اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

الفصل الثاني : ذهب الأشاعرة ومعتزلة البصرة إلى أنّ أبا بكر أفضل ، واستدلوا بوجوه :

الأوّل : أنّ أبا بكر أتقى ، وكلّ من كان أتقى كان أفضل.

أمّا الصغرى فلقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) (١) فالمراد به إمّا علي عليه‌السلام أو أبو بكر وفاقا ، والأوّل ممنوع لقوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) وعلي عليه‌السلام لم يكن موصوفا بهذه الصفة ؛ لأنّه نشأ في تربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك نعمة تجزى بخلاف أبي بكر ، فإنّه ليس لأحد عليه من نعمة إلّا نعمة الإرشاد ، وتلك نعمة لا تجزى ، إمّا لقوله تعالى : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (٢) وإمّا لعظم قدرها فتعيّن الثاني.

وأمّا الكبرى فلأنّ كلّ من كان أتقى كان أكرم عند الله وأفضل ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣).

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه : «ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر».

الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر وعمر : «هما سيّدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين».

والجواب عن الأوّل بالمنع من الإجماع ، على أنّ المراد إمّا أبو بكر أو علي عليه‌السلام ؛ لجواز أن يكون المراد أبو الدحداح الذي اشترى النخلة المائلة إلى دار الفقير ، الذي شكا إلى النبي عليه‌السلام ما يلقاه من صاحبها ، فطلبها النبي منه ليعطيها الفقير وله بها نخلة في الجنّة فأبى، فمضى أبو الدحداح إليه واشتراها منه بأربعين نخلة حاضرة ، ودفعها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فدفعها إلى الفقير ، فنزل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٤) إلى آخرها ، كذا رواه

__________________

(١) الليل ٩٢ : ١٧ ـ ١٩.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٥٧ ؛ الشعراء ٢٦ : ١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٣٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠.

(٣) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٤) الليل ٩٢ : ١.

٤٠١

الواقدي بإسناده إلى عكرمة وابن عباس وعن عطا أنّ المراد بقوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) (١) المراد به صاحب النخلة ، وإذا كان كذلك فادّعاء الإجماع باطل.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ أبا بكر ليس عليه نعمة تجزى ، وقولكم : «نعمة الإرشاد لا تجزى» ممنوع ، نعم جزاؤها لا يكون مساويا لها في الفضل ، وذلك لا يرفع أصل الجزاء.

سلمنا ، لكن نمنع أنّه لم تكن عليه نعمة سوى الإرشاد ، فإنّه وأباه كانا يعيشان على سماط بن جذعان.

سلّمنا ، لكن نمنع أنّ الأتقى أفعل التفضيل ؛ لجواز أن يكون بمعنى التقي ، فإنّه جاء كثيرا في الشعر وإلّا لكان أتقى من كلّ المؤمنين ، فيكون أتقى من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو باطل ، وإذا كان بمعنى التقي لا يلزم أفضليته ؛ لأنّ المراد من قوله «أتقاكم» أي أتقى من جميع المؤمنين وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد بعض المؤمنين؟ فيكون أتقى أفعل التفضيل.

قلت : محال لا يكون أفضل من علي عليه‌السلام لجواز أن لا يكون علي عليه‌السلام من ذلك البعض. على أنّا نقول : من الرأس لا نسلّم أنّ الأتقى للموصوف في الآية الأولى هو الأتقى المشار إليه في الآية الأخرى ، حتّى يكون الأوسط متّحدا في القياس ؛ لجواز أن يكون مباينا له.

سلّمنا ، لكن منطوق قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) يدلّ على أنّ كلّ من كان أكرم عند الله فصفة (٣) الأتقى ثابتة له ، لا على أنّ كلّ من كان أتقى فهو أكرم ؛ لما ثبت في المنطق أنّ الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.

وعن الثاني بالمنع من صحّته ؛ فإنّه بالاتفاق ليس من الصحاح المتّفق عليها عندهم ، وعلى تقدير صحته فهو من الآحاد.

__________________

(١) الليل ٩٢ : ١٥.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٣) فضيلة ـ خ : (آ).

٤٠٢

سلّمنا ، لكن لا يدلّ على أنّه أفضل الكلّ ، فإنّ مدلوله أنّ الشمس ما طلعت على أحد أفضل ، فجاز أن يكون قد طلعت على من هو مساو له ، فلا يلزم حينئذ مطلوبكم.

سلّمنا ، لكن لا يدل على أفضليّته مطلقا ؛ لأنّه أتى بلفظ الماضي ، فجاز أن يكون وقت الإمامة علي عليه‌السلام أفضل منه.

وعن الثالث نمنع صحّته ، بل هو موضوع في زمن بني أمية ؛ ليعارض ما ورد في الحسنين عليهما‌السلام من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما : «إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما» ويؤيّده وجوه :

الأوّل : أنّه مسند إلى عبيد الله بن عمر ، وحاله في الانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ظاهر لا يدفع (١).

الثاني : أنّ في الخبر أنّ عليّا عليه‌السلام كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل أبو بكر وعمر فقال : «يا عليّ هذان سيّدا كهول أهل الجنة لا تخبرهما بذلك يا عليّ» ولم يعهد منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أخبر بفضيلة أحد وأمر بكتمانه.

الثالث : أنّ متن الخبر يحكم ببطلانه ، وذلك لأنّ أهل الجنة بالاتفاق شبّان جرد مرد مكحولون (٢) ، فكيف يكون فيهم كهل ، ولكن ، ما أحسن الكذب إذا دلّ على نفسه!

المرصد الثاني : في دفع المطاعن ، وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل : فيما (٣) ورد على عليّ عليه‌السلام من أعدائه الذين لا بصيرة لهم ، وهو وجوه :

الأوّل : ما ذكره الخوارج خذلهم الله تعالى ، وهو أنّه حكّم في الدين رجلين

__________________

(١) انظر في التحقيق حول هذا الخبر المجعول من الدجّالين أتباع بني أمية اللعناء إلى الأثر الخالد : تلخيص الشافي للشيخ قدس‌سره ، وما علّق عليه سيدنا العلامة الجليل السيد حسين الطباطبائي آل بحر العلوم النجفي دام بقاؤه من التعاليق النفيسة ـ ج ٣ ، ص ٢٢٣ ـ ٢١٩.

