اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

إذا تقرّر هذا فالمراد هنا الذات والحقيقة ، فعلى هذا تقديره : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك.

وأمّا قوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (١) فإنّه دالّ على تزييد (٢) المبالغة ، فإنّ الإنسان إذا قال : عمّرت هذه الدار لنفسي أو جعلتها ، فهم منه المبالغة.

العاشر (٣) : ما ورد في الأخبار ـ وليس في القرآن ما يدلّ على الجسمية ـ وهو كثير ذكرنا منه حديثا واحدا لاشتماله على محاسن في العبارة ، وهو حديث الصورة ، وقد ورد بعبارتين أحدهما : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ الله خلق آدم على صورته وثانيهما : روى أبو خزيمة (٤) عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يقولنّ أحدكم لعبده : قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فإنّ الله خلق آدم على صورته (٥).

والجواب : أنّ الهاء في قوله : «على صورته» تحتمل وجوها.

الأوّل : أن تكون عائدة إلى شيء غير صورة آدم وغير الله.

__________________

(١) طه ٢٠ : ٤١.

(٢) مزيد ـ خ : (آ).

(٣) الحادي عشر ـ خ : (د) ـ وهو اشتباه ، وما أثبتناه من ـ خ : (آ) هو الصحيح.

(٤) أبي خزيمة ـ خ : (آ).

(٥) يظهر من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، على ما رواها الشيخ الصدوق (ره) في كتاب التوحيد ، ومن التوجيهات التي ذكرها السيد المرتضى علم الهدى قدس سرّه لهذه الرواية أنّها صادرة عن صاحب الرسالة المقدّسة صلوات الله عليه وآله ، وقد نقل العلامة السيد شبّر (ره) في مصابيح الأنوار عن السيد (ره) عدّة تأويلات وزاد عليها بعضها.

وروى الشيخ الصدوق (ره) في التوحيد بإسناده عن علي عليه‌السلام قال : سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلا يقول لرجل : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مه لا تقل هذا فإنّ الله خلق آدم على صورته. قال الصدوق (ره) : تركت المشبّهة من هذا الحديث أوّله وقالوا : إنّ الله خلق آدم على صورته ، فضلّوا في معناه وأضلّوا ، انتهى.

قال الرضا عليه‌السلام : قاتلهم الله لقد حذفوا أوّل الحديث. انظر مصابيح الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧ طبعة بغداد.

يظهر من روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الضمير يرجع إلى الرجل كما هو واضح فلا حاجة إلى الوجوه التي ذكرها المصنّف (ره) في مرجع الضمير.

١٨١

الثاني : أن تكون عائدة إلى آدم عليه‌السلام.

الثالث : أن تكون عائدة إلى الله تعالى.

فعلى الأوّل يكون المراد من العبارة الأولى الردّ على من قال : إنّ آدم كان على صورة أخرى كقولهم : إنّه كان عظيم الجثّة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريبا من السماء ، فيكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أشار إلى إنسان معيّن ، وقال : إنّ الله خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان.

وكذا على (١) العبارة الثانية ، وزيادة وجه آخر ، وهو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما نهى عنه ؛ لأنّه شتم لآدم عليه‌السلام وجميع الأنبياء ، لأنّهم مشبهون بصورة ذلك الشخص ، وخصّ آدم عليه‌السلام بالذكر ، لأنّه ابتدأ خلقه على هذه الصورة.

وعلى الثاني وهو أقوى الوجوه ؛ لكونه عودا إلى الأقرب يحتمل وجوها :

الأوّل : لمّا عصى آدم وأخرج من الجنّة لم يعاقب بمثل ما عوقب به غيره من الحية والطاوس (٢) ، فإنّه أخرجهما وغيّر في خلقهما ، بخلافه عليه‌السلام فإنّه لم يغير خلقه.

والفرق بين هذا الجواب وما قبله : أنّ المقصود من هذا أنّه عليه‌السلام كان مصونا عن المسخ ، والأوّل بيان أنّ هذه الصورة الموجودة ليس إلّا هي التي كانت قبل من غير تعرّض للمسخ وعدمه.

الثاني : أنّه إبطال لقول الدهرية الذين يقولون : إنّ الإنسان لا يتولّد إلّا بواسطة النطفة ودم الطمث فقال : إنّ الله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدّم نطفة وعلقة ومضغة.

__________________

(١) في ـ خ : (د).

