اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (١) إلى آخرها ، فقد روي أنّه قال لربّه : قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنّك أعطيتني مثله ، قال تعالى : إنّي ابتليتهم بما لم ابتلك بمثله فإن شئت ابتليتك مثلهم ، قال : نعم قال : ستبتلى في يوم كذا وشهر كذا فلبث دهرا فتمثّل له إبليس في صورة حمامة من ذهب في غاية الحسن فوقعت في محرابه ، فأراد أخذها ليري بني اسرائيل قدرة الله تعالى ، فذهبت إلى الكوّة فقام ليأخذها ، وطارت من كوّة المحراب فنظر فإذا امرأة أوريا تغتسل فتعجّب (٢) من حسنها ، فالتفتت فرأته ، فنقضت شعرها فغطّى جميع بدنها فازداد تعجّبا ، قالوا : وكان عمره إذ ذاك سبعين سنة فأحبّ أن يقتل زوجها ليتزوّجها ، وكان مع ابن أخت داود عليه‌السلام في جيش ، وأنفذ إليه خاله أن قدّم اوريا أمام التابوت ، وكان في شرعه أنّ من تقدّم التابوت لا يرجع حتى يفتح على يده أو يقتل ، فتقدّم اوريا ففتح على يده فأرسل إليه ثانية : أن قدّمه إلى جيش كذا أعظم من الأول ففتح على يده ، فأرسل إليه ثالثة فقدّمه فقتل ، وتزوّج

__________________

(١) ص ٣٨ : ٢١ ذكر المصنف (ره) في كنز العرفان قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ثمّ قال : قيل : إنّها تدلّ على كراهية الدخول في سوم المؤمن ؛ لأنّ الأكثر على أنّ داود عليه‌السلام خطب على خطبة أوريا فعوتب على ذلك ج ٢ ، ص ٤٢.

وقد كتبنا في تعاليقنا على كنز العرفان : أنّ نسبة ذلك إلى الأكثر ، وتفريع أنّها تدلّ على كراهية الدخول في سوم المؤمن ، غير وجيه على مذهبنا ، وقد نسب في مجمع البيان هذا القول إلى الجبائي فقط وخطبة داودعليه‌السلام امرأة قد خطبها رجل من أصحابه وتقدّمه عليه وتزوّجها وإن لم يكن معصية ، ولكن في هذا العمل نفرة وخلاف مروّة واشمئزاز للنفوس لا يصدر عن الأنبياء عليهم‌السلام ، وفي قصة داود عليه‌السلام من الإسرائيليات وقصص التوراة المحرّفة شيء كثير لا يعبأ بها ؛ لمخالفتها القواعد المسلّمة في مذهب الإمامية في باب النبوّة من عصمة الأنبياء عليهم‌السلام عن المعصية كبيرة وصغيرة وعن الخطإ ، واستغفار داود عليه‌السلام حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والخضوع له والتذلّل بالعبادة والسجود ، وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم التي تتجدّد عليهم ، والمقصود من التوبة والاستغفار إنّما هو القبول. قيل في جوابه :

«فغفرنا لك» أي فعلنا المقصود به ، راجع في هذه القصة ما حقّقه السيّد علم الهدى قدس‌سره في تنزيه الأنبياء والطبرسي (ره) في مجمع البيان واغلب مطالبه في تحقيق القصّة مأخوذة عن تنزيه الأنبياء ، وراجع أيضا ما حقّقه سيدنا الأستاد العلّامة الطباطبائي دام ظلّه حول القصة في تفسير الميزان والله الموفق.

(٢) فعجب ـ خ : (آ).

٢٦١

داود عليه‌السلام بامرأته فولدت له سليمان عليه‌السلام فأرسل له الملكين في صورة الخصمين ليبكتاه (١) على خطيئته ، ويدل على ذلك قوله : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) إلى قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) (٢)

والجواب : أنّ هذه القصة كذب لا محالة لوجوه :

الأوّل : أنّ العقل يستقبح نسبة هذا الفعل إلى بعض أراذل الناس ممّن لا مزية (٣) له ، فكيف يجوز نسبته إلى أنبياء الله الذين فضّلهم وشرّفهم واصطفاهم على العالمين.

الثاني : ما روي عن علي عليه‌السلام أنّه قال : «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستّين جلدة» وهي حدّ الفرية على الأنبياء.

الثالث : أنّه تعالى ذكر داود عليه‌السلام بصفات المدح والثناء قبل هذه الآيات وبعدها ، فكيف يليق ذلك بمقام التبكيت والتأنيب (٤).

وبيان مدحه من وجوه :

الأوّل : قوله : (عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (٥) أي القوّة (٦) في الدين ؛ إذ الكفّار أولو قوّة في الدنيا فلا يكون ذلك مدحا ، وإذا كان قويّا في دينه كان معناه شدّة العزم على فعل الطاعة وترك المعصية.

الثاني : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (٧) (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (٨).

__________________

(١) ليذكراه ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) ص ٣٨ : ٢٤ و ٢٥.

(٣) توبة ـ خ : (د).

(٤) والتائب ـ خ : (آ).

(٥) ص ٣٨ : ١٧.

(٦) ذا القوة ـ خ : (د).

(٧) ص ٣٨ : ١٨.

(٨) ص ٣٨ : ١٩.

٢٦٢

الثالث : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) (١) وليس المراد كذا (٢) بالمال ؛ إذ هو من صفات الكفار.

الرابع : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٣) وهي جامعة للكمالات العلمية والعملية.

الخامس : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) (٤) والخلافة من أعظم المناصب خصوصا عقيب القصّة (٥).

السادس : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٦).

السابع : أنّه قد قيل في الآية والقصّة غير ذلك ممّا يوافق المعنى والمقام ، فلا يجوز العدول عنه إلى خلافه بما يمنعه الدليل ؛ فإنّ قول الملائكة : (خَصْمانِ) كذب وقوله : (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) كذب أيضا ، وحمل النعاج على النساء عدول عن الظاهر.

وأمّا ما قيل في القصة والآية فقيل : إنّ أهل ذلك الزمان اعتادوا أن ينزل بعضهم لبعض عن امرأته إذا أعجبته ، فاتّفق أنّ عين داود عليه‌السلام وقعت على امرأة أوريا فأعجبته فسأله النزول عنها فاستحيا أن يردّه ففعل فتزوّجها ، فقيل له : إنّك مع جلالة منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلّا امرأة واحدة النزول عنها. وقيل : خطبها أوريا ثمّ خطبها داود عليه‌السلام فآثره أهلها.