(٢) مكحلون ـ خ : (آ).

(٣) ما ـ خ : (آ).

٤٠٣

فاسقين ، وهو مناف لقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وذلك يستلزم (١) خطاءه وشكّه في إمامته ، وروي أنّه ندم على التحكيم فلا بدّ من خطاءه أحدهما.

والجواب : أنّ التحكيم جائز شرعا ؛ لقوله تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) (٢) وفي الصيد : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣) فليس بحرام ولم يكن واجبا ، لكن إنّما أجاب إليه لسؤال أهل الشام والخوارج لمّا قامت الحرب ، فأجاب لعلمه أنّه أسهل الطريقين إلى غرضه ، وكان عالما بأنّه على الحقّ (٤) ، وأمّا كون الحكمين فاسقين فإنّه لم يكن باختياره بل كان مقهورا ، وإنّما كان غرضه ابن عباس (ره) والأشتر (ره) ، فما وافقوه فرضي كرها ، هذا ولا يلزم من تحكيم الفاسقين فسقه إلّا مع إطلاق التحكيم ، أمّا على (٥) شرط أن لا يخالفا القرآن فلا ، وأمّا ندمه فغير مسلّم إذ كان الخوارج مطلوبهم منه على الاعتراف بخطإ التحكيم والتوبة فلم يفعل ، ولذلك فارقوه.

الثاني : قالوا : إنّه محو اسم أمير المؤمنين من كتاب التحكيم ، وهو يدلّ على شكّه.

والجواب : أنّ له أسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أمر بمحو اسم الرسالة في كتاب الصلح مع أهل الحديبية (٦).

الثالث : ما أورده النظّام أنّه عليه‌السلام كان يوم النهر ينظر إلى السماء تارة وإلى الأرض أخرى ويقول : «والله ما كذبت ولا كذبت» ولما فرغ من حربهم قال له الحسن عليه‌السلام : أعهد إليك رسول الله في أمر هؤلاء بشيء؟ فقال (٧) : لا ، ولكن أمرني بكلّ حقّ ، ومن الحقّ

__________________

(١) مستلزم لخطئه ـ خ : (آ).

(٢) النساء ٤ : ٣٥.

(٣) المائدة ٥ : ٩٥.

(٤) وكان عالما بأنّ أبا موسى الأشعري يخدعه عمرو بن العاص ـ انظر إلى خبر ابن أبي رافع في المناقب لابن شهرآشوب (ره) ، ج ٢ ، ص ٢٦١ طبعة قم ، ويأتى نقل ذلك في آخر الكتاب.

(٥) مع ـ خ ل ـ خ : (آ).

(٦) وكان أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله به في الحديبية كما هو مشهور في السير والتواريخ.

(٧) قال ـ خ : (د).

٤٠٤

أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، وهذا الكلام يشتمل على التناقض إن أراد بقوله : ما كذبت ولا كذبت عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا فعلى ادّعاء الوحي ، وكلاهما طعن.

والجواب : أمّا قوله : «والله ما كذبت» فصحيح ، لكنه قاله بعد الحرب وفقدان ذي الثدية بعد التفتيش ، ومعناه أنّي (١) ما كذبت في قولي عن رسول الله : إنّي أقاتل المارقين ، وأنّ آيتهم (٢) ذو الثدية. وأمّا قوله عليه‌السلام : «ما عهد إليّ فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيء» فهو كذب من الراوي موضوع ، كيف وقد تظاهرت الأخبار أنّ رجلا من عسكره قال : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّ القوم ذهبوا وقطعوا النهر فقال : لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتّى يقتلوا دونه ، عهد من الله ورسوله ، وروى فضالة بن فضالة عنه في حديث أنّه قال : «إنّ فيما عهد إلي النبيّ الأمّي أنّي لا أموت حتّى أؤمر وأقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وحتّى تخضب هذه من هذا».

ثمّ إنّه على تقدير صحّته يحتمل أن يريد ما عهد إليّ في أمرهم مع الله لا (٣) في قتالهم ، وذلك لأنّهم لم (٤) يقصدوا الباطل وإنّما كانوا ضعفاء العقول ، طلبوا الحقّ فضلّوا عنه ، ولذلك قال عليه‌السلام : «لا تقتلوا الخوارج بعدي».

الرابع : ما أورده النظّام أيضا ، وهو أنّه حكم بأحكام خالف بها الإجماع ، كبيع أمّهات الأولاد وقطع (٥) السارق من أصول الأصابع ، ودفع السارق إلى الشهود ، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا ، وجهره بتسمية رجال في القنوت ، وقبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض والله يقول : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٦) وأخذه دية الرجل من

__________________

(١) إنّي ـ خ : (د).

(٢) منهم ـ خ ل ـ خ : ـ (د).

(٣) لا ـ خ : (آ).

(٤) لا ـ خ : (د).

(٥) يد ـ خ : (د).

(٦) الطلاق ٦٥ : ٢.

٤٠٥

أولياء المرأة ، وأخذه (١) دية العين من المقتصّ من الأعور ، وتخليفه رجلا يصلّي بالضعفاء صلاة العيدين في المسجد ، وإحراقه رجلا لاط وكان عليه الرجم ، وجعله مهور البغايا في عطاء غنى وباهلة ، فإن كانوا مؤمنين فما وجه التخصيص وإلّا فلا يجوز اعطاؤهم.

والجواب : تفصيلا (٢) ذكره السيد في الشافي (٣) فلا نطوّل بإعادته. وإجمالا بأنّ ذلك لو قدح في علمه لقدح في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه قال : أقضاكم علي ، وإنّ الحقّ يدور معه كيفما دار وقال : «اللهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه» لمّا بعثه قاضيا إلى اليمن ، فقالعليه‌السلام : «ما شككت في قضاء بين اثنين» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب» (٤).

وأيضا لو كانت هذه الأحكام باطلة لطعن بها بنو أمية وغيرهم من أعدائه الشديدي الحرص على إطفاء نوره ، ولكن ليس ، فليس.

