوجدان ، فلهذا لم يقتصر على الأوّل ؛ لأنّ حصول الصور (٢) المساوية للشيء لا يستلزم حصول ذاته ، كمن أدرك صورة حسنة ولم ينلها ، وكذا لم يقتصر على الثاني ؛ لعدم دلالته على الإدراك كمن نال محبوبه ولم يشعر به ، فالكمال والخير هما حصول شيء يناسب شيئا ويصلح له ، والفرق بينهما اعتباري ؛ فإنّ حصول الشيء المناسب كمال باعتبار البراءة من القوة والخير باعتبار الملائمة والإيثار ، وقيّد بالحيثية لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون أخرى ، وكذا قيّده بالنسبة إلى المدرك لأنّ اللذة ليست إدراك اللذيذ فقط بل إدراك حصول اللذيذ للمتلذّذ ، ولذلك قال : «عند المدرك» لأنّ من لا يعتقد كمالية الشيء وخيريته لا يكون إدراكه له لذّة وبالعكس يكون لذة ، فليس الاعتبار بما في نفس الأمر.

ثمّ الإدراك يختلف بحسب اختلاف القوى المدركة ، وكلّ واحد منها يخصّها كمال لا يشاركها غيرها فيه ، كالإبصار للصورة الحسنة والسمع للصوت الطيّب الحسن (٣) ، وكذا باقي القوى الظاهرة والباطنة ، وكذا القوة العقلية لها أيضا كمال يخصّها ، وهو

__________________

(١) ولعلّ هذه الجسمية المستفادة من النقل بالنظر إلى البدن الجسماني البرزخي الشفاف الرقيق الذي له اتّحاد مع الروح المجرّد ، والنفس الناطقة باقية معه مدّة البرزخ إلى يوم البعث ، فيعودان إلى البدن العنصري الدنيوي أو يجذبان البدن إليهما عند البعث ، والنقل ظاهر ، بل صريح في بيان أوصاف البدن الجسماني البرزخي. فراجع الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام وتأمّل فيها ولا تقلّد أحدا في هذه المباحث ؛ فإنّها من الواجبات المشروطة بحصول العلم للمكلّف كما نبيّن ذلك في محلّه من التعليقات.

(٢) الصورة ـ خ : (آ).

(٣) من الحسّ ـ خ : (آ).

٤٢٩

التعقّل للذات الظاهرة بحسب ما يمكن ، وللماهيات الكلية على ما هي عليه بحسب طاقتها ، فإدراكها كذلك لذّة لها (١) ، وإنكاره مكابرة.

الثالثة : أنّ اللّذة العقلية أقوى من الحسية كيفا وكمّا وأشرف منها.

الأوّل فظاهر ؛ فإنّ العلماء الراسخين في التحقيق لا يختارون اللذات الحسية بأجمعها على أقل لذّة عقلية.

وبيانه تفصيلا : أمّا كيفا ؛ فإنّ العقل يصل إلى كنه المعقول وإلى ذاتياته وعوارضه ، ويقسّم الذاتي إلى الجنس والفصل ، والعوارض إلى المختصّ والمشترك. وبالجملة يدرك الماهية على ما هي عليه ، وأمّا الحسّ فيدرك ظاهر المحسوس وكيفيته القائمة بالسطح حال حضوره حتّى لو غاب زال إدراكه ، بخلاف العقل فإنّه مدرك مطلقا.

وأمّا كمّا ؛ فإنّ عدد المعقولات لا تتناهى ، فإنّه ما من معقول إلّا ويتصوّر له مناسب ، وللمناسب مناسب وهكذا ، بخلاف المحسوسات فإنّها محصورة متناهية.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ العقل (٢) يدرك واجب الوجود تعالى ، وهو أكمل الموجودات وأشرف ، بخلاف الحسية فإنّها تدرك الأشياء الفانية الخسيسة (٣) ، وهذا الإدراك يختلف بحسب اختلاف المدرك.

الرابعة : حيث عرفت معنى اللذة وانقسامها إلى الحسّي والعقلي ، فإنّ عقليّها (٤) أقوى وأشرف من حسّيها (٥) فكذلك ينبغي أن تعرف معنى الألم.

ونورد تعريفه على طرز تعريفها بإبدال الكمال والخير بالنقص والشرّ ، فنقول : هو إدراك ونيل لما هو نقص وشرّ من حيث هو نقص وشر بالنسبة إلى المدرك والنائل ، ونقسّمه إلى الحسي والعقلي بحسب الإدراك ، ونحكم بأنّ عقليّة أيضا أعظم نكالا

__________________

(١) إيّاه ـ خ : (د).

