اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

مع أنّهم يرتكبون (١) ما يعلم خلافه من الدين ضرورة ، وإجماع الأمّة دليل (٢) على بطلانه.

ثمّ كلامهم يدلّ على بطلانه أمور :

الأوّل : أنّه تعالى يفعل بوسائط ، وهذا قد تقدّم بطلانه.

الثاني : أنّ العالم أزلي وأبدي ، وقد تقدّم بطلان الأوّل ، وسيأتي بطلان الثاني.

الثالث : إثبات العقول المجرّدة ، وقد تقدّم بطلان مبنى ذلك ، وهو أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد.

الرابع : أنّ العلم بالله لا يحصل إلّا بتعليم الإمام ، وقد تقدّم كون النظر مفيدا للعلم بنفسه.

الخامس : أنّ الإمامة أفضل من النبوّة لكونها مظهر الأمر (٣) وهو العقل ، وأنّها ليست بواسطة النبوة ، بل هي رئاسة مستقلّة في عالم الباطن ، وهو أيضا باطل بما تقدّم وبإجماع الأمّة مع كونه عاريا عن البرهان فهؤلاء كما ترى خارجون عن الملّة.

واعلم : أنّ الفخر الرازي جعل الشيعة جنسا تحتها أربعة أنواع : الإمامية والزيدية والإسماعيلية والغلاة ، وهذا باطل ؛ لأنّ الأخيرتين قد بان لك خروجهم عن اعتقاد الإسلام فهم خارجون عن الملّة فضلا عن الشيعة (٤).

وأمّا الزيدية فنقول : قال الجوهري : شيعة الرجل أتباعه وأنصاره (٥) ، يقال : شايعه كما يقال : والاه ، وقال بعد ذلك : كلّ قوم أمرهم واحد يتّبع بعضهم رأي بعض فهم شيع ، ولا شكّ أنّ اسم الشيعة في العرف يختصّ بقوم يرون تقديم عليّ عليه‌السلام على الصحابة في الخلافة والفضل ، فعلى هذا خرجت السليمانية والصالحية ، ولم يبق إلّا الجارودية (٦) ، وهم أيضا ليسوا شيعة في الحقيقة. وبيانه موقوف على مقدّمات :

__________________

(١) مرتكبون ـ خ : (آ).

(٢) دال ـ خ : (آ).

(٣) لكونها مظهرة للأشرف وهو ... ـ خ : (آ).

(٤) عن التشيّع ـ خ : (آ).

(٥) أنصاره ـ خ : (د) والصحاح ـ ج ٣ طبعة شربتلى ـ مصر.

(٦) السليمانيّة والصالحية والجارودية من فرق الزيدية ، راجع الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ، ص ٢٥٥ طبعة ـ

٣٨١

الأولى : اتّفاقنا نحن وهم ، وجاء متواترا أنّ عليا عليه‌السلام وشيعته (١) على الحقّ يدور مع علي كيفما دار.

الثانية : لا شكّ أنّ الجارودية ليسوا متابعي الإماميّة على معتقدهم بل مباينون لهم ومعاندون.

الثالثة : قيام الدليل على صحّة مذهب الإمامية ـ كما تقدم ـ فلو كانت الجارودية شيعة لزم أن يكون الحقّ والنجاة في أكثر من واحدة من الفرق ، وهو باطل ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله: «ستفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار» ولغير ذلك من الأدلّة.

المقصد الرابع : في التفضيل ودفع المطاعن

وفيه مرصدان :

[المرصد] الأوّل : في التفضيل ، وفيه فصلان :

[الفصل] الأوّل : إنّ عليا صلوات الله عليه وآله أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

ـ سنة ١٣٦٨ القاهرة وقد أحسن المصنّف قدس‌سره في قوله : فعلى هذا خرجت السليمانية والصالحية ، فإنّ الفرقة الأولى هم أصحاب سليمان بن جرير كان يقول : إنّ الامامة شورى فيما بين الخلق ويصحّ أن ينعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين ، وأنّها تصحّ في المفضول مع وجود الأفضل ، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقا اجتهاديا ، وربما كان يقول : إنّ الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي عليه‌السلام خطأ لا يبلغ درجة الفسق ، وذلك الخطأ خطأ اجتهادي غير أنّه طعن في عثمان للأحداث التي أحدثها وأكفره بذلك وأكفر عائشة والزبير وطلحة بإقدامهم على قتال علي عليه‌السلام.

وأمّا الصالحية فقولهم في الامامة كقول السليمانية إلّا أنّهم توقّفوا في أمر عثمان أهو مؤمن أم كافر؟ إلى آخر مقالهم الذي لا يهمّنا نقله ، ومعلوم أنّ الاعتقاد بهذه الآراء خروج عن التشيّع ولا يطلق على المعتقد بها اسم الشيعة.

وعند التحقيق يظهر أنّ نسبة هذه الفرق وأمثالها إلى الشيعة كذب واختلاق من مؤلّفي كتب الملل والنحل ، ألصقوها إليهم كذبا وبهتانا لتكثير الفرق ونسبتها إلى الشيعة ، كما هو دأبهم وديدنهم منذ القرون الأولى إلى اليوم.

(١) وشيعة على عليه‌السلام ـ خ : (د).

٣٨٢

وهو مذهب معتزلة بغداد وعطاء ومجاهد من التابعين ، والشيعة كافة قديما وحديثا ، ولنا في المطلوب مسلكان :

[المسلك] الاوّل : النصّ على أفضليته إجمالا ، وهو من وجوه :

[الوجه] الأوّل : أنّه مساوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبي أفضل ، ومساوي الأفضل أفضل. أمّا الأولى : فلقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) واتّفق المفسّرون على أنّ المراد بالنساء فاطمة ، وبالأبناء الحسنان ، وبالأنفس هو علي عليه‌السلام ، ومن المحال أن تكون نفس علي عليه‌السلام هي نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة ، فبقي أن يكون المراد المثلية ، والمثلية هي التساوي ، والمتساويان ـ كما عرفت ـ هما اللذان يسند أحدهما مسند صاحبه ، فيقتضي ذلك أنّ كلّ ما حصل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضائل فمثله حاصل لعليّ عليه‌السلام إلّا ما أخرجه الدليل فيبقى عاما فيما سواه. وأمّا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل فهو ممّا لا شبهة فيه فيكون عليّ عليه‌السلام كذلك ، وهو المطلوب.