الخامس : أنّه قعد عن طلب الخلافة وبايع أبا بكر ، وصوّب كثيرا من أحكام القوم

__________________

(١) نصف ـ تلخيص الشافي ، ج ٢ ، ص ٢٨٠ طبعة النجف.

(٢) مفصّلا ـ خ : (آ).

(٣) وقد أثنى الشيخ الطبرسي (ره) على هذا الكتاب الخالد النفيس ، وهو من جلائل الكتب ونفائس الآثار في كتابه إعلام الورى عند ذكره الأدلّة السمعية على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : وأمّا الادلة السمعية على ذلك فقد استوفاها أصحابنا رضي الله عنهم قديما وحديثا في كتبهم ، لا سيما ما ذكر السيد الأجلّ المرتضى علم الهدى ذو المجدين قدّس الله روحه في كتاب الشافي في الإمامة فقد استولى على الأمد ، وغار في ذلك وأنجد وصوّب وأرشد وبلغ غاية الاستيفاء والاستقصاء ، وأجاب على شبه المخالفين التي عوّلوا على اعتمادها ، واجتهدوا في إيرادها أحسن الله عن الدين وكافة المؤمنين جزاءه ـ انظر ص ١٦٣ طبعة طهران سنة ١٣٧٩. وتلخيص الشافي لتلميذه شيخ الطائفة الطوسي قدّس الله روحه أيضا كتاب نفيس وأثر خالد لخصّه الشيخ (ره) وهذّبه في غاية الجودة والمتانة ، مطبوع في أربعة أجزاء في النجف الأشرف سنة ١٣٨٣.

(٤) يروي هذا الحديث باختلاف بسيط في ألفاظه عامّة المؤرّخين من أهل السنة بحيث لا يسع المقام لذكر مصادره ، وقد صنّف الفاضل العلّامة المحدّث أحمد بن محمد بن الصديق المغربي نزيل القاهرة كتابا نفيسا وسمّاه ب «فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي عليه‌السلام» مطبوع بمصر سنة ١٣٥٤ ، وذكر طرق هذا الحديث الشريف وحقّق أسناده على طريقة أهل السنة ، وهو كتاب فائق في بابه.

٤٠٦

وأفتى بها ، ولم يعزل كثيرا من عمّالهم كشريح ولم يستردّ فدكا ، فإن كان ذلك صوابا فما باله خطابا (١) له يتظلّم من أخذ حقّه كما ينقلون عنه ، وإن لم يكن صوابا كان طعنا عليه.

والجواب : لما ثبتت عصمته وإمامته وجب أن يكون كلّ ما فعله صوابا وإن أنكرنا ظاهره ، فجاز اشتماله على مصلحة لا نعلمها ، مع أنّ التقية قد بيّنا وجه الحكمة فيها. ويعلم ممّا ذكرناه سابقا زيادة في الجواب عن هذا الوجه.

السادس : روي أنّه خطب بنت أبي جهل بن هشام في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فشكته فاطمة عليها‌السلام إلى أبيها (٢) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر : إنّ عليا آذاني بخطب (٣) بنت أبي جهل ، ليجمع بينها وبين فاطمة ، ولم يستقم الجمع بين بنت نبيّ الله وبين بنت عدوّه ، أما علمتم معاشر الناس أنّ من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله.

والجواب : أنّ هذا كذب وضعه بعض النواصب ليطعن به عليه عليه‌السلام ، وكذبه مشهور ، وكفاه كذبا إسناده إلى الكرابيسي (٤) ، وكان عدوّا لأهل البيت عليهم‌السلام ، ولو كان صحيحا لذكره بنو أمية واحتجوا به في مطلوبهم (٥).

الفصل الثاني : فيما أورد على الحسن عليه‌السلام ، وهو أنّه صالح معاوية وبايعه وخلع

__________________

(١) باله خطابا ـ خ : (د).

(٢) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خ : (آ).

(٣) فخطب ـ خ : (د).

(٤) هو أبو علي الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الكرابيسي صاحب الشافعي (٢٤٥) أو (٢٤٨) قال ابن النديم في الفهرست : (٢٧٠ ـ : (... وكان من المجبرة وعارفا بالحديث والفقه ... وله من الكتب كتاب المدلّسين في الحديث ، وكتاب الإمامة ، وفيه غمز على عليّ عليه‌السلام ، وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ، ص ٢٥٥ : (... لا يرجع إلى قوله. وقال الخطيب : حديثه يعزّ جدا ؛ لأنّ أحمد بن حنبل كان يتكلّم فيه بسبب مسألة اللفظ ، وهو أيضا كان يتكلّم في أحمد فتجنب الناس الأخذ عنه ... وفي تهذيب التهذيب ج ٢ ، ص ٣٥٩ : «... وقال الأزري : ساقط لا يرجع إلى قوله. وقال ابن حيان : أفسده قلّة عقله. أقول : إن كان له عقل لم ينقل تلك الأسطورة الكاذبة والقصّة المجعولة الخرافية ، ولم يكن من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام.

(٥) وإن شئت تفصيل الجواب فانظر إلى تلخيص الشافي للشيخ (ره) ، ج ٢ ، ص ٢٧٦ طبعة النجف ، وكون هذه القصة أسطورة لا يعبأ بها من الواضحات ؛ ولذا لم يتعرّض المصنّف (ره) إلى جوابها تفصيلا.

٤٠٧

نفسه وأخذ عطاياه وأظهر موالاته مع فجور معاوية ، وكان قد بايعه خيار الصحابة وأفاضل المسلمين حتّى قال له سليمان بن صرد : ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة ، ومعهم أبناؤهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز.