(٢) العقلية ـ خ : (د).

(٣) فإنّها يدرك الأشياء الفانية الخسيسة ـ خ : (د).

(٤) عقليتها ـ خ : (د).

(٥) حسيتها ـ خ : (د).

٤٣٠

من حسيّه ، وأنّ المتّصفين بعدم الكمال والخير من أرباب الجهل ، لو عقلوا ما هم عليه لتصوّروا أنّهم في أعظم الألم ممّن هو مقطع الأعضاء مصلى (١) بالنار ، ولكنّهم لانغمار عقولهم في ملابس الطبيعة لا يعقلون ، أولئك كالأنعام بل هم أضلّ ، أولئك هم الغافلون.

الخامسة : أنّ النفس الناطقة لها قوّتان : علمية وعملية. وسعادتها تكون على قدر كمالها في هاتين القوّتين ، وشقاوتها تكون بفوات الكمال فيهما ؛ لعدم استعدادها. وعدم الاستعداد قد يكون لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل ، وقد يكون لأمر وجودي كوجود الأمور المضادّة للكمالات من الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الذميمة ، وتلك قد تكون راسخة وقد تكون غير راسخة ، وتشترك بجملتها في كونها رذائل ، كما تشترك مراتب السعادة في كونها فضائل.

السادسة : قالوا : إنّ النفس بحسب القوّة العلمية إمّا أن تكون ذات عقائد (٢) أو لا تكون ، وذات العقائد إمّا أن تكون مطابقة أو لا ، والمطابقة إمّا أن يحصل لها ذلك بالبرهان أو لا ، فهذه مراتب أربع :

الأولى : ذات العقائد البرهانية المطابقة وهي من أهل السعادة ؛ لحصول (٣) الكمال الذي هو العلم الملائم للنفس لها ، بأن يتمثّل صور المعقولات فيها ، فتلتذّ بعد المفارقة بمشاهدة ما اكتسبته ووجدان ما أدركته ، فكأنها كانت ذات إدراك فصارت ذات نيل.

الثانية : ذوات العقائد المطابقة غير البرهانية ينبغي أن يحكم لها بالسعادة.

الثالثة : ذات العقائد غير المطابقة وذوات الجهل المركّب ، وهؤلاء هم أصحاب الشقاوة العظيمة ؛ لأنّهم مشتاقون إلى المعارف راجون لها ، وهي غير حاصلة لهم ، فهم (٤) بسبب تمثّل أضداد الكمال فيها واعتقادها فيها الكمال ، رجت الوصول إلى

__________________

(١) الصلى : الحرارة.

(٢) وإمّا أن لا ـ خ : (آ).

(٣) بحصول ـ خ : (د).

(٤) فهي ـ خ : (د).

٤٣١

مدركاتها. ثمّ إنّها بعد الموت تفقد ما رجت الوصول إليه تصير (١) معذّبة بفقدان ما رجته ، كما أشار التنزيل الشريف : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ ، لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

الرابعة : الخالية من الاعتقادات فقال قوم : لا تبقى هذه ؛ لأنّه لا موجب لسعادتها وشقاوتها ، فلا يحصلان فتكون معطّلة ، ولا تعطيل (٣) في الطبيعة.

وقال قوم : إنّها تبقى ولكن لا تخلو من الإدراك فهي إذن تدرك بالآلات الجسمانية ، فيجب أن تتعلّق بأبدان أخرى ، ولا تصير مبادي صور لها وإلّا لزم التناسخ ، فلا يجوز أن تكون تلك أبدان الحيوان وإلّا لاستعدّت لفيضان نفوس عليها ، بل تكون أبدان متولّدة من الأجزاء الهوائية والدخانية ، أو تكون من الأجرام السماوية من غير أن تكون مفارقة للروح.

وأمّا بحسب القوة العملية فلها مراتب ثلاث :

الأولى : ذوات الأخلاق الفاضلة ، قالوا : ولاحظ للنفس يحسّها في السعادة بالذات بل (٤) يحسّها زوال الشقاوة الحاصلة بتعلّقها بالبدن التي هي معذّبة به ، فهي مستلزمة لنفي التعذيب عن النفس ، وذلك أمر عرضي في تحصيل السعادة.

