اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (١).

الثاني : السلبيات ، وهي أنواع.

الأوّل : ما يكون من الأخلاق النفسانية ، وهي الجهل والجبن والحقد والحسد والفظاظة والغلظة والبخل والحرص وشبهها وكذا السهو والنسيان ، لئلّا يسهو عن أداء ما أمر به.

الثاني : ما يكون من (٢) الخلق البدنية كالجذام والبرص والأبنة والتخنّث.

الثالث : في نسبه ، أي لا يكون مولودا من الزنا ولا في آبائه دنيء ولا عاهر.

الرابع : في أفعاله ، أي لا يكون كثير المزاح والمجون واللعب ولا آكلا (٣) على الطريق ولا فاعلا للمباحات التي يتنفر منها عرفا.

الخامس : في صناعاته (٤) أن لا يكون حائكا ولا حجاما ولا زبالا ولا كنّاسا ؛ لأنّ جميع هذه الأمور صارفة عن الانقياد التامّ له والنظر في معجزته ، وكانت طهارته منها من الألطاف المقرّبة للخلق إلى طاعته ، وكلّ لطف واجب.

الفصل الثالث : فيما يجب أن يكون له من الشواهد المقترنة بدعواه لفرض تصديقه ، وهو المسمّى معجزا ، وعرّفوه بأنّه أمر خارق للعادة ، مطابق للدعوى ، مقرون بالتحدّي ، متعذّر على الخلق الإتيان بمثله جنسا و (٥) صفة ، فالأمر شامل للإثبات كقلب العصا حيّة والمنفيّ كمنع القادر (٦). وبالخارق خرج المعتاد وإن كان متعذّرا كطلوع الشمس من المشرق(٧) ، وبالمطابق خرج ما جاء على العكس كقضية

__________________

(١) يونس ١٠ : ٣٥.

(٢) في ـ خ ـ : (د).

(٣) والأكل ـ خ : (آ).

(٤) في صفاته ـ خ : (آ).

(٥) أو ـ خ : (آ).

(٦) أي كمنع القادر على حمل الكثير عن حمل القليل وكمنع العرب عن المعارضة وكعدم إحراق النار.

(٧) كطلوع الشمس من المغرب ـ كذا في ـ خ : (د) وقال في إرشاد الطالبين : فإنّه لو لم يكن خارقا للعادة ـ

٢٨١

مسيلمة في غور ماء البئر (١) ، وباقترانه بالتحدّي خرج الكرامات والإرهاص (٢) ، وبالمتعذّر خرج ما ليس كذلك وإلّا لم يكن دليلا على التصديق ، وخرج نحو السحر والشعبذة.

والمراد بالتعذّر جنسه ، أي كلّ (٣) جزئي من جزئياته كذلك كخلق الحية ، وصفته أنّ التعذّر (٤) يتعلّق بالهيئة القائمة بالماهية المقدورة من حيث هي كقلع المدينة جملة وأما جزئياتها كقلع صخرة (٥) فليس بمتعذّر ، ويكفي تعذره على تلك الأمة المرسل إليها ، ويشترط فيه كونه من فعل الله أو جاريا مجراه ، وأن يكون في زمن التكليف وإلّا لم يكن دليلا ؛ لانتقاض العوائد عند أشراط الساعة ، وأن يظهر عقيب الدعوى أو جاريا مجراها كظهوره في زمان ذلك النبي ولم يدّع أحد غيره.

وهنا فوائد :

الأولى : يجوز ظهور هذا المعنى على يد الأولياء خلافا للمعتزلة. لنا : قصة مريم وآصف وما نقل متواترا عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وحمل الأوّل على كونه إرهاصا لعيسى عليه‌السلام ، والثاني على أنّه لسليمان عليه‌السلام ،

__________________

ـ كطلوع الشمس من المشرق لم يكن معجزا ؛ لكونه معتادا وإن كان متعذّرا على الخلق.

(١) وكنقله من عين الأعور العور فلم تبرأ بل عميت الأخرى.

(٢) الإرهاص في اللغة : تأسيس البنيان ، وفي الاصطلاح : تأسيس لقاعدة النبوّة قبل البعثة ، وهو ما يظهر من الخوارق للعادات قبل ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالنور الذي كان في جبين آباء نبينا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكقصة أصحاب الفيل ورميهم بحجارة من سجيل في عام ولادته ، وقيل : هو إحداث أمر خارق للعادة دالّ على بعثة نبي قبل بعثته. وقيل : هو ما يصدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة من أمر خارق للعادة ، كإظلال الغمام وتسليم الحجر والمدر وخوارق العادات التي ظهرت في ليلة ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدنيا ، وسيشير المصنّف قدس‌سره إلى جملة منها.

(٣) كان ـ خ : (د).

(٤) المتعذّر ـ خ ل ـ خ : (د).

(٥) شجرة ـ خ : (د).

٢٨٢

والثالث على أنّه لنبيّنا عليه‌السلام (١) خلاف الظاهر.

__________________

(١) حمل قضية آصف في إتيانه عرش بلقيس قبل أن يرتدّ طرف سليمان عليه‌السلام على الإرهاص لسليمانعليه‌السلام باطل ؛ فإنّ الإرهاص كما عرفت هو تأسيس لقاعدة النبوة قبل بعثة النبي ، وأمّا في زمن وقوع تلك القصة كان سليمان عليه‌السلام نبيا مبعوثا لأمته فكيف يستقيم القول بأنّها إرهاص؟

وأمّا الأئمة عليهم‌السلام فأكثرهم كانوا بعد زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصدور المعجز عنهم عليهم‌السلام لا يكون إرهاصا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد رحلته عن الدنيا ، بل العلة في صدور المعجز عنهم عليهم‌السلام أنّ كلّ الكمالات النفسانية الموجودة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بدّ أن تكون موجودة في الإمام القائم مقامه إلّا النبوّة ؛ فإنّ هذا المنصب العظيم غير موجود في الإمام ، فكما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو صاحب المعجز فكذا الامام عليه‌السلام وإلّا لا يكون إماما قائما مقامه ووصيا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العقل يحكم أنه لا تناسب بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين الجاهل الغبي أن يكون إماما للأمة ووصيا عن صاحب الرسالة.

نعم الفرق بين صدور المعجز عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام هو أنه يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يظهر إعجازه في مقام التحدي وإثبات النبوة ، وأمّا الإمام عليه‌السلام بما أنّه منصوب من جانب الله تعالى بواسطة النبي وتنصيصه فلا يجب له إظهار المعجز في إثبات إمامته ، نعم لا بدّ له من إظهاره إذا سأله الناس إظهار المعجز في إثبات الإمامة أو رأى الإمام عليه‌السلام المصلحة في الإظهار فأظهره ، وصدور المعجزات عن العترة الطاهرة سلام الله عليهم إذا رأوا المصلحة في ذلك نقلت متواترا معنى ، والتواتر مفيد للعلم الضروري وقد ألّف علماؤنا الإمامية (ض) في هذا الموضوع كتبا نفيسة موجودة منتشرة ، شكر الله تعالى مساعيهم الجميلة.

