اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

لانتفاء المقدّم بانتفاء التالي (١).

وجواب الأوّل تقدّم. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ المغلوبية إنّما تلزم أن لو أرادها مطلقا ، بل أرادها اختيارا ليستحقّ بها الثواب. وأمّا الثالث ؛ فلأنّ المراد (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) على سبيل الإلجاء والجبر ، وحينئذ لا يلزم انتفاء المقدم بانتفاء التالي.

الثالث : انتفاء الغرض عن أفعاله فإنّه يستلزم العبث المنافي لحكمته وإنّه لا يفعل إلّا للداعي.

ومنع الأشاعرة من ذلك ؛ لأنّه لو فعل لغرض فإن لم يكن أولى به فلا ترجيح وإن كان أولى به كان ناقصا بذاته مستكملا بالغرض ، ولقدرته على إيجاد الغرض ابتداء ، فتوسط الفعل عبث.

والجواب عن الأوّل : إن عنيت بالأولوية كونها أليق بحكمته فلم قلت باستلزامه النقصان لذاته واستكماله به؟ وإن عنيت استفادته لكمال غير حاصل فهو ممنوع.

وعن الثاني : أنّ الغرض هو الغاية من الفعل ، وإيجاد الغاية من دون ما هي غاية له وشرط فيه محال (٢). هذا مع أنّ النقل صريح بكونه لا يفعل إلّا لغرض كقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣).

المقصد الرابع : فيما تقتضي الحكمة وجوبه عليه سبحانه

وهو أنواع :

الأوّل : التكليف وفيه مباحث :

__________________

(١) الثاني ـ خ : (د).

(٢) أي عدم القدرة على إيجاد الغرض قبل الغرض.

(٣) الذاريات ٥١ : ٥٦.

٢٢١

الأول : في حقيقته وأقسامه ، وهو بعث (١) من يجب طاعته ابتداء على ما فيه مشقّة إمّا من فعل أو ترك ، فبقيد الابتداء خرج النبي والإمام وغيرهما ممّن تجب طاعته ، وبقيد المشقّة خرج ما لا مشقّة فيه كالنكاح المستلذّ ، واشتراط الإعلام (٢) لا أرى دخوله في حقيقته ، بل في شرائطه كما يجيء.

وينقسم إلى اعتقاد وعمل ، الأوّل : ينقسم إلى علم عقلا (٣) كالمعرفة بالله وشرعا (٤) كالعبادات ، وإلى ظنّ كالقبلة ، والثاني : إمّا عقلي كردّ الوديعة ، وشكر المنعم والإنصاف وترك الظلم من الواجبات ، والفضل وحسن المعاشرة من المندوبات ، وإمّا سمعي كفعل العبادات الخمس وغيرها ممّا لا يستقلّ العقل بدركه.

الثاني : في شرائطه ، وهي إمّا راجعة إلى الربّ ، وهي كونه عالما بصفات الأفعال وإلّا لجاز عليه الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن ، وبمقدار الثواب وإلّا لأوصل بعض الحقّ فيكون ظلما ، وكونه قادرا على إيصال المستحقّ لما قلناه ، وكونه لا يخلّ بالواجب وإلّا لجاز الإخلال ببعض المستحقّ أو بكلّه.

وإمّا راجعة إلى العبد ، وهي كونه قادرا على ما كلّف به وكونه عالما (٥) به أو إمكان

__________________

(١) البعث على الشيء هو الحمل عليه والحثّ بالأمر والنهي.

(٢) يعني زيادة قيد «بشرط الإعلام» على التعريف كما فعله جمع من المتكلّمين ـ أي بشرط إعلام المكلّف بما كلّف به ؛ إذ الإتيان به لا يتصوّر بدون قصده على وجه الامتثال ـ ووجه عدم لزوم هذا القيد في التعريف هو ما ذكره المصنّف (ره) أنّه غير داخل في حقيقة التكليف بل في شرائطه.

(٣) عقلي ـ خ : (د).

(٤) شرعي ـ خ : (د).

(٥) ذكر في كثير من الكتب الكلامية في شرائط المكلّف : «كونه عاقلا» وقالوا في تفسيره على ما هو المشهور بين المتكلّمين ـ كما صرّح به فخر الدين الرازي في المحصل والعلّامة قدس‌سره في نهاية المرام ـ أنّ العقل الذي هو مناط التكليف هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ، لأنّ العقل لو لم يكن من قبيل العلوم لأمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، فيصحّ وجود العقل من دون علم ووجود علوم كثيرة بغير عقل ، وهو محال ؛ لاستحالة وجود عاقل لا يعلم شيئا أصلا ووجود عالم بجميع الأشياء ولا يكون عاقلا ، وليس هو العلم بالمحسوسات لحصوله في البهائم والمجانين ، فهو إذن علم بالأمور الكلية ، وليس من العلوم النظرية ؛ لأنّها مشروطة بالعقل ، فلو كان العقل عبارة عنها كان الشيء شرطا في نفسه وهو محال ، فإذن هو علم ـ

٢٢٢

علمه وتمكّنه من الشرائط والآلات ؛ لعدم إمكان الفعل بدون هذه ، فيكون التكليف حينئذ بالمحال.

وإمّا راجعة إلى التكليف نفسه ، وهي انتفاء المفسدة ، أي لا تكون مفسدة للمكلّف في فعل آخر أو لغيره من المكلّفين ، وتقدّمه على زمان الفعل قدرا يتمكّن فيه من الاستدلال ، وكون متعلّقه ممكنا لما تقدّم ، واشتماله على صفة تزيد على حسنه.

الثالث : في حسنه ووجوبه ووجههما فنقول : أمّا الأوّل فلأنّه فعله تعالى ، وقد تقدم انتفاء القبيح عنه ، ووجه حسنه التعريض للثواب ؛ لأنّه لمّا خلق العبد وهيّأه لاستحقاق الثواب على التعظيم والعقاب ولم يكن إيصالهما إليه إلّا مع الطاعة أو المعصية ؛ لاشتمال الثواب على التعظيم والعقاب على الإهانة ، ولا يمكن إيصالهما إلّا مع الاستحقاق ؛ لأنّ تعظيم من لا يستحقّ التعظيم وإهانته قبيحان عقلا وشرعا فلم يكونا لائقين بالحكمة.

وأمّا الثاني : فإنّه لولاه لكان مغريا بالقبيح ، واللازم كالملزوم في البطلان ، والملازمة ظاهرة ، فإنّه لمّا خلق الإنسان وكمل عقله ، وخلق فيه شهوة للقبيح ونفرة عن الحسن مع عدم استقلال عقله بمعرفة كثير من الحسن والقبح ، لو لم يقرّر عنده وجوب

__________________

ـ بأمور كلّية ضرورية.