والجواب : أمّا الصلح فلأنّه فعله اضطرارا ؛ لأنّ أكثر أصحابه كانوا غير مخلصين ومالوا إلى دنيا معاوية ، وأظهروا له عليه‌السلام النصرة وحملوه على الحرب ليورّطوه ويسلموه ، فلمّا أحسّ عليه‌السلام بذلك صالح تحرزا من المكيدة وأجاب معاوية ، ولمّا عوتب قال : إنّما هادنت حقنا للدماء وصيانتها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي ، وكان الذي جرى من مكيدة معاوية وحكاياته مع عبيد الله بن عباس ، وقيام الخوارج على الحسن عليه‌السلام مشهور ، والصلح (١) مع الضرورة جائز كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية. وأمّا البيعة فإن أردت بها الصفقة وإظهار الرضى للضرورة ، فقد وقعت كما وقعت من أبيه عليه‌السلام للشيوخ الثلاثة ، ولا يضرّنا ذلك. وإن أردت الرضى بالقلب فباطل ، فإنّه لم يقع ، ولهذا لمّا طلب معاوية الكلام وإعلام الناس ما عنده حمد الله وأثنى عليه وقال : إنّ أكيس الكيّس التقى وأحمق الحمق الفجور ، أيّها الناس لو أنّكم طلبتم من جابلق وجابرس (٢) رجلا جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وغير أخي ، وأنّ الله قد هداكم بأولياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ معاوية نازعني حقّا هو لي فتركته لصلاح الأمّة (٣) وحقن دمائها ، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت ، وقد رأيت أن أسالمه ، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر ، وإن

__________________

(١) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

(٢) جابلق بالباء الموحدة المفتوحة وسكون اللام وفي النسختين (د) و (آ) جابلص باللام والصاد المهملة ، قال ياقوت في معجم البلدان ، وفي رواية : جابلص ، والظاهر هو ما في تلخيص الشافي ومعجم البلدان وغيرهما : «جابرس» بالراء والسين المهملة انظر تلخيص الشافي ، ج ٤ ، ص ١٧٧ ومعجم البلدان ـ نفس المادة ، وأثبتنا ما هو المشهور.

(٣) صلاحا للأمة ـ خ : (د).

٤٠٨

أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ، وليس في هذا دليل على المتابعة.

وأمّا خلع نفسه عن الإمامة فإنّه محال ، كيف وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هما إمامان قاما أو قعدا» فالإمامة لازمة لهما قائمين أو قاعدين. وأمّا أخذ العطاء فقد فعل مثله عليّعليه‌السلام ؛ لأنّ جميع ما في يد المتغلّب من الأموال فللإمام انتزاعه (١) منه كيفما كان طوعا أو كرها ، وكان ينفق على نفسه وعياله قدر حقّهم ويدفع الباقي إلى المستحقّ وإظهار الموالاة كان تقية.

[الفصل] الثالث : فيما أورد على الحسين عليه‌السلام ، وهو أنّه فعل ضدّ ما فعله أخوه(٢) ، فإنّه خرج بأهله وعياله ، مع علمه (٣) باستيلاء أعدائه على الكوفة وعاملها من قبل يزيد ، وعلمه بغدر أهل الكوفة ؛ ولهذا نهاه ابن عباس فلم ينته ، وودّعه ابن عمر وقال: استودعك الله من قتيل ، وكذلك أخوه محمّد ، ثمّ إنه لمّا علم بقتل مسلم لم لم يرجع؟ ولم جوّز المحاربة في نفر يسير جموعا عظيمة؟ ولم لم يبايع للضرورة كما بايع أخوه حقنا للدماء حين عرض عليه الأمان والمبايعة ليزيد؟ وبالجملة الذي فعله إلقاء للنفس إلى التهلكة ، وربّك ينهى عنه بنصّ الكتاب.

والجواب : أنّ الأحكام تختلف بحسب الأمارات المختلفة ، والحسين عليه‌السلام لم يخرج من الحجاز إلّا بعد أن ورد عليه ثمانمائة كتاب من العراق ، ببيعة أربعة وعشرين ألفا من الفرسان المقاتلين ، وبعد أن بعث إليه مسلم بن عقيل (ض) يستحثّه لمّا أخذ له البيعة من ثمانية عشر ألفا غير أهل البصرة ، فخرج عليه‌السلام من مكّة مع سبعين (٤) فارسا وأربعين راجلا ليصل بمن بايعه (٥) لا ليحارب بهم ، ولم يعلم (٦) بما اتّفق من مكيدة ابن زياد وسوء

__________________

(١) ما انتزعه ـ خ : (د).

(٢) ضدّ فعل أخيه ـ خ : (آ).

(٣) مع علمه باستيلاء ـ خ : (آ).

(٤) ستين ـ خ : (آ) خ ل ـ خ : (د).

(٥) تابعه ـ خ : (د).

(٦) هذا الكلام وما تقدّمه وما يأتي إن كان نظرا إلى علم الإمام عليه‌السلام بعلم الإمامة والولاية ، فهو غير صحيح ؛ فإنّه عليه‌السلام كان عالما بما يتّفق ويقع ويؤول إليه عواقب أمره ونهضته المقدسة ، كما يأتي تحقيق ذلك ، ـ

٤٠٩

الاتّفاق لمسلم كما هو مشهور ، ومع هذه الأمارات الغالبة يجب على الإمام عليه‌السلام القيام وإلّا لم يكن معذورا.

وأمّا مخالفته لنصحائه فلعلّهم لم يحصل لهم (١) من الظنّ ما حصل له ؛ لعدم وقوفهم على الرسائل وغيرها من الأمارات الدالّة على الظفر ، وإنّما لم يرجع لمّا سمع بقتل مسلم ، فقيل : لعدم تصديقه الخبر أو إنّه أراد التوجّه إلى العجم (٢) والشام إلى يزيد أو علم أنّهم يلحقوا (٣) به. ولم ينفعه الرجوع ؛ لأنّه كان منتقلا بالأهل والعيال والرحل ، وهذا عندي أقوى ، ولهذا قيل : إنّه لما سمع همّ بالرجوع فقام إليه بنو عقيل ، وقالوا : والله لا ننصرف حتّى ندرك ثارنا أو نذوق ما ذاق أخونا (٤) ، فقال عليه‌السلام : لا خير في العيش بعد هؤلاء ثمّ لحقه الحرّ ومن معه وسألوه أن يقدم على ابن زياد ، فسار معهم حتّى قدم عمر بن سعد في عسكر عظيم ، فقال عليه‌السلام لعمر : اختاروا منّي إمّا الرجوع إلى مكّة أو أن أضع يدي على يد يزيد ، يرى فيّ رأيه (٥) وإمّا تسيّروني إلى ثغر من ثغور