إن قلت : لم لا يجوز أن يكون المراد بالنفس هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون اللفظ مستعملا في حقيقته؟ لأنّ ما ذكرتموه مجاز خلاف الأصل ، وصيغة الجمع لا تنافي ما ذكرناه ؛ إذ المعظم يعبّر عنه بالجمع ك (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) (٢).

قلت : أوّلا : هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلّا بدليل ، خصوصا وقد ثبت أنّ المفسّرين نقلوا ذلك (٣). وثانيا : يلزم أن يكون المدعوّ والداعي واحدا ، وهو باطل.

[الوجه] الثاني : خبر الطائر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر» فجاء عليّ عليه‌السلام ، والخبر مشهور متواتر ، ومعلوم أنّ المحبة هي كثرة الثواب التي هي عبارة عن الأفضلية ، فمن كان أحبّ فهو أفضل.

لا يقال : لفظة «أحبّ» ليست باقية على العموم ؛ إذ يحتمل أن يكون أحبّ في كلّ الأمور وفي بعضها ، فلا يكون دليلا على الأفضلية.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٦١.

(٢) يوسف ١٢ : ٣ ؛ الكهف ١٨ : ١٣.

(٣) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

٣٨٣

لأنّا نقول : هذا باطل ؛ لأنّه خلاف الظاهر ، فإنّ قوله : «أحبّ خلقك إليك» يقتضي العموم لمكان الإضافة ، فجرى مجرى قولنا : زيد أفضل الناس ، فإنّه يقتضي العموم.

[الوجه] الثالث : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام : «إنّ الله اطّلع إلى الأرض اطّلاعة فاختار منها أباك فاتّخذه نبيّا ، ثمّ اطّلع ثانية فاختار منها بعلك فاتّخذه (١) وصيّا» فلو كان غيره أفضل منه تعين للاختيار.

[الوجه] الرابع : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذي الثدية : «يقتله خير الخلق» (٢) ومعلوم أنّ قاتله عليّ عليه‌السلام.

[الوجه] الخامس : روى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر (٣)».

[الوجه] السادس : روى أنس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ أخي ووصيّي وخير من أتركه بعدي هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقضي ديني وينجز وعدي».

[الوجه] السابع : روت عائشة قالت : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل عليّ فقال : هذا سيّد العرب فقلت : بأبي أنت وأمّي ألست سيّد العرب؟ فقال : أنا سيّد

__________________

(١) فجعله ـ خ : (آ).

(٢) غاية المرام ص ٤٥١ : يقتله خير أمتي من بعدي.

(٣) وقد صنف الشيخ الأقدم أبو محمّد جعفر بن أحمد بن علي القميّ نزيل الري (ره) من مشايخ الشيخ الصدوق (ره) كتابا في نقل هذا الحديث الشريف ، وهو مطبوع مع تآليف أخرى له في مجلّد واحد مع رسائل أخرى من تأليف غيره وسمّى كتابه نوادر الأثر في علي عليه‌السلام خير البشر ، وقد أخرج الحديث فيه من أكثر من أربعين طريقا ، عن الأعمش (ره) وغيره ، عن عطية العوفي (ره) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ره) ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «عليّ خير البشر ، ولا يشك فيه إلّا كافر أو منافق» وفي بعض طرقه ـ : «عليّ خير البشر ، من أبي فقد كفر» ص ٣٦ وفي بعضه : «عليّ خير البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قال غير هذا فقد كفر» ص ٣٨ والكتاب مطبوع سنة ١٣٧١ بإيران ، وينبغي الرجوع إلى كتاب غاية المرام للسيد الأعظم البحراني قدس‌سره ، انظر ص ٤٤٩ وفيه من طريق العامة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من لم يقل : عليّ خير البشر فقد كفر».

٣٨٤

العالمين وهو (١) سيّد العرب.

[الوجه] الثامن : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ودلالته من وجهين:

الأوّل : المولى هو الأولى بالأمر والتصرّف كما تقدّم ، فيكون أفضل.

الثاني : أنّه يفيد كونه مخدوما ومقدّما ورئيسا فيكون أفضل ؛ ولهذا قال عمر : «أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة (٢)».

[الوجه] التاسع : قوله «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» ومعلوم أنّ هارون كان أفضل من كلّ أمّة موسى عليه‌السلام ، فوجب أن يكون علي عليه‌السلام أفضل من كلّ أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ المساوي للأفضل أفضل.

[الوجه] العاشر : المؤاخاة فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا آخى بين الصحابة اتّخذه أخا لنفسه ، ويؤكّده (٣) قوله عليه‌السلام : «أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يقولها بعدي إلّا كذّاب أنا الصديق الأكبر أنا الفاروق الأعظم الذي يفرق بين الحقّ والباطل» قال ذلك مرارا كثيرة ولم ينكر عليه ، ومعلوم أنّ المؤاخاة تدلّ على الأفضلية ؛ ولأنّ المؤاخاة مظنّة المساواة في المنصب بل هي المساواة بعينها ، فيكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر ، ولمّا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الخلق لزم أن يكون مساويه أفضل وهو المطلوب.

[الوجه] الحادي عشر : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤). وجه الاستدلال : أنّ المفسّرين قالوا : إنّ المراد بصالح المؤمنين هو عليّ عليه‌السلام، والمولى هنا هو الناصر ؛ لأنّه القدر المشترك بين الله وجبرائيل عليه‌السلام ، فيكون علي عليه‌السلام مختصّا بالنصرة من بين سائر الصحابة فيكون أفضل منهم ، وهو المطلوب.

__________________

(١) وهذا ـ خ : (آ).

(٢) قوله : إلى يوم القيامة ـ موجود في كتاب الأربعين للإمام الرازي كما تقدّم انظر ص ٣٦١. من الكتاب.

(٣) ويؤيّده ـ خ : (آ).

(٤) التحريم ٦٦ : ٤.

٣٨٥

[الوجه] الثاني عشر : روى البيهقي (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» وهؤلاء الأنبياء أفضل من سائر الصحابة وعليّ مساويهم ، ومساوي الأفضل أفضل ، وهو المطلوب.

المسلك الثاني : الاستدلال على أفضليّته تفصيلا فنقول : الفضائل إمّا نفسانية أو بدنية أو خارجية ، وكلّ واحد من هذه كان علي عليه‌السلام أفضل من كلّ واحد من الصحابة فيه ، فيكون أفضل الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو المطلوب.

