اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ من اليهود من منعه (١) عقلا وسمعا ، أمّا عقلا فلاستلزامه البداء المستلزم للجهل ، وهو ممتنع عليه تعالى ، والبداء قيل : هو رفع الحكم قبل العمل به ، وقيل : الحكم على الشيء مع الندم عليه (٢) ، وكلاهما محال عليه تعالى.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ رفع الحكم قبل العمل به جهل بمصلحته التي شرّع لأجلها.

وأمّا الثاني ؛ فلاستحالة الندم عليه تعالى.

وأمّا سمعا ؛ فلقول موسى عليه‌السلام : تمسّكوا بالسبت أبدا ، وقوله : شريعتي لا تنسخ. ومنهم من أجازه عقلا ومنعه سمعا. ومنهم من أجازه عقلا وسمعا ومنع نبوّة محمّد المصطفيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكابرة.

__________________

ـ فتزوّجهما ولد آدم فكان النسل منهما ، ولعل المراد من الحوريتين امرأتين بقيتا من السلاسل البشرية المتقدّمة على آدمنا هذا. انظر الفردوس الأعلى ، ص ٧٠ الطبعة الثانية تبريز. فعلى أيّ حال فلم يبق لنا غير ظاهر القرآن الكريم.

وما يقال : إنّ تزويج الأخت من أخيها ولو من بطن آخر ، وإنّه لا يخرج عن كونه زنا وبذات المحارم ، وأنّه موافق لمذاهب المجوس كما ذكره المحدّث المذكور. مدفوع : بأنّ الزنا ليس إلّا مخالفة القوانين المشروعة والنواميس المقرّرة من المشرّع الحكيم ، وحيث إنّ في بدء الخليقة لا يمكن التناسل إلّا بهذا الوضع أجازه الشرع في وقته ؛ لوجود المقتضي وعدم المانع. ثمّ لمّا تكثّر النسل ومسّت الحاجة إلى حفظ الأنساب وتميّز الأسر والأرحام وحفظ النظام العائلي ، وحصل المانع من تزوّج الأخ بأخته وأمثال ذلك مما تضيع فيه العائلة وتهدّ دعائم الأسر ولا يتميّز الأخ من الابن والأخت من البنت ، لذلك وضع الشارع قوانين للزواج تصون النسل عن الاختلاط والامتزاج ، وهذا المحذور لم يكن في بدء الخليقة يوم كانت أسرة آدم وحوّاء نفرا معدودا. وهكذا ذكر الجواب عن الإشكال شيخنا الأستاذ كاشف الغطاء قدس‌سره في الفردوس الأعلى ، ص ٧٠ طبعة تبريز سنة ١٣٧٢.

فممّا ذكرنا كلّه تبيّن أنّه لا يمكن الجزم في هذا المطلب بأحد الأقوال التي أشرنا إليها ، وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره في دفع الإشكال المذكور ليس إلّا لكسر صولة تحاشي : أنّ تزويج الأخت من أخيها ولو من بطن آخر لا يجوز حتّى في بدء الخليقة ، وإلّا لم يكن قدس‌سره جازما بما جاد به يراعه المقدّس قدّس الله روحه ونوّر ضريحه. فالحقّ كما قلناه هو التوقّف وإيكال العلم بالواقع إلى أهله ، والله العالم.

(١) من منع منه ـ خ : (آ).

(٢) مع الندم عليه ـ خ : (آ).

٣٠١

والجواب عن معقولهم بالمنع من لزوم البداء ؛ إذ البداء يستلزم اتّحاد الوقت والفعل ووجهه والمكلّف ، كما قيل : الواحد بالواحد في الواحد على الواحد لا يكون مأمورا منهيّا. وأمّا النسخ فليس كذلك ؛ لعدم بعض هذه وهو الوقت والوجه.

وعن مسموعهم بالمنع من صحّته ، بل هو موضوع وضعه ابن الراوندي (١) لهم ،

__________________

(١) والظاهر أنّ وضعه ذلك لهم حينما كان معاشرا مع اليهود. وابن الراوندي هو أبو الحسين أحمد بن يحيى ابن محمد بن إسحاق الراوندي المعروف بابن الراوندي من أهل مروالروز في خراسان ، والراوندي نسبة إلى راوند ـ بفتح الراء والواو بينهما ألف وسكون النون بعدها دال مهملة ـ قرية من قرى قاشان بنواحي أصفهان كان من المتكلّمين المعروفين في زمانه معتزليا ، ثمّ أظهر مذهب الشيعة وألّف في الردّ على المعتزلة وهجن مذهبهم ، وألّف كتبا على طريقة المعتزلة وتقرير عقائدهم ثمّ ألّف كتبا على طريقة الشيعة الإمامية ككتاب الإمامة وأجاد في تأليف تلك الكتب وجمع فيها من الأدلّة وآراء المتكلّمين لتأييد عقيدة الشيعة خصوصا في مسألة الإمامة.

ومن كتبه في الردّ على المعتزلة كتاب فضيحة المعتزلة ولما كان عارفا بآرائهم على الوجه الأكمل لأنّه كان منهم ومؤلّفا لهم وكاتبا مجيدا جاءت كتبه في ذلك في نهاية الجودة وزاد في تحامل من تحامل عليه من المعتزلة وبعض الأشاعرة نصرته مذهب الشيعة بعد ما كان من المعتزلة ، فنسب إلى الزندقة والإلحاد ، ووجد خصومه ما يقوّي دعواهم ويعضدها من الكتب المنسوبة إليه والله أعلم بحقيقة أمره.

وعلماء الشيعة مختلفون في أمره والذي دافع عنه في قبال المعتزلة هو سيد الأمة السيد المرتضى علم الهدى (ره) في كتابه النفيس الخالد الشافي حيث شنّع القاضي عبد الجبار الهمذاني الأسدآبادي صاحب كتاب المغني الذي صنّف سيدنا المرتضى (ره) كتاب الشافي للردّ عليه على الشيعة في كتابه المذكور ، وردّ عليه السيد (ره) بما لا مزيد عليه ودافع عن ابن الراوندي.

ولكن عن ابن شهرآشوب (ره) في معالم العلماء : أنّ ابن الراوندي مطعون عليه جدّا. وعن بعض : أنّ أكثر كتبه الكفريات ألّفها لأبي عيسى بن الآوي اليهودي الأهوازي ، وفي منزل هذا الرجل توفّي. وعن بعض علماء الإمامية أنّ ابن الراوندي كان يهوديا ثمّ أسلم منتصبا قائلا بإمامة العباس بن عبد المطلب ، قال السيد الأمين العاملي (ره) في أعيان الشيعة بعد نقله : وهذا مع انفراده به لم يسنده إلى دليل.

وعن ابن الجوزي : زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعرّي (١ ه‍) قال السيد الامين (ره) : وحشره في الزنادقة ليس إلّا لما نسب إليه من الكتب ومع اعتذار المرتضى (ره) عنها وتبرئته منها ، ونقل التوبة عنه عن جماعة لا يمكن الجزم بذلك.