وقيل : إنّ الخصومة كانت على الحقيقة بين شخصين من الإنس ، وفيه وجهان : أحدهما : أنّ الخصومة كانت في الغنم ، وثانيهما : أنّ أحدهما كان موسرا وله نساء كثيرة سراري ومهاير ، والآخر معسر ليس له إلّا امرأة واحدة ، فاستنزله الموسر عنها.

__________________

(١) ص ٣٨ : ٢٠.

(٢) كذا ـ خ : (د).

(٣) ص ٣٨ : ٢٠.

(٤) ص ٣٨ : ٢٦.

(٥) وقت القصد ـ خ : (آ) و ـ خ ل ـ خ : (د).

(٦) ص ٣٨ : ٢٥ و ٤٠.

٢٦٣

وأمّا فزعه فلدخولهما عليه في غير وقت الحكومة ، وخاف أن يكونا مغتالين له ليقتلاه ، وبه فسّر بعضهم الآية ، وهو أنّهم تسوّروا قاصدين قتله ظنا منهم أنّه غافل ، فلما رآهم فزع ؛ لما تقرّر (١) في العرف أنّ أحدا لا يتسوّر دار غيره إلّا لقصد الإساءة به خصوصا إذا كان صاحب المنزل معظّما فلما رأوه مستيقظا اخترعوا (٢) حكومة ، وأنّهم قصدوه لأجلها ، والفرض عدمها.

وأمّا استغفاره فجاز أن يكون لغيره ؛ إذ ليس فيه إشعار بكونه لنفسه وذلك كاستغفار الأنبياء لأممهم والملائكة للمؤمنين.

سلمنا ، لكن جاز أن يكون على وجه الانقطاع إلى الله تعالى والتذلّل.

(وَخَرَّ راكِعاً) أي ساجدا فعلى وجه الشكر ، وإنابته هي رجوعه إلى عبادة ربّهم ؛ لأنّهم دخلوا عليه في وقت العبادة فشغلوه عنها ، وقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي لأجله على الوجه الأول ، وعلى الثاني أي قبلنا استغفاره ، وسمّى القبول غفرانا تسمية للشيء بمقابله كقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٣) وقول الشاعر :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فيجهل فوق جهل الجاهلينا

العاشرة : قصة سليمان عليه‌السلام ، وهي وجوه :

الأوّل : أنّه ترك الصلاة حتّى توارت الشمس أي غابت ؛ بسبب اشتغاله بحبّ الخيل(٤) ، وهي من أمور الدنيا ، حتّى قال بعض الحشوية : إنّه أمر بردّها وتقطيع سوقها وأعناقها والصدقة بها ؛ كفّارة لخطيئته.

والجواب : أنّا نفسّر الآية ونبيّن عود الضمير فيها على الوجه المطابق ثمّ نبيّن خطأ القائل.

__________________

(١) تقدر ـ خ : (آ).

(٢) الاختراع : الإيجاد مع سبق مدّة لا مادة ، وحمل الآية على اللصوص أولى من حملها على الملائكة ؛ لقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) والكذب من الظلم والمعاصي ـ هامش ـ خ : (آ).

(٣) النساء ٤ : ١٤٢.

(٤) الخير ـ خ : (آ).

٢٦٤

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه عليه‌السلام لما جلس لعرض الخيل عليه ، قال : إنّي أحببت حبّ الخيل (١) مبالغة في حبّه ؛ فإنّ الشخص قد يحبّ شيئا ولا يحبّ أن يحبّه ، وأمّا إذا أحبّه وأحبّ أن يحبّه فذلك مبالغة في حبّه وقال : إنّ ذلك عن ذكر ربّي ، أي هذه المحبّة بسبب ذكر ربّي وعن أمره لا عن هوى النفس ، فإنّ رباط الخيل مندوب إليه شرعا كما في شرعنا ، ثمّ أمر بإركاضها حتّى غابت عنه رياضة لها ، ثمّ أمر بردّها وجعل يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها ، أو إظهار الرحمة بها (٢) وشفقته ، أو لأنّها أعظم الأعوان في دفع العدو ، أو لاهتمامه بمصالح الدين والدنيا (٣) ، فعلى هذا يكون الضميران عائدين إلى الخيل ، ويكون الكلام آخذ بعضه بحجزة بعض (٤).

وأمّا الثاني ، وهو عود الضمير إلى الشمس الذي هو مبنى الشبهة فغير صحيح.

أمّا أوّلا ؛ فلأنّه عود إلى غير مذكور ، وهو خلاف الأصل.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ ذلك يقتضي عود الضمير في ردّها إلى الشمس أيضا ، ليكون الكلام مرتبطا (٥) بعضه ببعض ، وذلك باطل لقوله : ردّوها ، فظاهره خطاب العارضين للخيل وهم لا قدرة لهم على ردّ الشمس ، وخطاب الله به غير لائق بخطاب الأنبياء له تعالى.

الثاني : قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) (٦) قيل : إنّ جنّا اسمه صخر تمثّل بصورته ، وجلس على سريره ، وأخذ خاتمه الذي فيه النبوة ، وألقاه في البحر فذهبت نبوّته ، فأنكره قومه حتّى عاد إليه من بطن السمكة.

والجواب : أمّا الآية ففيها وجوه :

الأوّل : المراد بالفتنة الابتلاء والامتحان ، بأن أمرضه مرضا شديدا ، وألقى جسده على كرسيه من شدّة المرض فصار كالميّت كما يقال : لحم على وضم وجسد بلا روح ،

__________________

(١) الخير ـ خ : (آ).

(٢) رحمته بها ـ خ : (آ).

(٣) الدنيا ـ خ : (د).

(٤) أي متناظم متناسق.

(٥) مرتبة ـ خ : ـ (د).

(٦) ص ٣٨ : ٣٤.

٢٦٥

على معنى شدّة الضعف ، وحذف الهاء مبالغة.

الثاني : قيل : إنّ سليمان عليه‌السلام قال : لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة فتلد كلّ امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله فطاف فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت بولد نصف غلام ، فجاءت إليه القابلة وألقته على كرسيه فكان الابتلاء بترك الاستثناء.