فها هنا أقسام ثلاثة :

[القسم] الأوّل : في النفسانية وهي أنواع :

الأوّل : أنّه سابق إلى الإيمان ، والسابق أفضل ، فيكون هو أفضل ، أمّا الكبرى فلقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) وأمّا الصغرى فلوجوه :

الأوّل : قوله عليه‌السلام على المنبر (٣) : «أنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم» (٤) قاله بجمع من الناس وما ردّوا عليه قوله ، وذلك دليل على صحّته.

الثاني : روى سلمان الفارسي أنّ النبي عليه‌السلام قال : «أولكم وردا على الحوض أولكم

__________________

(١) انظر المجلد التاسع من كتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسي (ره) ص ٣٥٥ ـ ٣٥٦ طبع أمين الضرب تجد فيه الحديث الذي رواه البيهقي ، ونقله المصنف (ره) عنه وأحاديث أخرى بهذا المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فراجع.

(٢) الواقعة ٥٦ : ١٠ ـ ١١.

(٣) أنا الصدّيق الأكبر آمنت قبل أن تؤمنوا وأسلمت قبل أن تسلموا ـ خ : (د).

(٤) قاله على منبر البصرة انظر الإرشاد للشيخ المفيد (ره) ، ص ١٦ طبعة تبريز سنة ١٣٠٨ والصراط المستقيم للبياضي ، ج ١ ، ص ٢٣٥ طبعة طهران والفصول المختارة ، ج ٢ ، ص ٦٣ ، طبعة النجف وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ٤ ص ١٢٢ طبعة مصر والمناقب لابن شهرآشوب (ره) ج ٢ ، ص ٤ طبعة قم. وفيه : وأسلمت قبل أن يسلم عمر.

٣٨٦

إسلاما عليّ بن أبي طالب» (١).

الثالث : روى أنس بن مالك : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين وآمن عليّ يوم الثلاثاء (٢).

الرابع : روى عبد الله الحسن قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنا أوّل من صلّى وأنا أوّل من آمن بالله ورسوله ولم يسبقني بالصلاة إلّا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

الخامس : روايات أهل البيت عليهم‌السلام وإجماعهم على ذلك.

السادس : أنّ الدلالة على سبق إيمانه ظاهرة ، وذلك أنّه عليه‌السلام كان ابن عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي تربيته ومختصّا به غاية الاختصاص ، وأبو بكر كان من الأجانب ، ومن البعيد عرض هذا المهمّ على البعيد قبل عرضه على القريب الخصيص ، ولهذا السرّ قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٤) حثّه على ذلك مع علمه بما عنده من شدّة الحرص على إيمان الكفّار حتّى قال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٥) فيكون حرصه على الأقارب أعظم.

إن قلت : هذا ممنوع بل إسلام أبي بكر أسبق ؛ لقوله عليه‌السلام : «ما عرضت الإسلام على أحد إلّا (٦) وله كبوة (٧) غير أبي بكر ، فإنّه لم يتلعثم» فلو تأخّر إسلامه لكان إمّا من جهته

__________________

(١) الصراط المستقيم ، ج ١ ، ص ٢٣٥.

(٢) ورواه جابر الأنصاري (ره) ـ الصراط المستقيم ، ج ١ ، ص ٢٣٦ وانظر إلى المناقب ، ج ٢ ، ص ٧ طبعة قم.

(٣) انظر إلى الروايات الواردة قريبا بهذا المضمون في المناقب لابن شهرآشوب (ره) ج ٢ ، ص ١٥ طبعة قم. قال ابن شهرآشوب (ره) : ولقد كان إسلامه عن فطرة وإسلامهم عن كفر ، وما يكون عن كفر لا يصلح للنبوّة وما يكون من الفطرة يصلح لها ، ولهذا قوله عليه‌السلام : إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ولو كان لكنته. ولذلك قال بعضهم وقد سئل : متى أسلم علي؟ قال : ومتى كفر إلا أنّه جدد الإسلام ص ٨.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٢١٤.

(٥) الشعراء ٢٦ : ٣.

(٦) إلّا ـ خ : (آ).

(٧) الكبوة : الوقفة كوقفة العاثر أو الوقفة عند الشيء يكرهه الإنسان قاله ابن الأثير في النهاية ، لم يتلعثم أي لم يتوقّف حتّى أجابني.

٣٨٧

فيكون له كبوة ، وهو باطل بما تقدم ، وإن كان من جهة الرسول (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله لزم تقصيره في التبليغ وعدم حرصه ، وهما باطلان ، سلّمنا لكن إسلام علي عليه‌السلام حال الطفولية لقولهعليه‌السلام في شعره :

سبقتكم إلى الإسلام طرّا

صغيرا (٢) ما بلغت أوان حلمي

وإسلام الصبيّ مختلف في صحّته ، وأمّا أبو بكر فإسلامه وهو بالغ عاقل وغير مختلف في صحّته ، فيكون معتبرا ، سلّمنا لكن عليّ عليه‌السلام كان صبيا حال إسلامه غير مشهور (٣) ولا مقبول القول ، فلم يحصل بإسلامه شوكة للإسلام ، وأبو بكر كان على العكس من ذلك ، فيكون إيمانه منتفعا في قوة الدين فيكون إيمانه أفضل.

قلت : الجواب عن الأوّل : أنّا نمنع صحّة الخبر فهو خبر واحد ، سلّمنا لكن لا يدلّ على سبق إسلامه ، بل على عدم التوقّف في القبول ، فيكون التأخر (٤) لعدم لقاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوقات طويلة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشتغلا فيها بعرض الإسلام على غيره فلا يكون مقصّرا ، سلّمنا لقاءه له لكن جاز أن يكون قد عرف منه في ذلك الوقت العناد وعدم القبول فأخّره إلى زمن القبول ؛ لعلمه بعدم التأثير قبله.

وعن الثاني بالمنع أيضا من صباه حينئذ ؛ لأنّه عليه‌السلام عاش خمسا وستين سنة ، وقيل :

ستّا وستّين ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقي بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة ، وعلي عليه‌السلام بقي بعده قريبا من ثلاثين سنة ، فإذا أسقطنا ثلاثا وخمسين ممّا تقدّم يكون عمره الشريف اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة ، والبلوغ في هذا ممكن فوجب الحكم بصحّته (٥) ، ووقوعه

__________________

(١) رسول الله ـ خ : (آ).

(٢) غلاما ـ خ ل ـ خ : (د) وكذا في الاحتجاج للطبرسي (ره) ، وبعد هذا البيت :

وصلّيت الصلاة وكنت طفلا

مقرّا بالنبيّ في بطن أمّي

وينبغي الرجوع في التحقيق حول هذه الأبيات إلى الأثر الخالد الغدير ، ج ٢ ص ٢٥ طبعة طهران. قال قتادة : أما بيته : غلاما ما بلغت أوان حلمي. فإنّما قال : قد بلغت ـ البحار ، ج ٣٧ ، ص ٢٣٦.