أقول : يظهر من حالات ابن الراوندي أنّه كان رجلا متلوّنا في أوائل أمره ، وألّف كتبا على تلك الصفة ونسب إليه بعض الكتب التي لم يعلم أنّها من تأليفه ، ولذا لا يعتمد على بعضها ولكن أجاد في تأليف بعضها الآخر ، فالقول الفصل في حقه هو ما قاله السيد الإمام الأمين العاملي (ره) في أعيان الشيعة بقوله :

٣٠٢

سلّمناه لكن آحادي والمسألة علمية ، سلّمنا لكنه يحتمل وجهين :

الأوّل : أن يراد بالأبد المدّة الطويلة. الثاني : أن يكون فيه إضمار تقديره : ما لم يأت صاحب شريعة واستغنى عن إظهاره للعلم به أو قاله ولم ينقل.

إن قلت : هذا خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم.

قلت : الدليل النقلي لا يجوز العمل على ظاهره مع معارضة العقلي ، فيجب حمله على أحد محتملاته ، والعقل هنا ثابت ، وهو البرهان على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا كلّه على تقدير صحّته وإلّا فنحن من وراء المنع.

الفصل الثالث : في الردّ على المشهور من المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة ، وهو أقسام :

الأوّل : الردّ على اليهود ، اعلم أنّهم (١) افترقوا فرقا كثيرة ، لكن المشهور من فرقهم ثلاثة : الربانيون والقراءون والسامريّون ، وهؤلاء مجمعون على نبوّة موسى وهارون ويوشع ، وعلى التوراة وأحكامها وإن كانت مبدّلة مختلفة النسخ والتواريخ والأحكام ، لكنهم يستخرجون منها ستمائة وثلاثة عشر فريضة يتعبّدون بها ، وينفرد الربانيون والقراءون عن السامرة بنبوّات أنبياء غير الثلاثة المذكورين ، وينقلون عنهم تسعة عشر كتابا ويضيفونها إلى خمسة أسفار التوراة ، ويعبّرون عن الأربعة وعشرين كتابا بالنبوّات ، وهي على مراتب أربع عندهم بحسب مراتب النبوّات في التقدّم زمانا ورتبة ، وتفاصيلها في المطوّلات.

والعمدة في إبطال مذهبهم إنّما هو بتصحيح القول بالنسخ ، وقد بيّنا في الفصل

__________________

ـ وزبدة القول في ابن الراوندي أنّه مخطئ في تأليفه لهذه الكتب التي هي من كتب الضلال سواء كان ألّفها معتقدا بها أو لأجل معارضة المعتزلة كما ذكره المرتضى (ره) في الشافي إلّا أنّه مع نقضه لأكثرها وحكاية القول بتوبته منها لا يمكن الجزم بإلحاده ، ويبقى حاله في مرحلة الشك وإن جزمنا بخطئه ، والله العالم بسريرته. انظر أعيان الشيعة ج ١٠ ، المجلد ١١ ، ص ٣٤٦ طبعة دمشق.

(١) إنّ اليهود ـ خ : (آ).

٣٠٣

السابق على هذا نبذة من مباحثه ونزيد هنا ، فنقول : لو لم يكن النسخ جائزا لما كان واقعا ، لكنّه واقع فيكون جائزا ، والملازمة ظاهرة ، لاستحالة وقوع المحال ، وأمّا وقوعه فلوجوه :

الأوّل : أنّه جاء في التوراة أنّه تعالى قال لآدم وحوّاء : أحللت لكما كلّ ما دبّ على وجه الأرض وكانت له نفس حيّة ، وجاء فيها أيضا : أنّه قال لنوح عليه‌السلام : خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا. فقد حرم على نوح بعض ما كان حلالا على آدم وحوّاء ، فإن كانت التوراة غير مغيّرة فهذا برهان ، وإن كانت مغيّرة فإلزام.

الثاني : أنّه تعالى أباح نوحا عليه‌السلام تأخير الختان إلى وقت الكبر ، وحرّمه على غيره من الأنبياء ، وأباح إبراهيم عليه‌السلام تأخير ختان ولده إسماعيل وحرّم على موسى ، وكذا تأخير الأنبياء عن سبعة أيام.

الثالث : أنّه أباح آدم عليه‌السلام الجمع بين الأختين وحظره على موسى عليه‌السلام.

لا يقال : إنّا لا نسلّم أنّ قبل موسى عليه‌السلام كان شرع بل أحكام عقلية كما قلتم ؛ فإنّ الإباحة معلومة عقلا كما تقرّر في الأصول ، ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ كما تقدّم في تعريفه.

لأنّا نقول بالمنع من ذلك إجمالا ، فقد جاء في التوراة : أنّه تعالى قال لنوح : «من سفك دم إنسان فليحكم الحاكم بسفك دمه» وهذا حكم جزئي شرعي مناقض لقولكم : لا شرع قبل موسى.

وأمّا تفصيلا فإنّ (١) الإباحة في الحكم الأوّل وإن كانت عقلية ، لكن إنّما نمنع كون رفعها نسخا (٢) إن لو لم يتعرّض له الشرع ، لكنّه تعرّض بقوله : أحللت ، وفي الوجه الثاني والثالث الإباحة ليست مطلقة بل مقيّدة بالوقت ، والتقييد غير معلوم عقلا ، فهما شرعيان لا عقليان.

__________________

(١) فلأنّ ـ خ : (آ).

(٢) نسخا ـ خ : (د) لشيء ـ خ : (آ).

٣٠٤

احتجّوا بأنّه على تقدير تسليم النسخ لا يلزم صحّة نبوّة عيسى ومحمد عليهما‌السلام ؛ لوجهين :

الأوّل : أنّ موسى عليه‌السلام إمّا أن يكون قد أخبر بدوام شرعه أو لا.

والثاني : إمّا أن يخبر بانقطاعه أو لا ، والأخيران باطلان فتعيّن الأوّل.

أمّا بطلان الثاني ، وهو إخباره بانقطاع شرعه ؛ فلأنّه لو وقع لنقل ، لأنّه ممّا تشتدّ (١) الدواعي إلى نقله كما أنّ نبيّكم لو قال : شرعي منقطع أو نقل الصوم إلى غير شهر رمضان أو زاد صلاة سادسة لوجب نقل ذلك ، لكنّه لم ينقل فلم يقع.

وأمّا الثالث ؛ فلأنّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار كما تقرّر في الأصول ، وبالاتّفاق أنّ شرع موسى عليه‌السلام لم يكن كذلك.

الثاني : أنّ اليهود على كثرتهم ينقلون عن موسى عليه‌السلام أنّه قال : «أنا خاتم النبيين»(٢) فلو ثبت نبوّة محمّد وعيسى عليهم‌السلام لزم كذبه ، فيخرجه ذلك عن كونه نبيا ، وهو باطل اتّفاقا.