وممّا هو جدير بالذكر هنا هو أنّ سياق الآيات الشريفة في سورة النمل في قوله تعالى : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) الخ وقوله تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ) الخ وقوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ) الخ أنّ الخطاب في قول العفريت : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) وكذا الخطاب في (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لسليمان عليه‌السلام فإنّه المنادي للملإ : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) ، وفي جوابه يكون الخطاب من العفريت لسليمان عليه‌السلام وكذا الخطابات في (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لسليمان عليه‌السلام أيضا ، فإنّه هو الذي يريد الإتيان بالعرش إليه ، وهو الذي يراد الإتيان به إليه لا العفريت ، حتّى تكون الخطابات إليه ، فإن كان المراد من (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ ...) هو سليمانعليه‌السلام فلا بدّ حينئذ أن يكون عفريت هو الذي يريد الإتيان بالعرش إليه ، مع أنّه لم يكن يريد الإتيان به بل الذي يريد ذلك هو سليمان عليه‌السلام.

وبالجملة القول بأنّ قائل : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ...) هو سليمان عليه‌السلام والخطابات في قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ ...) هو للعفريت ، خلاف ظاهر سياق الآيات ، ولا نرفع اليد عن الظاهر بالوجوه الرديئة السخيفة التي ذكرها بعض المفسّرين ، عنادا لما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو آصف بن برخيا وصيّ سليمان عليه‌السلام ووزيره مع أنّهم أعرف بالقرآن وتفسيره من غيرهم ، فإنّهم أحد الثقلين وعندهم علم كلّ الكتاب.

٢٨٣

واحتجاجهم ـ بأنّه لو جاز لجاز على كلّ وليّ ، فيخرج عن كونه معجزا لاعتياده ، وبأنّه ينفر (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوجود مشاركه فيه (٢) ، فلو جاز لغيره لم يحصل الامتياز ، وبأنّه حينئذ لا يكون دليلا على التصديق في دعوى النبوّة للعلم بعدم اختصاصه به ـ باطل؛ للمنع من جوازه حينئذ ، لأنّه وجه قبيح بل إذا لم يضر لذلك. والتنفير إنّما يلزم لو لم يكونوا من أتباع الأنبياء ، أمّا على تقديره فلا ، والتمييز يحصل بمقارنة الدعوى وكذا علم دلالته يحصل بها ؛ لما تقرّر أنّ تصديق الكاذب قبيح.

الثانية : الإرهاص جائز ، وهو ظهور الخارق للعادة إنذارا (٣) بقرب البعثة كانشقاق إيوان كسرى وغور بحر ساوة وخمود نيران الفرس وقصة أصحاب الفيل في رميهم بالحجار الصغار على رءوسهم فيخرج من أسافلهم ، وكتظليل الغمامة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسليم الأحجار عليه قبل البعثة ، ومنعه المانعون للكرامات ، والوقوع يكذبهم.

الثالثة : يجوز خلق المعجزة (٤) على العكس ؛ إظهارا لتكذيب المدّعى ، كقضية مسيلمة في دعواه فيض الماء من البئر فغاض وهو خارق ، وفي ذهاب العين الأخرى لما دعا الأعور ، وكقصة نمرود وإبراهيم عليه‌السلام لمّا صارت النار عليه بردا وسلاما قال نمرود : إنّما صارت كذلك هيبة لي فجاءته في الحال نار فأحرقت لحيته.

ومنعه أيضا الأولون ، إذ يكفي في التكذيب عدم الخلق عقيب الدعوى.

قلنا : ممنوع ؛ لجواز أن يقال : تأخّر لمصلحة ، فأما ظهوره على العكس فصريح في التكذيب ، وهو وجه المصلحة.

__________________

(١) تنفر ـ خ : (آ).

(٢) مساوي فيه ـ خ : (آ).

(٣) نذر ينذر نذورا الجيش : جعلوه نذيرة ، أي طليعة.

(٤) المعجز ـ خ : (آ).

٢٨٤

المطلب الثالث : في تعيين النبيّ

وفيه أبحاث :

[البحث] الأوّل : سيّدنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي حقّا ، لأنّه ادّعى ذلك وظهرت المعجزة على يده ، وكلّ من كان كذلك فهو نبي. أمّا أوّل الصغرى فضروري تواترا ، وأمّا ثانيها فلوجوه :

الأوّل : أنّه أتى بالقرآن وهو معلوم تواترا (١) ، وتحدّى به العرب الذين هم أهل الفصاحة والبلاغة بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٢) (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(٣) (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٤) وكل ذلك معلوم متواترا أيضا ، فعجزوا عن الإتيان بمثله وإلّا لما عدلوا إلى محاربته التي فيها قتل أنفسهم وذهاب أموالهم ، إذ العاقل لا يختار الأصعب مع إنجاح الأسهل ، الذي هو

__________________

(١) وقد تواتر نقل القرآن الكريم عن رسول الله خاتم النبيين صلوات الله عليه وآله بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل واستمرت مادّته وصورته كلّها بينهم. وما أنزله الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على نحو الإعجاز هو ما بين الدّفتين الموجود اليوم في الدنيا بين المسلمين ، وليس بأكثر من ذلك ، وقال الشيخ الصدوق (ره) : ومن نسب إلينا ـ يعني الشيعة الإمامية ـ أنّا نقول : إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب.

وقال السيد المرتضى علم الهدى (ره) : من خالف في ذلك من الحشوية لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحتها ، وقال الشيخ الطوسي (ره) : طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وقد جمع أكثر تلك الأخبار الشاذّة المحدّث النوري (ره) في كتابه الممقوت فصل الخطاب وقد يعتمد في نقليّاته على مثل كتاب دبستان مذاهب المجهول المؤلف ، والظنّ القوي أنّ مؤلّفه مجوسي عدوّ للإسلام ، وقد جمع فيه من الأكاذيب ما لا يحصى ، وقال بعض أهل التحقيق : إنّ تأليف فصل الخطاب كان من حيل أعداء الإسلام والقرآن. وبالجملة أنّه كتاب ممقوت للمسلمين لا يليق أن يكون موردا للاعتماد ، فإنّه لا يسوى عندهم قلامة ظفر. وانظر في حقّه إلى ما كتبه العلّامة البلاغي (ره) في مقدمة : آلاء الرحمن.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣.

(٣) هود ١١ : ١٣.

(٤) الاسراء ١٧ : ٨٨.

٢٨٥

معارضته بمثل كتابه لو كان مقدورا مع سهولة الكلام عليهم ، فيكون معجزة (١) لانطباق تعريفه عليه.

لا يقال : نمنع كونه عليه‌السلام أتى (٢) بالقرآن ، قولكم : إنّه متواتر قلنا : ممنوع لقلّة الحفظة له في زمانه عليه‌السلام.