الثانية : ذوات الأخلاق الرديئة ، وهي التي اشتدّت محبتها للتعلّق بالبدن ، فهي تتعذّب لمحبتها لما زال عنها ، لكن عذابها يكون منقطعا لزوال تلك المحبّة.

والفرق بينها وبين ذوات الشقاوة أنّ تلك سبب عذابها الاعتقاد الفاسد الذي لاحظ للبدن فيه ، وهذه لا تخلو عن مفارقة البدن في استحقاق العقاب وقد زال.

الثالثة : التي لا أخلاق لها ولا اعتقاد كأنفس الصبيان ، وفي بقائها خلاف سبق هذا

__________________

(١) فيصير ـ خ : (د).

(٢) الزمر ٣٩ : ٥٦ ـ ٥٨.

(٣) معطل ـ خ : (د).

(٤) في زوال ـ خ : (آ).

٤٣٢

حكاية قولهم في المعاد الروحاني ، وهو بناء على إثبات النفس المجرّدة ، وأمّا أرباب الجمع فيلزمهم القول بالأجزاء والنفس ، ويكون كمال كلّ واحد حاصلا له. و (١) الشريعة الحقة قد(٢) نطقت بتفاصيل الجسماني ، وهو مذكور في مظانّه.

القطب الثاني : في الجزاء ومستحقّه (٣)

وفيه فصلان :

[الفصل] الأوّل : في الجزاء وفيه أبحاث :

الأوّل : في المقدمات :

الأولى : الوعد : إخبار بوصول نفع أو دفع ضرر من المخبر مستقبلا ، والوعيد إخبار بوصول ضرر أو دفع نفع من المخبر كذلك.

الثانية : المدح : قول ينبئ عن عظم حال الغير مع القصد ، والذمّ : قول ينبئ من اتّضاع (٤) حال الغير كذلك ، والثواب : نفع خالص مستحقّ مقارن للتعظيم والإجلال ، والعقاب : ضرر محض مستحقّ مقارن للاستخفاف والإهانة.

الثالثة : يستحقّ المدح والثواب لفعل الواجب لوجوبه والمندوب لندبه أو لوجوههما (٥) ، وترك القبيح لقبحه أو لوجهه وبفعل ضدّه كذلك ، ويستحق الذمّ والعقاب بفعل القبيح والإخلال بالواجب.

ومنع بعضهم كون الإخلال بالواجب موجبا للذم وإلّا لو أخلّ المكلّف مع ذلك

__________________

(١) وأمّا ـ خ : (د).

(٢) فقد ـ خ : (د).

(٣) ومستحقّه ـ خ : (د).

(٤) إيضاح ـ خ : (د).

(٥) لوجههما ـ خ : (آ).

٤٣٣

بالقبيح يكون مستحقّا للذمّ والمدح معا ، وهو باطل.

وجوابه : أنّه ليس بمستبعد باعتبارين.

الثاني : الطاعة علّة لاستحقاق الثواب إذا كانت شاقّة والمعصية علّة لاستحقاق العقاب إذا كان تركها شاقّا.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّها مشقّة التزم المكلّف بها ، فلو لم يكن في مقابلتها نفع لزم الظلم ، والمقدّمتان ظاهرتان ، ولأنّ التكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث لا يصدر من الحكيم ، وإن كان لفائدة فليست عائدة إلى المكلّف لتنزّهه ، ولا إلى غير فاعله لقبحه ، فيكون لفاعله ، وليس إضرارا به ؛ لقبحه ، فيكون للنفع ، وليس في الدنيا ؛ لأنّ الحاصل ليس إلّا المشقّة فتكون في الآخرة ، فإمّا أن يكون ممّا يصحّ الابتداء به وهو باطل وإلّا لكان توسّط التكليف عبثا ، أو لا يصحّ الابتداء به وهو الثواب الذي ذكرناه ، وهو لاشتماله على العظيم يقبح الابتداء به ، لأنّ تعظيم من لا يستحقّ التعظيم قبيح.

وأمّا الثاني ؛ فلاشتماله على اللطفية ، واللطف واجب. أمّا الأولى ؛ فلأنّ المكلّف إذا عرف استحقاق العقاب على (١) المعصية يبعد (٢) عن فعلها وهو ظاهر. وأمّا الثانية ؛ فقد سبقت ، ولدلالة السمع في البابين بقوله : «جزاء بما كنتم تعملون» (٣) وخالفت الأشاعرة فيهما بناء على عدم صدور الفعل عن العبد وأنّه لا حاكم عليه الله تعالى ، وقد أبطلناهما.