والجواب عن الأوّل : أنّا نختار الثالث لكن لا على أنّه أطلق إطلاقا ، بل قرنه بقرائن محتملة للدوام والانقطاع إلى أمد غير معيّن ، ولم يحتج إلى التصريح بتعيين ذلك الأمد للاستغناء بما يأتي من شرع عيسى عليه‌السلام ؛ لأنّ ثبوت شرعه يستلزم انقطاع شرع موسى عليه‌السلام ، على أنّه جاء في التوراة التنبيه على شرع عيسى ومحمّد عليهما‌السلام ، كقوله : إنّ قدرة الله أقبلت من طور سينا وأشرقت من طور ساعير وأطلعت من جبل فاران ، فطور سينا لموسى وساعير لعيسى ، وجبل فاران هو جبل بمكة ؛ لأنّ فاران هو مكّة بدليل أنّه (٣) جاء في التوراة : أنّ إبراهيم أسكن ولده إسماعيل بتربة (٤) فاران.

__________________

(١) يشدّ ـ خ : (د).

(٢) الأنبياء ـ خ : (آ).

(٣) لأنّه ـ خ : (د).

(٤) بقرية ـ خ : (آ).

٣٠٥

وعن الثاني بالمنع من تواترهم ؛ فإنّ التواتر يشترط فيه استواء الطرفين والواسطة في بلوغ عدد يفيد قولهم العلم ، وهذا لم يحصل لهم ؛ لأنّ بخت نصر البابلي أفناهم إلّا عددا يسيرا لا يفيد قولهم ، فإنّهم كانوا مجتمعين في الشام لا غير فلمّا قتلوا بعث بخت نصر أو من قام مقامه جماعة من أسرائهم إلى اصفهان ، ولم يكن وصل منهم أحد إلى العجم قبل ذلك ، فبنوا بها المدينة المعروفة باليهودية.

ويدلّ على انقطاع تواترهم أنّ التوراة بعد تلك الواقعة صارت ثلاث نسخ مختلفة في التواريخ والأحكام الشرعية : أحدها : عند القرّائين والربانيين ، وثانيها : عند السامرة ، وثالثها : توراة السبعين التي اتّفق عليها سبعون حبرا من أحبارهم ، وهي في أيدي النصارى ، ولو كان لهم تواتر لم يحصل هذا الاختلاف في كتابهم.

الثاني : الردّ على النصارى وهم أيضا اختلفوا فرقا كثيرة ، ويرجع اختلافهم إلى أمرين :

أحدهما : كيفية نزول عيسى وإيصاله بأمّه وتجسّد الكلمة.

وثانيهما : كيفية صعوده واتّصاله بالملائكة وتوحّد الكلمة. ومعظمهم ثلاث فرق : الملكائية : ينسبون إلى الملك (١) الذي ظهر بالروم واستولى عليها ، ولذلك أنّ معظمها ملكائية.

والنسطورية : أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر من زمن المأمون وتصرّف في الأناجيل بحسب ما رآه.

واليعقوبية : وقد حكينا من قبل كيفية اختلافهم وأقوالهم (٢) ، فلا وجه لإعادته ، وأنّه يرجع إلى القول بالأقانيم.

ويدلّ على بطلان قولهم زيادة على ما تقدّم في التوحيد وجهان :

الأوّل : أنّ الأقانيم إمّا أن تكون زائدة على ذاته تعالى أو لا ، والأوّل : إمّا أن تكون

__________________

(١) ملكا ـ خ : (آ).

(٢) انظر إلى صفحة : ـ ١٥٧ من الكتاب.

٣٠٦

معاني كقول الأشعرية أو أحوالا كقول البهشمية أو أحكاما وإضافات ذهنية وسلوبا كما يقول الحكماء ، فإن كان الأوّلان فقد تقدّم القول فيهما ، وإن كان الثالث فهي أمور اعتبارية ، وهو يناقض قولهم باتّحاد الكلمة بالمسيح ؛ لأنّ الاتحاد يستدعي الوجود الخارجي.

والثاني : وهو أن لا تكون زائدة على الذات فإمّا أن تكون مقومة لها أو لا ، والأوّل محال لاستحالة التركيب ، والثاني يناقض قولهم : إنّه تعالى جوهر واحد.

الثاني : أنّ الكلمة إمّا نفس الذات في الخارج أو صفة من صفاتها ، وعلى التقديرين لا يعقل الاتّحاد ؛ لأنّه تعالى مجرّد ، واتّحاد المجرّد بغير المجرّد بالمعاني التي ذكروها غير معقول ، وكذلك اتّحاد وصف الشيء بغيره غير معقول.

الثالث : الردّ على المجوس (١) ، قيل : إنّهم كانوا متعبّدين بدين إبراهيم عليه‌السلام ، ويقال للمجوسية : الدين الأكبر ؛ لأنّ دعوة إبراهيم كانت أعمّ من دعوة من بعده ، وأثبت المجوس للعالم مؤثّرين : النور وهو أزلي فاعل الخير ويسمّى «يزدان» ، والظلمة وهي حادثة فاعلة للشرّ وتسمّى «أهرمن» ، واختلفوا فرقا بحسب اختلافهم في حدوث الظلمة وسبب امتزاجها بالنور وخلاص النور عنها ، وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادا.

فالكيومرثية زعموا أنّ يزدان فكّر أنّه لو كان له منازع كيف يكون حاله معه ، فحدث من هذه الفكرة الرديئة غير المناسبة لطبيعته الظلمة ، وهي مطبوعة على الشرّ ، فخرجت على النور وجرت محاربة بين عسكريهما ، فتوسط الملكية (٢) بينهما على أن يكون العالم السفلي لأهر من سبعة آلاف سنة ثمّ يسلّمه إلى يزدان.

والرزوانية (٣) زعموا أنّ النور أبدع أشخاصا نورانية ، وأعظمها يسمّى رزوان

__________________

(١) هنا تعليق وتحقيق يأتي في إضافاتنا من التعليقات على آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

(٢) الملائكة ـ خ : (آ).

(٣) النورانية ـ خ : (آ) والصحيح ما اثبتناه من ـ خ : (د) كما في كتب الملل والنحل.

٣٠٧

حصل له ابنان في بطن واحد : أحدهما : أهرمن (١) (هرمز ظ) وفيه الخير والطهارة والصلاح ، فاتّخذه قوم ربّا وعبدوه ، وثانيهما : أهرمن وفيه الشرّ والخبث والفساد ، وهو الشيطان فطرده رزوان لذلك ، فمضى وحارب أخاه هرمز (٢) مدة فغلبه واستولى على الدنيا وكانت سليمة من الشرور وأهلها في نعيم ، فلمّا حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات ، وكان بمعزل عن السماء فاحتال حتّى خرق السماء وصعدها ، وقيل : بل كان في السماء فاحتال ونزل بجنوده ، فهرب النور بملائكته فأتبعه أهرمن وحاصره في جنته وحاربه ثلاثة آلاف سنة ، فتوسّطت الملائكة على أن يكون أهرمن وجنوده في قرار الأرض تسعة آلاف سنة مضافة إلى الثلاثة ، ثمّ يسلّمها إليها والناس في الشر إلى انقضاء تلك المدة ، وأشهدا على أنفسهما عدلين ودفعا إليهما سيفيهما وأمراهما أن يقتلا الناكث منهما.

