اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

الرابع : كونه مريدا أي عالما باشتمال الفعل على المصلحة الباعثة على إيجاده ، ويدلّ على ثبوت هذا الوصف له أنّ أفعاله اختصّت بأوقات وأوصاف وأوضاع ومقادير ، يجوز في كلّ منها خلافها مع تساوي الكلّ بالنسبة إليه أو إلى (١) القابل ، فلا بدّ من مخصص ليس هو القدرة ؛ لتساويها ، ولأنّ شأنها الإيجاد فقط ، ولا العلم ؛ لتبعيته لتعيّن الممكن وتقرّر صدوره ، فلا يكون مخصّصا وإلّا دار ، وظاهر أنّ باقي الصفات لا يصلح أيضا للمخصصية فيكون المخصص ما ذكرناه وهو المطلوب.

تتمة : فسّر النجّار (٢) إرادته تعالى بأنّه غير مغلوب ولا مكره ، والأشاعرة بأنّها معنى قديم قائم بذاته ، والكرامية : بمعنى حادث قائم بذاته أيضا وأكثر المعتزلة : بأنّها معنى حادث قائم بنفسه (٣) لا في محلّ ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل فلأنّه لازم الإرادة لا نفسها ،

وأمّا الثاني : فلما يأتي (٤)

وأمّا الثالث : فلما تقدّم (٥)

وأمّا الرابع : فلعدم تعقّله (٦) فهو محال ضرورة (٧) ، ولاستلزامه التسلسل ، إذ فعل الحادث يستلزم تبعية إرادة أخرى وهكذا.

__________________

(١) وإلى القابل ـ خ : (د).

(٢) هو الحسين بن محمد النجّار المتوفى سنة ٢٣٠ ويقال لاتباعه : النجّارية قالوا بحدوث القرآن ونفي الرؤية في الجنة. وقيل : النجارية هم اتباع أبي الحسن النجّار المصري. وصاحب القول الذي نقله المصنف قدس‌سره في معنى الإرادة هو الحسين النجّار كما صرح به الإمام الرازي في كتابه الاربعين انظر ص ٤٧ ـ ١٤٦ ـ طبعة حيدرآباد.

(٣) قائم بنفسه ـ خ : (د).

(٤) من بطلان المعاني.

(٥) من امتناع حلول الحوادث فيه.

(٦) من أنّه لا يعقل قيام صفة بذاتها.

(٧) ضرورة ـ خ : (آ).

٢٠١

الفصل الثاني : فيما لا يتوقّف عليه الأفعال ، وهو أقسام :

الأوّل : كونه سميعا وبصيرا ، أي عالم بالمسموع والمبصر ، وبرهانه ظاهر بعد ما تقدّم من عموم علمه ، فكان فيه غنية ، لكن ورد النقل بثبوت هذين (١) ومنع العقل من ظاهرهما فحملناه على العلم مجازا.

واستدلال الأشعري على ثبوتهما له بأنّه حيّ ، وكلّ حيّ يصحّ عليه ذلك ، فتجبان له ؛ إذ لولاه لكان موصوفا بضدّهما ، وضدّهما نقص باطل ، لانتقاض الكبرى بكثير من الحيوان ؛ فإنّ السمك لا سمع له والعقرب والخلد (٢) لا بصر لهما والديدان ليس لها شيء منهما ، ونمنع وجوب الاتّصاف بالضدّ لولاه ، فإنّ الشفّاف جسم يجوز اتّصافه بالضدّين ، وهما مسلوبان عنه ، ونمنع كون ضدهما نقصا مطلقا بل في حقّ من يجوزان عليه.

الثاني : كونه متكلّما أي فاعلا للكلام (٣) الذي هو الحرف والصوت في جسم يعبّر به عن مراده ، ودليل إمكانه : عموم قدرته للممكنات وثبوته له ، للنقل ، وإطباق أهل اللغة على أنّ المتكلّم من فعل الكلام ينفي تفسير الأشعرية له بأنّه من قام به الكلام ، وإلّا لكان الصدى والمصروع متكلّمين ، ومنعه ظاهر في البين ، ولأنّه مبنيّ على تفسير الكلام بالمعنى وهو باطل ، فإنّ المتبادر إلى الذهن ليس إلّا تفسيرنا وإلّا لكان الأخرس والساكت متكلّمين ، وهو باطل.

واستدلال الأشعري (٤) بأنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني ، أعني الصور الذهنية ، فإنّا إذا نطقنا بخبر مدلوله ليس نفس الاعتقاد لجواز أن يكون بخلافه ، ولا نفس الإرادة ؛ لأنّ الخبر يتعلّق (٥) بالواجب والممكن ، ولا شيء من الإرادة كذلك فهو أمر آخر ، وهو

__________________

(١) هاتين ـ خ : (آ).

(٢) الخلد نوع من القواضم يعيش تحت الأرض ، وهو ليس له عينان ولا أذنان.

(٣) فاعل الكلام ـ خ : (آ).

(٤) واستدلاله بأنّ ... خ : (آ).

(٥) متعلّق ـ خ : (آ).

٢٠٢

مرادنا بالكلام النفسي ، ويقول الأخطل :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ضعيف أمّا الأوّل : فلأنّا نقول : لم لا يجوز أن يكون من قبيل العلوم ؛ فإنّ الصور الذهنية إمّا تصوّرات أو كيفيات تلحقها كالتصديق ونحوه ، وهي من أقسام العلم ، وحينئذ نمنع من (١) إطلاق لفظ الكلام عليها ، واصطلاحكم ليس حجّة علينا.

وأمّا الثاني : فلأنّ المراد تصوّر الكلام ، ولأنّه كلام شعري لا يفيد علما بل تخيّلا.

ثمّ إنّ تركّب الكلام من الحروف التي يعدم (٢) السابق منها بوجود اللاحق يدلّ على حدوثه ، ولأنّه يلزم تعدّد القدماء لو كان قديما ، وهو باطل.

ولقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (٣) والذكر هو القرآن لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤) وللزوم العبث بأمر المعدوم لو كان أزليا والكذب ب (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (٥) الدالّ على الماضي (٦) مع أنّه لا سابق على الأزل.