والبلخي في الأوّل محتجّا بأنّ الطاعة وقعت شكرا لأنعام عظيمة ، فيكون الفاعل لها مؤدّيا للواجب فلا يستحقّ عليه شيئا بل الثواب تفضّل منه تعالى.

والجواب : أنّه يقبح في الشاهد أن ينعم الإنسان على غيره ، ثمّ يكلّفه ويوجب عليه شكره ولا يعوّضه ولا يثيبه ، ويعدّ ذلك نقصا في المنعم فلا ينسب إلى أكرم الأكرمين.

__________________

(١) عن ـ خ : (آ).

(٢) منعه ـ خ : (آ).

(٣) خ : (د) ـ خ : (آ) (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الأحقاف ٤٦ : ١٤ ؛ الواقعة ٥٦ : ٢٤ (تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الطور ٥٢ : ١٦ ؛ الجاثية ٤٥ : ٢٨ ؛ التحريم ٦٦ : ٧ ؛ السجدة ٣٢ : ١٧.

٤٣٤

الثالث : في أحكامهما ، وهي أقسام :

الأوّل : اتّفقت الإماميّة والمعتزلة على دوامهما ، وأنّ العلم به عقلي ، وقالت المرجئة والأشاعرة : سمعي ، والمختار الاوّل ، لوجوه :

الأوّل : أنّ العلم بذلك باعث للعبد على إيقاع الطاعة وارتفاع المعصية ، فيكون لطفا ، واللطف واجب.

الثاني : أنّ فاعل الطاعة إذا لم يظهر منه ندم يستحقّ المدح دائما ، وفاعل المعصية إذا لم يظهر منه ندم يستحقّ الذمّ دائما ، فكذا استحقاق الثواب والعقاب دائما ، ولأنّ دوام أحد المعلولين يستلزم دوام الآخر ؛ لأنّ العلّة تكون دائمة أو في حكم الدائمة.

الثالث : لو لم يكونا دائمين لزم حصول الألم للمثاب والسرور للمعاقب بالانقطاع فيهما ، واللازم باطل ؛ لأنّه يجب خلوصهما عن الشوائب ، والملازمة ظاهرة.

الثاني : يجب كونهما خالصين من شوائب الضدّ ، أمّا الثواب فلأنّه لولاه لكان أنقص حالا من العوض والتفضّل ؛ لأنّه يجب خلوّهما عن الشوائب اتّفاقا ، فلو لم يكن الثواب خاليا لكانا أكمل منه ، وهو باطل.

إن قلت : هذا معارض بأنّ أهل الجنّة متفاوتون في الدرجات فالأنقص منهم يغتمّ بنقص درجته وبعدم اجتهاده في ازدياد الطاعة ، وبأنّهم يجب عليهم شكر المنعم وترك القبيح ، وهما مشقّتان.

أجيب عن الأوّل بأنّ شهواتهم مقصورة على ما حصل لهم ، فلا غمّ لفوات الزائد.

وعن الثاني بأنّ المشقّة فيهما مكسورة ، بل معدومة بزيادة السرور بالشكر وغناهم بالثواب عن فعل القبائح ، وأمّا العقاب فلأنّه أدخل في الزجر عن القبيح فيكون لطفا.

إن قلت : أهل النار تاركون للقبائح ، وذلك تكليف يستدعي جزاء فإن أوصل (١) نافى الخلوص وإلّا لزم الإخلال بالواجب.

أجيب بأنّهم ملجئون ، وشرط الجزاء الفعل اختيارا.

__________________

(١) وصل ـ خ : (آ).

٤٣٥

الثالث : يجوز توقّف الثواب على شرط ؛ إذ لولاه لأثيب العارف بالله مع جهله بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو باطل إجماعا.

وبيان الشرطية بأنّ المعرفة طاعة مستقلّة ، ومنعها قوم وإلّا لكان المدح مشروطا. ونمنع كون المعرفة طاعة مستقلّة بل هي جزء الإيمان الذي هو الطاعة.

أجيب عن الأوّل بأنّه جاز كون أحد المعلولين مشروطا بشرط دون الآخر.