الثالث : قيل : إنّه عليه‌السلام ولد له غلام فخاف عليه من الشيطان ، وأمر السحاب فحملته وأمر الريح أن يحمل إليه غذاءه ، فمات الولد وألقي ميّتا على كرسيه.

وأمّا الحكاية الخبيثة وكتاب الله ونبيه مبرّءان منها ؛ لأنّ النبوّة لا تكون في خاتم ولا يسلبها الله تعالى عن أهلها ، ولا يجوز أيضا تمكين الجنّي من التشبيه بصورة سليمان والتلبيس على قومه.

الرابع : قول سليمان عليه‌السلام : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (١) وهذا فيه إشعار بالحسد.

والجواب من وجوه :

الأوّل : أنّه طلبه ليكون معجزة له في ذلك الزمان وأهله كانوا يتنافسون (٢) في الملك والمال والجاه ، ومعجزة كلّ نبي من جنس ما يعجز به أهل زمانه ، أي أعطني ملكا لا ينبغي(٣) حصوله لأحد من أهل زماني.

الثاني : أنّه ليس في الآية إشعار بملك الدنيا فجاز أن يكون ملك الآخرة ، أي ملكا لا ينتقل عنّي لما علم عند مرضه أنّ ملكه ينتقل عنه إلى غيره ، فلمّا رجع إلى الصحّة سأل ذلك.

الثالث : أنّه لما تقرّر عند أكثر الناس أنّ الاشتغال بالملك يلهي عن الطاعة والإقبال عليها ، فسأل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ويكون مع ذلك غير مشتغل عن الطاعة.

__________________

(١) ص ٣٨ : ٣٥.

(٢) يتباهون ـ خ : (آ).

(٣) لا يمكن ـ خ : (آ).

٢٦٦

الحادية عشرة : قصة يونس عليه‌السلام ، وهي وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) (١) والغضب إمّا على الله أو على قومه أمر بدعائهم إلى الإيمان ، وكلاهما ذنب عظيم.

والجواب : لعلّ غضبه على قوم من الكفّار لم يقبلوا قوله.

الثاني : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) والشكّ في قدرة الله تعالى كفر.

والجواب أنّه أراد أن لن يضيّق عليه كما في قوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٢) و (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٣).

الثالث : قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٤) وذلك اعتراف بالظلم.

والجواب : أي في ترك الأفضل.

الرابع : قوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٥) نهى نبيّنا عليه‌السلام عن مثل (٦) فعله فدلّ على أنّ فعله ذنب.

والجواب : لا تكن كهو في ترك صبره الذي هو أفضل من عدمه.

الثانية عشرة : قصّة لوط عليه‌السلام وهي قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (٧) (هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٨) عرض بناته للفاحشة وهو كبيرة.

والجواب : المراد بناتي اللاتي لم (٩) يحكم (١٠) المتابعة في الدين ؛ إذ الإضافة تصدق بأدنى سبب ككوكب الخرقاء ، على أنّا نمنع تعريضهم للفجور بل رجّح النساء على الغلمان.

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٨٧.

(٢) الفجر ٨٩ : ١٦.

(٣) الرعد ١٣ : ٢٦ ؛ الإسراء ١٧ : ٣٠ ؛ الروم ٣٠ : ٣٧ ؛ سبأ ٣٤ : ٣٦ ؛ الزمر ٣٩ : ٥٢ ؛ الشورى ٤٢ : ١٢.

(٤) الأنبياء ٢١ : ٨٧.

(٥) القلم ٦٨ : ٤٨.

(٦) عن فعل ـ خ : (آ).

(٧) هود ١١ : ٧٨.

(٨) الحجر ١٥ : ٧١.

(٩) لم ـ خ : (د).

(١٠) بحكم ـ خ : (آ).

٢٦٧

الثالثة عشرة : قصّة زكريا عليه‌السلام ، وهي أنّه تضرّع في طلب الولد فلمّا بشّر به شرع يتعجّب في (١) إمكانه حال كبره وعقم زوجته (٢) وهو شك في قدرة الله تعالى.

والجواب : أنّه بشّر حال انقطاع رجائه ففرح وزاد فرحه ، فسأل عن الكيفية والكمية ليسمع البشارة مرّة أخرى فيزداد سروره.

الرابعة عشرة : قصّة عيسى عليه‌السلام ، وهي وجوه :

الأوّل : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) (٣)؟ إن كان قد قال ذلك فذلك ذنب عظيم ، وإن لم يقل فالسؤال عبث منه تعالى.

والجواب : أنّه لم يقع منه ونمنع العبثيّة ، بل ذلك تقريع لمن قال ذلك من النصارى كما قيل : إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

الثاني : (لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٤) والنفس هي الجسد فقد أوهم إطلاق الجسمية عليه تعالى وأيضا كلمة «في» للظرفية ، وهي لا تعقل إلّا للأجسام.

والجواب : المراد الذات والظرفية مجاز.

الثالث : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) (٥) والغفران للكافر غير جائز.

والجواب : المراد من هذا تفويض الأمر إليه تعالى بالكلّية.

الخامسة عشرة : قصّة سيد الأنبياء عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهي وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٦).

والجواب : أنّه معارض بقوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٧) فيجب تأويل الأوّل بوجوه :

__________________

(١) من ـ خ : (آ).

(٢) امرأته ـ خ : (آ).

(٣) المائدة ٥ : ١١٦.

(٤) المائدة ٥ : ١١٦.

(٥) المائدة ٥ : ١١٨.

(٦) الضحى ٩٣ : ٧.

(٧) النجم ٥٣ : ٢.

٢٦٨

الأوّل : وجدك ضالّا في أمر الدنيا وتصرف المعاش فيها ومخالطة الخلق.

الثاني : وجدك غافلا عن وصول مقام النبوّة إليك لقوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (١) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) (٢) والضلال يستعمل في ذلك لقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) (٣)

الثالث : ضالّا في طريق مكّة عن الهجرة.

الرابع : ضالّا في شعاب مكّة أيام جدّك عبد المطلب ، حين (٤) خرجت عنه فردّك إليه عدوّك أبو جهل ، وهذه نعمة يمنّ بها.