(٣) مشهود ـ خ : (آ).

(٤) التأخير ـ خ : (آ).

(٥) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

٣٨٨

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام : زوّجتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما (١)» سلّمنا ، لكن ذلك دليل على أفضليّته عليه‌السلام بوجوه :

الأوّل : الغالب على الصبيان الميل إلى اللعب ومتابعة الشهوات والبعد عن الفكر في ملكوت السماوات ، ثمّ إنه عليه‌السلام أعرض عن ذلك واشتغل بالفكر والنظر والتطلّع إلى أسرار التوحيد والعدل ، بحيث ساوى البالغين العاقلين ، بل زاد عليهم ، وذلك دليل على شرف نفسه وعظمها.

الثاني : أنّه حال الصبا كان خاليا من الشكوك وشوائب الطبيعة ونواميس العادة ووسوسة الشيطان ، فيكون إيمانه صادف محلّا نقيا يتمكّن (٢) فيه كما قيل (٣) :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

فيكون إيمانه أبلغ وأكمل (٤) من حيث الكيف.

الثالث : لا امتناع في العقل من وجود صبي كامل حصيف في الدين عارف بالأسرار ، وكيف وقد أخبر سبحانه عن عيسى عليه‌السلام أنّه قال في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) (٥) وعن يحيى عليه‌السلام (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٦) فجاز أن يكون علي عليه‌السلام هو ذلك الصبيّ الكامل (٧).

وعن الثالث بالمنع من حصول الشوكة بإسلامه وكونه منتفعا (٨) به ، أمّا الأوّل : فإنّه حال كبره وخلافته بعد معاشرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يكن له بارقة في خطاب ولا لامعة في ردّ

__________________

(١) وقد صرّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الحديث في ثلاثة مواضع بأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل من آمن وأسلم به ، ورواه الشيخ المفيد (ره) في الإرشاد بإسناده عن أبي هارون قال : أتيت أبا سعيد الخدري ... وعنده علم الأولين والآخرين وهو أول من آمن بي ... الحديث. انظر ص ١٩ ، طبعة تبريز.

(٢) فتمكن فيه ـ خ : (آ).

(٣) شعر ـ خ : (آ).

(٤) أفضل ـ خ : (د).

(٥) مريم ١٩ : ٣٠.

(٦) مريم ١٩ : ١٢.

(٧) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

(٨) وكونه محترما ـ خ : (آ).

٣٨٩

جواب ، فكيف في ابتدائه؟ وأمّا الثاني : فإنّ أباه كان مناديا لابن جذعان وهو تابع لأبيه ، ولما كبر كان معلّما للصبيان ، فأيّ حرمة له حينئذ؟

الثاني (١) : العلم وهو النعمة (٢) الكبرى في الفضيلة ، ولنا في إثبات أفضليّته عليه‌السلام فيه بيانان : الأوّل : إجمالي وهو وجوه :

الأوّل : أنّه عليه‌السلام كان في الغاية من الذكاء والفطنة والحرص على اقتناء الفضيلة ، شديد المصاحبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ودائمها ، بحيث لم يفارقه من زمان الصغر إلى آخر عمره إلّا زمانا يسيرا لا يعدّ مفارقة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم العلماء شديد الحرص على التعليم عامّا وله خاصّا ، وإذا اتّفق لمثل هذا التلميذ المستعدّ المداومة على صحبة هذا الأستاذ الكامل ، فلا شكّ ولا ريب أنّ ذلك التلميذ يبلغ في العلم مرتبة لا يلحقه غيره فيها.

ولا يمكن إنّ يقال : إنّ أبا بكر كان أيضا كذلك لأنّا نمنع ذكاءه أوّلا وحرصه (٣) ثانيا ، ومن وقف على صفاته عرف ذلك. سلمنا لكن فرق بين الحالتين ، فإنّه اتّصل بالرسول وهو شيخ كبير السن ، وقد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، والعلم في الكبر كالنقش في المدر أو كالكتابة على وجه الماء.

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أقضاكم عليّ» والقضاء يحتاج إلى جميع العلوم فوجب أن يكون محيطا بها (٤).

الثالث : قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٥) أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في حقّ علي عليه‌السلام ، ووصفه بزيادة الفهم دليل على زيادة العلم.

الرابع : قوله عليه‌السلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٦) وكذا قوله : «بل اندمجت

__________________

(١) أي النوع الثاني من الفضائل النفسانية.

(٢) العمدة ـ خ : (آ).

(٣) حفظه ـ خ : (آ).

(٤) فمن هنا تعرف ما في قول بعض الشارحين : إنّ قوله : أقضاكم ، أي أفقهكم ـ من النظر والغرض.

(٥) الحاقة ٦٩ : ١٢.

(٦) هذه الكلمة المباركة أول الكلمات المائة التي اختارها الجاحظ من كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : «كلّ كلمة منها تفي بألف من محاسن كلام العرب» وقد شرحها العالم الربّاني ابن ميثم البحراني قدس‌سره شارح ـ

٣٩٠

على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة» وهذا يدلّ على بلوغه مبلغا لا يدركه غيره.

الخامس : قوله : «لو كسرت لي الوسادة فجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، والله ما من آية نزلت في برّ ولا بحر ولا سهل ولا جبل ولا ليل ولا نهار إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أيّ شيء نزلت».

ولا يرد : كون (١) تلك الكتب منسوخة فلا يكون الحديث صحيحا ؛ لأنّ المراد : الحكم بها لو لا النسخ ، أو باستخراج المواضع الدالّة على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليكون أقوى في الحجّة عليهم.

السادس : قوله عليه‌السلام : «علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، وفتح لي من كلّ باب ألف باب» (٢).

الثاني : تفصيلي ، وهو وجوه :

الأوّل : أنّ أشرف العلوم علم الكلام ، ومعلوم أنّه ورد في كلامه عليه‌السلام من سائر أنواعه من التوحيد والعدل والنبوّات والقضاء والقدر ما لا يوجد في كلام غيره ، وقد بيّنا في شرح النهج (٣) انتساب سائر الفرق إليه فيه.

الثاني : علم التفسير ، وفيه إليه تشدّ الرحال حتّى أنّه شرح لابن عبّاس في تفسير باء بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من أوّل الليل إلى آخره.