والزرادشتية نقلوا عن شيخهم زرادشت أنّ النور والظلمة أصلان للعالم متضادّان ، وحصلت التراكيب في (٣) الصور من امتزاجهما ، والباري تعالى خالق لهما ، وهو واحد لا شريك له ، والخير والشر من امتزاج النور والظلمة ، ولو لم يمتزجا لما حصل (٤) وجود العالم ، وهما متغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ، ويتخلّص الخير إلى عالمه وينحطّ الشرّ إلى عالمه ، وإنّما مزجهما الله تعالى لحكمة رآها وربّما جعل النور أصلا موجودا والظلمة تبعا له كالظلّ بالنسبة إلى الشخص. هذا حاصل مذهبهم (٥).

__________________

(١) كذا في النسختين ولكنه غلط والصحيح : هرمز. نعم يظهر بعد التأمل في ـ خ : (آ) أنّه كتب صحيحا (هرمز) ولكن الناسخ حرّفه.

(٢) أهرمن ـ خ : (د) و ـ خ : (آ) وهو غلط.

(٣) و ـ خ : (د).

(٤) لم يحصل ـ خ : (آ).

(٥) يقال لهم : أوّلا : إنّ قولهم بامتزاج النور والظلمة مجرّد ادّعاء وتخيّلات وأوهام لا دليل لهم على إثبات زعمهم هذا ، وثانيا : كيف يتصوّر امتزاج النور والظلمة واختلاطهما وهما متضادان؟ مع أنّ طبع كلّ واحد منهما على خلاف طبع الآخر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في احتجاجاته على الثنوية : وكيف اختلط هذا النور والظلمة وهذا من طبعه ـ

٣٠٨

وهو فاسد ؛ لأنّ أهرمن إن كان قديما فهو باطل ؛ لما تقدّم من امتناع قديمين ، وإن كان

__________________

ـ الصعود وهذا من طبعه النزول؟ أرأيتم لو أنّ رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان يجوز أن يلتقيا ما داما سائرين على جهتهما؟ قالوا : لا. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فوجب أن لا يختلط النور بالظلمة لذهاب كلّ واحد منهما في غير جهة الآخر ، فكيف أحدث هذا العالم من امتزاج ما يحال أن يمتزج بل هما مدبّران جميعا مخلوقان.

وقد أشار القرآن الكريم في بعض آياته الشريفة إلى دحض شبهة المجوس وردّهم وقال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الأنعام ١. والله تعالى هو خالق الظلمات والنور وهما من مخلوقاته ، والذين كفروا وهم المجوس بربّهم يعدلون ، أي يجعلون بربّهم عدلا مساويا وشريكا في الخلق والعبادة ، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا وثالثا : بعد أن فرضنا محالا امتزاج النور والظلمة فهل خالق الشرور في العالم هو الله تعالى أو هما؟ فإن كان الأوّل فيعود المحذور ولا يرتفع الإشكال ، أعني صدور الشرور عن الخير المحض وهو محال. وإن كان الثاني فصدور الشرور عن الظلمة بالاستقلال والخيرات عن النور كذلك عين الشرك ، والقول بوجود الخالقين أحدهما للخير والآخر للشرّ بل قول بالتثليث ، فإنّ الله تعالى بزعمهم خلق موجودين : أحدهما مصدر الخير والآخر مصدر الشرّ ، وهما الخالقان لهما ، فهذا هو القول بالتثليث لله. وخالق الخير «يزدان» وخالق الشر «أهريمن» فأين التوحيد وعدم القول بالشريك ، فما يحاول بعض من في قلبه مرض من التعصّب القومي أن يثبت أنّ المجوس ـ أعني الزرادشتيين ـ قائلون بالتوحيد ليس له منشأ صحيح إلّا التعصّب القومي البغيض.

فلا محيص عن القول بأنّهم من أظهر أفراد المشرك. كما عبّر به بعض الفقهاء ـ راجع كتابنا فصل الخطاب وقد شرحنا فيه شبهاتهم والأجوبة التي ذكرها الحكماء الإلهيين في دحضها والجواب الاسلامي الذي يستفاد من الكتاب والسنة في دفع تلك الشبهة الشيطانية. وما ذكره في شرح حكمة الإشراق ـ : أنّ النور والظلمة رمز ، وعلى الرمز تبتني قاعدة أهل الشرق وهم حكماء الفرس القائلون بأصلين : أحدهما نور والآخر ظلمة ؛ لأنه رمز على الوجوب والإمكان ، فالنور قائم مقام الوجود الواجب والظلمة مقام الوجود الممكن ، لا أنّ المبدأ الأوّل اثنان : أحدهما نور والآخر ظلمة ؛ لأنّ هذا لا يقوله عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخ انظر ص ١٨ طبعة طهران ـ تأويل لا يجدي في حسم مادة الإشكال ، أعني صدور الشر عن الخير المحض ؛ ولذا اعترف الشارح بعد ذلك بوضوح بطلان قول المجوس وشركهم بقوله : وهي أي وقاعدة الشرق في النور والظلمة ليست قاعدة كفرة المجوس القائلين بظاهر النور والظلمة وأنّهما مبدءان أوّلان ؛ لأنّهم مشركون لا موحّدون ، وكذا كلّ من يثبت مبدءين مؤثّرين في الخير والشرّ كالقدرية حكمهم حكمها ، وكأنّه إلى هذا المعنى أشار بقوله عليه‌السلام : القدرية مجوس هذه الأمة ، انتهى. انظر ص ١٩ وقد تقدم تحقيق عن الكراجكي رحمه‌الله في معنى هذا الحديث ، فراجع.

٣٠٩

حادثا فهو مناقض لمذهبهم ؛ لأنّه شرّ ، لأنّه فاعل الشرّ (١) الحاصل في العالم ، فكيف يصدر عن «يزدان» وهم لا (٢) يجوّزون صدور الشرّ عنه.

لا يقال : يلزمكم مثله ؛ لأنّكم تثبتون الشيطان الشرير وأنّ الله تعالى هو خالقه.

لأنّا نقول : ذلك غير لازم ؛ لأنّ الشيطان عندنا فاعل بالاختيار ، وفاعل فاعل الشرّ بالاختيار ليس فاعلا للشرّ ، بخلاف فاعل فاعل الشرّ بالإيجاب.

الرابع : الردّ على الثنوية ، وهم أربعة أصناف : المانوية والمزدكية والديصانية والمرقيونية ، واتّفقوا كلّهم على أنّ للعالم أصلين قديمين ، هما النور والظلمة ، والنور جوهر حسن فاعل للخيرات ، والظلمة جوهر خبيث فاعل للشرور ، وإنّما اختلافهم في كيفية حدوث العالم من امتزاج النور بالظلمة ، وهل الظلمة فاعلة بالاختيار أم لا؟ وفي كيفية تخلّص النور من الظلمة ، إلى غير ذلك ممّا لا فائدة في ذكره (٣).

واحتجّوا على إثبات الأصلين بأنّ الخير والشرّ ضدّان ، والفاعل الواحد لا يجوز أن يصدر عنه ضدّان ؛ لأنّ نسبته إليهما متساوية ، فإن لم يتوقّف صدور أحدهما بعينه على مرجّح لزم الترجيح من غير مرجّح ، وإن توقّف فذلك المرجّح إن كان فعله فالكلام فيه كما في الأوّل (٤) ويلزم التسلسل ، وإن كان فعل غيره لم يكن ما فرضناه فاعلا فاعلا ، وهذا خلف.