__________________

ـ نعم هذا الكلام إن كان بناء على ظاهر الحال الذي كان وظيفة الإمام عليه‌السلام المشي عليه فهو صحيح ، فإنّ تكليفه كان في العمل بما هو نتيجة الأسباب الظاهرية ، ولم يكن من وظيفته العمل بعلم إمامته عليه‌السلام ولم يكن مكلّفا به ، فإنّ هذا العلم لا يكون متعلّقا للتكليف ، وقد شرحنا هذا المطلب في إضافاتنا على كتاب أنيس الموحّدين بالفارسية ، انظر ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧ طبعة تبريز سنة ١٣٩٢ ، وانظر إلى رسالة «بحثى كوتاه درباره علم امام عليه‌السلام» بالفارسية لسيدنا العلامة الطباطبائي دام ظلّه مع مقدّمتنا عليه ، طبعة تبريز سنة ١٣٩٦.

(١) هذا الكلام بناء على ظاهر الحال وإلّا كان ابن عباس ومحمد بن الحنيفة وعبد الله جعفر وابن عمر وغيرهم عالمين ، بأنّه عليه‌السلام سوف يصير شهيدا بطفّ العراق ، وكان ذلك بإخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام كما هو غير خفي على من راجع التواريخ وكتب المقاتل ، ويشهد به قول ابن عمر كما نقله المصنف (ره) : أستودعك الله من قتيل. فإنّه من أين علم أنّه قتيل؟ ليس إلّا من إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. انظر إلى قول ابن عمر هذا في إسعاف الراغبين ص ١٨٦ ـ ١٨٧ ؛ تذكرة الخواصّ ص ٢٥١ ؛ نظم درر السمطين ، ص ٢١٤.

(٢) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

(٣) يلحقونه ـ خ : (آ).

(٤) أبونا ـ خ : (د) وكذا في تنزيه الأنبياء للسيد (ره) ، ولكن الطبري في التاريخ موافق لما أثبتناه.

(٥) ليت المصنّف (ره) كان نقل مصدر هذا النقل ، وذكر أنّه من أين أخذ ذلك ونسبه إلى الإمام عليه‌السلام ، ولعلّه أخذه من الطبري في تأريخه ولكن هذه الخصال : اختاروا منّي ... لم يثبت في التاريخ ، وما نقله الطبري ـ

٤١٠

المسلمين ، فكتب (١) بذلك إلى ابن زياد فأبى إلّا نزوله إلى حكمه وتمثّل :

الآن إذ (٢) علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص

وعلم الحسين عليه‌السلام أنّه إن نزل على حكمه تعجّل الذلّ والعار وآل أمره بعد ذلك إلى القتل ، فاختار الشهادة والموتة الكريمة على الدخول تحت الذلّ ، ولذلك قال بعض الفضلاء : إنّ جهاد الحسين عليه‌السلام كان بحسب ذلك المقام الذي هو فيه ، فلا يرد عليه شيء من الإيرادات في مراعاة الشرائط الشرعية للجهاد (٣).

والفرق حينئذ بينه وبين أخيه عليهما‌السلام ظاهر ؛ أمّا أوّلا ، فإنّ أخاه إنّما قعد عند تخاذل أصحابه وتفرّقهم في الآراء بحسب مكيدة معاوية ، والحسين عليه‌السلام إنّما قام حين ظهرت له أمارات الظفر ، ولمّا انعكس الأمر عليه لم يتمكّن من القعود.

وأمّا ثانيا ، فلجواز اختلاف التكليف بحسب اختلاف الزمان والأحوال ، فجاز أن يكون تكليف الحسين عليه‌السلام القيام مطلقا ، ولا مانع في العقل منه وإن أدّى إلى ضرر (٤) ، لاشتماله على مصلحة عظيمة كقيام الشعار الإيماني مثلا ، (٥) فإنّه ربّما لو قعد عليه‌السلام لا نطمس شعار الإمامة ولكان لقائل أن يقول : لو كان دعوى هذه الطائفة حقّا لقام لها قائم بذلك وإن كان هذا غير لازم ، لكن يمكن أن يخطر ذلك لبعض الجهّال.

__________________

ـ عن عقبة بن سمعان كما يأتي نقله هو الصحيح ؛ لأنّه الموافق للعقل والاعتبار والقرائن تدلّ على صحة قوله ، وما أخذه المصنف (ره) من الطبري ونقله بقوله : اختاروا منّي الخ ... من الأكاذيب التي شحن الطبري تاريخه بها ، كنسبة المهادنة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مع معاوية كذبا واختلاقا ، انظر إلى حوادث سنة ٤٠ من تاريخه ، ولهذا التعليق بقية تأتي في آخر الكتاب.

(١) ثم كتب ـ خ : (آ).

(٢) قد ـ خ : (آ).

(٣) بل جهاده عليه‌السلام جهاد خاص وتضحية خاصة في سبيل إحياء الدين واستخلاصه من أيدي بني أمية أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن والإسلام ، وقضية الحسين عليه‌السلام لا تقاس بالقضايا المتعارفة حتّى يقال : هل روعي فيها شرائط الجهاد أولا؟

(٤) يعني بحسب الظاهر ، وأمّا في الواقع فهو عليه‌السلام غالب ، فإن عمله «غالبية في صورة المغلوبية» وهو من كلمات الشيخ الأستاذ (ره).

(٥) مثلا ـ خ : (د).

٤١١

فإن قلت : يظهر من كلام بعض أصحابكم أنّ الحسين عليه‌السلام كان يعلم أنّه يقتل في مسيره إلى الكوفة ، ويخذله من كاتبه ، وكذا ورد في كلامه عليه‌السلام صريحا : «كأنّي بأعضائي تقطّعها عسلان الفلوات» وإنّما سار تعبّدا بالجهاد ، وهذا غير جائز ؛ لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب عقلا وشرعا ، فلا يجوز أن يتعبّد بالصبر على خلافه.