فائدة : خبره تعالى صدق وإلّا لكان كاذبا ، تعالى الله عنه ؛ لأنّه قبيح كما يجيء ، والقبيح منفيّ عنه.

الثالث : كونه واحدا وهو مطلب يستدلّ عليه بالسمع ، وهو أقوى ما استدلّ به فيه، وشهرته ظاهرة ، وبالعقل أيضا ، وهو طريقان :

الأوّل : طريق الحكماء ، ولنذكر منها ما هو على الخاطر وهو وجهان.

__________________

(١) من ـ خ : (د).

(٢) يتقدّم ـ خ : (د).

(٣) الأنبياء ٢١ : ٢ ؛ الشعراء ٢٦ : ٥ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ).

(٤) الزخرف ٤٣ : ٤٤.

(٥) نوح ٧١ : ١.

(٦) ويلزم منه إرسال نوح قبل إرساله وهو محال.

٢٠٣

الأوّل : تقريره أنّ واجب الوجود يجب أن يكون نفس حقيقته وإلّا لكان إمّا جزءها فيلزم التركيب أو خارجا عنها ، فيلزم أن لا يكون واجب الوجود بالنظر إلى ماهيته مع قطع النظر عمّا عداها ، وهو محال كما تقدم.

وحينئذ نقول : لو كان محمولا على اثنين لزم ثبوت الامتياز ، فيكون كلّ منهما مركّبا ممّا به الاشتراك وممّا به الامتياز ، فيكونان ممكنين ، هذا خلف.

الثاني : لو كان الواجب أكثر من واحد ، لكان مفهوم واجب الوجود إمّا أن يكون ذاتيا لهما فالخصوصية التي تنضاف إلى المعاني المشتركة إن كانت في كل واحد منهما لزم تركّبهما ، وإن كانت في أحدهما فهو مركّب. وإمّا أن يكون عرضيا لهما أو لأحدهما ، فالمعروض في ذاته لا يكون واجبا ، ولا يجوز أن يكون إلّا له هو المعنى المشترك فقط ، لأنّ المعنى المشترك من حيث هو مشترك لا يوجد في الخارج من غير خصوصية ، ولا يجوز أن تكون الخصوصية أمرا سلبيا ، وهو كونه ليس الآخر ؛ لأنّ سلب الغير لا يحصل (١) إلّا بعد حصول الغير ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما متوقّفا على حصول الآخر ، فيكون ممكنا.

وفيهما نظر ؛ لجواز أن يكون الواجب لذاته نفس كلّ واحد منهما ، ولا يحتاج كلّ منهما إلى المميّز ؛ لتمايزهما بنفس الحقيقة ، ويكون قول الواجب لذاته (٢) عليهما بالاشتراك اللفظي فقط أو بالاشتراك المعنوي ، ويكون مفهومه أمرا عدميا ، فلا يلزم المحال المذكور.

الثاني : طريق المتكلّمين ، والمشهور منها دليل التمانع ، (٣) وهو يثبت وحدانية القادر المريد.

وتقريره : لو كان هناك إلهان بالصفة المذكورة فإمّا أن يمكن مخالفة أحدهما للآخر في مقتضى الإرادة أو لا ، وكلاهما باطل.

__________________

(١) يتحصل ـ خ : (آ).

(٢) لذاته ـ خ : (د).

(٣) المانع ـ خ : (د).

٢٠٤

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو أمكن فليفرض (١) وقوعها بإرادة أحدهما حركة جسم وأراد (٢) الآخر سكونه ، فإن وقعا لزم اجتماع المنافيين ، وإن ارتفعا بطل ما علم ضرورة عدم تحقّقه ، وإن وقع أحدهما يرجّح الجائز من غير مرجّح أو لزم عجز الآخر.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ كلّا منهما لو انفرد لقدر على ما يريده ، فوجب كونه كذلك عند الاجتماع ، وإلّا لزم زوال الصفة الذاتية بالعارض ، وهو محال.

وفيه نظر أيضا ؛ لأنّا نمنع التمانع ، وليس ثبوت قدرتهما عند الاجتماع علّة تامة في ذلك ، بل لا بدّ من انضمام الإرادة ، وهو ممنوع.

وسنده : أنّ الإرادة : العلم بالمصلحة ، فلم قلت بمصلحة الضدّين حتّى يحصل إرادتهما؟

سلّمنا ، لكن المصلحتان إن ترجّحت إحداهما تعيّنت ، ويكون علم غير المريد لها صارفا له عن إرادة المرجوحية ، وإن لم ترجّح إحداهما فلم قلت بحصول الداعي؟ لتحقّق التمانع ، فإذن الأقوى السمع (٣).

__________________

(١) فيفرض ـ خ : (آ).

(٢) إرادة ـ خ : (د).

(٣) فأنت أيّها القارئ الكريم إن شئت أدلّة عقلية تامة خالية عن الخدشة والشبهات في إثبات التوحيد ، فعليك بالمراجعة إلى كتاب الأسفار لصدر المتألهين قدس‌سره ، نعم خير مأخذ للتوحيد هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة من أحاديث النبيّ وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام وقد أودع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علم التوحيد عند أوصيائه الطاهرين عليهم‌السلام وتجد كلماتهم في هذا الموضوع الشريف مأثورة في كتاب نهج البلاغة والصحيفة الكاملة السجادية وفي الأدعية المأثورة عنهم عليهم‌السلام في مصباح الشيخ الطوسي (ره) والإقبال للسيد ابن طاوس (ره) وسائر كتب السيد (ره) ، وغيرها من كتب الأدعية والأحاديث الشريفة مثل أصول الكافي وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق (ره).

وغير خفي على الباحث العاقل أنّه ليس غرضنا من الرجوع إلى الكتب المذكورة التصديق بها تقليدا ، بل لأنّها تنبّه على أمر عقلي يجزم به العقل بعد التنبيه إليه ، فيكون الأمر في الحقيقة هو الرجوع إلى صريح العقل وواضح البرهان ، والله الموفّق.

٢٠٥

الفصل الثالث : في توابع هذا المرصد ، وفيه (١) أبحاث :

الأوّل : أثبت الحكماء له صفات لازمة (٢).