والجواب : أمّا إجمالا فيما تقدّم من أنّ ما سوى الله تعالى حادث ، وأنّ صانع العالم

__________________

(١) للشرّ ـ خ : (آ).

(٢) لا ـ خ : (آ) وليس في ـ خ : (د) والصحيح ـ خ : (آ) المناط والإشكال في ادّعاء المجوس بعدم صدور الشرور عن المبدأ هو السنخية بين العلّة والمعلول ، بأنّ المبدأ هو الخير فكيف يصدر عنه الشرّ؟ فيقال في جوابهم : إنّ قولكم هذا يناقض اعتقادكم ، فإن كان المناط هو السنخية بين العلّة والمعلول فكيف صدر مبدأ الشرّ وهو «أهريمن» عن مبدأ الخير ، فالشرّ المحض صدر عن الخير المحض ، فيلزم من قولكم ودليلكم بطلان مذهبكم.

(٣) فإنّ كلّ ما ذكروه ليس إلّا توهّمات وتخيّلات لا يتجاوز عن مقام التصوّر الباطل ، فلا فائدة بإطالة الكلام في ذكر تلك الأباطيل والخزعبلات والشطحات.

(٤) كالكلام في الأوّل ـ خ : (آ).

٣١٠

قديم فيصدق قياس من الشكل الأوّل : النور والظلمة حادثان ، ولا شيء من الحادث بمؤثّر في العالم ، فلا شيء من النور والظلمة بمؤثّر ، وهو المطلوب.

وأمّا تفصيلا فبالمنع من كون الخير والشرّ ضدّين ، فإنّ الضدين لا يجتمعان في ذات واحدة ، وهما مجتمعان (١) فإنّ لطمة اليتيم خير إذا كانت تأديبا وشرّ إذا كانت ظلما وهي فعل واحد.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ الفاعل إذا كان مختارا لا يصدر عنه ضدّان ، فإنّ الحركة إلى جهة تضادّ الحركة إلى أخرى ضدّها ، والفاعل يوجد الضدّين ، والباري تعالى ثبت اختياره فجاز صدور الضدّين عنه.

وقولهم : ترجيح أحد الضدّين يتوقّف على مرجّح مسلّم ، لكن لم لا يجوز أن يكون المرجّح ما فيه من المصلحة؟ وذلك لا يستلزم انتفاء الفاعلية إذا كان الفاعل مختارا.

وقد ألزموا صورة ، هي أنّ الجناية على (٢) المنعم شرّ ، والاعتذار إليه عنها خير (٣) ، فالفاعل لهما معا إمّا النور وحده أو الظلمة وحدها ، وهما باطلان عندهم ؛ لأنّ الخير لا يستند إلى الظلمة والشرّ لا يستند إلى النور (٤) وإمّا أن تكون الجناية صادرة من الظلمة والاعتذار من النور وهو أيضا باطل ؛ لأنّ الاعتذار لا يكون حسنا إلّا إذا كان فاعله هو فاعل الجناية ، وإن كان الفاعل غيرهما فهو مناقض (٥) لقولهم : إنّ الخير مستند إلى النور والشرّ إلى الظلمة.

وفيه نظر (٦).

__________________

(١) يجتمعان ـ خ : (آ).

(٢) إلى ـ خ : (د).

(٣) حسن اتفاقا ـ خ ل ـ خ : (آ).

(٤) ولأنّ الظلمة قد يحصل منها الخير أحيانا كالتخفّي من الظالم والتستّر من عدو وتعين على النوم الموجب للراحة والقوة على العبادة ولكونها قابضة للبصر والنور مفرقا له ـ كذا في هامش ـ خ : (آ).

(٥) تناقض ـ خ : (د).

(٦) فإنّا لا نسلّم قبح اعتذار العبد للعبد ـ كذا في هامش ـ خ : (آ).

٣١١

__________________

والجدير بالذكر أنّ جميع فرق المجوس يشتركون في القول بمبدأين : مبدأ الخير ومبدأ الشر وإن كان بينهم في هذا الزعم الباطل اختلاف في بعض الجهات ، وقد أشار إلى بعضها في شرح الأصول الخمسة راجع من صفحة ٢٨٤ إلى ٢٩١ طبعة القاهرة ، والذي أوقعهم في هذا المذهب ـ أعني القول بالمبدأين ـ هو وجود الخير والشرّ في هذا الكون فاستدلّوا بوجودهما على تعدّد المبدأ الأوّل ، فإنّ المبدأ الحقّ سبحانه لمّا كان خيرا محضا محال أن يكون مبدأ للشرور ومصدرا لها ؛ لعدم السنخية فيلزم أن يكون للشرور مبدأ من سنخها ليكون هو مصدر الشرور ومنبعا لها. ومنشأ هذه الشبهة هو تخيّل أنّ الشرور مثل الخيرات عبارة عن الحقائق الخارجية ، وأنّ في الخارج حقيقتين ثابتتين مختلفتين بالخيرية والشريّة وسنخين من الوجود ، فلا بد من مبدءين لهما : أحدهما مبدأ الخير والآخر مصدر الشرّ ، ومن كلّ واحد منهما يترشّح ظهور مناسب له ، وهذا هو القول بخالقين اثنين إمّا أحدهما قديم والآخر حادث ، أو هما قديمان ، أو حادثان خلقهما الله تعالى : أحدهما خالق الخيرات بالايجاب والآخر خالق الشرور كذلك لا بالاختيار ، وهذا هو القول بالتثليث كما هو التحقيق.

والغرض أنّ الشبهة المذكورة أوقعت المجوس في الشرك والقول بالاثنين أو التثليث. وأجاب الحكماء قبل الإسلام عن هذه الشبهة المضادة للتوحيد بأجوبة دقيقة : منها أنّ الشرور في العالم ليست إلّا سلوبا وعدميات وليست قابلة لأن تقع تحت الجعل أولا وبالذات ، فلا يتعلّق أن يستدعي مبدأ موجودا حتّى تكون مجعولة من جانبه بل عدمها من جهة عدم العلة لها.

وبعبارة أوضح أنّ السلوب التي هي عدم وملكة كالعمى والصمّ وأمثالهما ، فحقيقتها عدم الإفاضة وفقدان الفيض ، يعني لم يصل فيض البصر والسمع مثلا ، وعدم الفيض وفقدان الإفاضة ليسا مثل وجود الفيض والإفاضة كي يستدعي الفائض والمفيض ويكون بدون ذلك محالا بل عدم العلة كاف في ذلك. قال الحكيم السبزواري (ره) : والشرّ أعدام فكم قد ضلّ من يقول باليزدان ثمّ الأهرمن.

ومنها ما ذكره أرسطو في جواب شبهة المجوس : أنّ الأشياء بالحصر العقلي يتعقّل على خمسة أقسام إمّا خير محض أو شر محض وإمّا خير من جهة وشرّ من جهة ، وهذا يتعقل على ثلاثة أقسام إما خيره غالب وإمّا شرّه وإمّا مساو فيهما ، وما في الخارج من الشرور خيرها غالب على شرّها ، فإيجادها خير ؛ لأنّ إيجاد الشر القليل لحصول الخير الكثير خير ليس بشر ، فإيجاد الموجودات خير نشأ من مبدأ الخير.