(٢) كيفية مجيء إبليس إلى آدم وحوّاء في الجنّة وما اتّخذه فيه من الوسيلة غير مذكورة في الروايات الصحيحة والمعتبرة ، فإنّها خالية عن بيانها ، وأما ما في بعض الأخبار من ذكر الحية والطاوس عونين لإبليس في إغوائه إياهما فغير معتبرة ، وكأنّها من الأخبار الدخيلة والقصة مأخوذة من التوراة ، ويظهر من التأمل وإمعان النظر فيها أنّ تلك القصة من الإسرائيليات والأساطير التي لا يعتمد عليها. انظر في هذا المطلب إلى ما كتبه سيدنا العلامة الطباطبائي دام ظله العالى في تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ١٤٠ طبعة بيروت.

١٨٢

الثالث : أنّه ردّ على الفلاسفة الذين قالوا : إنّ الإنسان لا يتكوّن إلّا في مدّة طويلة وزمان مديد وبواسطة الأفلاك والعناصر ، فقال عليه‌السلام : إنّه خلقه من غير هذه الوسائط.

الرابع : الردّ على الأطبّاء والفلاسفة القائلين بالقوة المصوّرة المولّدة لا بتخليق الله تعالى وإيجاده.

الخامس : أن يكون المراد من الصورة الصفة ، يقال : شرحت لفلان صورة الواقعة ، وذكرت (١) صورة المسألة ، أي صفتها ، فيكون المراد أنّ آدم عليه‌السلام خلق على جملة صفاته وأحواله ؛ وذلك أنّ الانسان حين يحدث يكون في غاية العجز والجهل ، ثمّ يزداد علمه وقدرته ، فبيّن عليه‌السلام أنّ آدم خلق من أوّل الأمر كاملا في علمه وقدرته.

وعلى الثالث : يحتمل وجوها :

الأوّل : أن يكون المراد من الصورة الصفة ، فيكون المعنى أنّ آدم عليه‌السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالما بالمعقولات ، قادرا على استنباط الحرف والصناعات ، وهذه صفات شريفة للشخص نفسه مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه.

الثاني : أنّه كما يصحّ إضافة الصفة إلى الموصوف كذا يصحّ إضافتها إلى الخالق والموجد (٢) ، ويكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أنّ هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد الكرامة والجلالة.

الثالث : قال الغزالي : ليس الانسان عبارة عن هذه البنية ، بل هو موجود ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلّق له بالبدن الأعلى سبيل التدبير والتصرف ، فيكون المراد أنّ نسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم ، من حيث إنّ كلّ واحد منهما غير حالّ في هذا الجسم وإن كان مؤثّرا فيه بالتصرّف.

__________________

(١) وكدت ـ خ : (آ).

(٢) والموجود ـ خ : (د) ـ والصحيح ما في ـ خ : (آ) وأثبتناه في المتن.

١٨٣

النوع الثاني : فيما تمسّك به من قال بالجهة له تعالى ، وهو من الكتاب وجوه :

الأوّل : الآيات الستة (١) الواردة بلفظ الاستواء على العرش.

وأجيب بأنّ الدلائل القطعية دالّة على أنّه ليس مختصّا بجهة وحيّز ، فلا يكون المراد بالاستواء ما فهموه ، وإلّا لزم كونه منقسما ، لأنّ الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يساره ، ولزم أن يكون محدثا إن قدر على الحركة والسكون ، وإن لم يقدر يلزم أن يكون (٢) كالمربوط أو كالزمن بل أسوأ حالا منهما ، ولزم أن يكون محمولا بقوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٣) فيكون محفوظا بحامليه ، لكن الخالق يحفظ المخلوق لا العكس ، وإذا لم يكن كذلك وجب تأويله ، وهو أنّ المراد : الاستيلاء والقهر ونفاذ القدرة ، وجريان الأحكام الإلهية ، وهذا جائز في اللغة.

قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (٤)

وعلّة تخصيص العرش وجهان :

الأوّل : أنّه أعظم المخلوقات ، فخصّ الذكر لذلك كما خصّه في قوله : (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٥).

__________________

(١) الأعراف ٧ : ٥٧ ؛ يونس ١٠ : ٣ ؛ الرعد ١٣ : ٢ ؛ طه ٢٠ : ٥ ؛ الفرقان ٢٥ : ٥٩ ؛ السجدة ٣٢ : ٤ ؛ الحديد ٥٧ : ٤ فهذه الآيات السبعة الواردة بلفظ «الاستواء على العرش» وورد في آيتين بلفظ «الاستواء إلى السماء». البقرة ٢ : ٢٩ فصلت ٤١ : ١١ فما أشار إليه المصنف (ره) : أنّها الآيات الستة ذهول منه قدس‌سره.