والأحسن في تفسير العقل هو ما قيل : إنّه غريزة يلزمها العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات عند ارتفاع الموانع. والقيد الأخير ليندرج فيه الساهي والنائم ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه عاقل مع أنّه غافل عن العلم بالأمور المذكورة ، ولذلك ذكر فخر الدين الرازي في المحصّل ص ٧٢ طبعة مصر عام ١٣٢٣ بعد الإشكال ، بأنّ العقل قد ينفكّ عن العلم كما في حقّ النائم أو اليقظان الذي لا يكون مستحضرا لشيء من وجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ما هذا لفظه : «وعند هذا يظهر أنّ العقل غريزة تلزمها هذه العلوم البديهية عند سلامة الحواسّ» وقال المحقق الطوسي (ره) في نقد المحصّل ص ٧٢ : وما ذهب إليه المصنّف هو الصواب ، فممّا ذكرنا كلّه يظهر وجه عدول المصنف (ره) عن تعبير القوم وتعبيره : بكونه عالما ، ولم يعبّر كما عبّر به المشهور بكونه عاقلا فتدبّر. وإنّما ذكر التمكّن من العلم به ليندرج فيه التكليف بكثير من السمعيات المفتقرة إلى البيان كالصلاة والحجّ والصوم ، فإنّ الجاهل بهذه الأمور قد يكون مكلّفا بها مع كونها مجهولة عنده لا يميّزها عن غيرها ، وإنّما جاز تكليفه بها لكونه متمكّنا من العلم بها من بياناتها المخصوصة أو من المفتي.

٢٢٣

الواجب ليمتثله وحرمة الحرام ليجتنبه لكان بفعل ذلك مغريا.

وأمّا بطلان اللازم فإنّ الإغراء بالقبيح قبيح ضرورة ؛ فإنّ العقلاء كما يذمّون فاعل القبيح فكذا المغرى به والعلم بحسن الحسن وقبح القبيح واستحقاق المدح والذم عليهما غير كاف ، فإنّ كثيرا من العقلاء يعلمون ذلك ويقضون أوطارهم من اللذات القبيحة مستستهلين للذمّ غير مختلفين بالمدح وقد بان في اثناء ذلك وجه وجوبه.

الرابع : في أحكامه :

الأوّل : أنّه عامّ في حقّ المؤمن والكافر ؛ لأنّ علّته حسنه وهي التعريض لذلك ، وكون الكافر لا ينتفع به لا يقتضي قبحه ؛ لأنّ ذلك من سوء اختياره ، لوجود التمكين في حقّه كما في حقّ المؤمن.

الثاني : اتّفق الجبائيان على أنّ المؤمن إذا علم كفره لا يجب إماتته ؛ لأنّ تكليفه في المستقبل تعريض للثواب فحسن كالمبتدئ المعلوم منه الكفر.

وقال الخوارزمي : بل يجب إماتته ؛ فإنّ بقاءه مفسدة لا تحسن من الله ، وفرق بينه وبين التكليف المبتدئ بأنّ المبتدئ لم يحصل منه الغرض ، وهو التعريض للثواب ، وهذا قد حصل الغرض منه فلو أبقاه لنقض (١) غرضه ، قيل : وفيه قوة.

واختلفا في وجوب إبقاء الكافر المعلوم إيمانه فأوجبه أبو علي لما فيه من اللطفية ، ومنعه أبو هاشم ، لأنّه ممكن (٢) وليس بلطف فلا يكون واجبا ، وهذا أقوى.

ويتفرّع على هذا البحث جواب سؤال بعض الأشاعرة إلزاما : بفرض (٣) إخوة ثلاثة وردوا يوم القيامة : صبي ومؤمن وكافر فيقول الصبي : لم لا كلّفتني لأصل إلى ثواب أخي المؤمن؟ فيقول الله : إنّي علمت أنّك لو بلغت لكفرت فلهذا أمتّك ، فيقول الكافر : يا ربّ لم لا أمتّني قبل البلوغ كالطفل فتنقطع الحجّة باعتبار المصلحة؟

فيقال في الجواب : إماتة من يعلم منه الكفر ليست واجبة ، فجاز تخصيص بعض

__________________

(١) انتقض ـ خ : (آ).

(٢) تمكين ـ خ ل ـ خ : (آ).

(٣) نفرض ـ خ : (آ).

٢٢٤

الناس بها دون بعض ، أو يقال : الإبقاء مطلقا تفضّل ، والتفضّل ليس بواجب ، أو إنّ تكليف الصبي لو حصل ترتّب عليه مفسدة لبعض المكلّفين ، وهو وجه قبح ، وتكليف الكافر ليس كذلك.

الثالث : أنّ التكليف منقطع لوجوه.

الأوّل : الإجماع عليه.

الثاني : إنّه لولاه لما أمكن إيصال الثواب ، والتالي كالمقدّم في البطلان.

وبيان الشرطية أنّ التكليف مشقّة ، والثواب مشروط بخلوصه عن المشاق ، فالجمع بينهما محال.

الثالث : لو لا انقطاعه لزم الإلجاء وهو باطل.

بيان الملازمة أنّ إيصال الثواب واجب ، فإذا علم المكلّف حصول جزاء الطاعة إذا فعلها في تلك الحال وكذا جزاء المعصية إذا تركها ، يكون مجبرا على ذلك ، وهو باطل ؛ لاشتراط الاستحقاق بصدور الفعل اختيارا وإلّا لا فرق بين صدوره وعدمه.

إن قلت : هذا ينتقض بالحدود ، وبأنّه عليه‌السلام كان يخيّر الأعرابي بين الإسلام والقتل ، وهو إلجاء.

قلت : جواب الأوّل بالمنع من كونها ملجئة لتجويز العاصي عدم الشعور به (١) ، بخلاف يوم القيامة فإنّ التجويز غير حاصل لما ثبت من علمه بالجزئيات.

وجواب الثاني : أنّ هذه الصورة حسنة في ابتداء التكليف لا مطلقا ، وحسنها لاشتمالها على مصلحة ، وهو الاطّلاع على أدلّة الحقّ ، فيدعوه إلى الدخول في الإيمان اختيارا ، فيستحق الثواب بخلاف ما لو بقي على كفره ، فإنّه حينئذ لا يطّلع عليها وإسلامه الأوّل لا يستحقّ به ثوابا (٢).

__________________

(١) لتجويز القاضي عدم الشعور به ـ خ : (د).