الخامس : وجدك ضالّا حين خرجت مع عمّك أبي طالب عليه‌السلام إلى الشام في ليلة ظلماء ، فأخذ إبليس (٥) بزمام ناقتك وعدل (٦) بك عن الطريق ، فجاء جبرائيل عليه‌السلام فنفخه نفخة وقع منها إلى الحبشة ، وردّك إلى عمّك (٧).

__________________

(١) يوسف ١٢ : ٣.

(٢) الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٢.

(٤) حتّى ـ خ : (آ).

(٥) فجاء إبليس وأخذ ـ خ : (آ).

(٦) فعزل بها ـ خ : (آ).

(٧) التحقيق أن يقال : ووجدك ضالّا فهدى. المراد بيان حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه مع قطع النظر عن هداية الله تعالى له ، فلا هدى له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا لأحد من الخلق إلّا بالله سبحانه ، فقد كانت نفسه في نفسها ضالّة وإن كانت الهداية الإلهيّة ملازمة لها منذ وجدت وخلقت ، فالآية في معنى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الشورى ٤٢ : ٥٢ يعني أوحينا إليك الروح بأمر من عندنا فأنت تدري بسببه الكتاب والايمان وتدعو الناس إليهما ، وهما ليسا ممّا أدركته بنفسك وأبديته بعلمك ، بل أمر من عندنا منزل إليك بوحينا ، ولو لا وحينا إليك الروح لما كنت تدري بنفسك ذاتا ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن أوحينا إليك الروح بأمر من عندنا منذ وجدت نفسك فمنذ وحينا إليك ـ الروح ـ أنت عالم بالكتاب والإيمان فإنّ العلم بهما ملازم وحينا إليك الروح.

فالآية لا نظر فيها إلى قبل البعثة وبعدها ، وإنّما هي مسوقة لبيان أنّ ما عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يدعو الناس إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه المقدّسة ، فإنّها في نفسها لا علم لها ولا هداية فيها بذاتها بل حصل لها العلم بالكتاب والإيمان بسبب وحي الله تعالى الروح إليها.

٢٦٩

الثاني : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِه

__________________

فالاستدلال بآية الشورى ٥٢ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن متلبّسا بالإيمان قبل البعثة مدفوع بأنّه لا دلالة في الآية على ذلك فإنّك عرفت أنّ الآية مسوقة لبيان ما ذكرناه وتلوناه عليك آنفا.

فالآية لا دلالة فيها على عدم كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤمنا بالله تعالى موحّدا قبل البعثة صالحا في عمله وعاملا بشريعة نفسه المقدّسة ، كما عليه إجماع الشيعة الإماميّة ، فإنّه كان يوحى إليه بأشياء تخصّه ، وكان يعمل بالوحي لا اتباعا لشريعة وأنّه ولد نبيّا ، بمعنى كان فيه جميع كمالات النبوّة وأوصاف الرسالة من حين الولادة بل وقبلها في عالم النورانية ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين كما رواه الفريقان.

وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، فعلى ما بيّناه في تفسير الآية الشريفة يجمع بينها وبين الأخبار الواردة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الروح مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّةعليهم‌السلام من بعده ، وأنّ المراد من الروح في الآية هو الروح القدس وهو معهم عليهم‌السلام وفيهم كما في التعبيرات الواردة في الأحاديث ، فراجع.

وأمّا القول بأنّ المراد من الروح هو جبرائيل فهو يستلزم المجاز بأن يكون (أَوْحَيْنا) بمعنى أرسلنا فلا يصار إليه من غير دليل ، مضافا إلى أنّ حمل (أَوْحَيْنا) على الحقيقة مع القول بأنّ المراد من الروح هو جبرائيل لا يستقيم ؛ فإنّ جبرائيل هو واسطة الوحي لا أنّه الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه لا معنى له كما بيّناه في جنّة المأوى فلاحظ ص ٣٣٧ ـ ٣٣٦.

وأمّا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) سورة يوسف آية ٢ فالغفلة في اللغة : غيبة الشيء عن البال وعدم التوجّه إليه بعد العلم به لا الجهل به بتاتا ، والغفلة عن الشيء : تركه وأنت له ذاكر ، فمعنى الآية الشريفة : نحن نقص عليك أحسن القصص ، أي القرآن أو قصة يوسف كما هو الظاهر بوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبل الوحي لمن الغافلين ، أي لم يكن لك قبل الوحي توجّه إليه ، فإنّك كنت عالما بالقرآن المنزل عليك دفعة واحدة في ليلة القدر ، ولكن كنت في غفلة من ذلك بعدم التوجّه منك إليه قبل نزول الوحي عليك ، وتوجّهت بنزول القرآن تدريجا إلى ما كنت عالما به من قبل ، ولكن كنت غافلا بعدم التوجّه منك إليه. وليست في الآية دلالة على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جاهلا به قبل البعث على الرسالة وإظهار النبوّة بل في التعبير بالغفلة بقوله : (لَمِنَ الْغافِلِينَ) دلالة على ما بيّناه.

فمن باب المثال نقول : إنّ الناظر إلى المرآة ينظر إلى صورته فيها غافلا عن نفس المرآة ، بعدم توجّهه إليها مع علمه بها فلا يقال : إنّ الناظر لا علم له بها أصلا بل له العلم بها وينظر إلى الصورة ، ولكن لا يتوجّه إلى نفس المرآة.

وأمّا نزول القرآن دفعة واحدة إلى رسول الله في ليلة القدر ثمّ نزوله تدريجا في مدّة ثلاث وعشرين سنة فهو الظاهر المكشوف من القرآن الكريم ومن السنة المروية عن العترة الطاهرة سلام الله عليهم. وأمّا ما تفوّه به بعض الجهّال من إنكار ذلك فهو ممّا لا يعبأ به كما هو مبيّن في محلّه.

٢٧٠

فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) (١) ورد (٢) أنّ سببها أنّه عليه‌السلام تمنّى التقرّب إلى قومه بما يسرّهم ، فلمّا قرأ في النجم (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٣) ألقى الشيطان في قراءته تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى ، فسرّت بذلك قريش وقالت : ذكر آلهتنا بأحسن الذكر ، فلمّا وصل السجدة سجد هو والمسلمون وتبعهم المشركون أيضا لسرورهم ، فجاء جبرائيل عليه‌السلام فأخبره بذلك فحزن ، فأنزلت الآية في الحجّ تسلية له ، وذلك صريح في تمنّي الإضلال الذي هو بصدد خلافه.