الأوّل (٣) : كونه جوادا أي يفيد ما ينبغي إفادته لا لمقابلة (٤) عوض ؛ لأنّه أفاد الممكنات الوجود من غير استعاضة شيء منها من صفة حقيقية (٥) أو إضافية.

الثاني : كونه ملكا ؛ لتحقّق صفة الملوكية بالنسبة إليه ، وهي غناه المطلق في ذاته وصفاته (٦) ، وكون كلّ شيء مفتقرا إليه ؛ للزوم الإمكان له وأنّه لا يوجد إلّا بسببه ، فله ذات كلّ شيء.

الثالث : كونه تاما وفوق التمام ؛ لما تقدّم من وحدته من جميع الجهات وامتناع تغيّره وانفعاله وتجدّد شيء له ، وكلّ ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل.

الرابع : كونه حقّا ، أي واجب الثبوت والدوام غير قابل للعدم والبطلان ، فهو حق بل أحقّ من كلّ حقّ.

الخامس : كونه خيرا ؛ لأنّ الخير وجود والشرّ عدم ، فهو عدم كمال الشيء من حيث هو مستحقّ له ، وهو تعالى يستحيل أن يعدم عنه شيء من الكمالات فلا يتطرّق إليه الشرّ بوجه ، فهو خير محض.

السادس : كونه حكيما إمّا بمعنى علمه بالأشياء على ما هي عليه أو صدور الأشياء

__________________

(١) هو ـ خ : (د).

(٢) صفات لازمة من وجوب وجوده ـ كذا في ـ خ : ـ (د) وما أثبتناه فهو من ـ خ : (آ).

(٣) في ـ خ : (د) : الثاني. وفي ـ خ : (آ) الأول. كما أثبتناه. وكان مكان : الثاني كونه ملكا ـ في ـ خ : (د) : الثالث ـ إلى آخر تعداد الصفات ولكن الصحيح هو ما أثبتناه من خ : (آ) إلى آخر الصفات وهو التاسع وكان في ـ خ : (د) العاشر ، وهو في غير محلّه.

(٤) بمقابلة ـ خ : (آ).

(٥) حقيقة ـ خ : (د).

(٦) ولذلك ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله النهي عن تسمية شخص باسم (...) وقال : هو بمعنى ملك الملوك وهو الله تعالى.

٢٠٦

منه على الوجه الأكمل ، وهو تعالى حكيم بالمعنيين.

السابع : كونه جبّارا ، لاستناد كلّ شيء إليه ، فهو يجبر ما بالقوّة بالفعل (١) والتكميل كالمادة بالصورة.

الثامن : كونه قهّارا ، أي يقهر العدم بالوجود.

التاسع : كونه قيّوما ، أي قائم بذاته مقيم لغيره (٢).

أمّا الأوّل ؛ فلوجوب وجوده ، وأمّا الثاني ؛ فلاستناد كلّ شيء إليه.

الثاني : أثبت جماعة من المتكلّمين له تعالى صفات زائدة على ما تقدّم ، فالأشعري أثبت اليد صفة وراء القدرة والوجه مغايرا للوجود ، وابن سعيد القدم مغايرا للبقاء ، والرحمة والكرم والرضا صفات مغايرات للإرادة ، وكذلك جماعة من حنفية ما وراء النهر أثبتوا صفة التكوين مغايرة للقدرة.

والحقّ خلاف ذلك كلّه بل ذلك راجع إلى ما تقدّم.

الثالث : اعلم أنّ التحقيق في هذا المقام أنّه تعالى ليس له صفة (٣) كما قال وليّهعليه‌السلام : وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وبشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، بل التعبير عن صفاته هو بالحقيقة تعبير عن ذاته ، بمعنى أنّ مقتضيات الصفات منسوبة إلى ذاته لا باعتبار صفة يقوم بها كالتمكّن من الإيجاد ؛ فإنّه باعتباره يقال : قادر ، والكشف والظهور باعتباره يقال : عالم لا باعتبار قيام قدرة أو علم بذاته.

ولذلك مثال في المحسوسات ، وهو أنّ النور إذا وقع على الجدار ـ مثلا ـ ظهر لنا الجدار والنور معا ، لكن ظهور الجدار باعتبار وقوع النور عليه وظهور النور ، لا لقيام نور آخر به بل لذاته ، وكذلك ذاته وذات غيره بالنسبة إلى الصفات وبرهان هذا ، ما تقدّم.

__________________

(١) مجبر ما بالقوة هي بالفعل ـ خ : (د).

(٢) مقيما لغيره ـ خ : (آ).

(٣) أي صفة زائدة.

٢٠٧

ونزيد هنا (١) أنّه لو كان له صفة زائدة على ذاته لكانت إمّا قديمة أو حادثة ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّ الواجب واحد وما عداه ممكن ، وكلّ ممكن حادث فلا قديم سواه ، وللإجماع (٢) على ذلك ، ولذلك كفرت النصارى بقولهم بقدم أقانيم ثلاثة (٣) فكيف من يثبت سبعة أو ثمانية.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ ذلك الحادث لا بدّ له من محدث ، فمحدثه إمّا ذات الواجب أو شيء من لوازمها بالإيجاب ، فيلزم القدم لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته القديمة ، فيلزم قدم الحادث ، أو بالاختيار فيستدعى ذلك ثبوت صفات يتوقّف عليها الفعل ، والكلام فيها كالأوّل ويتسلسل. وإمّا غير ذاته فيلزم افتقاره إلى الغير المستلزم لإمكانه ، والكلّ باطل.

__________________

(١) ويؤيّد هذا ـ خ : (د).

(٢) والإجماع ـ خ : (د).

(٣) من القول بأنّ لله تعالى صفات زائدة كما هو مذهب الأشاعرة قد يعتذر النصارى عن التثليث ، بأنّ جمعا من المسلمين يعتقدون مثله في صفات الواجب ، فإنّ الواجب عندهم مركّب من تسعة : ذات الواجب وصفاته الثمانية.