(٢) ذكر المصنّف (ره) في مباحث التكليف حقيقته وشرائطه الراجعة إلى المكلّف والمكلّف والتكليف وحسنه ووجوبه وأحكامه ، وأنّ التكليف منقطع ولم يتعرّض هنا لماهية المكلّف كما تعرّض بعضهم للبحث عن المكلّف أنّه من هو؟ ولعلّ عدم تعرّض المصنّف (ره) لهذا البحث هنا من جهة أنّه يتعرّض له في اللامع ـ

٢٢٥

__________________

ـ الثاني عشر في الحشر والجزاء من المباحث الآتية ، حيث يبحث عن حقيقة الإنسان ، ولكن تكميلا للفائدة وتبعا لبعض المتكلّمين نتعرّض له هنا إجمالا ونقول :

ومن مباحث التكليف هو المكلّف من هو؟ فقيل ـ كما قال به الشيخ الأقدم الشيخ أبو اسحاق النوبختي (ره) في الياقوت ـ : إنّ ماهية الانسان وحقيقته هو ما يشير إليه الإنسان بقوله : أنا هذه البنية والجملة ، وقال العلّامة قدّس الله روحه في شرحه : لما ذكر الشيخ ـ يعني النوبختي (ره) ـ التكليف أشار إلى بيان ماهية المكلّف ما هي؟ وقد اختلف الناس في ذلك ، فالذي اختاره المصنف (ره) ـ يعني النوبختي (ره) ـ أنّه هذه البنية المخصوصة والجملة المشار إليها ، وهو الذي يعبر عنه بقوله : أنا فعلت وأنت فعلت ، وهو اختيار السيّد المرتضى رحمه‌الله وأكثر المعتزلة ، وذهب الشيخ أبو سهل بن نوبخت من أصحابنا والشيخ المفيد محمد بن النعمان رحمهما‌الله إلى أنّه ـ أي المكلّف ـ شيء مجرّد ـ أي غير جسم ولا جسماني ـ غير مشار إليه بالحسّ يتعلّق بهذا البنية تعلّق العاشق بمعشوقه لا تعلّق الحال بالمحلّ ، وهو مذهب الأوائل ـ يعني الحكماء ـ واختيار معمّر بن غياث السلمي من المعتزلة ، وذهب ابن الراوندي إلى أنّه ـ أي الإنسان ـ جزء لا يتجزّأ في القلب ، وقال جماعة من المتكلّمين : إنّ المكلّف هو الأجزاء الأصلية في هذا البدن لا تتطرّق إليها الزيادة والنقصان ، بل هي باقية من أوّل العمر إلى آخره.

قلت : وإلى هذا القول يميل المصنّف (ره) في هذا الكتاب عند البحث عن حقيقة الإنسان بقوله : وهو الأقرب. كما يأتي هناك إن شاء الله تعالى.

والمعتمد من رأي المتكلّمين أنّ النفس الإنسانية إمّا جسم لطيف مخالف للجسم الذي يتولّد من الأعضاء ، نوراني علوي خفيف سار في الأعضاء كلّها ، نافذ فيها نفوذ ماء الورد فيه ونفوذ النار في اللحم ، لا تتبدّل ذاته ولا تتحلّل أجزاؤه ، بقاؤه في الأعضاء حياة له وانتقاله عنها إلى عالم الارواح موت له ، أو هي الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره التي لا تقوم الحياة إلّا بها كما عرفت.

وغير خفي على الباحث الخبير أنّ هذه الأوصاف التي ذكروها أوصاف شبيهة بصفات البدن المثالي البرزخي لا النفس المجرّد ، كما ذكر بعض المتكلّمين في وصف الروح : أنّه جسم لطيف اشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر ، قال صدر المتألهين قدس‌سره : وذلك لأنّ ذلك الجسم البرزخي أيضا من مظاهر الروح وكينونته في هذا البدن ليس بتداخل واشتباك لكن يشبههما ، انتهى.

قال أمير المؤمنين سلام الله عليه كما نقله الصفدي في شرح لامية العجم : «الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ».

والمعتمد من رأي المحقّقين من الحكماء الإلهيين وجمع من محقّقي المتكلّمين : أنّ النفس الانسانية جوهر مجرّد في ذاته دون فعله ، متصرّف في البدن ، متعلّق به تعلّق التدبير والتصرّف ، وهي تتعلّق أولا وبالذات بالروح الحيواني المتكوّن في الجوف الأيسر من القلب من بخار الغذاء ولطيفه ، ويفيد قوة بها يسري في جميع البدن.

٢٢٦

النوع الثاني : اللطف ، وفيه مسائل.

الأولى : تعريفه ، وهو ما يكون المكلّف به أقرب إلى فعل الطاعة وترك المعصية ولا يبلغ الإلجاء ، وليس له حظّ في التمكين ، ويخرج بالأخير الآلة (١) وهو الواجب في الحكمة وإلّا لزم مناقضة الحكيم غرضه ، وهو باطل ، وإلّا لم يكن حكيما ؛ لأنّ العقلاء يعدّون نقض الغرض سفها وهو عليه تعالى محال وأمّا بيان اللزوم فلأنّه تعالى أراد الطاعة من العبد ، فإذا علم أنّه لا يختارها أو لا يكون أقرب إليها إلّا عند فعل يفعله به لا مشقّة عليه فيه ولا غضاضة ، فإنّ الحكمة تقضي (٢) بوجوبه ، وإلّا لكشف عن عدم إرادته كمن أراد حضور شخص مائدته وعلم أنّه لا يحضر إلّا بمراسلة (٣) أو ملاطفة ولم يفعلهما ، فإنّه يعدّ ناقضا لغرضه.

الثانية : في أقسامه ، وهي ثلاثة.

الأوّل : أن يكون من فعله تعالى كإرسال الرسل ونصب الأدلّة ، وقد تقدّم بيان وجوبه.

الثاني : من فعل المكلّف نفسه ، ويجب في حكمته تعالى أن يعرّفه به ويوجبه ، فإنّ

__________________

وهذا ما اختاره الشيخ الأعظم المفيد (ره) وقبله الشيخ أبو سهل النوبختي (ره) ، وبعدهما من المحقّقين المحقّق الطوسي (ره) وغيره من المتأخّرين.