والجواب : أنّ نسبة هذه الحكاية إليه عليه‌السلام فظيع شنيع (٤) خصوصا مع وقوع الاتّفاق على وجوب العصمة في تبليغ الرسالة ولو سهوا ، وهذا من جزئياته ، فيكون ذلك الكلام الذي وقع إمّا منه كذبا أو منه تعالى ، والقسمان باطلان اتّفاقا فيحتاج في تتمّة الجواب إلى أمرين :

الأوّل : بيان حال آية النجم فنقول : تقرّر في الأصول أنّ خبر الواحد إذا اقتضى علما وفي الأدلّة القطعية مخالفته (٥) يجب ردّه ، وإلّا لكان تكليفا بالمحال ، وهذا الوارد من هذا القسم لمخالفته الأدلّة القاطعة بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام فيجب ردّه.

أمّا على تقدير تسليم الخبر فيمنع (٦) أنّه عليه‌السلام هو القائل لذلك ، لجواز أن يكون القائل بعض المشركين القريبين من مكانه فاشتبه بقوله ؛ وذلك لأنّه لما قرأ أوّل الآية وذكر آلهتهم توهّموا أنّه يذكرها بعد ذلك بما يسرّهم (٧) لما جرت عادته به ، فقال ذلك معارضا لهعليه‌السلام ،

__________________

(١) الحج ٢٢ : ٥٢.

(٢) ورد ـ خ : ـ (آ) ـ خ : (د) وفي ـ خ : ـ (د) علامة التشديد. والظاهر أنّه اشتباه من النساخ والصحيح : وورد أنّ سببها ... كما يظهر ما ادّعيناه من تنزيه الأنبياء للسيد قدس‌سره انظر ص ١٠٩ طبعة تبريز سنة ١٢٩٠.

(٣) النجم ٥٣ : ٢٠.

(٤) فظيع شنيع ـ خ : (د). تشنيع ـ خ : (آ).

(٥) مخالفة ـ خ : (آ).

(٦) فيمتنع ـ خ : (آ).

(٧) يسؤهم ـ خ : (آ).

٢٧١

أو أنّ القائل هو الشيطان. سلّمنا أنّه هو القائل لكن الغرانيق هي الملائكة ، ولذلك قيل : إنّه كان قرآنا ، فلمّا توهّم المشركون قصد آلهتهم به نسخ تلاوته ، والغرانيق جمع غرنوق وهو الحسن الجميل.

الثاني : أنّ (١) آية الحجّ ليس فيها دلالة على التسلية ؛ لأنّ التمنّي يحتمل وجهين.

الأوّل : التلاوة ، قال حسان :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر (٢)

فعلى هذا يكون المراد (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرّفوه وبدّلوه وزادوا ونقصوا ، كما فعلت اليهود بالتوراة ونسبته إلى الشيطان ؛ لأنّه وقع لوسوسته فينسخ الله ما يلقي الشيطان بإظهار حجّته وبيّناته على ألسنة رسله ، وليس ذلك صريحا في التسلية.

الثاني : تمنّي النفس ، وحينئذ يكون المراد أنّ فطرة الأنبياء والرسل ليست خارجة عن فطرة الإنسان ، الذي له قوى كثيرة منها المتخيّلة التي من شأنها التركيب للصور والمعاني ، فتحملها (٣) تارة كلّية وتارة في المواد الجزئية ثمّ تنتقل إلى الحس المشترك ومنه إلى الحواس الظاهرة ، ثمّ إنّ تلك الصور قد تحصل من جوهر شريف كجبرائيل فإن كان في المنام فرؤيا صادقة وفي اليقظة وحي ، وقد يحصل من الطبيعة بسبب الإدراكات الحسية المعبّر عنها بالشيطان ، أو يحصل من الشيطان نفسه في حقّ الأنبياء من غير إذعان منهم لذلك ولا جزم به فينسخ ذلك بالوحي والإرشاد إلى مخالفته ، وليس فيه أيضا تصريح (٤) التسلية بل ولا نسبة له إلى نبينا عليه‌السلام على الوجهين :

الثالث : قوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ

__________________

(١) ان ـ خ : (آ).

(٢) المعابر ـ خ : (آ). المفاوز ـ خ : (د) وما أثبتناه في المتن فهو من تنزيه الأنبياء للسّيد قدس‌سره.

(٣) فتحكيها ـ خ : (د).

(٤) صريح ـ خ : (آ).

٢٧٢

اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (١) الآية. وجه الاعتراض : أنّهم قالوا : إنّه تعالى عاتبه على إضمار شيء كان ينبغي إظهاره ، وإنّه راقب من لا ينبغي مراقبته ، وذلك لا يكون إلّا عن ذنب.

وأيضا نقل عن بعضهم أنّه عليه‌السلام نظر إلى زينب امرأة زيد فهواها وأخفى ذلك ، فمنهم من قال : إنّها حرمت بذلك على زيد. وقيل : بل وجب عليه تطليقها ابتلاء له.

والجواب عن الأوّل بالمنع من دلالة الآية على العتاب على ذنب ؛ لأنّ ما يوهم ذلك وهو قوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) إخبار محض بأنّه عليه‌السلام أخفى شيئا والله تعالى أبداه ، وذلك ليس صريحا ولا ظاهرا في الذنب ، وكذا قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) إخبار أيضا بأنّه عليه‌السلام يخشى الناس والله أحقّ بالخشية ، وفي قوله (أَحَقُ) دلالة على حقيقة خشية الناس وأنّها ليست أمرا باطلا ؛ لأنّ أفعل التفضيل يقتضي ذلك ، ولم يخبر أنّه لم يفعل ما هو الحقّ ، وأنّه عدل عنه إلى غيره حتّى يكون عتابا.

مع أنّه يحتمل أن يكون المراد ليس خشية التقوى ؛ لأنّه عليه‌السلام كان يتّقي الله حقّ تقاته ، بل المراد خشية الحياء ؛ لأنّ الحياء كان غالبا عليه كما قال : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ). (٢)

وعن الثاني بالمنع من القصّة ؛ فإنّه أمر شنيع لا يقوله في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أعداؤه الذين يريدون التنفير عن متابعته كاليهود ، مع أنّه عليه‌السلام منزّه عن الصفات المنفّرة ـ كما يجيء ـ التي من جملتها هذه الحالة.