قلت : تردّد شيخنا الطوسي رحمه‌الله في ذلك ، وأمّا السيد المرتضى (ره) فقال : إن أراد القائل بأنّه كان يعلم ما جرى عليه في ذلك الوقت على التفصيل ، فهو فاسد ، لما ذكرتم ، وإن أراد أنّه كان يعلم جملة أنّه سيقتل ولم يعلم وقته وكيفيته ، فهو جائز ولم يلزم منه محذور. وكذلك نقول في حقّ علي عليه‌السلام : إن كان يعلم أنّه يقتل إجمالا ، وكان يقول : متى يبعث أشقاها؟ والأولى أن يجاب بما ذكرناه من اختلاف التكليف.

٤١٢

اللامع الثاني عشر

في الحشر والجزاء

وفيه قطبان (١) :

[القطب] الأوّل : في الحشر ومقدّماته

وفيه فصلان :

[الفصل] الأوّل : في المقدمات وفيه أبحاث.

الأوّل : أنّه يجوز خلق عالم آخر مماثل لهذا العالم خلافا للحكماء ، لنا وجهان : الأوّل : أنّه لو امتنع لامتنع وجود هذا العالم ، واللازم كالملزوم في البطلان.

بيان الملازمة : أنّ امتناعه إن كان لذاته لزم امتناع هذا ؛ لأنّ حكم المثلين واحد ، وإن كان لعارض أمكن زواله فيزول الامتناع ، فيحصل المطلوب.

الثاني : تواتر النقل الصحيح بإمكانه ، كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) مطلبان ـ خ : (آ).

٤١٣

وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (١) وغيرها.

قالوا : لو أمكن لكان كرة ، لأنّه الشكل الطبيعي ، فيلزم اجتماع كرتين فيحصل بينهما خلاء ، وهو محال وإلّا لكانت الحركة مع العائق (٢) كالحركة مع عدمه ، وهو باطل.

بيان الملازمة : أنّ الحركة تستدعي زمانا ضرورة ، فلو فرضنا حركة تقطع مسافة خالية عن معاوق في زمان ومع المعاوق في مثليه ، ثمّ فرضنا معاوقا آخر أرقّ من الأوّل تكون نسبته إليه على النصف ، فيكون معاوقته كذلك ، فيقطع المسافة معه في نصف زمان الأوّل ، وذلك زمان الخلوّ عن المعاوقة ، فيتساويان وهو باطل.

ولأنّه يلزم وجود أرض أخرى مساوية لهذه فيكون مركزا في عالمها ، مع أنّه يكون لها ميل إلى مكان هذه وإلّا لما كانت مساوية لها ، فيكون لتلك مكانان طبيعيان ، وهو باطل وإلّا لكان المطلوب المتروك طبعا متروكا طبعا.

والجواب عن الأوّل بالمنع من الكرية ، وبتقديره نمنع (٣) استناده إلى الطبيعة كما تقدّم. سلّمنا لكن جاز تعدّد آثارها لتعدد الشروط. سلّمنا لكن نمنع استحالة الخلاء ، وقد تقدّم دليل امكانه ، وقولهم : «يلزم تساوي زمان العائق وعدمه» ممنوع ، فإنّا لا نسلّم وجود المعاوق الثاني كما وصفتم ..

وبيانه : أنّ الحركة تستدعي لذاتها قدرا معيّنا من الزمان ، فلا بدّ لها من قدر آخر بسبب المعاوق الأرقّ ، فيستحيل مساواته لزمان خلوّها عن المعاوق. هذا مع أنّا إذا رفعنا الصحفة (٤) الملساء عن مثلها رفعا متساويا (٥) ، فإنّ أوّل زمان الرفع يكون الوسط خاليا ، وهو ظاهر.

وعن الثاني بالمنع من أنّ التخصيص للطبيعة بل للفاعل المختار. سلّمنا لكن جاز

__________________

(١) يس ٣٦ : ٨١.

(٢) المعاوق ـ خ : (آ).

(٣) يمتنع ـ خ : (آ).

(٤) الصحفة ـ خ : (د).

(٥) مستويا ـ خ : (آ).

٤١٤

اختلاف الطبيعتين وإن تساويا في الجسمية ، فيقتضي كلّ واحد مركزا. سلمنا لكن جاز تخصيص كلّ بعالمها لا لمخصّص (١) كاختصاص المدرة بحيّزها دون غيره (٢).

الثاني : هذا العالم يجوز عدمه ؛ لأنّه ممكن فيجوز عدمه ، والمقدّمتان سبقتا ، ولأنّه لو امتنع فإن كان لذاته (٣) لزم الوجوب وهو باطل ، وإن كان لغيره (٤) كان جائزا ؛ نظرا إلى ذاته وهو المطلوب.

ومنعه الحكماء استسلافا ؛ لكونه أثرا لعلّة واجبة فيدوم بدوامها ، وقد تقدّم بطلان المستسلف.

الثالث : هل يقع هذا الجائز؟ منع أبو الحسين منه وإلّا لما أعيد ، لكن اللازم باطل بالاجماع على وقوع المعاد.

وبيان الملازمة بامتناع إعادة المعدوم كما يجيء. وجوّزه آخرون ؛ لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٥) و (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٦) و (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٧) و (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٨) وأوّل أبو الحسين الأوّل بأنّه نظرا إلى (٩) ذاته لإمكانه أو بخروجه عن الانتفاع ، والثاني أنّه أوّل (١٠) بحسب الذات وآخر كذلك أو مبدأ وغاية ، فإنّ أهل الجنّة مؤبّدون ، والثالث بأنّ المراد الموت ، والرابع بأنّ التشبّه من بعض الوجوه كاف في الصدق.

__________________

(١) لا لمخصص ـ خ : (د).

(٢) غيرها ـ خ : (آ).

(٣) بذاته ـ خ : (آ).

(٤) بغيره ـ خ : (آ).

(٥) القصص ٢٨ : ٨٨.

(٦) الحديد ٥٧ : ٣.

(٧) الرحمن ٥٥ : ٢٦.

(٨) الأنبياء ٢١ : ١٠٤.

(٩) بالنظر إلى ذاته ـ خ : (آ).

(١٠) أول ـ خ : (د).

٤١٥

والحقّ انصباب كلام أبي الحسين على المكلّف (١) ، كما في قصّة ابراهيم عليه‌السلام وكلام الآخرين على غيره ؛ إذ لا مانع منه مع دلالة النقل عليه.