وتدلّ على هذا القول الأدلّة العقلية والنقلية كما ذكرها وحقّق المطلب الفيلسوف الإلهي صدر المتألّهين (ره) في كتابه الأسفار الأربعة مع إثبات البدن البرزخي الذي هو همزة الوصل بين الروح المجرّد والبدن المادي العنصري كما بيّنه شيخنا الأستاذ الأعظم كاشف الغطاء (ره) في الفردوس الأعلى ولا سعة في المقام لبسط الكلام في هذا المرام بأكثر من ذلك ، فراجع الأسفار والفردوس الأعلى وگوهر مراد ورسالة بقاء النفس بعد فناء الجسد للمحقّق الطوسي (ره) وكتاب جامع السعادات للعلّامة النراقي (ره) ، وقد استفدنا تجرد النفس من بعض الآيات القرآنية ، فراجع في ذلك تعاليقنا التي كتبناها في السنين الماضية على الأنوار النعمانية للجزائري (ره) ، ولعلّه تأتى الإشارة إليها في هذه التعليقات إن شاء الله تعالى.

(١) فإنّ لها حظّا في التمكين وليست لطفا. وقولنا : لم يبلغ حدّ الإلجاء ؛ لأنّ الإلجاء ينافي التكليف ، واللطف لا ينافيه وهذا هو اللطف المقرّب.

(٢) تقتضى ـ خ : (آ).

(٣) برسالة ـ خ : (آ).

٢٢٧

قصر المكلّف فقد أتى من قبل نفسه ، كمتابعة الرسل.

الثالث : من فعل غيرهما ، ويجب في الحكمة إيجابه على الغير كتبليغ الرسالة ، وأن يكون له في مقابلته نفع يعود إليه ؛ لأنّ إيجابه عليه لمصلحة غيره مع عدم نفع يصل إليه ظلم ، تعالى الله عنه.

ثمّ إنّه لا يحسن تكليف من له اللطف إلّا بعد العلم بأنّه يقع ؛ إذ لولاه يلزم مناقضة الغرض.

الثالثة : في أحكامه :

الأوّل : أنّه عام للمؤمن والكافر ، ولا يلزم من حصوله للكافر عدم كفره ؛ لأنّ اللطف لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أو لا ، بل كونه لطفا من حيث إنّه مقرّب إلى الطاعة ومرجّح لوجودها ، وعدم الترجيح هنا لعارض أقوى وهو سوء اختيار العاصي.

الثاني : أنّه إذا لم يفعل الله اللطف لم يحسن عقابه للمكلّف على ترك الملطوف فيه ؛ لأنّه بذلك كالأمر بالمعصية كما قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) (١) قرر أنّه (٢) لو منعهم الإرسال لكان لهم هذا السؤال ، ولا يكون لهم ذلك إلّا مع قبح الإهلاك.

نعم لا يقبح الذمّ (٣) ؛ لأنّه مستحقّ على القبيح غير مختصّ (٤) به تعالى بخلاف العقاب المختصّ ؛ ولهذا لو بعث الإنسان غيره على فعل القبيح ففعل لكان له ذمّه كما يذمّ إبليس أهل النار وإن كان هو المسئول.

الثالث : لا بدّ من مناسبة بين اللطف والملطوف فيه ، أي يكون حصوله داعيا إلى حصول الملطوف فيه ، وإلّا (٥) لم يكن كونه لطفا فيه أولى من كونه لطفا لغيره من

__________________

(١) طه ٢٠ : ١٣٤.

(٢) قدّر ـ خ : (د).

(٣) أي من الله تعالى على ترك الإيمان مع عدم اللطف.

(٤) أي الذمّ ، بل العقلاء مشاركين في الذمّ على القبيح.

(٥) أي إذا لم يكن داعيا إلى حصوله.

٢٢٨

الأفعال ، أو من كون غيره لطفا فيلزم الترجيح بلا مرجّح.

الرابع : أنّه (١) لا يبلغ إلى الإلجاء ، لمنافاته التكليف.

الخامس : أنّه (٢) يدخله التخيّر (٣) أي لا يجب أن يكون معينا بل يجوز أن يكون كلّ واحد من الفعلين مشتملا على مصلحة اللطفية ، فيقوم مقام صاحبه ، أمّا في حقّنا فكخصال الكفّارة الثلاث ، وأمّا في حقّه تعالى فكما يجوز أن ينصب لنا دليلا يحصل به اللطفية ويحصل أيضا لنا بدليل آخر ، وذلك بشرط حسن كلّ من الفعلين وعدم اشتماله على وجه من وجوه القبح.

وخالف في هذا بعض المعتزلة وقال : يجوز أن يكون القبيح كالظلم منّا لطفا قائما مقام أمراض الله تعالى ، مستدلّا بأنّ وجه كون الألم من فعله تعالى لطفا ، هو حصول المشقّة وتذكّر العقاب ، وهو حاصل في الظلم فكان جائزا.

وفيه نظر ، لأنّ كونه لطفا جهة وجوب والقبيح لا جهة وجوب له ، بل اللطف إنّما هو في علم المظلوم (٤) لا في نفس الظالم ، كما أنّ العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا وإن لم يكن الذبح في نفسه لطفا.

الرابعة : في توابعه (٥) ، وهي أقسام.

الأوّل : الأمر بالمعروف الواجب واجب عقلا وكذا النهي عن المنكر للطفيته ؛ فإنّ المكلّف إذا علم أنّه إذا ترك الواجب أو فعل المعصية منع أو عوقب كان ذلك مقرّبا له إلى فعل الأوّل وترك الثاني ، وكلّ لطف واجب ، وجهة الوجوب عامّة ، فيكون واجبا على الأعيان.

وخالف السيد (٦) في المقامين وقال : وجوبهما سمعي وإلّا لوجبا عليه تعالى ؛ لأنّ

__________________

(١) أن لا ـ خ : (د).

(٢) أن ـ خ : (آ).

(٣) التخيير ـ خ : (آ).

(٤) الملطوف ـ خ : (آ) وهو تذكر العقاب.

(٥) أي توابع اللطف.

(٦) «السيد» على الإطلاق هو السيد الأجلّ سيد الأمة ذو المجدين ، السيد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين ـ

٢٢٩

الواجب العقلي يعمّ (١). لكن اللازم باطل ، وإلّا لوقع كلّ معروف وارتفع كلّ منكر إن فعلهما ، وإن لم يفعل أخلّ بالواجب ، وهو محال.

وفيه نظر ؛ لأنّه إذا كان المراد بالأمر والنهي الحمل والمنع المؤديين إلى الإلجاء فباطل ، لمنافاته التكليف وإلّا لم (٢) يلزم الوقوع والارتفاع المذكوران ؛ لأنّ ذلك حينئذ يفيد التقريب وعلى الكفاية ، لأنّ الغرض وقوع المعروف وارتفاع المنكر ، فوجوبهما بعد حصوله من واحد عبث.

وفيه نظر أيضا ؛ لأنّا نمنع حصر الغرض فيما ذكرتم ، لجواز وجود غرض آخر مع ذلك ، هو حصول الثواب بالقصد إليه. سلّمنا لكن ليس الكلام فيهما بعد الوقوع ؛ لأنّ الشرط كونهما ممّا يتوقّعان ، لاستحالة الأمر بالماضي والنهي عنه بل الكلام قبل الوقوع ، وحينئذ لا عبث.