(٢) كان كالمربوط ـ خ : (آ).

(٣) الحاقة ٦٩ : ١٧.

(٤) راجع مجمع البحرين للشيخ الطريحي (ره) ج ١ ، ص ٢٣٥ طبعة النجف ، وقد استشهد بهذا البيت في كثير من كتب التفاسير ومعاجم اللغة وغيرها ، وقائله الأخطل كما في تاج العروس للزبيدي. انظر ج ١٠ ص ١٨٩ ، طبعة مصر.

(٥) المؤمنون ٢٣ : ٨٦ ؛ النمل ٢٧ : ٢٦.

١٨٤

الثاني : ما ذكره الغزالي في كتاب إلجام العوام : وهو أنّه تعالى يتصرّف في أجزاء العالم بواسطة العرش ، وأنّه لا يحدث صورة في العالم ما لم يحدثها في العرش ، كما أنّ النقّاش والكاسب لا يحدث صورة ما لم يحدثها في الدماغ بواسطة القلب ، وهذا الكلام مبنيّ على قواعد الحكماء ، وفيه ما فيه.

الثاني : ما يدلّ على الفوقية كقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (١) (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٢).

وأجيب بأنّ المراد بالفوقية : الفوقية بالقدرة والقهر ، قال الله تعالى : (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (٣) أي أزيد منها في صفة الصغر والحقارة ، وإذا كان اللفظ محتملا لذلك تعيّن له كقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) والفوقية المقرونة بالقهر هو الفوقية بالقدرة والمكنة لا الجهة ، بدليل أنّ الحارس يكون فوق السلطان في الجهة ، ولا يقال : إنّه فوق السلطان ، ولقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٤) (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (٥) (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (٦) وغير ذلك.

ولأنّ الفوقية بالجهة ليست صفة مدح ؛ لأنّ تلك الفوقية حاصلة للجهة ، فلو كانت صفة مدح لزم أن تكون الجهة أفضل وأكمل من الله ؛ لأنّ صفة المدح حينئذ حصلت له بسببها.

وأمّا قوله في صفة الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٧) ففيه جواب آخر ، وهو أنّه يحتمل أن يكون قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) صلة لقوله : (يَخافُونَ) أي يخافون من فوقهم ربّهم ؛ لأنّهم يخافون نزول العذاب عليهم من جانب فوقهم.

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٨ و ٦١.

(٢) النحل ١٦ : ٥٠.

(٣) البقرة ٢ : ٢٦.

(٤) الحديد ٥٧ : ٤.

(٥) البقرة ٢ : ١٨٦.

(٦) المجادلة ٥٨ : ٧.

(٧) النحل ١٦ : ٥٠.

١٨٥

الثالث : الآيات الدالّة على لفظ العلوّ كقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (١) (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢).

وأجيب أنّ المراد العلوّ بسبب القدرة والقهر ، فإنّه يقال : السلطان أعلى من غيره ، ويكتب في أمثلة السلاطين الأعلى (٣) الديوان الأعلى ، ويقال لأوامرهم (٤) : الأمر الأعلى ، والمجلس الأعلى (٥) ، وليس المراد من ذلك كلّه الجهة.

وأيضا قال الله تعالى لموسى : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦) (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (٧).

الرابع : الآيات الدالّة على لفظ العروج إليه والصعود ، وهي كثيرة في القرآن.

وأجيب بأنّ المعارج جمع معرج ، وهو المصعد ، ومنه (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٨) ، وليس في قوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي شيء يعرج إليه ، فجاز أن يكون معارج نعم الله تعالى.

وأمّا قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (٩) ، فليس المراد من خرق (١٠) إلى المكان ، بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله : (إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (١١) ، أو المراد انتهاء أهل

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٥٥ ؛ الشورى ٤٢ : ٤.

(٢) الحج ٢٢ : ٦٢ ، لقمان ٣١ : ٣ ؛ سبأ ٣٤ : ٢٣ ؛ غافر ٤٠ : ١٢ فإن قيل : سبحانه عمّا يقولون علوا كبيرا وعلوا لا يكون إلّا في الجهة ؛ لأنّهم فرّقوا بين العلوّ والتعالي وقالوا : الثاني في المكانة والأوّل في المكان.

أجيب بأنّ الله أقام مصدرا مقام مصدر مثل قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) هامش : خ (آ).

(٣) الأعلى ـ خ : (د).

(٤) لأواخرها ـ خ : (د).

(٥) العالى ـ خ : (آ).