الثالث : علم الفقه ، ورجوع الصحابة إليه فيه مشهور كرجوع عمر في قضية

__________________

ـ نهج البلاغة في مجلّد مستقل ، وهو مطبوع سنة ١٣٩٠ بإيران ، باهتمام المتضلّع المتتبع الخبير السيد جلال الدين الأرموي المحدّث نزيل طهران زاد الله تعالى في تأييداته ووفّقه لمرضاته.

(١) إنّ ـ خ : (آ).

(٢) الإرشاد ، ص ١٧ ، طبعة تبريز.

(٣) يقصد به شرح نهج المسترشدين للعلّامة (ره) ، وقد سمّاه بإرشاد الطالبين مطبوع ببمبئي ، ولكن فيه أغلاط كثيرة في الطبع ، راجع ص ١٧٨.

٣٩١

المجهضة (١) ومن ولدت لستّة أشهر حين أمر برجمها ، وقضية المقرّة بالزنا وهي حامل ، وغير ذلك حتّى قال : لا عشت لمعضلة ولا أبا حسن لها (٢) وكذا رجوع المجتهدين إليه ظاهر ، حتّى قال الشافعي : «ما عرفنا أحكام البغاة إلّا من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفتاويه الغريبة المشهورة».

الرابع : علم البلاغة ، وهو العمدة فيه حتّى قال معاوية : «والله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره».

الخامس : علم النحو ، ومشهور أنّه وضعه وعلّم أبا الأسود أصوله.

السادس : علم السلوك وتحلية (٣) الباطن ، وفخر الصوفية بانتسابهم إليه (٤).

السابع : علم الشجاعة وممارسة الأسلحة ، وهو ممّا ينسب إليه أيضا حتّى أنّ أرباب كلّ فنّ ينتسبون إليه.

فظهر أنّه أعلم الخلق بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن شكّ في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.

الثالث : العفّة ، وقد كان فيها الآية الكبرى ، وناهيك كتابه إلى عثمان بن حنيف فتدبّره (٥).

والرابع : الشجاعة ، وبه عليه‌السلام فيها يضرب الأمثال حتّى أنّ أعداءه يفتخرون بأنّهم

__________________

(١) راجع في هذه القضية وما بعدها الإرشاد للشيخ المفيد (ره) ، ص ١٠٩ طبعة تبريز سنة ١٣٠٨ ، وهذه الطبعة من الإرشاد مطبوعة بتصحيح العلمين الحجّتين الآيتين : سيّدنا الوالد الماجد المعظم «القاضي الطباطبائي» وسيّدنا الأجلّ السيد علي القاضي الطباطبائي نزيل النجف الأشرف قدس‌سرهما ونوّر الله مرقدهما وغيرهما من الأفاضل ، وهذه الطبعة من أحسن طبعات كتاب الإرشاد ، ذلك الأثر الخالد النفيس ، وهو في الرعيل الأوّل من الكتب المعتبرة عند الشيعة الإمامية رضوان الله عليهم. وراجع إرشاد القلوب للديلمي (ره) ج ٢ ، ص ٧ طبعة بيروت.

(٢) الإرشاد ، ص ١٠٨ طبعة تبريز.

(٣) تجلية ـ خ : (د).

(٤) راجع في تحقيق أحوالهم وتشخيص المضلّ منهم والمصيب شرح دعاء كميل رحمه‌الله للسيد العلامة السيد جعفر الطباطبائي آل بحر العلوم قدس‌سره ، المطبوع في النجف الأشرف على الحجر بإيعاز من الفقيه المرجع الكبير الشيخ المامقانى قدس‌سره سنة ١٣٤٢ انظر ص ٢٨ ـ ٣١.

(٥) راجع نهج البلاغة.

٣٩٢

وقفوا معه في الحروب.

الخامس : الزهد ، وكان فيه الغاية القصوى حتّى أنّه أعرض عن الدنيا إعراض من لم ينل منها ذرّة ، مع أنّه كان يجبى إليه حاصلها ، وقال : إليك عنّي يا دنيا ، فقد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها وقال : لقد رقّعت مدرعتي حتّى استحييت من راقعها ، وكان يختم أوعية طعامه لئلّا يوضع له في خبزه أدام.

السادس : السخاء (١) والكرم ، وهو في ذلك الآية الكبرى ، فمن سخائه أنّه لم يستردّ فدكا أيام خلافته ، واعترف أعداؤه بسخائه حتّى قال معاوية : «لو يملك ابن أبي طالبعليه‌السلام بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه» وعمّر عليه‌السلام عدّة حدائق وتصدّق بها (٢) وآثر بقوته وقوة عياله حتّى نزلت فيهم سورة هل أتى.

السابع : الحلم ، وهو الذي حلم عن مروان يوم الجمل وكان شديد العداوة ، وعن عبد الله بن الزبير وكان يشتم عليا عليه‌السلام ظاهرا ، وأفرج لمعاوية عن الشريعة لمّا ملكها وكان معاوية قد منعها أوّلا ، وأكرم عائشة وبعث معها عشرين امرأة إلى المدينة بعد حربها (٣).

__________________

(١) السخاوة ـ خ : (د).

(٢) راجع في تفصيل صدقاته عليه‌السلام المناقب لابن شهرآشوب (ره) ، والوافي للفيض (ره) والبحار وغيرها وقضية عين أبي نيزر مذكورة في الكامل للمبرّد ج ٣ ، ص ٩٣٨ طبعة مصر ، وكتبنا في سالف الزمان رسالة مستقلة بالفارسية في هذا الباب ، والله الموفق.

(٣) راجع تاريخ الجمل : النصرة في حرب البصرة للشيخ المفيد (ره) ، وقد تبع المصنّف (ره) في قوله : «وبعث معها عشرين امرأة» لابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، ولكن التحقيق هو ما ذكره الشيخ المفيد (ره) وقال : ولمّا عزم أمير المؤمنين عليه‌السلام على المسير إلى الكوفة أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة ، فتهيأت لذلك وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والقلانس وقلّدهن السيوف ، وأمرهن أن يحفظنها ويكن عن يمينها وشمالها ومن ورائها ، فجعلت عائشة تقول في الطريق : اللهمّ افعل بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وافعل ، بعث معي الرجال ولم يحفظ بي حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها ، فلما رأتهن ندمت على ما فرطت بذمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وسبّه وقالت جزى الله ابن أبي طالب خيرا فلقد حفظ فيّ حرمة رسول الله ص ٢٠٧ طبعة النجف.