وقولهم بأنّها حرمت على زيد بمجرّد ذلك يلزم منه أن يكون أمره له بالإمساك أمرا بالزنا ، هذا مع أنّه قيل في الآية والقصة وجوه :

الأوّل : أنّه تعالى أراد نسخ تحريم أزواج الأدعياء كما هو عادة الجاهلية ، فأوحى إليه أنّ زيدا يطلّق زوجته فإذا طلّقها تزوّج أنت بها ، فلمّا حضر زيد ليطلّقها أشفق عليه‌السلام

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٧.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

٢٧٣

من أنّه لو طلّقها لزمه نكاحها ، فيطغى المنافقون عليه فأمره بالإمساك ظاهرا وأخفى عزمه على نكاحها ، وهذا مطابق لقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) (١).

الثاني : أنّ زيدا خاصم زوجته ، وهي بنت عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرف على تطليقها ، فهمّ عليه‌السلام على التزويج بها إذا طلّقها ليضمّ قرابته (٢) إليه صلة لها ؛ فإنّها لمكان شرفها لحقها عار من أهل الدنيا بسبب زواجها بزيد ، وهو مولى فأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جبرها بنكاحه لها وأخفى ذلك اتقاء من المنافقين فعاتبه على ذلك.

الثالث : أنّ زينب في أوّل أمرها رغبت في نكاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا خطبها لزيد شقّ عليها وعلى أهلها ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) (٣) الآية فأجابوا على كراهة ، فلما دخل بها زيد نشزت عنه ، لاستحكام طمعها في الرسول عليه‌السلام واستحقار زيد ، فشكاها إليه عليه‌السلام ، فأمره عليه‌السلام بإمساكها ، وأخفى استحكام طمعها فيه ؛ لأنّه لو أظهره له لتنغّصت عليه تلك النعمة.

الرابع : قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) ـ إلى قوله ـ : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤) قالوا : نزلت هذه عتابا له في أخذ الفداء في أسرى بدر وإنّه لم يثخن في الحرب ، ولو لا الذنب لما عوتب.

والجواب : أنّ العتاب على ترك الأفضل وهو الإثخان وترك أخذ الفداء ، ولو لا ذلك لما استشار أصحابه كما نقل ، وقوله : (لَوْ لا كِتابٌ) إلى آخره ، أي لو لا كتاب من الله سبق بتحليل الغنائم لمسّكم عذاب بأخذها ، والخطاب في ذلك وفي قوله : (تُرِيدُونَ) لأصحابه ؛ لوروده بلفظ الجمع لآله (٥).

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٧.

(٢) قرابتها ـ خ : (د).

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

(٤) الأنفال ٨ : ٦٨.

(٥) يقال : إنّ لهم أن يقولوا : جاء الواحد في الكتاب بلفظ الجمع نحو قوله تعالى : (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله («إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً») ونحو ذلك ـ كذا في هامش ـ خ : (آ).

٢٧٤

الخامس : قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (١) والعفو لا يكون إلّا عن ذنب.

والجواب : أنّ ذلك تلطّف في الخطاب كما يقال : أرأيت رحمك الله؟ لو كان كذا لا يمكن إلّا ذلك ؛ لأنّه تعالى عفا ثمّ عاتب ، وذلك غير مستحسن بل غير جائز ، هذا مع أنّ ترك الإذن كان أفضل فهو عتاب على ترك الأفضل.

السادس : قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٢) والوزر : الذنب.

والجواب : إن صحّ معناه الذنب فهو ترك الأفضل ، على أنّا نقول : الوزر هو الثقل كما قال سبحانه : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٣) فهو حقيقة فيه ، والذنب إنّما سمّي وزرا لثقله على فاعله ، وحينئذ يكون المراد ما كان فيه من الغمّ الشديد ، لإصرار قومه على الشرك ، لقوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٤) أو لاستضعاف قومه لقلّتهم فلما أعلى الله كلمته زال ذلك بدليل قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٥)

__________________

قلنا : ولنا أن نقول في جوابهم : إنّ الخطاب في (أَفِيضُوا) عام للمسلمين وغير مختصّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي أفيضوا من المزدلفة إلى منى أو الإفاضة من عرفات ، وعليه أكثر المفسّرين وهو الصحيح وعليه دلّت الأخبار ، والكلام معطوف على مقدّر أي أفيضوا من عرفات فإذا أفضتم منها الخ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فتكون «ثمّ» على حقيقتها لما في التراخي الزماني بين الافاضتين ، ويكون فيها دلالة على وجوب الوقوف بالشعر ؛ لأنّ الإفاضة إنّما يكون بعد الوقوف فيه ووجوب نزول منى ، على ما هو مشروح في محلّه.

وأمّا الآية الثانية والثالثة فليس فيها شيء من ألفاظ الجمع ، بل فيهما صيغة المتكلّم مع الغير من باب التعظيم كما هو واضح ، نعم في بعض الموارد يراد من الجمع الواحد إذا كان له قرينة كما في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) المائدة : ٥٥ وكقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ـ إلى قوله ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) المؤمنون : ٥١ ، ٥٤ بناء على ما قيل : إنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده ؛ إذ لا نبي معه ولا بعده.

(١) التوبة ٩ : ٤٣.

(٢) الشرح ٩٤ : ٣ ، ٤.

(٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٤.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٣.

(٥) الانشراح ٩٤ : ٤ ـ ٥.

٢٧٥

السابع : قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١).

والجواب : من وجوه : الأوّل : حمله على ترك الأفضل. الثاني : ذنب أمّتك. الثالث: أنّ الذنب مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وأخرى إلى المفعول ، وهاهنا أضافه إلى المفعول أي ذنبهم في حقّك ، أي يغفر لأجلك وببركتك ذنبهم المقدّم والمتأخّر (٢) ويقرب منه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣).

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ٢.