(٦) طه ٢٠ : ٦٨.

(٧) آل عمران ٣ : ١٣٩.

(٨) الزخرف ٤٣ : ٣٣.

(٩) المعارج ٧٠ : ٤.

(١٠) حرف إلى مكان ـ خ : (آ).

(١١) هود ١١ : ١٢٣.

١٨٦

الثواب إلى منازل الكرامة كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (١).

الخامس : الآيات المشتملة على لفظ الإنزال والتنزيل (٢) ، وهي كثيرة تزيد على

__________________

(١) الصافّات ٣٧ : ٩٩.

(٢) هذان اللفظان الواردان في القرآن الكريم يدلّ الأوّل منهما ـ أعني الإنزال ـ على النزول الدفعي ، والثاني منهما ـ أعني التنزيل ـ يدلّ على التدريجي ، وهذا هو الأصل في وضعهما اللغوي.

قال الشيخ إسماعيل القنوي في شرحه الكبير على تفسير القاضى البيضاوي : التنزيل هو النزول متفرّقا وبالتدريج ونزول الفرقان كذلك ، والإنزال هو الدفعي وهذا هو الأصل ، وقد يستعمل كلّ منهما في موضع الآخر ... انظر المجلّد الأول ص ٤ من مجلّداته السبعة الكبيرة طبعة سنة ١٢٨٦ ونظرا إلى أصل الوضع فيهما ذهب سيّدنا العلّامة الطباطبائي دام ظلّه الوارف في تفسير الميزان إلى أنّ القرآن الكريم يدلّ على نزوله دفعة واحدة في ليلة القدر ، كما هو ظاهر الذكر الحكيم ، ويدلّ أيضا على نزوله تدريجا على مكث في مدة ثلاث وعشرين سنة ، فلا بدّ من التوفيق بينهما ولا محيص لنا إلّا من فهم ذلك ، والذي نفهم من التأمل في الآيات أنّ القرآن ، وهو الكتاب المبين ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضي فيه بالتفرّق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالإنزال دون التنزيل.

وهذا هو اللائح من الآيات الكريمة ، وهو القرآن المجيد الموجود في اللوح المحفوظ ، وهو النازل إلى قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دفعة ، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه الشريف تدريجا في مدّة الدعوة النبوية ، والآيات القرآنية بظاهرها دلّت على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي ، وجعل الله تعالى القرآن المنزل على رسوله تدريجا بمنزلة اللباس لأصل القرآن وهو الكتاب المبين الذي جعله قرآنا عربيا والبسه لباس القراءة العربية ليعقله الناس ، هذا كلّه يستفاد من القرآن الكريم مضافا إلى الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة صلوات الله عليهم.

وغير خفي على من له إلمام بالتدبّر في الآيات القرآنية إنّ من الآيات التي يستفاد منها كون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عالما بما سينزل عليه ، هي الآية الواردة في سورة يونس آية ١٦ ، فإنّها تدلّ على ما ادّعيناه ، قال تعالى: (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

المستفاد من هذه الآية الشريفة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالما بالكتاب الذي سينزل عليه بواسطة جبرائيل إذا تعلّقت المشية الإلهية بذلك ، ولكن لما لم يشأ الله تعالى إظهاره وتلاوته في مدّة أربعين سنة قبل البعثة فلم يظهره ، ولم يقدم على تلاوته إلّا بعد تعلق المشية على تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الآية عدم الإظهار والتلاوة معلّق على المشية ، وفي كلّ قضية إذا لم يكن المقتضى موجودا لم يصحّ نسبة عدم وجودها إلى وجود المانع ، بل تكون علّة عدم الوجود هو فقد المقتضي.

وفي الآية الشريفة الأمر على العكس من ذلك حيث نسب عدم الوجود إلى وجود المانع ، فالمقتضي كان موجودا ، والمانع كان عدم المشيّة الإلهية ، فعدم التلاوة قبل البعثة إنّما هو لوجود المانع ، وهو عدم تعلق ـ

١٨٧

المائتين كقوله : أنزل القرآن (١) وغير ذلك.

وأجيب أنّ القرآن حروف وأصوات ، فيكون الانتقال عليها محالا ، فيكون إطلاق لفظ الإنزال على سبيل المجاز ، فلا يحسن التمسّك به.

وأيضا قد يضاف الفعل إلى الأمر به كما يضاف إلى المباشر كقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٢) وقال في موضع آخر : (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٣) وغير ذلك فيكون الإنزال مضافا إليه ، للأمر به ، وهو المطلوب.