وغير خفي على الباحث الناقد أنّ هذا الاعتذار ليس في محلّه ، فإنّه قد تحقّق عند الشيعة الإمامية كما حقّقه المصنّف (ره) في الكتاب أنّه لا وجود لغير الذات ، وأنّ الصفات عين الذات ، وصفات الواجب ليست إلّا اعتبارات تقال عليها ألفاظ في مقام التفاهم ، وليست الصفات أمرا غير الذات في الحقيقة.

نعم يمكن أن يقال : إنّ هذا الاعتذار قد يصحّ على مذهب الأشاعرة القائلين بأنّ الصفات غير الذات ، وهو باطل عندنا كما أوضحه المصنّف (ره) بل التحقيق أنّه فرق واضح بين مذهب الأشاعرة ومذهب النصارى في الأقانيم ، فشتّان بين القول بأنّ الأب في السماء والابن في الأرض والروح القدس ترفرف على الخليقة والكلّ واحد في حين أنّ لكلّ واحد وجودا مستقلّا ، وبين ما يقول الأشعري : إنّ الواجب واحد متّصف بصفات متعدّدة ، ولكن لا يهمنا الدفاع عن الأشاعرة ؛ فإنّ كلا القولين : تثليثا كان أو تسبيعا أو تثمينا أو تتسيعا ، باطل عندنا بالبراهين الواضحة من العقل والنقل ، والحمد لله تعالى.

٢٠٨

اللامع التاسع

في الأفعال

وفيه مقاصد :

[المقصد] الأوّل : في الفعل وأقسامه

قيل هو ما يصدر (١) من الفاعل وهو تعريف دوري.

وقيل : هو مبدأ التغيير في آخر ، وينتقض بكثير من الكيفيات.

والحقّ أنّه ضروري التصوّر.

ثمّ إنّه إمّا أن يوصف بزائد على (٢) الحدوث أو لا ، والثاني كحركة الساهي والنائم ، والأوّل : إمّا أن ينفر منه العقل وهو القبيح أو لا وهو الحسن ، وإمّا أن لا يكون له (٣) وصف زائد على حسنه ، وهو المباح أو يكون (٤) فإمّا أن يترجّح تركه ، وهو المكروه ، أو يترجّح فعله فإمّا أن يمتنع تركه وهو الواجب ، أو لا يمتنع تركه وهو المندوب.

__________________

(١) صدر ـ خ : (آ).

(٢) عن ـ خ : (آ).

(٣) وإمّا لا أن يكون له ـ خ : (د).

(٤) أو لا يكون ـ خ : (د) والظاهر أنّه ليس بصحيح.

٢٠٩

ثمّ الحسن والقبح (١) قد يراد بهما ملائمة الطبع وعدمها وكون الشيء صفة كمال أو صفة (٢) نقص ، ولا خلاف في كونهما عقليين ، وقد يراد بهما استحقاق المدح والذمّ عاجلا والثواب والعقاب آجلا ، فعند الأشعري شرعيان والحكمان معلومان بالعقل العملي ؛ إذ عليهما مدار مصالح العالم ، وعند العدلي ، منهما عقلي ضروري كشكر المنعم وحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضارّ ، ونظري كحسن الصدق الضارّ وقبح الكذب النافع ، وغير عقلي كحسن صوم آخر رمضان وقبح ما بعده.

ونبّه على الضروري باتّفاق العقلاء على حسن ما ذكر وقبحه ، وليس ذلك بالشرع وإلّا لما حكم به البراهمة (٣) ولا بالطبع ؛ لأنّ الطباع مختلفة وأنّ كثيرا من الأمور ينفر منها طبع إنسان ويميل إليها طبع غيره مع الاتّفاق على الحكم بما ذكرناه ، فلم يبق إلّا أن تكون أحكاما عقلية وليست نظرية وإلّا لما حكم به العوامّ ، وبأنّ العاقل يختار الصدق على الكذب عند تخييره فيهما حال استوائهما عنده ، فلو لا تقرّر حسن الصدق وقبح الكذب عنده لما اختار الأوّل.

وحصول التفاوت بين هذه القضايا وبين سائر البديهيات إن سلّم ؛ فلمقولية الضرورة على ما تحتها بالتفاوت ككون الواحد نصف الاثنين ونصف عشر العشرين ، فإنّ الحكم فيهما ضروريّ مع أنّ الأوّل أجلى.

ومن هنا نشأ اختلاف العقلاء فيما ذكرناه.

وأمّا النظري فلأنّه لمّا كان الحسن والقبح لازمين لمطلق الصدق والكذب كما قرّرناه (٤) كانا لازمين للصدق الضارّ والكذب النافع ؛ لكون المطلق جزء من المركّب ، ولازم الجزء لازم للكلّ.

__________________

(١) والقبيح ـ خ : (د).

(٢) صفة هي كمال أو نقص ـ خ : (د).

(٣) كما أنّ أهل الجاهلية يحكمون بالحسن والقبح ، وهم غير قائلين بالشرائع ، فلو لم يكونا عقليين لما حكموا بذلك.

(٤) كما ذكرناه ـ خ : (آ).

٢١٠

واستدلّ أيضا على المطلوب ، بأنّه لولاه لزم عدم الوثوق بالوعد والوعيد ؛ لجواز الكذب حينئذ على الشارع ، ولجاز تعذيب المؤمن وإثابة الكافر ؛ إذ لا حاكم على الفاعل بالقبح ، ولجاز أيضا إظهار المعجزة على يد الكاذب (١).

واحتجاج الأشعري بأنّه لو كان كما قلتم لما صدر القبيح من الشارع الممتنع القبيح عليه عندكم ، لكنّه صدر منه تكليف ما لا يطاق كتكليف الكافر المعلوم عدم الإيمان منه له تعالى ، المستلزم لمحاليته وإلّا لزم انقلاب علمه جهلا. وبأنّ الكذب قد يحسن حال اشتماله على تخليص نبي أو وليّ ، باطل.

أمّا الاوّل فلمنع عدم الطاقة على الإيمان ؛ لأنّه ممكن في نفسه ، والكافر قادر عالم بقدرته ، فكان تكليفا بما يطاق ، ونمنع تأثير العلم بل هو مطابق له فقط.

وأمّا الثاني ، فلمنع زوال القبيح عن الكذب ؛ وإنّما جاز لأنّ قبحه أضعف من قبح إيقاع النبي في الضرر ، فارتكب أضعف القبيحين للضرورة.