وعن الثاني بأنّ الثواب يستحقّ على الأجزاء كاستحقاقه على المجموع ، ولهذا يثاب من عرف الله تعالى ثمّ مات مجتهدا قبل عرفانه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الرابع : أنّه مشروط بالموافاة ، أي ببقائه على الأمور المعتبرة فيه إلى حين الموت ، وخالف قوم وقالوا : إنّ الطاعة سبب تامّ في (١) الاستحقاق فحال حصولها يستحقّ الثواب.

لنا ، قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢).

وجه الدلالة : أنّ العمل الذي يعقبه الشرك لم يقع باطلا في نفسه وإلّا لما علّق بطلانه على الشرك فيكون صحيحا ، فلو كان علّة في استحقاق الثواب مطلقا ، لكان سقوطه إمّا لذاته وهو باطل وإلّا لما علق ، أو للكفر المتعقّب وهو باطل أيضا ؛ لبطلان الإحباط أو لعدم الموافاة ، وهو المطلوب إذ لا رابع اتفاقا.

الرابع : الحقّ عندنا أنّه يجوز أن يجتمع استحقاق الثواب والعقاب معا ويوصلان على التعاقب كما يجيء ، وقالت المعتزلة بعدم جوازه ، فلو فعل المكلّف طاعة ومعصية معا (٣) اختلفوا في حاله فقال الجبائي : إنّ المتأخّر يسقط المتقدّم سواء ساواه أو زاد أو نقص ، ويسمّيه إحباطا إن تأخّرت المعصية ، وتكفيرا إن تأخّرت الطاعة.

وقال ابنه : أيّهما كان أكثر أسقط الآخر سواء تقدّم أو تأخّر ، ونقل عنه قول آخر وهو أنّهما إن تساويا تساقطا ، وإن تفاوتا أسقط الأقلّ ما قابله وسقط ، ويبقى الزائد

__________________

(١) في سبب ـ خ : (آ).

(٢) الزمر ٣٩ : ٦٥.

(٣) معا ـ خ : (آ).

٤٣٦

كالخمسة (١) يسقط خمسة من ستّة وتسقط هي ويبقى واحد.

والقولان باطلان لوجوه :

الأوّل : أنّ الإحباط يستلزم الظلم ، فيكون قبيحا.

بيان الصغرى : أنّ من زادت إساءته يكون بمنزلة من لم يحسن ، ومن زادت حسناته يكون بمنزلة من لم يسئ ، فإن (٢) تساويا يكون بمنزلة من لم يصدر منه شيء ، وكلّ ذلك ظلم.

الثاني : قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣) وعلى قولهم لم تصدق هذه الآية وكذا قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٤).

الثالث : أنّ الاستحقاقين إمّا أن يتنافيا لذاتيهما أو لا ، والثاني موجب لبقائهما وهو المطلوب ، والأوّل إمّا أن يتنافيا لذاتيهما (٥) وهو باطل ؛ لتساويهما في الماهية ، فلو أثّر أحدهما خاصّة لزم الترجيح بلا مرجّح ، وإن أثّرا لزم اجتماع الوجود والعدم. أو لأمر لازم لكلّ منهما وهو باطل أيضا ؛ لوجوب تساوي الماهيات المتّحدة في اللوازم. أو لأمر عارض ، وذلك يجوز زواله فيزول ما به حصلت المنافاة ، فجاز الاجتماع ، فوجب إيصالهما ، وهو المطلوب.

الرابع : أنّ الموازنة تستلزم تأثير المعدوم أو اجتماع الوجود والعدم ، واللازم بقسميه باطل فكذا الملزوم.

بيان الملازمة : أنّ الخمسة مثلا إذا تساقطت هي والخمسة الأخرى ، فإمّا أن يتقدّم تأثير أحدهما فيلزم الأوّل ؛ لأنّ الثانية تكون حال تأثيرها في الأولى معدومة ، أو يقترنا فيلزم الثاني ؛ لأنّ وجود كلّ واحد منهما ينفي وجود الآخر.

__________________

(١) فالخمسة ـ خ : (آ).

(٢) فلو ـ خ : (آ) وفي ـ خ : (د) : فإن لم. والظاهر أنّ «لم» زائدة.

(٣) الزلزلة ٩٩ : ٧ ـ ٨.

(٤) النساء ٤ : ١٢٣.

(٥) والأول حاصله لزوم الترجيح بلا مرجّح ـ خ : (آ).