سلّمنا لكن المتواتر جملته لا جزئياته ، فلا تكون آيات التحدّي متواترة (٣).

سلّمنا لكن نمنع كون الآتي به هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لجواز أن يكون غيره ، فنقله هذا ونسبه إلى نفسه.

سلّمنا لكن كتابكم يدلّ على أنّه من عند غير الله ؛ لقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤) والاختلاف حاصل لفظا بالقراءات السبعة ، ومعنى بالمحكم والمتشابه والخاصّ والعامّ والناسخ والمنسوخ.

سلّمنا لكن نمنع عدم معارضته ؛ لجواز وجودها ولم ينقل إلينا.

سلّمنا لكن لا نسلّم أن يكون (٥) عدم المعارضة للعجز ؛ لجواز القدرة وعدم الاحتفال به أو للخوف.

لأنّا نقول : الجواب عن الأوّل بأنّه مكابرة غير مسموعة.

وعن الثاني بأنّ تعريف المتواتر حاصل هنا ، وقلّة الحفظة لا تضرّنا.

وعن الثالث بأنّا نعلم ضرورة تواتر آحاده كما علمنا تواتر جملته ، ولأنّ تواتر جملته يستلزم تواتر آحاده ؛ لاستحالة وجود المركّب بدون جزئه.

وعن الرابع بأنّه مكابرة أيضا ؛ إذ انتسابه إلى هذا الشخص معلوم ضرورة ، ولدلالة القرآن على تخصيصه به كقوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) (٦) (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ

__________________

(١) معجزا ـ خ : (د).

(٢) أتى بقوله ـ خ : (د).

(٣) سلّمنا لكن المتواتر ـ إلى قوله ـ : متواترة ـ من ـ خ : (آ).

(٤) النساء ٤ : ٨٢.

(٥) أن يكون ـ خ : (د).

(٦) التوبة ٩ : ٢٥.

٢٨٦

بِبَدْرٍ) (١) (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (٢) (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) (٣) (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) (٤).

وعن الخامس بأنّ كونه من عند غير الله لو كان ملزوما للاختلاف فلا يقتضي كون الاختلاف ملزوما ؛ لكونه من عند غير الله ، فإنّ استثناء عين التالي غير منتج ، لجواز كونه أعمّ.

إن قلت : نعكس هذه الشرطية بالعكس المستوي إلى قولنا : قد يكون إذا وجد فيه الاختلاف يكون من عند غير الله ، ويستثنى حينئذ عين مقدّمها فينتج عين تاليها.

قلت : الجزئية لا تصلح مقدّمة استثنائية ؛ لجواز كون زمان الاتّصال أو وضعه غير زمان وجود زمان الملزوم ووضعه.

سلّمنا ذلك ، لكن وجود الاختلاف ممنوع ؛ إذ المراد به التناقض ، وما ذكرتموه ليس بمتناقض ، لقرب موافقة بعض القراءات لبعض وتأويل المتشابه بما يوافق المحكم.

وعن السادس بأنّها لو وجدت لنقلت لتوفّر الدواعي على نقلها ، إذ فيها ترك هذه التكاليف الشاقّة التي تنفر منها طباع أكثر العالم.

وعن السابع قد بيّنا جوابه ، وعدم الاحتفال ممنوع لا يتصوّره عاقل ، فإنّا إذا رأينا شخصا عرض نفسه للقتل والنهب والسبي ، وهو يعرف أنّ خصمه يقنع منه بدون ذلك وقلنا له : لم لا تجبه إلى مراده الذي هو أهون عليك؟ فقال : إنّي لا احتفله ، لعددناه سفيها بل غير عاقل وكذا الخوف أيضا ممنوع ، فإن ابتدأ ظهوره لم يكن له شوكة ولا أنصار فكيف يتصوّر الخوف منه؟

نكتة : اختلف المتكلّمون في جهة إعجاز القرآن ما هي؟ قال أكثر المعتزلة :

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٢٣.

(٢) آل عمران ٣ : ١٥٣.

(٣) التحريم ٦٦ : ٣.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٣٧.

٢٨٧

الفصاحة والبلاغة ، ولهذا كانت العرب تستعظم فصاحته كقول الوليد بن المغيرة عنه : ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق (١) وإنّه يعلو ولا يعلى.

وقال النظّام والسيد (ره) بأنّه الصرفة ، بمعنى أنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته إمّا بسلب القدرة أو الداعية أو العلم الذي يحصل به المكنة ؛ إذ لو كان لفصاحته (٢) لأتوا بمثله لقدرتهم على المفردات وعلى التركيب ، ومن قدر على كلّ واحد قدر

__________________

(١) لمغرق ـ خ : (د) لمعدن ـ خ ل ـ خ : (د) وقريب من هذا الكلام ما ذكره التفتازاني في شرح المقاصد وبعضه اقتباس منه بقوله : أشراف العرب ، مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وفرط عداوتهم للإسلام ، لم يجدوا فيه للطعن مجالا ولم يوردوا في القدح مقالا ، ونسبوه إلى السحر على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجّبا من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته ، واعترفوا بأنّه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر الشعراء وأنّ له حلاوة وعليه طلاوة ، وأنّ أسافله مغدقة وأعاليه مثمرة ، فآثروا المقارعة على المعارضة ، والمقاتلة على المقاولة وأبى الله إلّا أن يتمّ نوره على كره من المشركين ورغم المعاندين ، وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين وفرق الملحدين اخترعوا مطاعين ليست إلّا هزءة للساخرين وضحكة للناظرين ، منها أنّ فيه كلمات غير عربيّة كالاستبرق والسجّيل والقسطاس والمقاليد فكيف يصحّ أنّه عربي مبين؟ فردّ بأنّ ذلك من توافق اللغتين أو المراد أنّه عربي النظم والتركيب أو الكلّ عربي على سبيل التغليب الخ ... انظر شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٨٥ ـ ١٨٦ طبعة إسلامبول. والصحيح في ضبط الكلمة : لمغدق. كما أثبتناه ـ انظر إلى الأنوار المحمدية للشيخ يوسف النبهاني ص ٢٦٧ طبعة بيروت ـ قول فرق الملحدين : إنّ في القرآن كلمات غير عربية إلى آخره ، فهو من الأباطيل وقول من لم يدرس اللغة العربية الشريفة على ضوء العلم والتحقيق ، فإنّ القرآن الحكيم عربي أنزل بلسان عربي مبين كما حقّقه بعض المعاصرين لا أنه عربيّ الأسلوب ، ومنشأ القول به عدم التحقيق في اللغات ، ولذا تخيل أنّ القسطاس والسجيل وغيرهما من العربي أسلوبا. ولم يعلم المتخيّل أنّ هذا الاستعمال إنّما هو من باب الإطلاق التوسّعي ، فما في مفردات الراغب ـ قيل : إنّ السجيل فارسي معرّب ـ قول ضعيف ، ولذا نسب إلى القيل. فإنّ السجّيل فهو من سجل وحروفه أصلية له صوت واحد يدلّ على انصباب شيء بعد امتلائه ، ومنه السجيل الدلو العظيم ـ انظر إلى كتاب الخليل (ره) ، وراجع المقاييس لابن فارس رحمه‌الله تعالى ـ ج ٣ ، ص ١٣٦ طبعة مصر ، وقس على ذلك سائر الكلمات ولا تغتر بقول بعض الناس : إنّها من الكلمات العجمية ، فإنّ أساسها وأصلها عربي ، ولا سعة في المقام لتوضيح المطلب وتحقيقه في كل واحد واحد من تلك الألفاظ ، وتحقيق المطلب في محلّه ، والله الموفق.