قلت : ولكن عائشة نفسها لم تحفظ حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرجت عن بيتها وركبت الجمل وجاءت إلى ـ

٣٩٣

الثامن : الحرص والشدّة في إقامة حدود الله تعالى ، وحاله في ذلك أشهر من أن يقال حتّى قال في كتابه إلى بعض عماله : لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت لما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا منّي باردة حتّى آخذ الحقّ منهما ، وأزيح الباطل عن مظلمتهما.

التاسع : شرف الخلق وحسنه حتّى نسبه عمر إلى الدعابة مع شدّة بأسه وهيبته ، قال صعصعة : كان بيننا كأحدنا في لين جانب وشدّة تواضع وسهولة قياد ، وكنّا نهابه مع ذلك مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه (١) وقال معاوية يوما لقيس سعد بن عبادة(٢) : رحم الله أبا حسن فلقد كان هشّا بشّا ذا فكاهة ، فقال قيس : أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطوى تلك هيبة التقوى ليس كما تهابك طغام الشام.

العاشر : الطهارة من الذنوب قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣) ولما نزلت أدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الكساء على عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وقال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس.

كذا روته أمّ سلمة وغيرها (٤) وليس الآية في النساء وإلّا لأنّث الضمير (٥) وللرواية

__________________

ـ حرب إمام زمانها وأشعلت نار الفتنة ، وأجّجت التهابها وأهرقت أم المؤمنين دماء أولادها ، ونسيت آية القرآن الكريم : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ...)

ونسيت آية التبرج أم لم

تدر أنّ الرحمن عنه نهاها

حفظت أربعين ألف حديث

ومن الذكر آية تنساها

ونعم ما أبدع السيّد (ره) على ما نقله الجاحظ :

جاءت مع الأشقين في لمّة

تقود للبصرة أجنادها

كأنّها في فعلها هرّة

من جوعها تأكل أولادها.

(١) و (٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٥ طبعة دار إحياء الكتب العربية ١٣٧٨.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٤) انظر إلى الفضائل الخمسة ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٤١ طبعة النجف وغاية المرام ، ص ٢٨٧.

(٥) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

٣٩٤

المذكورة إذ قالت أمّ سلمة : ألست من أهل بيتك؟ قال : إنّك على خير ، وكون ما قبلها مختصّا بالنساء لا يمنع من اختصاصها بهم لجواز الانتقال من خطاب إلى آخر ، وحينئذ نقول : الذنب رجس ، وكلّ رجس فهو منفيّ عن أهل البيت ، فالذنب منفي عنهم (١) ، وهم مطهرون منه وعليّ عليه‌السلام سيّدهم ، فيكون مطهّرا من الذنوب.

الحادي عشر : إخباره بالمغيّبات كإخباره عن نفسه الشريفة بالقتل في شهر رمضان ، وقوله للبراء بن عازب : «يقتل ولدي الحسين عليه‌السلام وأنت حيّ لا تنصره» وكان كذلك. وقوله عليه‌السلام لسعد بن أبي وقّاص حين قال : كم على رأسي من طاقة شعر؟ : «إنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكان ابنه صبيا حينئذ.

وقوله : «بمعنى إخباره» (٢) عن خالد بن عرفطة : «لن يموت حتّى يقود جيش ضلالة حامل رايته حبيب بن جمار ، فقام إليه حبيب فقال : إنّي لك شيعة وإنّي لك لمحبّ ، فقال : إيّاك أن تحملها ، ولتحملنها وتدخل بها من هذا الباب» وأشار إلى باب الفيل (٣) ، فلمّا بعث ابن زياد عمر بن سعد لعنهما الله لقتال الحسين عليه‌السلام جعل على مقدّمته خالدا وحبيب حامل رايته. وإخباره ميثما (ض) أنّ أباه سمّاه ميثما وأنّه يصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة ، وأراه النخلة التي يصلب على جذعها وغير

__________________

(١) فإنّ المنفيّ في الآية الشريفة عن أهل البيت عليهم‌السلام هو كلّ الأرجاس ، ومصب الآية الأرجاس الباطنية ، وأما الظاهرية فأهل البيت عليهم‌السلام كانوا يجتنبون عنها يقينا ، والألف واللام في «الرجس» إمّا للاستغراق أو للجنس ، يفيد العموم فكلّ الأرجاس الباطنية من الذنب والجهل والخطإ والنسيان والطمع والحقد والحسد والعناد والبخل واللئامة ، وكلّ الصفات الرذيلة والأرجاس المعنوية منفيّ عنهم عليهم‌السلام ، فقول المصنّف (ره) : «الذنب رجس ، وكلّ رجس فهو منفيّ عن أهل البيت عليهم‌السلام» في غاية المتانة ، فإنّ المنفي في الآية عنهم عليهم‌السلام هو الكبرى الكلية ، والذنب من صغرياتها ومصاديقها البارزة فينطبق عليها وكذا سائر الأرجاس والقذارات الباطنية.

(٢) ما بين القوسين من ـ خ : (د).

(٣) هو باب الثعبان واشتهر بباب الفيل في زمن بني أمية ، قال العلّامة (ره) : كان أهل الكوفة يسمّون الباب الذي دخل منه الثعبان باب الثعبان ، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة ، فنصبوا على ذلك الباب فيلا مدة طويلة حتّى سمّى بباب الفيل انظر منهاج الكرامة ، ص ٨٣ طبعة تبريز.

٣٩٥

ذلك من إخباراته (١) تركناها اختصارا.

الثاني عشر : ظهور المعجز (٢) عنه في مواضع :

الأوّل : قلعه لباب خيبر ، وكان يرده ويفتحه أربعون نفسا وقال : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن بقوة ربانية».

الثاني : مخاطبته الثعبان على منبر الكوفة ، وعرّفهم أنّه حاكم من الجنّ أشكل عليه مسألة أجبته عنها (٣).

الثالث : قلعه الصخرة العظيمة عن فم القليب ، وقد عجز عنها الجيش.

الرابع : ردّ الشمس له مرّتين ؛ أحدهما في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأخرى (٤) في توجّهه إلى الصفّين في أرض بابل (٥).

الخامس : محاربته الجنّ لما أرادوا وقوع (٦) الضرر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى غير ذلك من معجزاته عليه‌السلام ذكرنا المشهور منها.

القسم الثاني : البدنية ، وهى نوعان :

__________________

(١) هنا تعليق يأتي في آخر الكتاب.

(٢) المعجزات ـ خ : (د).

(٣) صرح القوشجي في شرح التجريد بقضية الثعبان ص ٤٠٥ طبعة تبريز ، كما أنّها موجودة بالنقل الصحيح في كثير من كتب الشيعة والسنة.