٤٣٧

الخامس : إنّا سنبيّن أنّ الإيمان هو التصديق ، وهو علّة في استحقاق الثواب ، وهو باق قبل المعصية وبعدها ، فإذا كانت العلّة موجودة وجب وجود معلولها ، وهو المطلوب ، فيبطل الإحباط والموازنة معا (١).

__________________

(١) والتحقيق في مسألة الإحباط والتكفير أنّه لا نزاع في بطلان الكفر واستحقاق العقاب الذي حصل له بالإيمان. وكذا لا نزاع في بطلان الإيمان وسائر الطاعات والأعمال واستحقاق الثواب بها بالكفر ، فيقال باشتراط وصول ثواب الطاعات على عدم حصول الكفر والموت على الإيمان. وكذا حصول العقاب بالكفر مشروط بعدم الإيمان والموت على الكفر ، والقرآن الكريم نصّ صريح في ذلك قال الله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).

ومورد النزاع في المسألة هو المؤمن المطيع إذا فعل ما يستحقّ به عقابا ، فاختلف فيه أنّه هل يجتمع له استحقاق ثواب واستحقاق عقاب أم لا؟ فذهب أهل التحقيق والنظر الدقيق من الإمامية بل أكثرهم أنّه يجتمع له ذلك ، وقال جمهور المعتزلة : إنّه لا يمكن له ذلك ، وقالوا بالإحباط والتكفير ، وهو على خلاف التحقيق والتحليل العلمي الصحيح.

ثمّ المراد من الإحباط والتكفير هو البطلان والفساد وعدم التأثير للأعمال في سعادة الإنسان وشقاوته ، لا المحو والإعدام والمحق والتنسيف بالكلّية وصيرورة الأعمال معدومة بحيث لا يبقى منها شيء ، كما هو ظاهر تعبيرات جمع كثير منهم ، فإنّهم يعبّرون عنهما بالمحو ، والمحق والإفناء ، حيث يقولون : الإحباط عبارة عن إفناء كلّ من الاستحقاقين للآخر أو المتأخّر للمتقدّم أو بتعبير بعضهم : هو الانتفاء ، وفي اللغة : الإحباط هو الابطال والإفساد ، حبط عمله أي بطل وفسد.

فيظهر من ذلك أنّ الإحباط بمعنى إفساد الثواب وإبطاله لا محو العمل ومحقه وإعدامه بحيث لا يبقى شيء ، بل سقوطه عن قوّة التأثير بحصول الثواب في حقّ صاحبه ، وكذا الأمر في التكفير ، وهذا لا يستلزم إفناء العمل ومحوه بتاتا ، بل العمل الفاسد الباطل يبقى على تلك الحالة ويسقط عن قوّة التأثير ، فلا منافاة بين ظواهر عدّة من الآيات القرآنية في إبطال الكفر واستحقاق العقاب به بالإيمان وكذا في إبطال الإيمان وسائر الطاعات واستحقاق الثواب بالكفر ، وبين قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فإنّ الكفر واستحقاق العقاب له يبطل بالإيمان ويفسد به ، ولا يكون له تأثير بعد حصول الإيمان ، وكذا الإيمان واستحقاق الثواب به يبطل بالكفر ويفسد ولا يكون له تأثير بعد حصول الكفر ، لا أنّهما يصيران معدومين تماما ، بل الكفر والأعمال الصادرة في حالته وكذا الإيمان والأعمال الصادرة في حالته باقيان في حالة البطلان والفساد ، ويبقيان في حال عدم التأثير حتّى يراهما الإنسان يوم القيامة.

وأمّا المؤمن المطيع إذا فعل ما يستحقّ به العقاب فلا يبطل الاستحقاقين في حقّه ، ويجتمعان في حقّه ، ليرى أعمال نفسه واستحقاقه الثواب والعقاب عند الميزان ، أو تدركه الشفاعة إن لم يوفّق للتوبة ونحوها ، ـ

٤٣٨

الفصل الثاني : في المستحقّ وفيه أبحاث :

الأوّل : في الأسماء ، وهي أربعة :

الأوّل : الإيمان وهو لغة التصديق ، وعرفا قيل : الشهادتان ؛ للحديث (١) ، ويبطله قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢).

وقيل : المعرفة بالله ؛ لقوله عليه‌السلام : «أوّل الدين معرفته» ويبطل بقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٣) (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٤).