ولمّا جاء الإسلام وأشرقت الأرض بنور ربّها ، وطلعت شمس الرسالة من أفق الحجاز ، وظهر النبي العربي خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتشرت راية التوحيد في العالم ، فاضمحلّت الشبهة الشيطانية عن الكون وغلب المسلمون على البلاد وأبادوا الشرك والظلم والأنانية والطغيان ، وبيّن الاسلام أنّ كلّ سوء وشرّ في العالم يصل إلى البشر ويظهر في الكون ، فالباعث له والسبب له هو المكلّف ، بسبب الاستحقاق الذي اكتسبه بسوء اختياره ، فإن لم يكن سوء اختياره في البين فلا يصل من جانب الله تعالى إليه شرّ وسوء أصلا ، بل سعة رحمته وجوده وكرمه وعظمته لا تقتضي إلّا الخير ولم يكن شيء من الله تعالى في حقّ المخلوق إلّا الخير.

٣١٢

__________________

قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف ٩٦ ـ وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم ٤١ ونظائر هذه الآيات الشريفة كثيرة في القرآن الكريم.

وبعد ما صار سوء اختيار المخلوق سببا بأن أخذهم الله تعالى بأعمالهم وبما كسبت أيديهم فليست الشرور أوّلا وبالذات من الله تعالى ، بل باقتضاء سوء اكتساب الناس واختيارهم الفساد وصلت إليهم ، فظهور الشرّ والفساد إنّما هو بما كسبت أيدي الناس ، وفي عين هذا الحال نزولهما من الله تعالى ، ألا ترى أنّ الله يحكي أوّلا عن الكفار كما في سورة النساء ٧٨ وقال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) وبعد ذلك يقول سبحانه في تكذيبهم : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ٧٩ ـ

فيكون الحاصل المستفاد من الآية الشريفة أنّ هذه الأمور كلّها من عند الله ؛ لأنه ليس غيره متصرّفا في عالم الكون ، ولكن الحسنة من الله تعالى يعني اقتضاها فضله وكرمه الذاتي ، والسيئة من عندك يعني بتسبيبك وسوء الاستحقاق الذي هيأته لنفسك بسوء اختيارك. وفي الأحاديث والأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين سلام الله عليهم شواهد كثيرة على ذلك ، ففي دعاء التكبيرات الافتتاحية : الخير في يديك والشرّ ليس إليك. يعني أنّ الخير في يديك ينشأ من رحمتك الذاتية ، والشرّ ليس إليك يعني أوّلا وبالذات وبالاقتضاء الأولي ليس منك ، بل بسوء أعمال الناس الفاسدة وأفعالهم الكاسدة التي صارت سببا لأن تصل الشرور منك إليهم ، فالمجعول أوّلا وبالذات وبالاقتضاء الأولي من الله تعالى ليس إلّا الخير المحض ، والشرور مجعولة بالعرض وسببها سوء اعمال الناس وقد استحقوا بها بسوء اختيارهم ، فالمجعول بالذات من الخير المحض ليس إلّا الخير المحض ، ولا يصدر عنه إلّا الخير ولا يصدر عنه الشرّ ، ولكن ظهر في الطرف القابل الفساد فسقط عن القابلية بمقدار ظهور الفساد فيه ، ويصل إليه الفيض بمقدار القابلية من دون أن يكون تفاوت في طرف الفاعل ، وليس فيه قصور ونقص أصلا.

لا يقال : إنّ الجواب المستفاد من الكتاب والسنة في توجيه الشرور الواقعة في العالم إنّما هو بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عن المكلّفين من أهل المعاصي ، وهو قاصر عن تفسير الشرور بالنسبة إلى غيرهم ، فإنّ النظر في الشبهة إنّما هو بالنسبة إلى كلّ الشرور الواقعة في الكون ، لا بالنسبة إلى الشرور التي تصل إلى المكلّفين خاصّة وبالنسبة إلى أهل المعاصي منهم ، فما بال الأطفال وغير أهل المعاصي في ابتلائهم بالشرور؟

فإنّه يقال : إنّ كلّ الشرور الواقعة في الكون إنّما هي آثار وضعية بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عن البشر ، سواء كانت الشرور التي تصل إليهم أنفسهم أو الشرور التي تقع في الكون وإن لم تصل إليهم ،

٣١٣

الخامس : الردّ على عبدة الأصنام ، قيل : كان قبل إبراهيم عليه‌السلام فرقتان : الصابئة والحنفاء.

فالصابئة : مذهبهم ترجيح الروحانيات السماوية على الأنبياء والتعصّب لها ، وسمّوها آلهة وأربابا ، والله ربّ الآلهة والأرباب ، وافترقوا فرقتين :

الأولى : قالوا : إنّ الروحانيات لسنا ندركها بالحسّ لنوجّه العبادة إليها ، والكواكب السيارة مدركة لنا (١) ، وهي كالأجساد للروحانيات فتوجّه العبادة إليها لتكون وسائط بيننا وبين الروحانيات ، وهي وسائط بينها وبين إله الآلهة ، وهؤلاء عبدة الكواكب.

الثانية : قالوا : إنّ الكواكب لها طلوع وغروب وظهور بالليل وخفاء بالنهار ، ولم يصف لنا التقرّب إليها ، ولا ريب أنّ كلّ واحد يتولّى تربية معدن من المعادن ، فيأخذ منه شخصا على صورته وشكله مع مراعاة الوقت والساعة والدرجة والدقيقة والاتّصالات المحمودة المناسبة لذلك الكوكب ، وتوجّه العبادة إليه ونعكف عليه ، إذ هو نصب أعيننا ليكون شفيعا لنا وواسطة لنا ، كما أخبر سبحانه عنهم في القرآن : وقالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢) وهؤلاء هم عبدة الأصنام.

والحنفاء مذهبهم ترجيح الأنبياء على الروحانيات ، وجعلهم واسطة بينهم وبين الله تعالى في تلقّي الوحي لا في العبادة ؛ إذ عبادة الله تعالى غير مفتقرة إلى الواسطة ، ويجب أن يكون الواسطة بيننا وبين الله له وجه روحاني يتلقّى به ما في الغيب ، ووجه

__________________

ـ فكلّ الشرور في العالم إنّما هي من الآثار الوضعية لأعمال البشر (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).

ثمّ إنّه غير خفي على المتأمّل أنّ الجواب المستفاد من الكتاب والسنة يرجع كما هو الظاهر منه إلى أنّ الشرور أعدام لا وجودات ، فلا تستدعي الشرور مبدأ موجودا ، بل عدم العلّة كاف في ذلك كما ذكره الحكماء الإلهيين ، ولكن في هذا الجواب منشأ الشرور وأسباب وقوعها والباعث لها مبيّن كما هو صريح الآيات الشريفة والسنة السنية.

(١) لها ـ خ : (د).

(٢) الزمر ٣٩ : ٣.