السادس : التمسّك بالآيات المقرونة بحرف «إلى» مع أنّها لانتهاء الغاية كقوله تعالى: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٤) (إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٥) (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٦) (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (٧).

وأجيب : أنّا نبيّن في النوع الثالث الجواب عن الآية الأولى ، وأمّا الثاني فمعارض بقوله تعالى عن الخليل عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٨) وليس المراد الجهة فكذا هنا.

__________________

ـ المشية ، لا لعدم المقتضي ، بل المقتضي لتلاوة القرآن كان موجودا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا ارتفع المانع وتعلّقت المشية ، فشرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتلاوة القرآن ، بعد أن نزل جبرائيل وأتى بالقرآن تدريجا في قالبه العربي إليه ليعقله الناس ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر الوحي فيما ينزل إليه بالألفاظ العربية ليبلغه الناس ، فإنّ أفهامهم لا تصل إلى فهم الكتاب المبين ، الذي نزل في ليلة القدر إلى قلبه الشريف إلّا أن ينزل في القالب العربي الذي يفهم الناس ، وكان ذلك في مدّة الدعوة النبوية المقدّسة.

ذكرنا هذا المطلب هنا بمناسبة ذكر المصنّف (ره) لفظي : الانزال والتنزيل وإن كان المناسب ذكره عند المباحث الآتية في بحث النبوة.

(١) أنزل القرآن ـ خ : (د) ـ (يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) ـ خ : (آ) كذا في النسختين ، وفي القرآن الكريم : (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) آل عمران ٣ : ٤ (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفرقان ٢٥ : ١.

(٢) الزمر ٣٩ : ٤٢.

(٣) السجدة ٣٢ : ١١.

(٤) القيامة ٧٥ : ٢٣.

(٥) السجدة ٣٢ : ١١ ؛ الجاثية ٤٥ : ١٥.

(٦) آل عمران ٣ : ٢٨ ؛ النور ٢٤ : ٤٢ ؛ فاطر ٣٥ : ١٨.

(٧) الفجر ٨٩ : ٢٨.

(٨) الصافات ٣٧ : ٩٩.

١٨٨

السابع : قوله : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) والحجاب إنّما يصحّ في حقّ من يكون في جهة حتّى يصير محجوبا بشيء آخر.

وأجيب عنه بوجوه تأتي.

الثامن : الآيات الدالة على أنّه في السماء كقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) (٢) وغيرها.

وأجيب بأنّه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، لوجهين.

الأوّل : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٣) وهذا يقتضي أن يكون المراد بالصورتين معنى (٤) واحدا ، لكن كونه في الأرض ليس بمعنى الاستقرار ، فكذا كونه في السماء ليس بمعنى الاستقرار.

الثاني : أنّه ليس في الآية ما يدلّ على أنّ الذي في السماء هو الله ، لجواز (٥) أن تكون «من» كناية عن الملائكة ، لأنّهم أعداء الكفّار والفسّاق ، سلّمنا أنّ المراد هو الله ، لكنّ في الكلام إضمارا ، إمّا ملكه ، وخصّ بالسماء تفخيما بشأنها ، لكونها أعظم من الأرض. وإمّا في السماء عذابه أو غير ذلك.

التاسع : ما يدلّ على الارتفاع إليه كقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (٦)

__________________

(١) المطففين ٨٣ : ١٥.

(٢) الملك ٦٧ : ١٦.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٨٤.

(٤) معا ـ خ : (د).

(٥) يجوز ـ خ : (د).

(٦) آل عمران ٣ : ٥٥. التوفّي في الآية الشريفة بمعنى الأخذ والاستيفاء ، وهو يتحقّق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء ، أي إنّي آخذك ورافعك إليّ ، وليس معنى التوفّي الإماتة ، فما لهج به بعض المفسّرين بقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ، أي مميتك حتف أنفك أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وما يقرب من هذا التفسير ، فقد ذهل عن أصل معنى لفظ التوفّي وحقيقته فلا منافاة بين معنى الآية وما يعتقده المسلمون بأنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرّح به القرآن الكريم.