(٢) الأشبه بظاهر الكلام أن يكون المراد ما تقدّم من ذنبك ، أي الذنب إليك ؛ لأنّ الذنب مصدر ، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول ، ألا ترى أنّهم يقولون : أعجبني ضرب زيد عمروا إذا أضافوه إلى الفاعل وأعجبني ضرب عمرو زيد ، إذا أضافوه إلى المفعول ، ومعنى المغفرة على هذا التأويل يكون ببركتك ولأجلك وذنبهم في حقّه منعهم إياه عن مكّة وصدّهم إياه عن المسجد الحرام ؛ لأنّ المغفرة سبب في الفتح ، ولو كان المراد ذنبه لم يكن في الكلام فائدة في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) لأنّ المغفرة لذنوبه لا تعلّق لها بالفتح وليس تحرّضا فيه ، والمراد ما تقدّم ، أي ما تقدّم من زمانه من فعلهم القبيح وما تأخّر ، أي ما فعلوه في زمانه.

وفي سؤالات المأمون عن مولانا الإمام الرضا سلام الله عليه : فأخبرني عن قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). قال الرضا عليه‌السلام : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستّين صنما فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) فلمّا فتح الله عزوجل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة قال له : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر ؛ لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن. فأخبرني عن قول الله عزوجل : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ قال الرضا عليه‌السلام : هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جاره ، خاطب الله عزوجل ذلك نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأراد به أمّته. وكذلك قوله عزوجل : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقوله عزوجل : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً) قال المأمون : صدقت يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. انظر عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للشيخ الصّدوق قدس‌سره.

(٣) الأنفال ٨ : ٣٣.

٢٧٦

الثامن : قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (١) والمراد هو عليه‌السلام لقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (٢).

والجواب الحقّ : أنّ الضمير بغيره عليه‌السلام في حقّ ابن أمّ مكتوم ؛ لاستحالة العبوس (٣)

__________________

(١) عبس ٨٠ : ١ ، ٢.

(٢) عبس ٨٠ : ٣.

(٣) فإنّ العبوس منه صلى‌الله‌عليه‌وآله للفقراء قبيح لا يصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس الآيات الشريفة في سورة عبس ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّها خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، بل فيها ما يدلّ على أنّ المعنى بها غيره ، لأنّ العبوس ليس من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أعدائه وخصمائه فضلا مع المؤمنين من أحبائه ، وأضف إلى ذلك أنّ هذا الوصف لا يشبه أخلاقه الكريمة وقد عظم الله تعالى خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والآية واقعة في سورة «ن» وهي قبل هذه السورة أعني «عبس» فكيف يعقل أن يعظم الله تعالى خلقه في أول بعثته ثمّ يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمّه على عمله مع ابن أمّ مكتوم. وأضف أيضا كما أشرنا إليه : أنّ هذه الصفة قبيحة والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منزّه عنها ، فإن قبح ترجيح غنى الغني على كمال الفقير بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه ، قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنّب عنه إلى نهي لفظي ، فالعقل حاكم بقبحه ، ومعه ينافي صدوره من كريم الخلق ، وقد عظّم الله تعالى خلقه قبل ذلك إذ قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وعن الصادق عليه‌السلام على ما في المجمع : أنّها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء ابن أمّ مكتوم ، فلما رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره.

والعجب من بعض أبناء العصر تبعا لمن سبقه في الزمن الغابر حيث يصرّ أن يفسّر قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) .. على أنّ المراد هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعبوس صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو يحاول اثبات هذا القبيح للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع استحالة صدوره منه ، ويكتب ويسوّد في إثبات ذلك على زعمه أوراقا مبعثرة واستدلالات مزيفة مدّعيا أنّ الله تعالى عاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد كثيرة من القرآن الكريم وكذا في هذه السورة «عبس» وهو يزعم أنّ بإثبات العتاب يثبت المدّعى مع أنّه وقع في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن مضافا على العتاب التهديد أيضا بنحو القضية الشرطية كما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ... ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ») ولكن لا يثبت بذلك إثبات صدور القبيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحاول بعض أبناء العصر إثباته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكتب ما لا طائل تحته كلّ هذا الصنيع منه ، دفعا لهذا القبيح عن رجل من بني أمية تلك الشجرة الملعونة ، وليس ذلك إلّا من خبث الطينة وسوء السريرة.

والعجب عن بعض أهل التفسير مع نقله عن سيّد الأمة علم الهدى قدس‌سره إنكاره صدور العبوس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومع ذلك يفسر الآيات بكون النبي هو المعنيّ بها فنقول : إنّ هذا منه ذهول فإنّ من ذا الذي يقول ـ وهو من أصحاب العقول : إنّ هذه الصفة القبيحة صادرة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عصمنا الله تعالى عن الخطإ ـ

٢٧٧

والتصدّي للأغنياء والإعراض عن الفقراء والتلهّي عنهم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع وصفه ب (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وكيف يصحّ (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) مع أنّه مبعوث للدعاء إلى الله.

التاسع : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) الآية (١) والتوبة لا تكون إلّا عن ذنب ، وكذا قوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) (٢) والجواب : حمله على ترك الأفضل.

العاشر : قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٣).

__________________

ـ والزلل في القول والعمل ، والله العاصم.

وقال فخر الدّين الرازي في كتابه الأربعين ما هذا لفظه : إنّه أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أقدم على فعل قبيح لا قبل النبوّة ولا بعدها ـ انظر إلى ص ٣٠٩ طبعة حيدرآباد.

وقال العلّامة المتكلّم الكبير ابن أبي جمهور الأحسائي (ره) في كتابه «معين المعين» ـ المخطوط ـ : والعتاب في عبس على ترك الأفضل ، والصحيح أنّه في غيره في حقّ ابن أمّ مكتوم ، لاستحالة العبوس والتصدّي للاغنياء والإعراض عن فقراء المؤمنين والتلهّي عنهم مع وصفه في الخلق العظيم ، وكيف يصحّ «وما عليك ألّا يزكّى» وهو مبعوث للدعاء؟ ثم قال في الشرح : بل الصحيح أنّ هذه السورة في رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ ابن أمّ مكتوم وقع منه هذا الفعل إليه وكان أعمى ، ونحن لمّا شككنا في عين من نزلت فيه هذه الآية فلا ينبغي لنا أن نشكّ في أنّها لم يعن بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيّ تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهّي عنهم والإقبال مع الأغنياء الكافرين والتصدّي لهم ، وقد نزه الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا هو دون هذا في التنفير فكيف هذا ، انتهى. والنسخة المخطوطة موجودة في مكتبتنا.