(٢) للفصاحة ـ خ : (آ).

٢٨٨

على الجميع (١).

وفيه نظر ؛ لأنا نمنع أنّه من قدر على كلّ واحد قدر على الجميع ، لجواز اشتمال الجمع (٢) على حال ليس للأفراد ، وهو عين المتنازع مع أنّه كان يجب أن يكون في غاية الركّة ، إذ الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز ، وأيضا كان يجب وجدانهم ذلك من أنفسهم ، ولكان الصرف هو المعجز لا القرآن ، وقيل : الأسلوب الذي له ، وقال الجويني : الأسلوب والفصاحة ، وقيل : هما مع الاشتمال على العلوم الشريفة كعلم التوحيد والسلوك وتهذيب الأخلاق ؛ لوجود الفصاحة في كلام بعضهم مع عدم الأسلوب ، وكلام مسيلمة كأسلوبه لا كفصاحته وجمعهما نادر ؛ لأنّ تكلّف الأسلوب يذهب بالفصاحة ، وأمّا العلوم فلم يوجد في كلامهم لها أثر ولا عين إلّا ما ورد عن قسّ (٣) ، لكنّه نقل عن الكتب الإلهية وهذا القول قريب (٤).

__________________

(١) الجمع ـ خ : (آ).

(٢) الجميع ـ خ : (آ).

(٣) قس بن ساعدة حكيم العرب في الجاهلية ذكره الشيخ الصدوق (ره) في إكمال الدين والشيخ المفيد (ره) في المجالس والكراجكي (ره) في كنز الفوائد وغيرهم من علماء الإسلام ، وهو الذي بشّر بقرب ظهور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإظهاره الرسالة وقال : ما لله على الأرض دين أحبّ إليه من دين قد أظلّكم زمانه وأدرككم أوانه ، طوبى لمن أدرك صاحبه فبايعه ، وويل لمن أدركه ففارقه.

(٤) هذه الأقوال التي نقلها المصنّف (ره) في وجه إعجاز القرآن هي أقوال المتكلّمين في القرون السالفة ، فذكر كلّ منهم وجها لإعجازه فحسب أنّه هو الوجه فيه لا غير ، بل كلّ تلك الوجوه موجودة في إعجازه مضافا إلى الوجوه التي ذكروها في الكتب المؤلّفة في إعجاز القرآن ، ولا سيما في القرن الذي نحن نعيش فيه ومن الكتب الممتعة في هذا الباب كتاب إعجاز القرآن لأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي. نعم القول بالصرفة لا ينبغي المصير إليه.

وقال السيوطي في كتابه معترك الأقران في إعجاز القرآن : وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين. والصواب أنّه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكّاكي في المفتاح : اعلم أنّ إعجاز القرآن يدرك ، ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة. وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلّا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيها ، انظر ج ١ ، ص ٣ ـ ٤.

وقال السيوطي : وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه ، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده. فإذا علمت عجز الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه ، فما فائدة ذكرها؟ لكنا ـ

٢٨٩

الثاني : أنّه ظهر عنه أمور خارقة كنبوع الماء من بين أصابعه ، وتسبيح الحصى في كفّه وحنين الجذع وانشقاق القمر ، وإقبال الشجر وإطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير ، وكلام الحيوان الأعجم وإخباره عليه‌السلام بالمغيّبات ، وغيرها مما يبلغ الألف.

لا يقال : نمنع نقل (١) ذلك تواترا ، وآحادا لا يفيد هنا ؛ إذ المسألة علمية.

سلّمنا لكن نمنع كونها من فعل الله ؛ لجواز أن يكون له خاصّة نفسانية أو بدنية أو ذاتية يقدر معها على ذلك.

سلّمنا لكن لم لا يجوز أن يكون بإعانة بعض الجنّ والشياطين أو يفعل الملائكة استقلالا وإعانة؟

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّها متواترة معنى ، كشجاعة علي عليه‌السلام وسخاء حاتم ، لاشتراكها بجملتها في ظهور الخارق على يده ، ولإحالة العقل كذب كلّها ، فأيّها صدق كفى في الباب.

وعن الثاني والثالث بأنّه ادّعى كونها من فعل الله ، فلو كان كاذبا لكان الله فاعلا للقبيح بتمكينه أو تمكين من أعانه.

الثالث : أنّه لا نزاع في كونه عليه‌السلام نشأ يتيما لا مال له ولا أعوان على أمره ، ولم يسافر من بلده إلّا مرّتين في زمان يسير ، واشتهر عنه أنّه لم يجتمع بأحد من العلماء والحكماء ولا الكهنة وانقضى من عمره من انقضى على ذلك (٢) ثمّ إنّه ظهر عنه مثل هذا الكتاب

__________________

ـ نذكر بعضها تطفّلا على من سبق ... ص ١١.

(١) نقل ـ خ : (د) كون ـ خ : (آ).

(٢) وممّا هو بديهي من حالات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعلوم بالضرورة من تاريخه الواضح المكشوف عند المسلمين وغيرهم ـ وقد ضبطوا تواريخه من حال طفوليته إلى آخر أيام حياته المقدّسة بحيث لم يتيسّر ذلك لأحد من الأنبياء السالفين ـ أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلّم عند أحد من أهل زمانه لا في موطنه الحجاز ولا في غيرها ، ولذلك لم يتفوّه بذلك أحد ممّن ألّف في تاريخ حياته المباركة مع كثرة كتب التواريخ الاسلامية وغيرها ، ولكن من جنايات جمع من المستشرقين في هذه الأعصار المتأخرة وأذنابهم الخونة وهم عمّال الاستعمار الغاشم والسياسة الغاشمة الغربية وغرضهم التحامل على القرآن والإسلام ، حاولوا أن يشوّهوا تاريخ حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجعل الأفائك والمفتريات ، فنسبوا إليه أنّه تلقّى من الراهب في بصرى في سفره ـ

٢٩٠

__________________

ـ إلى سوريا علم التوراة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقرأ قبل القرآن كتابا ولم يكتب شيئا ، وقال سبحانه : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) العنكبوت : ٤٨.