سلّمنا ، لكن لحوق القبح للكذب مبدؤه (٢) الاستيجاب ، فهو مشروط بعدم المانع ، فيختلف (٣) الأثر عن المؤثّر عند وجود المانع ، والمانع هنا اشتماله على المفسدة فتخلّف القبيح.

سلّمنا ، لكن نمنع (٤) زوال القبح بل الواجب حينئذ التعريض ، فإنّ في المعاريض مندوحة.

المقصد (٥) الثاني : في الفاعل

لا خلاف في أنّ ما لا يتعلّق به قصودنا ودواعينا ولا يحصل عند إرادتنا ولا ينتفي عند

__________________

(١) الكذاب ـ خ : (آ).

(٢) من مبدئه ـ خ : (د).

(٣) فتخلف ـ خ : (آ).

(٤) يمنع ـ خ : (د).

(٥) الفصل ـ خ : (د) وما في ـ خ : (آ) هو الصحيح.

٢١١

كراهتنا ولا نمدح عليه ولا نذمّ ، أنّ فاعله هو الله ، أمّا نقيض ذلك فقال جهم (١) وبشر (٢) هو كالأوّل.

وقال أبو الحسن الأشعري (٣) وأتباعه كذلك إلّا أنّ العبد له الكسب ، وفسّره بأنّ الله تعالى أجرى عادته أن يخلق الفعل والقدرة عليه عند اختيار العبد الطاعة أو المعصية.

والقاضي (٤) : بأنّ ذات الفعل من الله وكونه طاعة أو معصية من العبد ، وذلك مناط التكليف كاللطمة تقع تاديبا وظلما. وقال قوم : هو غير معلوم.

والأسفرائني (٥) أبو إسحاق جعل الفعل واقعا بالقدرتين.

وقالت العدلية : إنّه من العبد ، فقيل : معلوم نظرا ، وقيل : ضرورة ، وهو الحقّ ، وننبّه على ضروريّته بالفرق بين حركاتنا الاختيارية كالأكل والشرب وغيرها كالنبض بإمكان ترك الأوّل دون الثاني حتّى قال أبو الهذيل : حمار بشر أعقل من بشر. وبحسن (٦) المدح على الطاعة والذمّ على المعصية لا على حسن الصورة وقبحها ، وليس إلّا العلم ضرورة بالفاعلية في الأوّل دون الثاني.

وبحصول العلم بذلك للأطفال ؛ فإنّه يذمّ رامي الآجرة لا الآجرة بل للبهائم ، فإنّ الحمار ينفر من الإنسان إذا قصد أذاه ، ولا ينفر من النخلة والحائط ؛ لما تقرّر في وهمه من قدرة الإنسان دونهما.

وبالنقل المستفيض بذلك كتابا وسنّة.

فإن احتجّ المخالف بأنّ فعل العبد إمّا معلوم الوقوع له تعالى فواجب أو عدمه فممتنع ، ولا قدرة عليهما.

__________________

(١) جهم بن صفوان الراسبي قتل سنة ١٢٨.

(٢) بشر المريسي من المرجئة ، ومرجئة بغداد من أتباعه توفّي ٢١٩ قيل : إنّ المأمون أمر بصلب المريسي على الجسر ، وبشر بن المعتمر من المعتزلة توفّى ٢١٠.

(٣) أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري توفّي ٣٢٤ ، وقيل ٣٣٢.

(٤) القاضي عبد الجبار المعتزلي الهمذاني الأسدآبادي المتوفّى ٤١٥.

(٥) أبو إسحاق الأسفرائني المتوفّى ٤١٨.

(٦) يحسن ـ خ : (آ).

٢١٢

وبأنّه ممكن مستحيل حال استواء الدواعي إلى طرفيه ، فيفتقر إلى المرجّح فيجب مع حصوله وإلّا لا ترجيح ويمتنع مع عدمه فلا قدرة.

وبأنّ وقوعه إمّا لا لمرجّح وهو محال ، أو لمرجّح إمّا منه تعالى فالفعل منه أو من العبد فيتسلسل وهو محال أيضا ، فتعيّن الثاني.

وبأنّه لو كان فاعلا لكان عالما بتفاصيل فعله ؛ لأنّ تخصيص الشيء بالإيجاد يستدعي تصوّره ، لكن اللازم باطل بحركات (١) أجفانه ، وبأنّ البطء لتخلّل السكنات التي لا يشعرها.

وبأنّه يمكن مخالفة إرادة العبد لإرادته تعالى (٢) بالفعل الواحد فإمّا أن لا يقع المرادان ، وهو خلو عن النقيضين ، أو يقعا وهو جمع بينهما ، أو يقع أحدهما وهو ترجيح بلا مرجّح لاستقلال كلّ بقدرته.

وبالنقل المستفيض أيضا.

فإنّا نجيب عن الأوّل بأنّ الوجوب اللاحق لا ينافي إمكان الفعل الذاتي الذي هو متعلّق القدرة ، وبأنّ العلم تابع للوقوع وعدمه فلا يؤثّر فيه وجوبا ولا امتناعا ، وبأنّه معارض بفعله تعالى (٣).

وعن الثاني بأنّ المختار يرجّح أحد مقدوريه لا لمرجّح أو بأنّ المرجّح هو الداعي ، وذلك لا ينافي القدرة كالواجب تعالى.

وعن الثالث بما قلناه آنفا ، ولا يلزم نسبة الفعل إليه تعالى ؛ لكون الداعي منه ؛ لأنّه آلة كالسيف مع القاتل ، فإنّ فعله لا ينسب إلى الحدّاد.

وعن الرابع بالمنع من عدم علمه ، وبطلان اللازم ممنوع ، ولا نسلّم أنّه غير شاعر بما ذكرته ، غايته أنّه غير شاعر بأنّه شاعر.

__________________

(١) لحركات ـ خ : (د).

(٢) إرادته تعالى ـ خ : (آ).

(٣) مراده أنّ ما ذكره المخالف المستدلّ عائد في حقّه تعالى من غير فرق ، فيقال : فعله تعالى إمّا معلوم الوقوع له أو لا ، والأول واجب والثاني ممتنع ، ولا قدرة عليهما.