أقول : وما ورد في بعض الروايات من أنّ صدور هذا العمل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ابن أمّ مكتوم إنّما كان لتأليف قلوب عدّة من الكفار المشركين طمعا في إيمانهم ، كما في عدّة من الروايات المروية في الدر المنثور للسيوطي عن عائشة وأنس وابن عباس (ره).

وأورد الشيخ الطبرسي (ره) محصّل تلك الروايات في مجمع البيان ، فممّا لم تثبت عندنا صحّتها ، والقصة تنافي حكم العقل باستحالة صدور القبيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالتمسّك بقصة لم تثبت صحّتها لا تكون دليلا على المطلب مع مخالفتها بما يستفاد من سائر الآيات القرآنية كقوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر : ٨٨. وقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الحجر : ٩٤ النازلة في أول الدعوة النبوية فكيف يتصوّر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله العبوس والإعراض عن المؤمنين ومخالفة أوامر الله تعالى باحترام المؤمنين وخفض الجناح لهم والإعراض عن المشركين؟! فالقصّة المستفادة من بعض الروايات تخالف القرآن فهي بالإعراض عنها حقيق.

(١) التوبة ٩ : ١١٧.

(٢) يوسف ١٢ : ٢٩.

(٣) الزمر ٣٩ : ٦٥.

٢٧٨

والجواب : من وجهين : الأول : أنّ الخطاب لأمّته كإيّاك أعني واسمعي يا جارة. الثاني: أنّ استلزام الشرك للإحباط لا يستلزم وقوعه ؛ لأنّ صدق الشرطية بصدق الاتّصال لا بصدق الطرفين ووقوعهما ، فقد تتركّب من محالين.

الحادي عشر : قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) ـ إلى قوله ـ : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (١) وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٢) وهذا يدلّ على وقوع الشكّ والنسيان منه عليه‌السلام.

والجواب عن الأوّل بالمنع من وقوع الشكّ منه ؛ فإنّ الشرطية لا تستلزم وقوع الطرفين كما تقدّم (٣) من أنّها تتركّب من محالين ، كقولنا : إن كان زيد حجرا فهو جماد (٤).

وفائدة رجوعه إلى أهل الكتاب أنّه مذكور عندهم بصفاته وعلاماته ، فأمره بسؤالهم(٥) ليقف عليها ويزداد يقينه ويلزم المنكرين منهم بها ، أو ليقف على سيرة

__________________

(١) يونس ١٠ : ٩٤.

(٢) الأعلى ٨٧ : ٦ ، ٧.

(٣) كما قلنا ـ خ : (آ).

(٤) فاعلم أنّ في آية : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) الخ ، وغيرها من الآيات الكثيرة ظاهر الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيما لمقامه وإعزازا له وتشريفا لمكانه ، ولكن المراد هو الإفهام للخلق ، يشهد به قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) والخطاب والنداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحده ، والمراد إفهام حكم الطلاق لأمته ، فكذا الحال في الآية الشريفة : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا) الخ فالله سبحانه يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنظر إلى الإفهام للناس ، فالمعنى فإن كنتم في شكّ فاسألوا ، والدليل عليه قوله تعالى في آخر السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ (كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ») الآية فأعلم الله سبحانه أنّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في شكّ.

(٥) تيسيرا ـ خ ل ـ خ : (د) قوله : ليقف عليها ويزداد يقينه هكذا وقعت العبارة في النسختين (د) و (آ) ولكن فيها مسامحة واضحة ، ولعلّها فكما يلي : ليقف عليها المنكرون ويحصل لهم اليقين بها ويلزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المنكرين منهم بها ، أي ليقف على سيرة الأنبياء السابقين عليه بحسب ظاهر نقل الذين يقرءون الكتاب أيضا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله احتياج في الوقوف على سيرة الأنبياء لنقلهم ، ولكن غير خفي أنّ عمدة فائدة إرجاعه إلى أهل الكتاب : أنّ الخطاب من قبيل إياك أعني واسمعي ... الخ كما مرّ.

٢٧٩

الأنبياء السابقين عليه ، وهذا خرج مخرج التسلية له عليه‌السلام عمّا (١) ناله من الغمّ باختلاف الناس فيه وفيما جاء به ، فإنّ الاختلاف لم يزل في أمم الأنبياء ولك بهم (٢) أسوة.

وعن الثاني بأنّ النهي عن الشيء لا يستلزم وقوعه. وعن الثالث : أنّ المراد الترك. لقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٣) أو المراد النسخ أو المراد نفي النسيان رأسا كقولهم: أنت سهيمي فيما أملك إلّا ما شاء الله (٤).

الثاني عشر : قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥) والجواب : أنّه توجّع في تحمّل المشقّة لرضى الزوجات بالمباح ، مع أنّ تحريم الحلال ليس بمعصية وإلّا لكان الطلاق معصية ، هذا خلف (٦).

الفصل الثاني : في باقي صفات يجب أن يكون عليها

وهي قسمان :

الأوّل : الثبوتيات وهي كمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ، بحيث لا يكون متحيّرا متردّدا في الأمور ، وأن يكون أفضل أهل زمانه في كلّ ما يعدّ من الكمالات لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ، وهو ظاهر ، وسمعا لقوله تعالى :

__________________

(١) على ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) وله ـ خ ل ـ خ : (د).

(٣) التوبة ٩ : ٦٧.

(٤) ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلّة في معنى النفي قاله في الكشاف.

(٥) التحريم ٦٦ : ١.

(٦) توضيح العبارة على ما في مجمع البيان قال : ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول ، أي قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ) مخرج التوجّع له صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بالغ في إرضاء أزواجه وتحمّل في ذلك المشقّة ، ولو أنّ انسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهن لجاز أن يقال له : لم فعلت ذلك وتحمّلت فيه المشقّة وإن كان لم يفعل قبيحا ، ولو قلنا : إنّه عوتب على ذلك لأن ترك التحريم كان أفضل من فعله لم يمتنع ؛ لأنه يحسن أن يقال لتارك النفل : لم لم تفعله؟ ولم عدلت عنه؟.

٢٨٠