والوجوب هنا ليس مطلقا بل مشروط بعلم الآمر والناهي بالوجه ، وإلّا لجاز الخلاف ، فيقع المنكر ويرتفع المعروف ، وتجويز التأثير وإلّا لزم العبث ، وعدم حصول مفسدة بذلك(٣) لغير مستحقّ لها وإلّا لحصل ما هو أعظم من المقصود رفعه.

ثمّ الضابط في كيفية ذلك عدم الانتقال إلى الأصعب مع انجاح (٤) الأسهل سواء كان بالقلب أو اللسان أو الجوارح والأمر بالندب ندب.

الثاني : الرزق ما ساغ عقلا وشرعا الانتفاع به ولم يكن لأحد المنع منه ، ولا يشترط الملكية ؛ لأنّ البهيمة مرزوقة وليست مالكة ، ولا كونه ممّا يصحّ تملكه عرفا ، فإنّه قد يكون مالا وولدا ، وقد يكون جاها وعلما وحياة وزوجة وصاحبا (٥) ، مع عدم وصف أكثرها

__________________

ـ الموسوي المتوفّى ٤٦٣ شهرته العلمية والعملية بين الأمة وجلالة شأنه وكونه من أعلام الدين الشاهقة ، في غنى عن البيان قدّس الله سرّه.

(١) أي الربّ والعبد.

(٢) لا ـ خ : (د).

(٣) كذلك ـ خ ل ـ خ : (د).

(٤) انجاع ـ خ : (آ).

(٥) أي الولد والعلم رزق ولا يقال : إنّهما ملك.

٢٣٠

بالملكية ، بل تكفي الإباحة لكن مع الانتفاع بالفعل ، ولهذا قلنا : ولم يكن لأحد المنع فيخرج (١) طعام الضيافة قبل استهلاكه بالمضغ ، فإنّه ليس برزق ؛ لأنّ لصاحبه المنع من أكله ففي اشتراط السوغان (٢) إشارة إلى أنّ الحرام ليس رزقا ، وإلى أنّ الإنسان قد يأكل رزق غيره.

وقال الأشعري : الرزق ما أكل (٣) ، فعلى قوله الحرام رزق ، ولا يأكل الإنسان رزق غيره ، وهو باطل.

ثمّ الرزق قد لا يجب (٤) عليه تعالى فعله إلّا مع الجدّ في طلبه ؛ لاشتماله على اللطفيّة. فالاجتهاد في تحصيل المنافع الأخروية ، لخاطر أنّ المنافع الدنيوية مع حقارتها لا تحصل إلّا بالكسب ، فالأخروية مع جلالتها أولى.

وقد يمتنع منه تعالى كما إذا اشتمل على مفسدة ، وطلبه ينقسم إلى الأحكام الخمسة بحسب ما يشتمل (٥) عليه من جهاتها.

ومنع الصوفية من ذلك ـ لاختلاط الحرام بضدّه ولا يتميّز فيحرم التصرف فيه والصدقة منه ، ولمساعدة الظالم بإعطاء الباج والتمغاء (٦) ، ولقوله عليه‌السلام : «لو توكّلتم على

__________________

(١) ليخرج ـ خ : (آ).

(٢) السوغ ـ خ ل ـ خ : (آ).

(٣) أي حراما كان أو حلالا.

(٤) لا ـ خ : (آ) وليس في ـ خ : (د) والصحيح هو ـ خ : (آ).

(٥) ما اشتمل ـ خ : (آ).

(٦) قال في فرهنك آنندراج تمغاباجي كه بر درهاى بلاد ومعابر بحار از تجّار گيرند. تمغا بالفتح والغين المعجمة لفظ تركي. لمّا استولى كفّار المغول على البلاد الإسلامية ، ولا سيما على العراق كان من دأبهم استعمال بعض الألفاظ من لغاتهم في بعض شئون دولتهم الغاشمة الكافرة كال (يأسا) وال (تمغاء) ونظائرهما ، ولما كان استعمال هذا اللفظ متداولا في عصر المصنّف (ره) في ألسنة أهل زمانه وشائعا في محاوراتهم ، لقرب عهدهم بهم ، ولذلك استعمله في كتابه مع علمه بأنّه ليس من اللغة العربية كما استعمله في كتابه كنز العرفان أيضا. انظر ج ٢ ، ص ١٠ ، س ٦ طبعة طهران حيث قال في تفسير آية : ١٥ من سورة الملك : وفي الآية دلالة على جواز طلب الرزق خلافا للصوفية حيث منعوا من ذلك ، لاشتماله على مساعدة الظلمة بإعطاء التمغاء والباج ، وهو جهل منهم فإنّ ذلك الإعطاء غير مقصود بالذات ، بل لو أمكن المنع لما اعطوا شيئا ،

٢٣١

الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا (١)» ـ باطل ؛ لأنّا نمنع اختلاط كلّ حلال ، والبعض لا حرج فيه مع عدم العلم ، والإعطاء ليس مقصودا ولا مرادا ، والتوكّل لا ينافي الطلب ، والمكتسب حال طلبه متوكّل لإردافه بالغدوّ مع أنّه لا نهي في الحديث عن الطلب ، بل يفهم منه : أنّكم لو عبدتم الله لرزقكم كما يرزق الطير بتهيئته الأسباب وأردفه بالغدوّ الذي هو الطلب.

ثمّ الذي يدلّ على قولنا ، اندفاع الضرر به فيكون سائغا وقوله تعالى : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (٢) وقوله عليه‌السلام : «سافروا تغنموا».

الثالث : السعر تقدير البدل فيما يباع به الشيء ، وليس نفس البدل ؛ لأنّه الثمن والمثمن ، وهو رخص ـ أعني المنحطّ ـ عمّا جرت به العادة مع اتّحاد الوقت والمكان ، وغلاء وهو ضدّه واعتبر الاتّحاد في الطرفين ، إذ لا يقال : الثلج رخيص في الشتاء حال نزوله(٣) وغال في الصيف حال عدمه ، بل يقال : رخص في الصيف لانحطاطه عن جاري عادته ، وكذا الكلام في المكان.

ثمّ إنّهما إن اشتملا على وجه قبيح فمنّا وإلّا منه تعالى ومنّا ، وما منه تعالى قد يشتمل على اللطفية وقد يكون ابتلاء.