(٤) وثانيهما ـ خ : (آ).

(٥) قضية رد الشمس من الضروريات حتّى نظمها الشعراء ، انظر إلى أشعار السيد الحميري وإلى كتاب الغدير.

(٦) وقوع ـ خ : (آ) انظر إلى الارشاد للشيخ المفيد (ره) ص ١٨١ طبعة تبريز. وقال : وهذا الحديث قد روته العامّة كما روته الخاصّة ولم يتناكروا شيئا منه ، والمعتزلة لميلها إلى مذهب البراهمة تدفعه ، ولبعدها من معرفة الأخبار تنكره ، وهي سالكة في ذلك طريق الزنادقة فيما طعنت به في القرآن ، وما تضمّنه من أخبار الجنّ وإيمانهم بالله ورسوله ، وما قص الله من بنائهم في القرآن ... وإذا بطل اعتراض الزنادقة في ذلك بتجويز العقول وجود الجنّ وإمكان تكليفهم وثبوت ذلك مع إعجاز القرآن والأعجوبة الباهرة فيه ، كان مثل ذلك ظهور بطلان طعون المعتزلة في الخبر الذي رويناه ، لعدم استحالة مضمونه في العقول ـ إلى آخر ما ذكره قدس‌سره من الاستدلال على صحّة هذا الحديث ـ انظر الإرشاد من الصفحة المذكورة إلى ص ١٨٤.

٣٩٦

الأوّل : العبادة ، وبه يضرب المثل حتّى أنّ زين العابدين عليه‌السلام كان يصلّي كلّ يوم وليلة ألف ركعة (١) ويرمي الصحيفة شبه المتضجّر ، ويقول : أين لي بعبادة عليّ عليه‌السلام ، ووضع له نطع بين الصفّين بصفّين فصلّى عليه ركعتين والسهام تخطف حوله ، وكان يوما بصفّين يرمق الشمس ليعلم الزوال فيصلّي ، فقال له ابن عباس : ليس هذا وقت الصلاة! فقال : على الصلاة نقاتلهم. وكان إذا أريد إخراج شيء من السهام (٢) من بدنه ترك حتّى يشتغل بالصلاة ، فيكون غافلا عن هذا العالم حتّى عن بدنه ، لاستغراق نفسه الشريفة في عالم الجبروت.

ومعلوم أنّه لم يحصل لأحد من الصحابة بعض هذه الخصائص ولا قريبا منها ،

__________________

(١) لعلّه كناية عن كثرة صلاته عليه‌السلام.

(٢) الأولى في التعبير ما عبّر به آية الله العلّامة قدّس الله روحه في منهاج الكرامة بقوله : وكان إذا أريد إخراج شيء من الحديد من جسده عليه‌السلام يترك إلى أن يدخل في الصلاة ، فيتلقّى متوجّها إلى الله تعالى غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به ص ٧٤ ـ ٧٥ طبعة تبريز. وكفى في الاعتماد على هذه القضية نقل العلّامة (ره) لها كما عرفت. وقد حقّقنا هذه القضية في كتاب التحقيق في الأربعين باللغة الفارسية ، انظر ص ١٧٠ ـ ١٧٨ وقلنا : إنّه لم نجدها في مصدر وثيق يمكن الاعتماد عليه ثمّ وجدنا في كتاب منهاج الكرامة للعلّامة قدس‌سره ، وكفى به مصدرا ومرجعا وثيقا وتعبيره (ره) : «شيء من الحديد» أولى من التعبير بالسهم كما في عبارات جمع من المؤلّفين ، وليس ذلك إلّا مسامحة منهم في التعبير ، وما ذكره الشيخ المصنّف (ره) بقوله : «شيء من السهام» أحسن من تعبيرهم وهو يفيد بعض السهم ، وعلى أيّ حال لا يكون هذا الأمر شاهدا لما أنكره العلّامة المحدّث النوري قدس‌سره على الشيخ الأعظم المفيد قدس‌سره من قوله في كتاب الإرشاد : «ومن آيات الله تعالى الخارقة للعادة في أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عرف له عليه‌السلام من كثرة ذلك على مرّ الزمان ، ثمّ إنّه لم يوجد في ممارسي الحروب إلّا من عرته بشرّ ونيل منه بجراح أو شين إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّه لم ينله مع طول زمان حربه جراح من عدو ولا شين ، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء حتّى كان من أمره مع ابن ملجم على اغتياله إيّاه ما كان ، وهذه اعجوبة أفرده الله بالآية فيها وخصّه بالعلم الباهر في معناها ، ودلّ بذلك على مكانه منه وتخصّصه بكرامته التي بان بفضلها من كافة الأنام» ص ١٦٣ ، طبعة تبريز ـ فإصابة شيء من الحديد بجسده الشريف يمكن أن تكون صدفة حين المشي ، خصوصا في تلك الحروب التي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام المبارز الوحيد فيها حين الصعود إلى المركب والنزول منه ، وغير ذلك من الأحوال التي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتجوّل فيها لا أنّه أصاب بدنه المقدّس من العدو الغاشم ، فقول الشيخ المفيد (ره) وما جاد به يراعه الشريف في غاية الجودة والقوة والمتانة ، وقد حقّقنا ذلك في كتابنا الذي أو عزنا إليه ، وهو مطبوع منتشر ، فراجع.

٣٩٧

بل كان فيهم عبّاد وزهّاد كسلمان وأبي ذرّ وغيرهما ، هم تلامذته وأتباعه ، فيكون أفضل من كلّ واحد منهم ، وهو المطلوب.

الثاني : الجهاد فنقول : كان عليه‌السلام أكثر جهادا ، وكلّ من كان كذلك كان أفضل.

أمّا الصغرى فيمكن فيها دعوى الضرورة ، فإنّ أحدا لا ينكر أنّ أكثر وقائع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتوحه كانت على يد عليّ عليه‌السلام ، وبلاؤه وعناؤه بين يديه في يوم أحد وبدر وحنين وغيرها أمر لا يدفعه إلّا مكابر.

وأمّا الكبرى فلقوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١) وهذا البيان فيه كفاية في المطلوب ، غير أنا نذكر صورتين تدلّان على أفضليّة عليّعليه‌السلام على غيره :

الأوّل : ضربته لعمرو بن عبد ودّ التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لضربة عليّ يوم الأحزاب أفضل من عبادة الثقلين» فليت شعري كم يكون نصيب كلّ واحد من الصحابة من عبادة الثقلين من جهاد وغيره حتّى تنسب إلى جهاد عليّ عليه‌السلام؟.