٣١٤

جسماني يبلّغنا (١) به ما تلقّاه ، وهم الأنبياء فالخليل عليه‌السلام كان مبعوثا بتقرير مذهب هؤلاء والردّ على الصابئة ، واحتجّ على عبدة الكواكب بإلزامهم بأفولها ، الذي هو حركتها المستلزم لحدوثها ، الذي اعترف بعضهم بأنّه سبب لعدم صلاحيتها للعبادة. واحتجّ على عبدة الأصنام بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٣) فلم يرجعوا عمّا هم عليه ، فعدل إلى إلزامهم بأن جعلها جذاذا إلّا كبيرا لهم ف : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٤) فاندحضت حجّتهم ، فقالوا (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) (٥).

واعلم أنّ الضرورة قاضية ببطلان مذهبهم ؛ إذ الجمادات لا فعل لها ولا شفاعة ولا غيرها ، ولا يرد علينا طوافنا بالبيت واستلام الحجر وتقبيله ؛ لأنّا لا نقصد أنّ البيت أو الحجر يشفع لنا ، إذ هو واسطة بيننا وبينه تعالى ، بل أمرنا بذلك تعبّدا لمصلحة استأثر الله بسرّها.

السادس : الردّ على المنجّمين وأهل الطبيعة.

اعلم أنّ جماعة يسندون الحوادث الكائنة فيما تحت فلك القمر (٦) إلى العقل الفعّال بواسطة الحركات الفلكية ؛ بناء على القول بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد وهم

__________________

(١) يلقنا ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) الصافات ٣٧ : ٩٥.

(٣) مريم ١٩ : ٤٢.

(٤) الأنبياء ٢١ : ٦٢ ، ٦٣.

(٥) الأنبياء ٢١ : ٦٤.

(٦) هذا القول بناء على المزاعم السابقة من وجود فلك القمر وغيره ، وقد ظهر بطلانه في هذه العصور وذهبت السفينة إلى كرة القمر ورجعت إلى الأرض ولم يلزم الخرق والالتئام في الفلك الذي زعموه ، وظهر بطلان القول بوجود كرة النار ، واتّضح بطلان الإشكال في قضية معراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض التأويلات التي ذكرها بعض من ارتكز في ذهنه وجود كرة النار واعتقد بقواعد الهيئة البطلميوسية وفرضياتها ، وظهر أيضا بطلان تطبيق السماوات الواردة في القرآن الكريم بتلك الأفلاك التي كانت مسلّمة في الهيئة المذكورة.

٣١٥

جمهور الحكماء ، وهؤلاء قد تقدّم القول في مبنى مقالتهم. وجماعة يسندون تلك الحوادث إلى الكواكب ، وهم المعبّر عنهم بالمنجّمين إمّا بناء على ما تقدّم أو بناء على وقوع التجربة بوجود أشياء عند حلول كواكب معينة في بروجها ، فظنّوا استنادها إلى ذلك فجعلوا الكواكب نفسه فاعلا بشرط الحلول ، وبعضهم جعلها فاعلة بالإيجاب ، وبعضهم بالاختيار.

وأنكر ذلك المسلمون ومحقّقو الحكماء ، ونحن نذكر ما استدلّ الفريقان به على بطلان قولهم وهو وجوه :

الأوّل : دليل الحكماء وتقريره أنّ المؤثّر في عالم الكون والفساد إمّا ذات الكواكب أو ذات البروج ، وهما يستلزمان حدوث الحادث قبل أن يحدث وهو باطل ، أو حلول الكواكب في البروج وهو أيضا باطل ؛ لأنّ الكواكب والبروج إمّا أن تكون متساوية بالماهية أو مختلفة ، والأوّل يستلزم أيضا حدوث الحادث قبل أن يحدث ، والثاني باطل لما قرّروه من أنّ الأفلاك بسيطة ، وإذا لم يكن المؤثّر هذه الثلاثة يكون المؤثّر شيئا آخر ، وهو المطلوب.

إن قيل (١) : لم لا يختلف تأثيراتها عند حلولها في البروج لا لاختلاف البروج في ذواتها بل لاختلاف ما فيها من الكواكب الثابتة.

قلت : لو كان الأمر كما قلت (٢) لوجب أن تختلف الأحكام ؛ لأنّ البروج على طول الزمان تنتقل من كواكب إلى أخرى. فإن قلت : العقرب اليوم في أوّل القوس أو ثانيه ، لكن البروج عندهم لا تتغيّر عن طبائعها وتأثيراتها وإن طال الزمان.

الثاني : أنّه لا سبيل لهم إلى العلم بأحكام النجوم إلّا التجربة ، ولم تصحّ التجربة

__________________

(١) إن قلت ـ خ : (آ).

(٢) قوله : كما قلت لوجب ـ إلى قوله ـ عن طبائعها. هكذا وقعت العبارة في النسختين خ (د) و ـ خ : (آ) الظاهر أنّ صوابه : أنّ الكواكب على طول الزمان تنتقل من برج إلى آخر وصواب الاستثناء : لكنّ الكواكب لا تتغير عن طبائعها ؛ لأنّ المنتقل في البرج هو الكواكب لا العكس والتأثير المدّعى للكواكب لا العكس ، والظاهر أنّ هذا من سهو الناسخين.

٣١٦

فيما يدّعونه ؛ لأنّ أبا معشر (١) يزعم أنّ الأدوار والألوف هي الأصل في هذا العالم ، وهي لا تتكرّر بالنسبة إلى شخص واحد حتّى يحكم بالتجربة.

الثالث : دليل المتكلّمين : لو كانت مؤثّرة لكان إمّا بالإيجاب وهو باطل ، وإلّا لزم سقوط الأمر والنهي والمدح والذم ، وإمّا بالاختيار وهو باطل أيضا ؛ لوجوه :

الأوّل : لزوم ما تقدّم. الثاني : يلزم أن لا تستقرّ أفعالها على حالة واحدة ، بل تنتقل من الشيء إلى ضدّه كما هو شأن الفاعل بالاختيار ، واللازم باطل ؛ لأنّ الفعل المنسوب إلى كوكب لا يجوز نسبته إلى غيره عندهم ، كالقتل والفتك إلى المريخ والديانات والخير إلى المشتري والعلوم الدقيقة إلى عطارد.

الثالث : يلزم أن تكون لها حياة وهو باطل ؛ لوجوه :

الأوّل : إجماع المسلمين وهو كاف هنا. الثاني : أنّ من شرط الحياة الرطوبة ، وهي مفقودة في الكواكب باتّفاقهم. الثالث : أنّ من شرط الحياة كون الحرارة على قسط مخصوص وأنّ النار على صرافتها يستحيل أن تكون حية ، والشمس أشدّ حرارة من النار فإنّها على بعدها تؤثّر ما تؤثّر النار على قربها ، فلأن لا تكون حية أولى. وعلى تقدير كون الكواكب أحياء قادرين فإنّها قادرة بقدرة لكونها أجساما ، والقادر بقدرة لا يصحّ أن يفعل بالاختراع بل إمّا بالتوليد أو بالمباشرة ، لكنهم يسندون (٢) إليها التأثير الاختراعي.