الرابع : الأجل ، وهو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه وقد يكون لطفا

__________________

ـ وفي الحديث أنّه لما نزل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٣ ، انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقا بما ضمن الله لهم ، فعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فعاب عليهم ذلك وقال : إنّي لابغض الرجل فاغرا فاه إلى ربّه يقول : اللهم ارزقني ويترك الطلب.

أقول : مساعدة الظالم وإعانته إنّما تتحقّق بالقصد إليها وبالصدق العرفي وإن لم يكن قصد ، وهما غير متحقّقين في طلب الرزق أصلا ، فقول الصوفية باطل قطعا كما هو مشروح ومحقق في مظانّه من كتب الفقه.

(١) قال القاضي عبد الجبار المعتزلي : أما قولهم : إنّ الطلب ينافي التوكّل ويضادّه فمحال ، بل التوكّل هو طلب القوت من وجهه ، وعلى هذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو توكّلتم على الله ... جعل التوكّل هو أن تغدو أو تروح في طلب المعيشة من حلّه شرح الأصول الخمسة ص ٧٨٦ طبعة مصر.

(٢) الجمعة ٦٢ : ١٠.

(٣) لأنّه ليس أو أن بيعه.

٢٣٢

لغير صاحبه ، ولا خلاف في أنّ من يموت حتف أنفه أنّه بأجله مات ، وإنّما اختلف فيمن يموت بسبب خارجي.

فقال أبو الهذيل : إنّه كالأوّل وإنّه لو لا السبب لوجب موته وإلّا لكان القاتل قاطعا لحياته المعلوم له تعالى حصولها وهو باطل ؛ إذ لا قدرة على المحال ، ولزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، إذ مع وجوب حياته قد علم أنّه يعيش وبالقتل فاتت حياته فيلزم الانقلاب.

وقال البغداديّون من المعتزلة : إنّه لم يمت بأجله وإنّه لو لم يقتل لوجب أن يعيش ، وإلّا لكان من ذبح غنم غيره محسنا إلى صاحبها واللازم باطل ، لاستحقاقه الذمّ من العقلاء ويغرم (١) قيمتها شرعا (٢).

وفيهما نظر ، أمّا الأوّل فلأنّ المعلوم قد يكون مشروطا ، ولأنّ العلم تابع فلا يكون خلاف المعلوم محالا في نفسه وإن كان محالا بالنظر إلى العلم.

وتحقيقه : أنّ العلم يستدعي المطابقة ، ففرض وقوع العلم بأحد الطرفين هو فرض وقوع ذلك الطرف ، ولا شكّ في أنّه يستحيل وقوع أحد الطرفين مع فرض وقوع نقيضه ، لكن هذه الاستحالة ليست منافية للإمكان الذاتي ؛ لأنّها تابعة للفرض المذكور وهي التي سمّاها المنطقيون الضرورة بحسب المحمول.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ذمّه باعتبار تفويته العوض الكثير عليه تعالى (٣).

وفي هذا نظر ؛ فإنّ العقلاء إنّما يذمّونه على الذبح ، ولذلك يعلّلونه به.

__________________

(١) ولغرم ـ خ : (آ).

(٢) في شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي والشرح للإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم : والذي عندنا أنّه كان يجوز أن يحيى ويجوز أن يموت ولا يقطع على واحد من الأمرين ، فليس إلّا التجويز ، ثمّ شرع في الردّ على ما قاله أبو الهذيل والبغداديون ـ انظر ص ٧٨٢ طبعة القاهرة سنة ١٣٨٤.

(٣) يعني أنّه إنّما لم يكن محسنا باعتبار تفويته الأعواض الكثيرة ، فإنّه لو لا ذبحه لكان موته من قبل الله تعالى فتتزايد أعواضه على أعواض الذبح.

وفيه نظر ؛ فإنّ العقلاء إنّما يذمّونه على الذبح وتفويت الحياة ، ولهذا لو سئل الواحد منهم لقال ذلك.

والأقرب في الجواب : أنّا نحكم على ذابح الشاة بالظلم ونذمّه لتجويز حياتها ، وأيضا باعتبار إقدامه على مال الغير ، ولهذا يغرم القيمة.

٢٣٣

والأجود جوابا : أنّ الذمّ باعتبار تجويز الحياة وبالإقدام على مال غيره ، ولذلك يغرم القيمة.

وقال البصريون : إنّه يجوز الأمران ؛ لعدم دليل قاطع على أحد الطرفين. ثمّ من هؤلاء من قال : الذي يعلم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان ، وقال الجبائيان وأبو الحسين :

إنّ أجله هو الوقت الذي قتل فيه ليس له أجل آخر لو لم يقتل ، فما كان يجوز أن يعيش إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري.

النوع الثالث : العوض على الألم ، وفيه فوائد.

الأولى : العوض ، وهو النفع المستحقّ الخالي عن تعظيم إمّا مساو للألم أو زائد عليه ، والأوّل علينا خاصّة والثاني عليه تعالى وله أسباب.

الأوّل : إنزال الألم.

الثاني : تفويت المنافع لمصلحة الغير كإماتة ابن لزيد علم أنّه لو عاش انتفع به (١).

الثالث : إنزال الغموم سواء استند إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظنّ ؛ لأنّه هو الخالق لذلك العلم والناصب للدليل والأمارة ، وأمّا ما يستند إلينا فلا.

الرابع : ما كان منّا بأمره وإباحته.

الخامس : ما كان بتمكين غير العاقل كالحيوان الأعجم والمجنون لتمكينه إيّاه منه وخلق الميل فيه إليه ، ولم يخلق له عقلا (٢) زاجرا فكان كالمغري له والملجئ.

وقيل : العوض في هذا على الحيوان ؛ لقوله عليه‌السلام : «إنّ الله ينتصف للجماء من القرناء».

وفيه نظر : إذ لا دلالة فيه على المدّعى ، بل على الانتصاف ، وهو إيصال

__________________

(١) كيف يعلم أنّه لو عاش انتفع به وقد علم إماتته وفرض حياته محال لاحق ، والمنفعة المقدّرة مفرّعة على المحال فهي محال فكيف نفع العلم بها ، وقد سبق في جوابه الخلاف في المقتول ما يناسب ذلك. هامش ـ خ : (آ).

(٢) علما ـ خ : (آ).

٢٣٤

العوض إلى المستحقّ ، وهو أعمّ من كون العوض من المؤلم أو غيره ، مع أنّه يمكن حمله على المظلوم والظالم مجازا ؛ لضعف الأوّل فشبّه بالجماء وقوة الثاني فشبّه بالقرناء.

وقيل : لا عوض هنا لقوله عليه‌السلام : «جرح العجماء جبار (١)».

وفيه نظر ؛ لإمكان حمله على عدم القصاص.