الثاني : روت الرواة في قصّة خيبر : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر فرجع منهزما ، ثمّ بعث عمر فرجع أيضا منهزما (٢) ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبات ليلته مهموما ، فلمّا أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال : «لأعطينّ الراية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار (٣) غير فرّار» فتعرّض لها المهاجرون والأنصار فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) النساء ٤ : ٩٥.

(٢) ومن المضحك ما ذكره بعض المؤرخين كأبي الفداء : أخذ أبو بكر الصدّيق الراية ، فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب فقاتل قتالا أشدّ من الأوّل ، ثمّ رجع ـ انظر المختصر في أخبار البشر ، ج ٢ ، ص ٤٤ طبعة بيروت.

ليت شعري أين وقع هذا القتال حتّى كان الثاني أشدّ من الأوّل؟ ولعلّه كان في عالم الخيال تخيّله صاحب التاريخ من شدّة محبته للشيخين. والجدير بالذكر أنّه لم يعبّر أنّهما «فرّا» بل عبّر بالرجوع ، وبتغيير التعبير لا يتغيّر الفرار من الزحف ، وهو من الكبائر الموبقة قال ابن أبي الحديد :

وإن أنس لا أنس الذين تقدّما

وفرّهما والفرّ قد علما حوب

(٣) كرّارا ـ خ : (د).

٣٩٨

«أين علي» فقيل له : إنّه أرمد (١) ، فجاءه فتفل في عينيه ، ثمّ دفع إليه الراية.

وهذه القصّة تدلّ على اختصاصه عليه‌السلام بصفات لم تكن حاصلة لهما من وجوه :

الأوّل : أنّهما رجعا منهزمين ، وذلك يقتضي كونهما فرّارين ، وهو صفة نقص في حقّ الإسلامي.

الثاني : وصفه بكونه كرّارا ، وهذه صفة أخرى زائدة على كونه غير فرّار ؛ لأنّ الثاني أعمّ من الأوّل ، لأنّ غير الفرّار قد يكون كرّارا تارة وغير كرّار أخرى ، فكلّ كرّار فهو غير فرّار ، وقد أثبت له عليه‌السلام الوصفان جميعا ، وظاهره يقتضي نفيهما عمّن تقدّم.

الثالث : كونه يحبّ الله ورسوله أثبت له هذه الخاصّة جزما ، ثمّ خصّه ثانيا بأن قال : «ويحبّه الله ورسوله» وهذه خاصة ثانية زائدة على الأولى ، وظاهر هذا الكلام يدلّ على نفي هذين الوصفين عمّن تقدّم ، وذلك غاية لنقصهما وفضله عليه‌السلام عليهما حينئذ ، بل تحته سرّ لا يمكن شرحه ، وكلّ ميسّر لما خلق له.

وينبّهك على ما قلناه من الاختصاص : أنّ من أرسل رسولا (٢) في مهمّ فقصّر الرسول فيه ، فقال المرسل بمحضر من الناس : لأرسلنّ غدا رسولا من صفته كذا وكذا ، فإنّه يدلّ بظاهر كلامه على أنّ الصفات المشار إليها في الرسول الثاني ليست حاصلة له في الأوّل ، إن لم يكن كلّها فلا أقلّ من البعض ، فقد ظهر لك من هاتين الصورتين أنّه عليه‌السلام أفضل من كلّ واحد من الصحابة ، وهو المطلوب.

القسم الثالث : الخارجية ، وهي أنواع :

الأوّل : النسب الشريف ، ومعلوم أنّ أشرف النسب ما قرب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو كان أقرب فإنّ العبّاس وإن كان عمّا ، لكنه من جهة الأب خاصّة وعلي عليه‌السلام ابن عمّه من الأبوين ، وأيضا عليّ عليه‌السلام هاشمي من هاشميين.

الثاني : مصاهرته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بزواجه سيدة النساء التي نطق القرآن بعصمتها ،

__________________

(١) العينين ـ خ : (د).

(٢) رسوله ـ خ : (آ).

٣٩٩

ودلّ النقل على سيادتها ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سيدة نساء العالمين أربع ، وعدّ منهنّ فاطمة عليها‌السلام. وعثمان وإن كان صهرا لكن زوجته ليست كفاطمة عليها‌السلام.

الثالث : الأولاد الأشراف الذين لم يتّفق لأحد من الصحابة مثلهم ، كالحسن والحسين والسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي الذين مناقبهم ومعجزاتهم ظاهرة مشهورة ، ومناصب كمالاتهم (١) مغمورة ، وهم أهل البيت الذين قال فيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» وقال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» إلى غير ذلك.

ثمّ إنّ هؤلاء كلّ أحد يقرّ بفضلهم ويفتخر بالانتساب إليهم ، وذلك معلوم شائع بين الناس.

فائدة : يجب تعظيم الذرّية النبوية العلوية ومودّتهم ، لقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكرموا صالحهم لله وطالحهم لأجلي» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة : المكرم لذريّتي والساعي لهم في حوائجهم والباذل لهم ماله والمحبّ لهم بقلبه ولسانه» (٤).

__________________

(١) ومناصب الكمال بهم ـ خ : (آ).

(٢) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٣) «أكرموا أولادي الصالحون لله والطالحون لي» انظر فضائل السادات للسيد الحسيب السيد محمد أشرف سبط السيّد الداماد قدس‌سره ص ٢٧٧ طبعة قم ، سنة ١٣٨٠ ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «احفظوني في عترتي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكرموا أولادي وحسّنوا آدابي» انظر ص ١٧٦.

(٤) الخصال للصدوق (ره) ، ص ١٩٦ ، طبعة طهران.

قال الإمام الرضا عليه‌السلام : «ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام لو عرفهم الله هذا الأمر لم يكونوا كالناس» انظر رجال الكشي ، ص ٤٩٥ طبعة النجف ؛ وتنقيح المقال للشيخ المامقاني (ره) ج ٢ ، ص ٢٩٨ طبعة النجف. يظهر من الحديث أنّ القائلين من ذريّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بإمامة الأئمة الأطهار سلام الله عليهم وبولايتهم ، لهم المراتب العالية والمقامات السامية ، ولا يقاس بشأنهم شأن سائر الناس ، وليسوا مثلهم في علوّ الشأن والقرب عند الله تعالى ، انظر إلى قصة علي بن عبيد الله وعياله أم سلمة رضوان الله عليهما والإمام الرضا عليه‌السلام ، وعندها قال الإمام عليه‌السلام : ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام الخ ...

٤٠٠