الرابع : لهم أيضا ، تقريره : لو كانت مؤثّرة في هذه الحوادث الكائنة (٣) عندنا لزم كونها آلهة ؛ لأنّا لا نريد بالإله إلّا المؤثّر فينا وفي الحوادث الكائنة عندنا ، لكن كونها آلهة باطل ؛ لجسميتها والإله ليس بجسم (٤) فلا تكون مؤثّرة ، وهو المطلوب.

__________________

(١) أبو معشر المنجّم جعفر بن محمد بن عمر البلخي صاحب التصانيف ، لا زالت مصنفاته مخطوطة في خزائن أو روبا توفّي بواسط سنة ٢٧٢ ، وقد جاوز المائة.

(٢) يستندون ـ خ : (د).

(٣) الكائنة ـ خ : (د).

(٤) اعلم أنّ هنا قياسين مقدّرين : استثنائي هو لو كانت مؤثّرة كانت آلهة ، لكنها ليس آلهة ، فليست مؤثرة ، ـ

٣١٧

إن قلت : لم لا يجوز أن تكون وسائط بيننا وبين الله تعالى في التأثير؟ فلا يلزم إلهيّتها.

قلت : الواسطة منفية بالإجماع وبتواتر النقل.

واعلم أنّ المنجّم إن قصد أنّ الكواكب فاعلة (١) حقيقة ، يرد عليه ما تقدّم ، وإن قصد كونها (٢) أمارة على الحوادث والفاعل فيه غيره فليس ببعيد من الصواب ، ويعلم كونه أمارة بالتجربة أمّا في أزمنة متقاربة فظاهر وأمّا في المتباعدة فلأنّا نقول بتوقّفه على تكرار المشاهدة ، بل على العلم بالتكرار إمّا مشاهدة أو إخبارا عنها بنقل متواتر فيفيد علما أو غير متواتر فيفيد ظنّا.

وأمّا الطبيعة فهي قوّة حالّة في الجسم ، وعلماء الطبيعة يسندون الآثار الظاهرة في الأجسام من الصور والأشكال والنموّ والكيفيات الفاعلة والمنفعلة إليها ، وهو باطل بما تقدّم من بطلان تأثير الكواكب ، وهنا أولى بل الآثار العلوية والسفلية واقعة بتقدير العزيز العليم.

__________________

ـ اقتراني : الكواكب جسم ، والإله ليس بجسم ، فالكوكب ليس بإله.

(١) الكوكب فاعل ـ خ : (آ).

(٢) كونه ـ خ : (آ).

٣١٨

اللامع الحادي عشر

في الإمامة

وفيه مقاصد :

[المقصد] الأوّل : في مقدماتها

وفيه فصلان :

[الفصل] الأوّل : في تعريفها وبيان مطالبها. أمّا الأوّل : فهي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص إنساني خلافة عن النبي ، فالرئاسة جنس قريب والبعيد النسبة (١)

__________________

(١) لأنّه قد ينسب إلى الانسان النبوّة والإمامة والصنعة والقبيلة والحركة والطبيعة ، فالنسبة أعمّ من الرئاسة ، وهي تدلّ عليه بالتضمّن ، وفيما ذكره المصنّف (ره) من كون الرئاسة جنسا قريبا في تعريف الإمامة تأمّلا واضحا ؛ فإنّ التحقيق كما ذكره الشيخ خضر في كتاب مفتاح الغرر على ما نقله عنه الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي (ره) في كتابه معين المعين : أنّ الرئاسة ليست جنسا قريبا ، فإنّا إذا قلنا في تعريف الإمامة : إنّها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص ، فالرئاسة بمنزلة الجنس البعيد شامل للمقصود وغيره ، وبقيد العموم خرجت الرئاسة الخاصة كالرئاسة على أهل القرية ، والعموم يكون باعتبار الدين فقط ، وقد يكون باعتبار الدنيا فقط ، وقد يكون باعتبارهما معا ، وبالقيد الأخير يخرج القسمين الأولين ويظهر أنّ الرئاسة ليست جنسا قريبا ، وعموم النسبة لا يدلّ عليه كما أنّ عموم الجوهر لا يدلّ على أنّ الجسم ـ

٣١٩

وبعمومها خرج ولاية قرية وقضاء ، بلد وتعلّقها بالدين يخرج الملوكية ، وبالدنيا يخرج القضوية(١) وبقيد الشخص بالإنساني يخرج الملك والجنّ لو أمكن ، وبقيد الخلافة يخرج النبوّة لانطباق ما قبله عليها.

وأمّا الثاني : فاعلم أنّ البحث في الإمامة مبنيّ على خمسة مطالب ، يعبّر عن كل واحد منها بكلمة ، وهي : ما ، وهل ، وكيف ، ولم ، ومن.

والأوّل : قولنا : ما الإمامة ، وهي البحث عن تفسير هذه اللفظة في الاصطلاح العلمي.

والثاني : قولنا : هل الإمام أي هل يكون الإمام موجودا دائما أو في بعض الأوقات وهو الذي (٢) يبحث فيه عن وجوب وجوده في زمان التكليف كلّه أو بعضه.

والثالث : قولنا : لم وجبت الإمامة ، وهو الذي يبحث فيه عن العلّة الغائية لوجودها ووجهها في الحكمة.

__________________

ـ جنس قريب ، وعموم الجسم لا يقتضي كون النامي كذلك بالنسبة إلى الإنسان ، بل مجموع رئاسة عامة بمنزلة الجنس القريب والبعيد المعتبر كالفصل هذا إن جعلنا قيدا لشخص من الأشخاص خارجا عن الحدّ منبّها على أنّ مستحقّها في كلّ عصر لا يكون إلّا واحدا.

وذكر السيد المرتضى في الإيضاح شرح المصباح والكليني في المفصّل في شرح المحصّل من أنّه احتراز عن الأمّة إذا عزلوا إماما عند فسقه ، وأمّا إن جعلناه تتمة التعريف كما هو ظاهر لإخراج النبوّة القابلة للشركة كوقوعها لموسى وهارون فالجنس القريب هو مجموع : رئاسة عامة في الدين والدنيا كالجوهر الجسماني النامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة للإنسان ، والفصل القريب قيد لشخص من الأشخاص كالناطق له ، والتعريف حينئذ للإمامة الخاصّة المقابلة للنبوّة ، فلا حاجة إلى زيادة قيد النيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو غيره لإخراج النبوّة على الأوّل وعلى الثاني للإمامة المطلقة الشاملة للنبوة أيضا.

والمقصود هنا وإن كان بيان الخاصّة ؛ لأنّ تصوّرها مسبوق بتصوّر المطلقة العامة لكونها جزئها ، فلا حاجة إلى زيادة القيد المذكور ولا إلى إضافة حقّ الأصالة ، لإخراج رئاسة نائب الإمام المفوّض إليه عموم الولاية ؛ لأنّه لا رئاسة له على الإمام فلا تكون رئاسة عامة بالمعتبر ، فتدبّر.

(١) كذا في النسختين يعني قوله : في الدين ليخرج الرئاسة في أمور الدنيا كرئاسة الملوك وقوله : والدنيا ليخرج الرئاسة في أمور الدين لا غير كرئاسة القاضي إذا كانت عامة.

(٢) وهي التي ـ خ : (د).

٣٢٠