٢١٣

وعن الخامس بأنّه يقع مراده تعالى لقوّة قدرته ؛ إذ يمتنع (١) تساوي القدرتين بل هما متفاوتان ؛ فإنّ الضعيف لا يعارض القوي ، أو نقول : يقع مراد العبد ؛ لأنّه تعالى خلقه ومكّنه وأراد وقوع الطاعة منه اختيارا ليستحقّ الثواب ، فلا يحسن إجباره ، ولا يلزم من ذلك تخلّف مراده تعالى المنافي لقوله عليه‌السلام : «ما شاء الله كان» لأنّ المراد استحالة التخلّف في إرادته فعل نفسه لا فعل عبده ، والفرق ما ذكرناه.

وعن السادس بالمعارضة بمثله عن النقل وهو كثير ، ويترجّح نقلنا بأنّه موافق لما علم ضرورة ، وبانتفاء التكليف على ما ذكرناه ، وكذا الوعد والوعيد والتخويف والإنذار مع قبول ما ذكروه للتأويل ، وهو مذكور في المطوّلات.

وأمّا الكسب الذي ذكروه فلا معنى له ؛ لأنّ حاصل تفسيرهم له أنّه فعل من أفعال القلب عزما أو اختيارا ، وكلّ فعل لا بدّ له من قدرة ، فذلك إمّا من فعل الله فلا كسب للعبد وإمّا من العبد ، فيثبت أنّه فاعل لشيء وهو يناقض قولهم : لا فاعل إلّا الله.

وهنا فوائد :

الأولى : أنّ الفعل إمّا مباشر ، وهو ما كان في محلّ القدرة كحركة اليد وإمّا متولّد ، وهو الصادر بحسب فعل آخر في محلّ القدرة كالحركة الصادرة عن الاعتماد ، ويسمّونه المسبّب ، ويسمّون الأوّل سببا ، وإمّا مخترع وهو ما عدا هذين القسمين ، وهذا لا نزاع في أنّه مختصّ به تعالى.

والأوّل : قد عرفت الخلاف فيه ، وأمّا الثاني فأكثر المعتزلة والمحقّقين على أنّه من فعلنا كالمباشر ، وعند بعضهم : أنّه بطبع المحلّ وأنّه ليس للعبد إلّا الإرادة. وقيل : له الفكر فقط.

والحقّ الأوّل ، والتجأ المعتزلة في حقّيته إلى الضرورة ، واستدلّ بعضهم على ضرورية العلم بذلك بحسن المدح والذم عليه فيكون صادرا من العبد.

__________________

(١) نمنع ـ خ : (آ).

٢١٤

إن قلت : قد يقع الذمّ مع العلم بأنّ الفاعل هو الله تعالى ، كإلقاء الطفل إلى النار المحرقة.

قلت : الذمّ على الإلقاء لا على الإحراق.

إن قلت : لو كان المتولّد مقدورا للعبد لأمكنه تركه ، وهو باطل ؛ فإنّ عند اختيار السبب يجب المسبّب فلا يقع بالقدرة.

قلت : الوجوب لاحق كالوجوب مع انضمام الداعي إلى القدرة فلا ينافي الوقوع منّا.

الثانية : وقع الاتفاق وتطابق النقل على كون الأفعال واقعة بقضاء الله وقدره ، ويستعملان في معان ثلاثة :

الأوّل : الخلق والإيجاد كقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (١) ، وهذا المعنى ليس بمراد (٢) ، لما علم بطلانه ضرورة.

الثاني : أن يراد بالقضاء الحكم والإيجاب كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(٣) وهذا لا يصحّ إلّا في الواجب خاصّة دون غيره.

الثالث : أن يراد بالقضاء الإعلام والإخبار كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (٤) أي أعلمناهم وأخبرناهم.

والقدر يراد به الكتابة والبيان كقوله : (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٥) وهذا المعنى هو المراد ، أمّا القضاء فلأنّه تعالى أعلمنا أحكام أفعالنا ، وأمّا القدر فلأنّه تعالى بيّن أفعال العباد وكتبها في اللوح المحفوظ وبيّنها للملائكة ؛ إذ لو لم يتعيّن هذا المعنى للإرادة لزم وجوب الرضا بالكفر وأنواع القبائح ، للإجماع على وجوب الرضا بقضاء الله وقدره ، وقول الخصم : إنّا (٦) نرضى بالقضاء لا بالمقضي باطل ؛ لأنّ القائل : رضيت بقضاء الله

__________________

(١) فصلت ٤١ : ١٠.

(٢) مرادنا ـ خ : (آ).

(٣) الإسراء ١٧ : ٢٣.

(٤) الإسراء ١٧ : ٤.

(٥) النمل ٢٧ : ٥٧.

(٦) بأنّا ـ خ : (آ).

٢١٥

لا يريد به رضاه بصفة من صفاته ، بل يريد ما يقضي به تلك الصفة وهو المقضى ، فيلزم المحذور.

واعلم أنّ وليّ الله قد كشف القناع عن معنى القضاء والقدر حين سأله الشامي عن مسيرهم (١) أبقضاء الله وقدره؟ فقال عليه‌السلام : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلّا بقضائه وقدره ، فقال له السائل : عند الله أحتسب عنائي لا أرى لي من الأجر شيئا ، فقال عليه‌السلام : مه يا شيخ ، بل عظّم الله أجوركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرّين فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا ، فقال : ويحك لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتما ، ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم يأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الثواب ، وهم قدرية هذه الأمّة ومجوسها (٢) ، إنّ الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا ، وكلّف يسيرا ولم يعص

__________________

(١) سيرهم ـ خ : (آ) رواه في الكافي وغيره عن الأصبغ بن نباتة.