__________________

ـ فإذا جمع الله تعالى الناس في الحشر في صعيد واحد ، ويومئذ يصدر الناس أشتاتا سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ومنافقين أو المؤمن المطيع العاصي ، يرون كلّهم أعمالهم كلها ويقفون على ما فعلوه ولو مثقال ذرّة من خير وشرّ ، فإن كان كافرا بعد الإيمان أو ناشئا على الكفر يرى أنّ كفره أبطل جميع ما صدر عنه حال الإيمان ، أو أنّ ما صدر عنه كلّه باطل فاسد لا أثر له في حقّه ، وإن كان مؤمنا بعد الكفر أو مؤمنا ناشئا على الإيمان يرى أعماله كلّها حال كفره وقد أبطلها الإيمان وأفسدها ، ولا تأثير لها في حقّه حتّى يوجب الشقاوة ويرى أعماله حال الإيمان كلها ويقرأ كتاب نفسه ويرى أنّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

وأمّا المؤمن المطيع العاصي فهو مستحقّ للثواب والعقاب ولم يبطل من أعماله شيء وكلّها باقية في القوّة والاستعداد والتأثير (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

ويظهر ثمرة الاستحقاقين بالميزان لأعماله إن لم يوفّق بالتوبة أو لم تدركه الشفاعة أو العفو الإلهي بأحد أسبابه الكثيرة كما هو مشروح في تلك المسألة.

فالإحباط والتكفير بالمعنى الذي قال به المعتزلة ـ أعني محو السيئة للثواب المتقدّم ومحقه وجعله معدوما أو محو الطاعة للعقاب المتقدم وجعله معدوما أو بالموازنة ـ باطل عقلا ولا دليل عليه من النقل شرعا ؛ فإنّ معنى الآيات الشريفة هو ما ذكرناه وشرحناه ، أعني الإبطال والإفساد لا المحو والمحق والإفناء والإعدام ، كما توهّموه ، قال الله تعالى : (لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) وقال تعالى : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت وفسدت وسقطت عن الأثر ، لا عدمت ومحقت ، والله العالم.

(١) لعلّه إشارة إلى ما جاء في الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله».

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٤.

(٣) البقرة ٢ : ٨٩.

(٤) النمل ٢٧ : ١٤.

٤٣٩

وقيل : عمل الجوارح ؛ لقوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (١) ويبطله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٢) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٣) والعطف يقتضي المغايرة.

وقيل : اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

وقيل : الأوّلان فقط. ويعلم ضعفهما مما سبق ويجيء.

والحقّ أنّه التصديق ؛ لأنّ معناه لغة ذلك فكذا شرعا ، وإلّا لزم الاشتراك أو النقل ، وهما خلاف الأصل. ويكفي التصديق بالقلب ؛ لقوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٤) وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٥) والمراد تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ ما علم ضرورة مجيئه به. نعم الإقرار باللسان كاشف والأعمال ثمرات فعلي (٦).

قولنا : الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان ، وما ورد في النقل من ذلك له تأويلات ، وعلى القول الثالث يكون قابلا لهما ، وقد عرفت ما فيه.

الثاني : الكفر وهو لغة : الستر ، والزارع كافر لستر الحبّ في الأرض ، وعرفا يعلم ممّا تقدّم ، وهل يكفر أحد من أهل القبلة أم لا؟ فالمعتزلة كفّرت الأشاعرة بقولهم بالصفات القديمة ولنسبتهم الأفعال إلى الله تعالى ، وكذا كفّرت المعتزلة والأشاعرة المشبّهة والمجسّمة ، وكلّ ذلك حقّ عندنا ونزيد نحن ، دافعي النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّهم كفرة عند جمهور أصحابنا ، ويقوى عندي أنّ ذلك حقّ في دافع النصّ المتواتر و (٧) ما ثبت عنده بطريق يعتقد صحّته. وأمّا المقلّد الذي سبقت إليه الشبهة وهو عاجز عن النظر في الأدلّة غير المعاند ، فيقوى الحكم بفسقه وعدم تخليده.

__________________

(١) البينة ٩٨ : ٥.

(٢) الأنعام ٦ : ٨٢.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٧ ؛ يونس ١٠ : ٩ ؛ هود ١١ : ٢٣ ؛ الكهف ١٨ : ١٠٧.

(٤) المجادلة ٥٨ : ٢٢.

(٥) النحل ١٦ : ١٠٦.

(٦) فلا بدّ مع التصديق القلبي عقد القلب بإظهار آثاره.

(٧) أو ما ـ خ : (آ).

٤٤٠