فإن شئت تفصيل الكلام في هذا المقام وتحقيقه فانظر إلى مقدّمات تفسير آلاء الرحمن للعلامة النابغة الأكبر الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قدّس الله روحه ج ١ ، ص ٣٣ طبعة صيدا. وانظر أيضا إلى كتاب موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين للشيخ العلّامة الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام ـ

١٨٩

__________________

ـ للدولة العثمانية سابقا وقد حقّق المطلب على ضوء العلم والبحث الدقيق في ردّه على الشيخ شلتوت ، وقال : بجانبنا نحن القائلين برفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء ونزوله منها عند اقتراب الساعة ـ ومعنا علماء الإسلام أجمعون غير شذّاذ آخر الزمان ـ ستّون حديثا برواية واحد وثلاثين صحابيا مذكورين بأسمائهم في إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان لمؤلّفها الفاضل جزاه الله خيرا ، وليس بجانب الخصم حديث واحد يؤيّد شذوذه غير عدم المبالاة بجيش الأحاديث المؤيدة لجانبنا ، وأمّا الآيات فلنا منها آيتان ناطقتان بالرفع : إحداهما : قطعية الدلالة لا تحتمل التأويل ، وهي آية النساء ، والأخرى ظاهرة الدلالة ، وهي آية آل عمران ، وآيتان ظاهرتان في النزول. وليس للخصم من الآيات إلّا ما توهّمه من المنافاة بين الرفع والتوفّي في آية آل عمران ، أعني قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) فنحن لا نحتاج إلى تأويل أيّ آية واردة في هذه المسألة ، بل نحمل الكلّ على ظاهره ، حتّى آية التوفّي التي هي مستند الخصم الوحيد نتركها على ظاهرها من غير تأويل ، والخصم المنكر لرفع عيسى ونزوله يتمسك بقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ظنا منه أنّ التوفّي ظاهر في معنى الإماتة ثمّ يرهق آيتي الرفع على تأويلهما بما ينطبق على هذا التوفّي ، فيؤوّل القطعي لتطبيقه على الظاهر ، وهو ليس بظاهر ، وتأويله ليس تأويلا بمعقول من المعنى ، وإنّما هو إفساد وإلغاء للنصّ ... التوفّي بمعنى أخذ الشيء بتمامه يساوي التوفّي بمعنى الإماتة من حيث الاستناد إلى اللغة ، بل يفوقه ، حتى أنّ الزمخشري ذكر معنى الإماتة في أساس البلاغة بعد قوله : ومن المجاز. فإذا كان معنى الأخذ التامّ مساويا لمعنى الإماتة أو أظهر منها في أن يكون هو المراد في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي إنّي آخذك من العالم الأرضي الذي أنت فيه ، فلا ضرورة في تأويل قوله بعد : (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) برفع روحه ـ وقال في ضمن المقال وتحقيقه الرشيق ـ مع أنّا قد قضينا على ذلك الادّعاء ، بمانع آخر استنبطناه من أسلوب النظم المعجز ... وهو كون رفع روحه لا يضاد ما قبل «بل» من قتله وصلبه. فكان «الشيخ شلتوت» بتأويله في رفع عيسى يلغي رفعه ويعاكس القرآن فيما أثبت لعيسى وفيما نفى عنه. فيقول الله (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ... بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ويقول الشيخ : قتلوه والله رفع روحه إليه!!! ولا أظنّ مفشيا سرّا إذا قلت عن سائق الشيخ كاتب مقالات الردّ على القول الفصل إلى هذه المغامرات : إنّه لا يؤمن بالقرآن إيمانه باستحالة الخوارق ، فيدكّ القرآن دكّا إذا رأى آياته تنطق بالمستحيل عنده وعند فئته ...

وقال في أواخر مقاله القيم : إنّ سيدنا عيسى قتله اليهود وصلبوه في عقيدة النصارى ، وبعد قتله بأيام أحياه الله ورفعه إلى السماء ، وفي عقيدتنا نحن المسلمين رفعه الله من غير أن يسبقه القتل. فالمسلمون والنصارى متّفقون على رفعه. وعند الشيخ شلتوت أنّه لم يقتل ولم يصلب ولم يرفع بل عاش ما عاش في الأرض بعد حادثة محاولة قتله ثمّ مات فيها ميتة عادية وانتهى أمره. فعيسى اليهود مقتول بأيديهم ، وعيسى النصارى والمسلمين مرفوع إلى السماء ، وهو فيها الآن ، وعيسى الشيخ شلتوت عاش في الأرض ومات فيها كما يعيش ويموت غيره من الناس ، فأسأله إذن : أين عاش بعد حادثة محاولة قتله؟ ثم أين مات وأين قبره الآن؟ وسيكون جواب الشيخ على هذا السؤال إن كان له جواب : عيسى الآن حيث كان عيسى ـ

١٩٠

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (١).