وقال القاضي : إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام ، فالعوض عليه تعالى وإلّا فعلى الحيوان ، محتجّا بأنّ التمكّن (٢) وحده غير كاف في استحقاق العوض وإلّا لوجب العوض على الحدّاد بصنعة السيف للقاتل ، وهو باطل اتفاقا لقبح ذمّه بخلاف القاتل ، وأمّا مع الإلجاء فالعوض عليه ؛ لعدم حسن ذمّ الملجأ.

الثانية : الألم ، قد تقدّم تعريفه ، وهو إمّا أن يعلم فيه وجه من وجوه القبح ، وقد ذكر ثلاثة : أن يكون عبثا أو ظلما كلطمة اليتيم أو يشتمل على مفسدة كإيلام الظالم إذا علم زيادة ظلمه بذلك ، وذلك يصدر عنّا خاصة لاستحالة القبح عليه تعالى ، أو لا يعلم فيه ذلك ، وهو أقسام :

الأوّل : أن يكون مستحقا كالعقاب وكضرب العبد على عصيانه.

الثاني : كونه دافعا لضرر كشرب الدواء المرّ.

الثالث : كونه جالبا للنفع.

الرابع : كونه مجرى العادة (٣).

الخامس : كونه على وجه الدفع لضرر يتوقّع كقتل من يقصدنا ويسمّى هذا كلّه حسنا ، وهو قد يصدر منه تعالى ومنّا.

الثالثة : قد علمت أنّ الحسن قسمان :

__________________

(١) أي جرح البهيمة هدر ـ جمع : عجماوات.

(٢) التمكين ـ خ : (آ).

(٣) أي أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفعله الله تعالى بالحيّ إذا ألقيناه في النار. انظر إلى كشف المراد للعلّامة قدس‌سره.

٢٣٥

الأوّل : ما كان صادرا منّا إمّا بأمره تعالى كالهدى أو ندبه كالأضحية أو إباحته كالذبح للأكل ، والعوض في هذه عليه تعالى ؛ لما ذكرناه من العلة إذ كان يمكن عدمها.

وأمّا ما صدر عنا بالاستحقاق والدفع فلا عوض فيه ، وما كان بمجرى العادة كالإلقاء في النار المحرقة فالعوض علينا ؛ لقصدنا الإيلام والنار كالآلة إن قلنا بفعلها طبعا ، وكذا إن قلنا : إنّه تعالى هو المحرق بالعادة فلأنّ إجراء العادة حكمة لا يجوز نقضها مطلقا بل لتصديق نبي أو ولي.

الثاني : ما يكون صادرا منه تعالى فما كان بالاستحقاق ، فلا عوض فيه وما كان مبتدأ فعليه عوضه زائدا إلى حدّ الرضى عند كلّ عاقل ، بحيث لو خيّر بينه مع الألم وبين عدم الألم والعوض لاختار الأوّل ، وهذا هو وجه حسنه لكن مع اللطفية إمّا للمتألّم أو لغيره؛ إذ لو لا هما لزم الظلم بعدم العوض والعبث بعدم اللطفية ، واكتفى أبو علي بالأوّل وعبّاد بالثاني.

الرابعة : يجب عليه الانتصاف للمظلوم من ظالمه بأخذ المنافع المستحقّة له أمّا عليه تعالى وعلى غيره وإيصالها إلى المظلوم ؛ لأنّه بتمكينه من الظلم وعدم منعه بالجبر لو لم ينتصف له مع قدرته على ذلك لزم ضياع حقّه ، وهو قبيح عقلا.

وهل يجوز تمكينه ولا عوض له في الحال يوازي ظلمه؟ جوّزه البلخي وأبو هاشم لوقوعه كما في الملوك الظلمة الذين يصدر عنهم آلام عظيمة ويستبعد حصول مساويها لهم ، لكن جوّز البلخي خروجهم من الدنيا من غير عوض لهم ؛ لجواز التفضّل عليهم في الآخرة ، وأوجب أبو هاشم التبقية حتّى يكتسبوا ؛ لأنّ التفضّل جائز فلا يعلّق الواجب به ، ومنع السيّد (ره) من تمكين من هذا حاله ؛ لأنّ التفضّل والتبقية جائزان فلا يعلّق بهما الواجب ، وما استبعداه ممنوع ؛ إذ من الجائز أن يكون للظالم أعواض عليه تعالى توازي ظلمه ، وهي معلومة الحصول له تعالى فجاز تمكينه. وفيه أيضا نظر.

الخامسة : في أحكام العوض.

الأوّل : الحقّ أنّه لا يجب دوامه ؛ لأنّه انّما حسن لاشتماله على نفع زائد على الألم

٢٣٦

أضعافا مضاعفة ، نختار الألم معها ، وهذا وجه حسن كاف فيه وإن كان منقطعا ، ولأنّا في الشاهد (١) يحسن منّا ركوب الأهوال الخطرة كالبحر لنفع منقطع نزر.

وأوجب أبو علي دوامه وإلّا لتألّم صاحبه بانقطاعه فيعوض فينقطع فيتسلسل ، وبأنّه لو كان كذلك لوجب إيصاله في الدنيا ؛ لأنّ منع الواجب لا لمانع من إيصاله باطل.

وجواب الأوّل بالمنع من تألّمه ؛ لجواز إيصاله على التدريج بحيث لا يشعر بانقطاعه كما يجيء بيانه ، وأنّه يجعله ساهيا ثمّ يقطعه فلا يتألّم. وأمّا الثاني ؛ فلاحتمال مصلحة التأخير.

الثاني : كيفية إيصاله ، إنّ المظلوم إن كان من أهل الجنة فرّق الله أعواضه على الأوقات أو يفضّله (٢) عليه بمثلها بحيث تصير دائمة ، وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزء من عقابه ؛ لأنّه لا فرق بين حصول المنافع ودفع المضارّ ، ويفرّق ذلك الإسقاط على الأوقات بحيث لا يظهر له التخفيف.

الثالث : لا يجب إشعار صاحبه به ؛ لأنّه مجرّد نفع والتذاذ لا يجب فيه تعظيم ، بخلاف الثواب الواجب لاشتماله على التعظيم وهو لا يحصل إلّا مع الشعور به.

الرابع : أنّه لا تتعيّن منافعه في نوع دون آخر ، بل أيّ نوع من الالتذاذ والشهوة حصل كفى ، بخلاف الثواب فإنّه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلّف من ملاذّه كالأكل والشرب والنكاح ؛ لأنّه هو الذي رغب فيه في تحمّل المشاقّ.