فلو كان لما تخيّلوه واقعا لاعترضته قريش مع أنّه لم يصدر منهم في ذلك شيء أصلا وإلا لنقل ، ليت شعري من لم يقرأ لسان قومه ولم يكتب به ولم يحسن قراءة لغة أهله الذين نشأ بين أظهرهم ونصب أعينهم كيف تمكّن من قراءة التوراة بتلك الضخامة باللغة العبرية في زمن قصير وساعات قليلة وتلقّى علمها من الراهب «بحيرا» وليس هذا التخيّل الكاذب إلّا من الأفائك والتخيّلات الشيطانية الكاذبة التي ألقاها في روعهم (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) وليس لهم على هذا الادّعاء دليل إلّا أوهامهم وأكاذيبهم الفاضحة (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة ١٠.

قال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه معالم أصول الدين : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نشأ في مكّة وتلك البلدة كانت خالية عن العلماء والأفاضل ، وكانت خالية عن الكتب العلميّة والمباحث الحقيقية ، وأنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسافر إلّا مرتين في مدّة قليلة ، ثمّ إنّه لم يواظب على القراءة والاستفادة البتّة ، وانقضى من عمره أربعون سنة على هذه الصفة ، ثمّ إنّه بعد انقضاء الأربعين ظهر مثل هذا الكتاب عليه ، وذلك معجزة قاهرة ؛ لأنّ ظهور مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان الخالي عن البحث والطلب والمطالعة والتعلّم لا يمكن إلّا بإرشاد الله تعالى ووحيه وإلهامه ، والعلم به ضروري ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدم القراءة والمطالعة وعدم الاستفادة من العلماء ، وهذا وجه قوي وبرهان قاطع انظر هامش نقد المحصّل ، ص ٩١.

وقال في كتاب الأربعين : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما ظهر من قبيلة ما كانوا من أهل العلم ، بل كانوا من بلدة ما كان فيها أحد من العلماء ، بل كانت الجهالة غالبة عليهم ولم يتّفق له سفر من تلك البلدة إلّا مرّتين إلى الشام ، وكانت مدّة تلك السفرة قليلة ، ولم يذهب أحد من العلماء والحكماء إلى تلك البلدة حتّى يقال : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعلّم العلم من ذلك الحكيم ، فإذا خرج من مثل هذه البلدة ومن مثل هذه القبيلة إنسان من غير أن مارس شيئا من العلوم ولا تلمّذ لأحد من العلماء البتة ، ثمّ بلغ في معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه هذا المبلغ العظيم ، الذي عجز جميع الأزكياء من العقلاء عن القرب منه بل أقرّ الكل بأنّه لا يمكن أن يزداد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن ... ولم يقدر أحد أن يقول : إنّه طالع كتابا أو تلمذ لأستاذ ـ ص ٣١١ قلت : ليت الإمام الرازي كان حيّا في عصرنا التعيس حتّى يرى أنّ جمعا ممّن لا حياء لهم من المستشرقين حصل لهم القدرة من كثرة عدم الحياء أن يقولوا ويكتبوا على خلاف ما هو من البديهيات والضروريات كما عرفت.

٢٩١

الشريف المشتمل على العلوم النفيسة والمعاني الدقيقة ، وانضمّ إلى ذلك ظهور أمور خارقة للعوائد على يده وإخبارات عن الغيب (١) ومواظبة على مكارم الأخلاق ، بحيث لم يصدر عنه خلق ذميم قط ، وتقريرات شرعية يتمّ بها نظام النوع فلا شكّ أنّ هذه المجموعة على هذا الوجه أمر خارق للعادة لا يحصل (٢) إلّا بتأييد إلهي وتمكين ربّاني.

وأمّا الكبرى (٣) فلأنّه لو لم يكن صادقا لما جاز من الله تعالى خلق المعجز على يده مقارنا لدعواه ، والملازمة ظاهرة ، فإنّ العقل يضطرّ إلى تصديقه عند ظهور المعجز (٤) مقرونا بدعواه ، فلو كان كاذبا لكان سبحانه مصدّقا للكاذب ، لكن تصديق الكاذب مستلزم لتجهيل الخلق وإغرائهم بالقبيح وهو عليه تعالى محال كما مرّ.

لا يقال : نمنع أنّ الغرض من خلق ذلك تصديقه حتّى يلزم ما ذكرتم ، ولم لا يجوز أن يكون ابتداء عادة أو تكرار عادة متباعدة أو خلقها معجزة لنبي غيره في بعض أطراف المعمورة أو لملك أو كرامة لولي كما جوّزتم؟

سلّمنا لكن لم لا يجوز أن يكون كاذبا ، وخلقها الله على يده تشديدا للبلية ، بقوة الشبهة الموجبة للمحنة الموجبة للثواب كمتشابهات القرآن ، فإنّ الغرض من إيرادها شدّة الامتحان ، فيدعو ذلك العلماء إلى استخراج دقائقها فيضاعف ثوابهم؟

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ الضرورة قاضية بأنّه لمّا خلقها على وفق دعواه كان الغرض تصديقه ودفعه مكابرة ، وينبّه (٥) على ذلك بأنّ الملك العظيم لو جلس في محفل غاصّ فقام واحد وقال : يا أيّها الناس إنّي رسول هذا الملك إليكم ثمّ قال : يا أيّها الملك إن كنت صادقا في كلامي فخالف عادتك بالنزول عن سريرك أو وضع عمامتك عن رأسك ففعل ، فإنّ الحاضرين يضطرّون إلى تصديقه من غير خطور شيء من الاحتمالات.

__________________

(١) عن الغيب ـ خ : (د) عن علم الغيب ـ خ : (آ).

(٢) تحسن ـ خ : (آ).

(٣) أعني قوله : وكلّ من كان كذلك فهو نبي ـ انظر ص ٢٨٥ من الكتاب.

(٤) المعجزة ـ خ : (آ).

(٥) ننبه ـ خ : (آ).

٢٩٢

وعن الثاني بالمنع من جواز المحنة مطلقا ، بل إذا لم يشتمل على وجه قبح لا يمكن إزالته كالمتشابهات ؛ فإنّها يمكن رفعها بما علم ، نظرا من استحالة الجسمية عليه تعالى ، وأمّا إذا اشتملت كما نحن فيه فلا يجوز ، فلأنّا (١) لا نتمكّن من دفع وجه القبح هنا لا ضرورة ولا نظرا.

البحث الثاني : في أنّه مبعوث إلى كافّة الخلق ، ودليل ذلك إخباره عليه‌السلام بذلك المعلوم تواترا مع ثبوت نبوّته ، المستلزمة (٢) لاتّصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة ، من الكذب ، وخالف في ذلك بعض النصارى حيث زعم أنّه مبعوث إلى العرب خاصّة ، وهو باطل ؛ لأنّه لما سلّم نبوّته لزمه تصديقه في كلّ ما أخبر به ، ومن جملته عموم نبوّته كقوله في القرآن : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٣) (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٤) (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٥) وقوله عليه‌السلام : «بعثت إلى الأسود والأحمر(٦)».

ولا يرد كونه عربيا وقد قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٧) فلو أرسل إلى غيرهم لزم خطاب من لا يفهم ومخالفة الآية ؛ لإمكان الترجمة فيحصل

__________________

(١) فإنّا ـ خ : (آ).