وأجيب بأنّه لمّا رفعه إلى موضع الكرامة ومكان آخر صحّ على سبيل المجاز أن يقال :

رفعه الله ، كما أنّ الملك إذا عظّم منصب إنسان ، حسن أن يقال : إنّه رفعه من تلك الدرجة إلى درجة عليا وإنّه قرّبه من نفسه ، ومنه قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢).

العاشر (٣) : الآيات الدالّة على العندية كقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٤) (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٥) ، (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٦) ، وغير ذلك.

__________________

ـ اليهود!! ، انظر ج ٤ من ص ٢٢٨ ـ إلى ص ٢٨٠.

أقول : الأحاديث المروية عن العترة الطاهرة النبوية سلام الله عليهم في حقّ عيسى المسيح على كثرتها ، موافقة مع روايات أهل السنة التي أشار إليها الشيخ صبري ، وإنّه ينزل في آخر الزمان ويصلّي خلف المهدي الموعود المنتظر أرواحنا فداه وعجّل الله تعالى فرجه.

ومن طريق العامة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي الاثنا عشر : أوّلهم أخي وآخرهم ولدي ، قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن أخوك؟ قال : علي بن أبي طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال : المهدي الذي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهدي ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب انظر غاية المرام للسيد البحراني (ره) باب ٢٤ ـ ص ١٩٥ ـ وانظر إلى كتب الحديث للشيعة والسنّة حتّى ترى الأحاديث الكثيرة فيها ولا تنافي بينها وبين الآيات القرآنية المقدّسة في حقّ المسيح عليه‌السلام وكونه حيّا وينزل في آخر الزمان ، ولا تغترّ بما كتبه بعض أهل الاعوجاج من الشيعة والسنة من التأويلات الباردة على خلاف النصوص والظواهر في الآيات والأحاديث الكثيرة ، وما ذكره بعض من كتب في هذا الموضوع بالفارسية من أنّ تلك الأحاديث من الموضوعات هو ادّعاء لا دليل عليه ويكذبه الوجدان ، فإنّ الأحاديث المتواترة من طرق الفريقين الموجبة للعلم القطعي لا يمكن أن تكون من الموضوعات ، ولذا لا يعبأ بما ادّعاه ، عصمنا الله تعالى عن الزلل في القول والعمل.

(١) النساء ٤ : ١٥٨.

(٢) الواقعة ٥٦ : ٩ ـ ١٠.

(٣) الحادي عشر ـ خ : (د) وهو غلط.

(٤) آل عمران ٣ : ١٩.

(٥) الاعراف ٧ : ٢٠٦.

(٦) القمر ٥٤ : ٥٥.

١٩١

وأجيب أنّ المراد : العندية بالشرف ، مع أنّه معارض بقوله عليه‌السلام ، حكاية عن ربّه : «أنا عند المنكسرة قلوبهم وأنا عند ظنّ عبدي بي» بل هذا أقوى ، لأنّ الأوّل يدلّ على أنّ الملائكة عند الله ، والثاني يدلّ على أنّ الله عند العبد.

وأيضا قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (١) وليس المراد بالعندية فيها الجهة ، فكذا غيرها.

مع أنّا نقول للكرامية : إنّكم تساعدون على أنّ ظواهر القرآن وإن دلّت على إثبات الاعضاء يجب القطع بنفيها ، لما دلّت عليه الدلائل القطعية من استحالة الجسمية عليه ، وأنّ مراده تعالى غير ذلك ، فكذا نقول فيما ذكرتموه من دلائل الجهة حذو النعل بالنعل.

النوع الثالث : فيما تمسّك به من قال بالرؤية وهو وجوه :

الأوّل : قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) ولو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها عليه‌السلام وإلّا لكان بعض حثالة (٣) المعتزلة أعلم بصفاته من موسىعليه‌السلام.

وأجيب بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد : أظهر لي أحوالا تفيد العلم بك ضرورة ، وأطلق لفظ الرؤية على العلم مجازا ، وهو جواب الكعبي.

الثاني : أنّ السؤال كان لقومه لا نفسه ، بدليل قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٤) وإنّما أضافه إلى نفسه ليكون أولى بالإجابة ، فلمّا منعه كان أقوى في الدلالة على منع الغير ، وهو جواب الجبائيّين.

الثالث : أنّه كان عالما باستحالتها عقلا فأراد أن يعضد ذلك بالدليل النقلي ، وكثرة

__________________

(١) ص ٣٨ : ٢٥ و ٤٠.

(٢) الاعراف ٧ : ١٤٣.

(٣) جهالة ـ خ : (د).

(٤) البقرة ٢ : ٥٥.