(٢) للعلامة الكراجكي قدس‌سره تحقيق رشيق في معنى الحديث : القدرية مجوس هذه الأمة. وقد أوضح معنى الحديث ومصداقه ، ينبغي نقله هنا من كتابه كنز الفوائد قال : اعلم أنّا وجدنا كل فرقة تعرف باسم أو تنعت بنعت ، فهي ترتضيه ولا تنكره سواء كان مشتقا من فعل فعلته أو قول قالته أو من اسم مقدّم لها تبعته ، ولم نجد في أسماء الفرق كلّها اسما ينكره أصحابه ، ويتبرّأ منه أهله ولا يعترف احد به إلّا القدرية ، فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم القدرية ، وأهل الجبر يقولون لأهل العدل : أنتم القدرية وإنّما تبرأ الجميع من هذا الاسم ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن القدرية وأخبر أنّهم مجوس هذه الأمة ، والأخبار بذلك مشتهرة. فمنها : ما حدّثني به أبو القاسم هبة الله بن إبراهيم بن عمر الصوّاف بمصر ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي ، قال : حدّثنا عباس بن محمد الدورسي قال : حدّثنا عثمان بن زفر قال : حدّثنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكلّ أمة مجوس ومجوس هذه الأمة القدرية ، فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم في طريق فالجئوهم إلى ضيّقه.

وهذا القول من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دلالة لنا على المعرفة بالقدرية وتمييز لهم من بين الأمة ؛ لأنّهم لم ينعتهم بالمجوسية إلّا لموضع المشابهة بينهم وبين المجوس في المقال والاعتقاد ، وقد علمنا بغير شكّ ولا ارتياب أنّ من ـ

٢١٦

__________________

ـ قول المجوس : إنّ الله تعالى فاعل لجميع ما سرّ ولذّ وأبهج ومالت إليه الأنفس واشتهته الطباع كائنا ما كان ، حتّى أنّه فاعل الملاهي والأغاني وكلّ ما دخل في هذا الباب ، وهذا مذهب المجبرة بغير خلاف ، ويقول المجوس : إنّ الله تعالى محمود على فعل الخير ، وهو لا يقدر على ضدّه ، وإنّ إبليس مذموم على فعل الشر ولا يقدر على ضدّه ، وهذا بعينه يضاهي قول المجبرة : إنّ المؤمن محمود على الإيمان وهو لا يقدر على ضده ، وإنّ الكافر مذموم على الكفر ولا يقدر على ضدّه ، وتذهب المجوس إلى القول بتكليف ما لا يطاق ، وهو رأيها الذي تدين به في الاعتقاد ولهم في السنة يوم يأخذون فيه بقرة قد زيّنوها ، فيربطون يديها ورجليها أوثق الرباط ثمّ يقرّبوها إلى سفح الجبل ويضربوها لتصعد ، فإذا رأوا أن قد تعذّر عليها ذلك قتلوها ، ويسمّون هذا اليوم عيد الباقور ، وهذا هو مذهب المجبرة في القول بتكليف ما لا يستطاع ، فهم مجوس هذه الأمة ، وقد رتّبتها بما اقتضاه هذا البيان ، وقد قالت العدلية للمجبرة : إنّ من أدلّ دليل على أنّكم القدرية قولكم : إنّ جميع أفعال العباد بقدر من اللهعزوجل ، وإنّه الذي قدّر على المؤمن أن يكون مؤمنا وعلى الكافر أن يكون كافرا ، وإنّه لا يكون شيء إلّا أن يقدّره الله تعالى قالت المجبرة : بل أنتم أحقّ بهذا ؛ لأنّكم نفيتم القدر وجحدتموه وأنكرتم أن يكون الله سبحانه قدّر لعباده ما اكتسبوه. قالت العدلية : قد غلطتم فيما ذكرتموه وجرتم فيما قضيتموه ؛ لأن الشيء يجب أن ينسب إلى من أثبته وأوجبه لا إلى من نفاه وسلبه ، ويضاف إلى من أقرّبه واعتقده لا إلى من أنكره وجحده فتأملوا قولنا تعلموا أنكم القدرية دوننا. ثمّ ذكر الكراجكي (ره) تحقيقا آخر لا بأس بنقله تكثيرا للفائدة وقال :

وقد ظنّت المعتزلة أنّ الشيعة هم المرجئة لقولهم : إنّا نرجو من الله تعالى العفو عن المؤمن إذا ارتكب معصية ومات قبل أن تقع منه التوبة ، وهذا غلط منهم في التسمية ؛ لأنّ المرجئة اسم مشتقّ من الإرجاء وهو التأخير ، يقال لمن أخّر أمرا : أرجأت الأمر يا رجل فأنت مرجئي ، قال الله : «ارجه وأخاه» أي أخّره ، وقال تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) يعني مؤخرون إلى مشيته وأمّا الرجاء فإنّما يقال : منه رجوت فأنا راج ، فيجب أن تكون الشيعة راجية لا مرجئة والمرجئة هم الذين أخّروا الأعمال ولم يعتقدوها من فرائض الإيمان ، وقد لعنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما وردت به الأخبار ، حدّثنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن محمد بن صخر الأزدي البصري بمصر سنة ستّ وعشرين وأربع مائة ، قراءة منه علينا ، قال : أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن يوسف قال : حدثنا على بن محمد بن مهرويه القزويني ببغداد سنة ثلاث عشر وثلاثمائة قال : حدّثنا داود بن سليمان العادي قال : حدّثنا علي بن موسى الرضا قال : حدّثنا أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي ابن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان من أمّتي ليس لهم في الآخرة نصيب : المرجئة والقدرية. قلت : وقد تحقّق ممّا ذكره العلامة الكراجكي (ره) وما رواه مسندا أنّه لا شكّ أنّ حديث : القدرية مجوس هذه الأمة. ثابت من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا شكّ في ثبوته عن صاحب الرسالة المقدّسة فما لهج به بعض من لا يعبأ بقوله : إنّه من الموضوعات ، فقوله من الخرافات.

٢١٧

مغلوبا ، ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ، (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (١) فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلّا بهما؟ فقال : هو الأمر من الله تعالى ، وتلا قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربّك عنّا منه إحسانا

الثالثة : أنّه قد ورد في النقل القرآني لفظ الهداية والضلال (٣) فلا بدّ من تفسيرهما فنقول : يطلق كل منهما على معان ثلاثة :

الأوّل : يراد بالهداية نصب الدلالة على الحقّ نحو هدانا (٤) إلى الطريق ، والمراد (٥) بالإضلال الإشارة إلى خلاف الحقّ.