(٢) المستلزم ـ خ : (د).

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٨.

(٤) الأنبياء ٢١ : ١٠٧.

(٥) الأنعام ٦ : ١٩.

(٦) انظر إلى كتاب المغني للقاضي عبد الجبار المعتزلي ، ج ١٦ ، ص ٤٢٤ طبعة مصر. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي وإنّ شريعتي رافعة لشريعة من قبلي» وأضف إلى ذلك أنّ كونه مبعوثا إلى كافة الخلق من الضروريات في الإسلام ، وعليه إجماع الأمّة الإسلامية كما صرّح به القاضي في الصفحة المذكورة ، وما حكاه عن بعض الشيعة من تجويزهم بعثة نبي ولعلهم كانوا من الغلاة كما أشار إليه القاضي أيضا وقد أبادهم الدهر ، وهم في عقيدة الشيعة الإمامية من الفرق المحكوم عليها بالكفر كالنواصب أعداء أهل البيت عليهم‌السلام.

(٧) إبراهيم ١٤ : ٤.

٢٩٣

الفهم ، وليس في الآية دلالة على منفعته (١) ؛ إذ لا يلزم من إرسال الرسل بلسان قومه أن لا يرسله إلى غيرهم بتفهيمهم بلسانهم.

وذكر القاضي في يأجوج ومأجوج وجهين :

أحدهما : أن لا يكونوا بمكلّفين وإن سمّوا مفسدين في الأرض.

وثانيهما : أنّهم مكلّفون وأنّ الدعوة (٢) بلغتهم لإمكان قربهم من السدّ وسماعهم من ورائه (٣).

فائدة : يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامّة للخلق ، ولقوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٤) وقوله عليه‌السلام : لا نبيّ بعدي.

البحث الثالث : في أنّه عليه‌السلام أفضل من غيره من الأنبياء ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : أنّه أكثر كمالات في القوة العلمية والعملية فيكون أفضل.

أمّا الصغرى فلأنّ العلوم الفائضة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نسبة لعلم غيره من الأنبياء إليها تحقيقا وفائدة ؛ ولأنّ شريعته عامة فتكون أكثر نفعا ، فيكون أتباعه أكثر عددا من أتباع غيره ، ولأنّ أخلاقه أشرف من أخلاق غيره ، ولورود التعبّدات في شرعه ، والأمر بمكارم الأخلاق فيه أكثر.

__________________

(١) منعه ـ خ : (آ).

(٢) الدعوى ـ خ : (آ).

(٣) غير خفيّ على الخبير أنّ الدعوة النبوية إلى الإسلام لم تكن دفعة واحدة في ابتداء ظهوره حتّى تبلغ على وجه الأرض كلّها في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الدعوة تدريجية ، كما أنّ بيان الأحكام كان على التدريج ، قال سبحانه : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فمن بلغ إليه الإسلام تدريجا منذ ظهوره إلى يومنا هذا ولو كان في أدنى الأرض وأقصاها ، فتتمّ عليه الحجة ولا بد له أن يؤمن به ويصادعه وما جاء به من عند الله تعالى ، فالدعوة تبلغ على نحو التدريج وعلى مرّ الزمان وتعاقب الملوان.

وأمّا تحقيق المراد من «يأجوج ومأجوج» فليس هنا موضع بيانه ، ومهما يكن المراد فقد بلغ إليهم الإسلام تدريجا قطعا ، فلا حاجة إلى الاحتمال الذي ذكره بقوله : لإمكان قربهم من السدّ ...

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٤٠ ـ الخاتم والخاتم ـ بالفتح والكسر ـ عاقبة كل شيء ـ خاتم النبيين : أي آخرهم.

٢٩٤

وأمّا الكبرى المضمرة فبيّنة ؛ إذ لا نعني بالأفضل إلّا الأكثر كمالا (١).

الثاني : قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٢) أمر بالاقتداء بهديهم المشترك بينهم ، فيجب أن يأتي بكلّ ما أتى به كلّ واحد منهم ، فيحصل (٣) على مثل كمالات جميعهم فيكون أفضل من كلّ واحد.

الثالث : قوله عليه‌السلام : «أنا أشرف البشر» وقوله : «أنا سيّد ولد آدم» وكذا قوله: «آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة».

البحث الرابع : في أنّه عليه‌السلام لم يكن (٤) متعبّدا قبل النبوّة بشرع من قبله من الأنبياء ، فيما عدا الأمور الكلية والقواعد الحقيقية التي اتّفقت الأنبياء عليها ودلّت عليها البراهين ، كالتوحيد والعدل والقول بالمعاد واستكمال النفوس بالعلوم والكمالات ومكارم الأخلاق ، وذلك هو المشار إليه بقوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وبقوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٥) فنعم (٦) ولكن تعبّده بها لا من حيث إنّهم تعبّدوا بها ، بل من حيث إنّها كمالات في أنفسها.

وأمّا الفروع المختلفة في الشرائع فأكثر المحقّقين على أنّه لم يكن متعبّدا بها أيضا ، واستدلّوا بوجهين :

الأوّل : أنّ ما عدا شرع عيسى فإنّه كان منسوخا به ، وأمّا شرعه (٧) فأكثر الناقلين له كانوا كفّارا ملاحدة ، كما حكينا عنهم في باب الاتّحاد ، والسالمون من ذلك كانوا في

__________________

(١) كمالات ـ خ : (آ).

(٢) الأنعام ٦ : ٩٠.

(٣) فيحصل ـ إلى قوله : من كلّ واحد ـ خ : (د).

(٤) إنّه عليه‌السلام هل كان ـ خ ل ـ خ : (د) خ : (آ).

(٥) الأنعام ٦ : ١٦١.

(٦) فنعم ـ خ : (آ) هذه الكلمة بناء على أنّ العبارة في أوّل الكلام أنّه عليه‌السلام هل كان متعبّدا.

(٧) وأمّا شريعته ـ خ : (آ).

٢٩٥

غاية من القلّة لا يفيد قولهم علما (١).

الثاني : أنّه لو كان متعبّدا بشريعة من الشرائع لاشتهر ذلك ولافتخر به أربابها ؛ لأنّ ذلك مما تشتدّ الداعية إليه وإلى نقله ، لكنّه لم يشتهر ذلك ولم ينقل ، فلم يكن متعبّدا بشيء منها ، وهو المطلوب ، وأمّا بعد النبوّة فكذلك ، وتحقيقه في أصول الفقه (٢).

البحث الخامس : في أنّه لما ثبت نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجب أنّ كلّ ما جاء به من الأحكام وأخبر به أمّته من أحوال القرون الماضية وأخبار السماء وأحوال القيامة وكيفية حشر الأجساد والجنة والنار حقّ وصدق ؛ لإمكانه وإخبار الصادق بوقوعه.