الخامس : إنّه هل يصحّ (٣) إسقاطه؟ الحقّ جوازه منّا دنيا وآخرة في حقّ الظالم لنا ؛ لأنّه حقّ للمتألّم وفي هبته نفع للظالم وإحسان إليه ، وكلّ احسان حسن ، وهو قول أبي الحسين.

ومنع القاضي وأبو هاشم من ذلك ؛ لأنّا لا نقدر على استيفائه ولا نعلم مقداره فحالنا فيه كحال الصبي المحجور عليه.

__________________

(١) أي فيما نشاهده عيانا فكذلك فيما لا نشاهده.

(٢) أو تفضّل عليه ـ خ : (آ).

(٣) يجوز الإسقاط ـ خ : (آ).

٢٣٧

وفيه نظر ؛ لأنّه قياس غير تامّ فإنّ الشارع منع الصبي لمصلحة شرعية حتّى أنّه لو لا منع الشرع يجوز (١) بالصبي ذي الديانة التصرّف في ماله ، فعلى قولنا : يجوز أن يهب ما يستحقّه عليه تعالى لغيرنا لانتفاعه به فإنّه إحسان إليه.

النوع الرابع : الثواب وكذا العقاب عند الوعيد به (٢) ، وسيأتي تفصيل ذلك.

النوع الخامس : فعل الأصلح كما إذا علم الله انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال له أو انتفاء ضرر به في الدين والدنيا عنه وعن غيره من المكلّفين ، أوجبه البلخي وهو مذهب البغداديين وجماعة من البصريين ؛ لأنّ له داعيا إليه وهو كونه إحسانا خاليا عن جهات المفسدة ؛ لأنّه الغرض ، ولا مانع له إذ الغرض خلوه عن المفاسد فيجب فعله.

ومنعه الجبائيان وإلّا لأدّى إلى ما لا نهاية له ؛ إذ ما من أصلح إلّا وفوقه مرتبة أخرى خالية عن المفسدة أيضا وهكذا ، فيتحقق حصول ما لا نهاية له ، وهو محال.

وقال أبو الحسين : يجب حال دون حال وهكذا ؛ فإنّه إذا كان ذلك القدر مصلحة خالية عن المفسدة وكان الزائد مفسدة وجب إعطاء ذلك القدر ؛ لوجود الداعي وانتفاء الصارف ، وإذا لم يكن في الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنّ لله تعالى أن يفعل وأن لا يفعل.

والحقّ التوقّف في هذا المقام.

واعلم أنّ الأشاعرة لم يوجبوا عليه تعالى شيئا ممّا ذكرناه ، بناء على أصلهم الفاسد من نفي قاعدة الحسن والقبح وتوهّمهم أنّه لا حاكم على أحكم الحاكمين (٣) ، ولم يعلموا أنّه سبحانه بإعطائنا العقول السليمة الحاكم بذلك هو الحاكم بالحقيقة ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

__________________

(١) لجوّزنا ـ خ : (آ).

(٢) الوعيدية ـ خ : (د).

(٣) ولم يعلموا أنّ الوجوب هنا عقلي يلزم من نفيه القبح لا أنّه شرعي فتفوّهوا بما لا يعبأ به.

٢٣٨

اللامع العاشر

في النبوّة

وفيه مطالب :

[المطلب] الأوّل : في معرفة النبي وحسن بعثه به ووجوبها في الحكمة وغايتها

وفيه أبحاث :

الأوّل : النبي هو الإنسان المأمور من السماء (١) بإصلاح الناس في معاشهم ومعادهم ، العالم بكيفية ذلك ، المستغني في علمه وأمره عن واسطة البشر ، المقترنة دعواه بظهور المعجز. وفي هذا فوائد :

الأولى : كونه إنسانا ، إذ لولاه لدخل الملك المتلقّي الوحي من السماء.

الثانية : كون أمر ذلك الإنسان من السماء وهو العمدة في النبوّة على قاعدة الإسلام ؛ لأنّ الفلاسفة القائلين بالنبوّة يسندون أوامره ومعجزاته إلى خواصّ نفسانية

__________________

(١) يقصد به أنّه المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر.

٢٣٩

واتّصالات بالمجرّدات ، لا إلى أوامر إلهية صادرة من لدن حكيم عليم.

الثالثة : أنّ كونه مستغنيا في علومه عن البشر يخرج الإمام ؛ لأنّه أيضا مأمور من السماء بالإصلاح المذكور لكن بواسطة البشر ، وهو النبي (١).

الثاني : في حسن بعثة من هذا حاله

وبيانه باشتمال بعثته على فوائد عظيمة : الأولى : متعاضدة العقل في أحكامه كتوحيد الله تعالى وقدرته وعلمه ، فإنّ تعاضد الأدلّة يفيد النفس طمأنينة.

الثانية : أنّ ما لا يستقلّ العقل بمعرفة حسنه وقبحه يعرف من النبي.

الثالثة : تعريفنا كيفيات الشرع التي لا تهتدي العقول إليها ، وكذا كيفيات شكر المنعم الذي يقضي العقل بوجوبه لا بكيفيته.

الرابعة : إزالة خوف المكلّف في تصرّفاته في ملك غيره ؛ لما دلّ الدليل العقلي على كون هذه الأشياء مملوكة له تعالى ، والتصرّف في ملك الغير غير جائز عقلا (٢).

الخامسة : أنّ بعض الأغذية نافع وبعضها ضار ، والتجربة تفتقر إلى أدوار تقصر عنها الأعمار فتخبرنا بذلك.

السادسة : حفظ النوع الإنساني من الفناء بشرع العدل الذي لا يعلم إلّا منه كما يجيء بيانه.

السابعة : تكميل أشخاص الإنسان بحسب استعداداتهم وكذا تعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق والسياسات ، وما هذا شأنه حسن بضرورة العقل.

__________________

(١) ولذلك إنّ الإمام لا يحتاج في علمه وسائر كمالاته إلى التعلّم من أحد من البشر ، وهو غنيّ عن استفادة كمال من البشر بل هو المعلّم لهم ، وعلمه لدني من جانب الله تعالى بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «وعلّمناه من لدنّا علما» فمن ادّعى أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام تعلّم الخطّ عن بعض أهل مكة مثلا وأدّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجرة ذلك من مال خديجة عليها‌السلام كما تفوّه بهذا الكلام الشائن بعض أبناء العصر فقد خبط خبط العشواء وتفوّه بما لم يتفوّه به أحد من المسلمين وغيرهم ، عصمنا الله تعالى من هذه الأقوال الشائنة الكاذبة الصادرة عن بعض الأفواه.

(٢) مبنيّ على أنّ الأشياء قبل ورود الشرع على حظر.

٢٤٠