الثاني : يراد بالهداية فعل الهدى في الإنسان حتّى يعقد الشيء على ما هو عليه ، ويراد بالإضلال فعل الضلالة في الإنسان.

الثالث : يراد بالهداية : الإثابة كقوله : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٦) أي يثيبهم ، وبالاضلال الإهلاك والإبطال كقوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٧) أي يبطلها ، إذ لا شكّ (٨) أنّ معاني الهداية كلّها صادقة في حقّه تعالى (٩) ؛ لأنّه نصب الدلالة على الحقّ وفعل الهداية الضرورية في العقلاء وأثابهم على إيمانهم ، ولم يفعله فيهم لأنّه تكليف اختياري (١٠).

__________________

(١) ص ٣٨ : ٣٨.

(٢) الإسراء ١٧ : ١٧.

(٣) الإضلال ـ خ : (آ).

(٤) هداني ـ خ : (آ).

(٥) يراد ـ خ : (آ).

(٦) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٥.

(٧) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٤.

(٨) ولا شكّ ـ خ : (آ).

(٩) في صفة الله تعالى ـ خ : (آ).

(١٠) ولم يفعله فيهم لأنه فعل تكليف اختياري ـ خ : (د).

٢١٨

وأمّا الإضلال فالأوّلان من معانيه لا يجوز نسبتهما إليه سبحانه ، لقبحهما وأنّه منزّه عنه كما يجيء.

وأمّا الثالث فيجوز ؛ لأنّه يهلك العصاة ويعاقبهم ، وقول موسى عليه‌السلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) (١) أي ما هي إلّا ابتلاء منك ، أي فتنتهم بتكليمك إيّاي وسماعهم كلامك حتى توهّموا أنّ سماع الكلام يستلزم جواز رؤية المتكلّم ، ونسبة الإضلال إليه مجاز ؛ إذ المضلّ في الحقيقة هو الجهل ، وهو فعل الطبيعة التي هي فعله ، فهو علة بعيدة فجازت النسبة إليه مجازا ، إذ المراد الإهلاك كما ذكرناه أولا.

المقصد الثالث : فيما يمتنع نسبته إلى الفاعل سبحانه

وهو أنواع :

الأوّل : فعل القبيح وترك الواجب ؛ لأنّ له صارفا عنهما ولا داعي له إليهما وكلّ من كان كذلك امتنعا منه.

أمّا بيان أولتي الصغرى ، فهو أنّ علمه بما فيهما من المفسدة وغناه عنها صارف له عن فعلهما.

وأمّا بيان ثانيهما (٢) فلأنّه لما تحقّق الصارف انتفى الداعي ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين ، ولأنّ الداعي لو حصل لكان إمّا داعي الطبع أي الحاجة وهو محال ، لما ثبت من غناه (٣) ، وإمّا داعي الحكمة وهو باطل ؛ إذ لا حكمة فيما ذكرناه.

وأمّا الكبرى فلما ثبت من تساوي طرفي الممكن واستناد الترجيح إلى الداعي وعدم الصارف ، وهما مفقودان ، فثبت المطلوب.

__________________

(١) الاعراف ٧ : ١٥٥.

(٢) أي ثاني أولتي الصغرى وهو لا داع إليهما أي لا فعل قبيح وترك واجب قوله : فلأنّه لما تحقّق الصارف ، الصارف علمه وغناؤه ، ولما ثبت كونه كذلك لم يكن له داعيا فكان تحقق الصارف ، وقد عرفته.

(٣) لما بينا من غنائه ـ خ : (آ).

٢١٩

قال الأشعري : ثبت استناد الأفعال إليه ، ومن جملتها ما ذكرتم فيكون منه ، ولأنّه كلّف ما لا يطاق وقد تقدّم ، فيكون فاعلا للقبيح ، ولأنّ تكليف الكافر لا فائدة له وإلّا لحصلت ، إمّا في الدنيا وهو باطل ، إذ ليس الحاصل إلّا المشقة ، وإمّا في الآخرة وهو باطل أيضا ؛ لموته على كفره المانع من وصول الثواب إليه ، وإذا كان كذلك كان تكليفه قبيحا إذ انتفاء (١) الفائدة فيه مطلقا أو عودها إليه تعالى أو إلى غير المكلّف قبيح عندكم أيضا ، وإذا ثبت أنّه كلّف الكافر ثبت أنّه فاعل القبيح (٢).

وأجيب : أمّا عن الأوّلين فقد تقدّم ، وأمّا عن الثالث فبالمنع من انتفاء الفائدة ، ونمنع حصرها فيما ذكرتم ، بل الغرض التعريض لاستحقاق الثواب الذي لا يمكن الابتداء به ، وأمّا حصوله بالفعل فمشروط بالكسب الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، وعدمه من سوء اختياره ؛ لما ثبت من تمكّنه وإزاحة العلل عنه.

الثاني : إرادة القبيح والأمر به وترك إرادة الحسن ؛ لأنّ ذلك كلّه قبيح ، وقد تقدّم استحالته عليه ، ولأنّه نهي عن القبيح وأمر بالطاعة فيكون كارها للأوّل ومريدا للثاني ، ولأنّه حكيم وله صارف من القبيح وداع إلى الحسن وهو ظاهر ، ولأنّه لو كان مريدا لجميع الكائنات لوجب الرضى بها ، لكن الرضى بالكفر كفر ، ولأنّه يلزم كون الكافر مطيعا بكفره لموافقته إرادة الله تعالى ، ولقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) والرضى هو الإرادة.

وقال الأشعري : إنّه مريد لجميع الكائنات ، لأنّها فعله ، ولأنّه لو أراد طاعة الكافر التي لم تقع منه لكان مغلوبا معه ، ولقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٤) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٥) المقتضيتين لعدم إرادة الطاعة

__________________

(١) لانتفاء ـ خ : (د).

(٢) للقبيح ـ خ : (د).

(٣) الزمر ٣٩ : ٧.

(٤) السجدة ٣٢ : ١٣.

(٥) يونس ١٠ : ٩٩.

٢٢٠