ثمّ اعلم أنّ الحقّ عندنا أنّ شرعه محفوظ بالإمام المعصوم الذي لا يجوز خلوّ زمان التكليف منه ـ كما يجيء ـ فيتلقّاه المكلّفون منه حال الحضور ، وأمّا في الغيبة فأصول الشرع مضبوطة منقولة بالتواتر عن المعصوم ، وأمّا فروعه فمنها ما هو مأخوذ بالإجماع أو بطريق الآحاد الجامع للشرائط أو باستخراج الجزئيات من الأصول الكلية. وبيانه في أصول الفقه.

المطلب الرابع : في توابع مباحث النبوّة

وفيه فصول :

__________________

(١) وقد استدل بذلك الامام الرازي في كتابه معالم أصول الدين وقال : الحقّ أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول الوحي ما كان على شرع أحد من الأنبياء عليه‌السلام ، وذلك لأنّ الشرائع السابقة على شرع عيسى عليه‌السلام صارت منسوخة بشرع عيسى عليه‌السلام ، وأمّا شريعة عيسى عليه‌السلام فقد صارت منقطعة بسبب أنّ الناقلين عندهم النصارى ، وهم كفار بسبب القول بالتثليث ، فلا يكون نقلهم حجّة ، وأمّا الذين بقوا على شريعة عيسى عليه‌السلام مع البراءة من التثليث فهم قليلون فلا يكون نقلهم حجّة ، وإذا كان كذلك ثبت أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان قبل النبوة على شريعة أحد. انظر هامش نقد المحصل ، ص ١١١ طبعة مصر سنة ١٣٢٣.

(٢) وقد كتبنا حول هذا المطلب في إضافاتنا على كتاب جنّة المأوى على نحو التفصيل انظر ص ٣٣٠ ـ ٣٥٩ طبعة تبريز. وكتبنا أيضا حوله في كتابنا فصل الخطاب ، وهو مخطوط.

٢٩٦

الأوّل : الحقّ عندنا أنّ الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة وهو مذهب الأشاعرة أيضا.

لنا وجوه :

الأوّل : أنّهم يعبدون الله مع المعاوق الداخلي كالشهوة والغضب والقوى البدنية ، والخارجي كالأهل والولد بخلاف الملائكة ، فإنّهم مجبولون على الخير ، فيكون الأوّل أشقّ ، وهو ظاهر فيكون أفضل ؛ لقوله عليه‌السلام : «أفضل العبادة أحمزها» أي أشقّها.

الثاني : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (١) فيدخل الملائكة.

الثالث : أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وهو أعظم ما يكون من الخشوع ، وأمر العالي بذلك للسافل مناف للحكمة ، وأيضا فإنّه معلّمهم بقوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (٢) والمعلّم أفضل.

وخالف المعتزلة والحكماء محتجّين ، بأنّهم خير محض ونفوسهم خالية من القوى البشرية الشريرة كالشهوة والغضب بخلاف البشر ، وبأنّ علومهم أكمل لكون نفوسهم أقوى ، وبأنّ نسبة النفس إلى النفس كنسبة البدن إلى البدن ، ولا شكّ في أفضلية السماوات على أبداننا فنفوسها أشرف من نفوسنا ، وبأنّهم دائما في العبادة بقوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٣) ولقوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤) وتأخير النفي في مثل هذه الصورة يدلّ على الأفضلية كما يقال : لن يستنكف فلان من خدمة الملك ولا الأمير ، وبتلقّيهم العبادة أوّلا ؛ لأنّهم في العبادة أولى ، لأنّهم طرق تعليم الدين فهم أفضل ؛ لقوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٣٣.

(٢) البقرة ٢ : ٣٣.

(٣) الأنبياء ٢١ : ٢٠.

(٤) النساء ٤ : ١٧٢.

٢٩٧

الْمُقَرَّبُونَ) (١) ولقوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٢) ، ولأنّهم أعلم بالله ، لقول عليعليه‌السلام : هم أعلم خلقك بك وبتقديمهم في الذكر على الأنبياء في مواضع كثيرة في القرآن ، ويمكن التكليف لأجوبة هذه ، لكن الأولى عندي الاستدلال على المدّعى بإجماع الفرقة لدخول المعصوم عليه‌السلام فيهم.

ثمّ اعلم أنّ هنا فوائد :

الأولى : أنّ الملائكة عليهم‌السلام معصومون ، أمّا الرسل منهم فلأنّه لولاه لما أمن تغيير الشرع وتبديله ، وأمّا غيرهم فلقوله في الخزنة : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣) وكلّ من قال بها فيهم قال بها في غيرهم ، والإجماع.

الثانية : أنّهم أجسام شفّافة نورانية قادرة على التشكّل بالأشكال ، مجبولون على الخير والطاعة فاعلون لذلك اختيارا ؛ لدلالة النقل والإجماع على ذلك.

الثالثة : أنّ الأنبياء عليهم‌السلام يعلمون كون الآتي إليهم ملكا رسولا من عند الله بأمور :

الأوّل : أن يخلق الله تعالى فيهم علما ضروريّا بذلك.

الثاني : أن يخلق المعجز على يده ليدلّ على صدقه ، كما في حقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عندنا ، فيكون ذلك واجبا عليه تعالى وإلّا لكان ناقضا لغرضه.

الثالث : (٤) أن يعمل عملا يعلم به ذلك ككشف العورة ورأس المرأة ، فإنّ الملك

__________________

(١) الواقعة ٥٦ : ١١ ، ١٠.

(٢) الأنعام ٦ : ٥٠.

(٣) التحريم ٦٦ : ٦.

(٤) هذا الأمر الثالث ممّا لا وجه له ، ولعلّه مأخوذ من الخرافة التي نقلها جمع من العامة في ضمن الأحاديث الموضوعة ، التي اختلقوها في بعض كتبهم وتواريخهم ونسبوها إلى قدس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ابتداء زمان الوحي ، وذكروها بقولهم : وقالت خديجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما تثبته فيما أكرمه الله به من نبوّته : يا ابن عمّ أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال : نعم فجاءه جبرائيل فأعلمها ، فقالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها ، فقالت : هل تراه؟ قال : نعم قالت : فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى فجلس عليها ، فقالت هل تراه؟ قال : نعم فتحسّرت فألقت خمارها ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجرها ، ثمّ قالت : هل تراه ، قال لا : قالت : يا ابن عمّ اثبت وابشر فو الله إنّه ملك وما هو بشيطان. ورواه مؤرّخهم الكبير الطبري مع هذر كثير في تاريخه المشهور المشحون من الأباطيل والأكاذيب ، وهذه ـ

٢٩٨

لا يثبت حينئذ بخلاف الجنّ والشيطان.