تذنيبان

الأوّل : يجوز انخراق الأفلاك وانتثار الكواكب لإمكانها ، فيجوز عليها العدم وزوال الصورة التركيبية ، والنقل بوقوعه متواتر.

الثاني : الأعدام يحصل بالفاعل إذ لا مانع منه ، وقولهم ـ : العدم لا بفعل بل لا بدّ أن يكون أثر الفاعل وجودا وإلّا لم يكن مؤثرا ، إذ لا فرق حينئذ بين فعل العدم وبين لم يفعل شيئا ـ باطل ؛ إذ (٢) المراد عدم التأثير في الوجود أو بقائه لا التأثير في العدم ، ويلزم العدم من عدم ذلك التأثير (٣) ، وما ذكرتموه (٤) من عدم الفرق فاسد ، بل هو حاصل ، فإنّ مفهوم فعل العدم تجدّده بعد الوجود ، ومفهوم لم يفعل بقاء العدم على ما كان.

وقال الجبائيان : يحصل بطريان الضدّ الذي هو الفناء ، وأنّه عرض قائم بنفسه يبقى زمانا واحدا تعدم (٥) به الجواهر ، ثمّ يعدم لذاته ، لكن أبو علي قال : بإزاء كلّ جوهر فناء ، وأبو هاشم قال : فناء واحد كاف ، وهذا باطل ؛ لاستحالة عرض لا في محلّ ضرورة ، وكذا يقول في اختصاصه بالإعدام مع ثبوت التضادّ من الطرفين ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح.

__________________

(١) يعني كلام أبي الحسين مصبّه إعدام المكلّف وإعادته ، وإعدامه بتفرق أجزائه كما في قصّة ابراهيم عليه‌السلام وأخذه أربعة من الطير وتفريق أجزائها ، ولم يعدم الله تعالى تلك الأجزاء فكذا الأمر في المكلّف ، وأمّا كلام الآخرين فمصبّه في غير المكلّفين ، وهم من لا يجب إعادته وجاز إعدامه بالكلية ولا يعاد.

(٢) لأن ـ خ : (آ).

(٣) في العدم ويلزم العدم من عدم ذلك التأثير ـ خ : (آ).

(٤) وما ذكروه ـ خ : (آ).

(٥) تقوم ـ خ : (د).

٤١٦

وقولهم : ـ اختصّ الطارئ به ، لكونه متعلّق السببية (١) ـ باطل أيضا ؛ لأنّ البحث في اختصاص الطارئ بالسببية ، وحينئذ نقول : حدوث الحادث وانتفاء السابق إن كان معا ، فليس إعداما بالضدّ ، بل بالفاعل فإنّه يحدث الحادث وينفي السابق ويكون التوقّف توقّف معية ، وإن كان على التعاقب لزم الدور المحال. ثمّ إنّ عدمه لذاته يصيّره (٢) ممتنعا ، فلا يوجد هذا مع المطالبة بالتخصيص.

وقال جماعة : يحصل بانتفاء الشرط ، فالأشعرية قالوا : الأعراض غير باقية بل يجدّدها الفاعل ، فما هو شرط في بقاء الجوهر إذا لم يتجدّد (٣) عدم. وقال القاضي منهم : إنّها الأكوان وقال محمود الخيّاط (٤) والجويني : إنّ الجوهر محتاج (٥) إلى نوع من كلّ جنس ، فإذا لم يخلق ذلك النوع عدم.

وقال الكعبي وبشر : إنّ وجود الجوهر مشروط بالبقاء فإذا لم يخلقه عدم ، فبشر جعله قائما لا في محلّ ، والكعبي قائما بالمحلّ ، وهذا أيضا باطل لوجوه :

الأوّل : ما تقدّم من بقاء العرض.

الثاني : أنّ العرض مفتقر إلى الجوهر فلو افتقر هو إليه دار.

الثالث : الكلام في عدم الشرط كالمشروط ، وليس بالفاعل عندهم ولا بالضدّ أيضا ، فيكون بانتفاء الشرط ويتسلسل.

__________________

(١) السبب ـ خ : (آ).

(٢) يصير ـ خ : (د).

(٣) يتجدده ـ خ : (د).

(٤) محمود ـ خ : (آ) قال العلّامة قدس‌سره في أنوار الملكوت : وقال أبو بكر الباقلاني : وتلك الأعراض هي الأكوان ، وقال في موضع آخر : إنّ الفاعل المختار يفنى بلا واسطة ، وبمثله قال محمود الخيّاط وقال : إنّ الجوهر يحتاج من كلّ جنس من أجناس الأعراض إلى نوع ، فإذا لم يخلق أيّ نوع كان انعدم الجوهر. وبمثله قال إمام الحرمين. كذا في النسخة المطبوعة من نشريات «دانشگاه طهران» ولكن في النسخة المخطوطة النفيسة الموجودة بمكتبتنا : وقيل : إنّ الجوهر يحتاج ... الخ ... ـ فعلى هذه النسخة لا يكون المطلب من قول محمود الخيّاط ، بل قال بمثله إمام الحرمين الجويني ، ص ٤٢ ، والظاهر أنّ محمود الخيّاط من المتكلّمين ولم أقف إلى اليوم بعد فضل التتبع على ترجمته ، والله الموفق.

(٥) إنّ الجواهر تحتاج ـ خ : (آ).

٤١٧

الرابع : أنّ البقاء أمر عقلي لا عرض وجودي. سلمنا لكن لا يعقل وجوده إلّا في محلّ وإلّا لكان جوهرا ، ووجوده في المحلّ يستلزم الدور ؛ لأنّ كلّا منهما باق بصاحبه.

الرابع : المحقّقون على امتناع إعادة المعدوم وادّعوا الضرورة في ذلك ، ونبّهوا عليه بوجوه :

الأوّل : أنّ ما عدم لم يبق له هوية يشار إليها فيحكم عليها بصحّة العود ، مع أنّ الحكم على الشيء مشروط بتحقّق (١) ماهيته.

الثاني : لو أعيد بعينه تخلّل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال.

وبيانه : أنّ الوجود الثاني إن كان هو الأوّل فذاك ما قلناه ، وإن كان غيره فهو ما طلبناه.