الفصل الثاني : في النسخ ، وهو عبارة عن رفع حكم شرعي بحكم آخر شرعي متراخ عنه على وجه لو لا الثاني لبقي الأوّل ، وهو حق واقع ؛ لوجوه :

الأوّل : أنّ الأحكام شرعت لمصالح العباد على ما تقدّم ، والمصلحة لا يجب دوامها ، فلا يمتنع أن يصير ما هو مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر ، فيتغير الحكم المتعلّق بها وحينئذ يجوز نسخه ، وإلّا لكان التكليف به على تقدير صيرورته مفسدة تكليفا بالقبيح ، ومثاله في الواقع المريض المنتقل من مرض إلى آخر مخالف للأوّل في السبب والمادّة ، لو عولج في الثاني بعين ما عولج به في الأوّل لزم المفسدة ، وهو باطل.

الثاني : أنّه لما ثبتت نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا شكّ أنّ ذلك مستلزم لرفع كثير من أحكام الشرائع السابقة فقد وقع النسخ ، وذلك هو المطلوب.

الثالث : الإجماع واقع على أنّ آدم عليه‌السلام كان يزوّج الأخ بأخته ثمّ رفع ذلك (١).

__________________

ـ القصة الخرافية من جملتها ، وذكرها في الاستيعاب بترجمة خديجة عليها‌السلام.

قال بعض مشايخنا قدس‌سره بعد نقلها : إنّه لا يمكن أن يجهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه رسول الله ، وقد علم برسالته قبل وقتها الكهّان والرهبان ، ولو جهل بها لكان غيره أولى بالجهل بها في تلك الحال فيلغو فيها إرساله ، أيجوز أن يبعث الله من لا يدري برسالة نفسه ولا يعلم ما هو؟ وهو سبحانه قد آتى الكتاب عيسى عليه‌السلام وجعله نبيا وهو في المهد ، وعرّفه أنّه نبيّه وأنطقه برسالته ، ولا أرى أيّ نبوّة لمن يخشى على نفسه من رسول الله إليه ، وأيّ رسالة لمن يحقّقها بقول نصراني ويتعرّفها بقول امرأة حتّى تثبته عليها بذلك الطريق الوحشي ، ولعمري إنّ امرأة تثبت نبيا على نبوّته وتعلمه بها لأحقّ منه بالنبوّة ، وعلى ذلك يكون ورقة وخديجة أوّل الناس إسلاما والسابقين فيه ، حتّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا بالخرافات والكفر أشبه.

قلت : وللعامة روايات في باب بدء الوحي هي بالخرافات أشبه أيضا تركنا التعرّض لها هنا خوفا من الإطالة.

(١) التمسّك بالإجماع في المسألة التي لم ينكشف لنا حقيقتها يجلّ مقام المصنف (ره) عن ذلك ، ولعلّ نظره إلى أخذ اليهود بقولهم مع ما يستفاد من ظاهر القرآن الكريم في قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) النساء آية : ـ ١.

٢٩٩

__________________

فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أن بثّ الرجال والنساء كان من آدم عليه‌السلام وحوّاء حيث قال : وبثّ منهما ولم يقل : بثّ منهما ومن غيرهما. فالتوافق والاتّفاق حاصل بالنظر إلى ظاهر القرآن وقول اليهود : إنّ آدم كان يزوّج الأخ من أخته. ولا يمكن أن يكون الإجماع الذي ادّعاه المصنّف قدس‌سره إجماعا مصطلحا ، فإنّه لم يعلم دخول قول المعصوم فيه ، فإنّ كون الإجماع من الأدلة الأربعة حيث يعلم أو يكشف أنّ قول المعصوم في جملة المجمعين مع كون المسألة فرعية ، وأمّا في هذه المسألة لا نعلم دخول قول المعصوم فيهم مع ورود بعض الأخبار على خلاف هذا الإجماع المدّعى.

نعم الأخبار الواردة في كيفية ابتداء النسل من آدم عليه‌السلام وحوّاء ـ مع معارضتها في نفسها من الأخبار الآحاد ـ لا توجب علما بحيث لا يقبل الشكّ ويحصل منها القطع كما هو واضح بالوجدان.

وقد روى الشيخ الصدوق رحمه‌الله بإسناده إلى زرارة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن بدء النسل من آدم صلوات الله عليه كيف كان؟ ومن بدء النسل من ذرّية آدم فإنّ أناسا عندنا يقولون : إنّ الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج بناته من بنيه ، وإنّ هذا الخلق كلّه أصله من الأخوة والأخوات ، فمنع أبو عبد الله عليه‌السلام من ذلك. الحديث انظر الحديث في الأنوار النعمانية للمحدث الجزائري (ره) ، ج ١ ، ص ٢٦٣ طبعة تبريز.

وروي عن الباقر عليه‌السلام : أنّ حوّاء كانت تلد توأما كلّ بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوّج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر. والقرآن الكريم لم يكشف لنا حقيقة الأمر صريحا في هذا المطلب غير ما هو ظاهر الآية الشريفة كما عرفت ، فإنّه لا ثمرة عمليا واعتقاديّا مهمّة فيه. والآية الشريفة ليست من النصوص والمحكمات حتّى يحصل منها القطع ، ومن يدّعي من أهل الاعوجاج والسفهاء من غير أهل العلم والبحث بل من أهل الابتلاء بالأمراض الروحية ، أنّ كلّ القرآن الكريم قطعي الدلالة يكذّبه الوجدان السليم. وعلى فرض أنّه حصل لأحد القطع من دلالة كلّ الآيات القرآنية فله قطعه ، ولا يحصل من حصول القطع له لنا أيضا قطع. فهذا الادّعاء من بعض من لا يعبأ بقوله ، لا يسوى عندنا فلسا. لعنة الله تعالى على أعداء أهل البيت عليهم‌السلام قاطبة ، ومن أعدائهم هذا السفيه الناصبي.

وأمّا المحدّث الجزائري (ره) فعلى مسلكه الأخباري ، وتمسّكه بكل ما روى بطريق الآحاد حتّى في غير الفروعات والأحكام تمسّك بما رواه الشيخ الصدوق (ره) ، الذي أشرنا إليه ، وحمل ما ورد عن الباقر عليه‌السلام على التقية مع ادّعائه القطع في ذلك ـ انظر الأنوار النعمانية ، ج ١ ، ص ٢٦٤ طبعة تبريز.

وفيه نظر واضح ، فإنّه من أين يحصل لنا القطع بذلك؟ فإن حصل للمحدّث المعظّم المذكور قطع بهذا الحمل فله قطعه ولا يحصل لنا من قطعه قطع. والأخبار الواردة على خلاف ما روي عن الباقر عليه‌السلام أيضا آحاد لا توجب القطع ، مضافا إلى الإشكالات الواردة على ما تضمّنها من تزويج آدم أولاده من الحور والجني ، لعدم السنخية في التزويج بينهما وبين أولاد آدم عليه‌السلام في هذه النشأة الدنيوية ، وينبغي ملاحظة أسناد تلك الروايات وتحقيق أحوال الرجال الراوين لها.

وقال شيخنا الأستاذ كاشف الغطاء قدس‌سره : إنّ ما في بعض الأخبار من أنّ الله جلّ شأنه أنزل حوريتين

٣٠٠