الثالث : أنّه يلزم صدق المتقابلين عليه وهو محال ؛ فإنّه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخّصاته التي من جملتها الوقت الذي كان عليه ، فيكون مبتدأ بذلك الاعتبار ومعادا باعتبار وجوده الثاني ، فيكون مبتدأ معادا معا وهما متقابلان.

وقال المثبتون بامكانه بناء منهم على تقرّر ماهية حال العدم ، وقد عرفت ما فيه. وقال نفاة الأشاعرة بذلك أيضا وإلّا لخرج عن الإمكان إلى الامتناع ، وهو باطل ؛ لما ثبت من إمكانه الذاتي.

وفيه نظر ؛ لأنّ الحكم بامتناع وجوده المقيّد بكونه بعد العدم ، وذلك ليس للذات حتّى يخرجه (٢) إلى الامتناع بل لأمر لازم.

الخامس : في حقيقة الإنسان ، قد مرّ أنّ الحكماء يثبتون الجوهر المجرّد ، وقد حكينا دليلهم ، وتابعهم على ذلك جماعة ، وقال قوم من المتكلّمين : إنّه الهيكل المحسوس.

والمحقّقون منهم على أنّه أجزاء أصلية في هذا البدن ، باقية من أوّل العمر إلى آخره لا تتطرّق إليها الزيادة والنقصان ، وهو الأقرب ؛ لوجهين.

__________________

(١) بتحقيق ـ خ : (د).

(٢) تخرج ـ خ : (آ).

٤١٨

الأوّل : أنّا نحكم على ذواتنا بأحكام صادقة كالقدرة والعلم والمجيء والذهاب وغيرها ، وليس المحكوم عليه هو المجرّد وإلّا لما أمكن حصول الأحكام المذكورة إلّا من عالم به ؛ لما علم من اشتراط العلم بالمحكوم عليه في الحكم ، لكن اللازم باطل ؛ فإنّ كثيرا من العوام يحكم بها ولم يتصوّر المجرّد ولم يشعر به فيكون غيره ، وليس هو هذا الهيكل بأجمعه لتغيّره وتبدّله (١) ، والإنسان واحد لا يزيد ولا يتغيّر فيكون بعضه ، وليس هو الأجزاء الزائدة التي تتغيّر وتتبدّل ؛ لأنّ كلّ واحد يعرف أنّ ذاته لم تزد ولم تنقص ولم تتغير فتكون أجزاء باقية ، وذلك هو المطلوب.

الثاني : كلّما كان مدرك الجزئيات جسما كان مدرك الكلّيات جسما ، لكن المقدّم حقّ باعتراف الحكماء فالتالي مثله.

وبيان الشرطية : أنّا نحكم على زيد بالإنسانيّة ، والحاكم على الشيئين مدرك لهما ، فالنفس مدركة للجزئيات فتكون جسما ؛ لما تقدم. وفي هذين نظر :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ العامّي يحكم ولا يتصوّر الأجزاء أيضا. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ مرادهم أنّ المدرك للجزئيات بالذات جسم ، والنفس مدركة بواسطة الآلات لا بذاتها.

ويجاب عن الأوّل بأنّا نحكم على البدن الذي يعلم دخول الأجزاء الأصلية فيه ، ثمّ نتنبّه على أنّ الفضلية (٢) ساقطة عن درجة الاعتبار بأدنى فكر ، بخلاف المجرّد فإنّه حال الحكم غير شاعر به مطلقا.

واعلم أنّ هنا أقوالا أخر يظهر فسادها لمن تصوّرها :

الأوّل : هو الجزء الناري.

الثاني : هو الجزء الهوائي.

الثالث : هو الجزء المائي.

الرابع : أنّه الدم ؛ لأنّ المذبوح يموت بخروج دمه.

__________________

(١) تبديله ـ خ : (د).

(٢) الفضيلة ـ خ : (آ).

٤١٩

الخامس : أنّه الأخلاط الأربعة : الدم والبلغم والصفرة والمرة.

السادس : أنّه الروح ، وهو المركّب من بخارية الأخلاط ولطيفها ، ومسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ والكبد.

السابع : أنّه النفس الذي في الإنسان.

الثامن : قول النظّام : إنّه جسم لطيف داخل البدن سار في الأعضاء ، وإذا قطع عضو تقلّص باقيه (١) إلى داخل البدن ، فإن قطع بحيث ينقطع ذلك الجسم اللطيف مات الإنسان ، وهو قريب من مذهب المتكلّمين.

التاسع : قول ابن الراوندي : إنّه جزء لا يتجزّأ في القلب.

العاشر : أنّه المزاج المعتدل.

الحادي عشر : أنّه الحياة.

الثاني عشر : أنّه تخاطيط الأعضاء وتشكل الإنسان الذي لا يتغيّر من أوّل عمره إلى آخره (٢).

الفصل الثاني : في الحشر

ويعبّر عنه بالمعاد ، ونفاه الدهرية وأهل الطبيعة وقولهم يبطل ببطلان أصولهم ، وقد سلف ، وأثبته المليون جسمانيا (٣) والحكماء روحانيا وجماعة من المحققين جسمانيا وروحانيا ، وهو قريب. وتوقّف جالينوس في الكلّ. فهاهنا أبحاث (٤) ثلاثة :

[البحث] الأوّل : الجسماني ، والنظر إمّا في إمكانه أو وجوب وقوعه.

__________________

(١) ما فيه ـ خ : (آ).

(٢) هنا تعليق في تحقيق النفس الإنسانية يأتي في التعليقات المضافة إلى آخر الكتاب.

(٣) لا معنى لحشر الأجساد فقط ، فإنّها حينئذ جمادات ، ولا يقول بذلك عاقل ، فهذا القول يرجع إلى القول بالمعادين : الجسماني والروحاني معا ، وحمله على الجسماني فقط بديهي البطلان ، فمعنى قولهم : إنّه إذا أعيدت الأجسام لزمت إعادة الأرواح أيضا باعتبار المشاركة ؛ للطافتها وسريانها فيها. فلا تغفل.

(٤) أحكام ـ خ : (آ).

٤٢٠