١٩٢

الأدلّة توجب الطمأنينة وزوال الشكّ ، ولذلك كان تكرير دلائل (١) التوحيد في القرآن ، وهو جواب أبي الهذيل.

الثاني : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢) والنظر المقرون بحرف «إلى» يفيد الرؤية ، لاستعمال ذلك استعمالا شائعا في الكتاب واللغة والعرف ، وبسطه في المطوّلات.

ولأنّ المراد به إمّا معناه الحقيقي ، وهو تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته ، وهو عليه تعالى محال ، لاستدعائه الجهة ، أو الانتظار ، وهو باطل ، لأنّه تعدّى (٣) ب «إلى» والانتظار لا يتعدّى بها كقوله : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٤)

ولأنّ الآية في (٥) سياق حال النعم ، فتكون حاصلة لا منتظرة ، مع أنّ الانتظار يوجب ألما فيكون نقمة لا نعمة ، ولذلك قيل : إنّه موت أحمر ، فلم يبق إلّا الرؤية مجازا ، إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

وأجيب بوجوه :

الأوّل : بالمنع من كون المقرون ب «الى» يفيد الرؤية في سائر استعمالاته ، بل قد استعمل لا لذلك ولهذا يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره.

الثاني : أنّ هنا حذفا لمضاف تقديره : ثواب ربّها ، والإضمار وإن كان خلاف الأصل فكذا المجاز.

الثالث : نختار أنّها بمعنى الانتظار ، ولا يكون «إلى» حرف جرّ ، بل اسما هو واحد إلّا لا كما نقله الأزهري وابن دريد قال الشاعر :

أبيض لا يرهب النهر إلّا

ولا يقطع رحما ولا يخون إليّ.

__________________

(١) دلائل ـ خ : (د).

(٢) القيامة ٧٥ : ٢٢ ، ٢٣.

(٣) معدّى ـ خ : (آ).

(٤) النمل ٢٧ : ٣٥.

(٥) مع ـ خ : ـ (د).

١٩٣

أي لا يخون نعمة ، ويكون المراد : منتظرة نعمة ربّها ، ونمنع كون الآية لبيان حال النعم ، بل حكايته حال الناس قبل استقرار أهل الجنة في الجنة ، بدليل ما بعده وهو (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (١) على أنّا نمنع كون الانتظار موجبا للنعم ، بل للفرح (٢) والسرور ، كمنتظر خلعة (٣) الملك المتيقّن حصولها.

الثالث : قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) علّق الرؤية على استقرار الجبل الممكن ، والمعلّق على الممكن ممكن.

وأجيب بالمنع على (٤) تعليقها على الممكن ، والاستقرار ممكن بالنظر إلى ذاته ، لا إليه حال تجلّي الربّ له كما هو الفرض (٥) ؛ لأنّه كان عالما بتجلّيه ، وحال التجلّي كان متحركا فيكون الاستقرار حينئذ محالا ، فالمعلّق عليه محال أيضا.

الرابع : قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٦) واللام في (الْحُسْنى) ليس للاستغراق وإلّا لدخلت الزيادة ، وذلك يمنع عطفها ، فتكون للعهد ولا معهود بين المسلمين إلّا الجنة وما فيها من الثواب ، فتكون الزيادة مغايرة له ، وكلّ من أثبت ذلك قال : إنّه رؤية الله تعالى ، ولاستفاضته في النقل.

وأجيب أنّ المراد : المثوبة الحسنى ، وهي التي يحسن الجزاء بها ، أي القدر الواجب ، والزيادة : التفضّل لقوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٧) وبه قال أكثر المفسّرين.

سلّمنا لكن نختار أنّ اللام للعهد فيكون المعهود هو الجنة وما فيها ، وتكون الزيادة هي الرضوان ؛ لقوله عقيب ذكر الجنة : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٨) ولذلك قال مجاهد :

__________________

(١) القيامة ٧٥ : ٢٤ ، ٢٥.

(٢) للفرج ـ خ : ـ (آ).

(٣) حلية ـ خ : (آ).

(٤) من ـ خ : (آ).

(٥) الغرض ـ خ : (د).

(٦) يونس ١٠ : ٢٦.

(٧) النساء ٤ : ١٧٣ ؛ النور ٢٤ : ٣٨ ؛ فاطر ٣٥ : ٣٠ ؛ الشورى ٤٢ : ٢٦.

(٨) التوبة ٩ : ٧٢.

١٩٤

الزيادة نصرة من الله ورضوان.

الخامس : قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) دلّت هذه الآية على كون الكفّار محجوبين عن الربّ تحقيرا لهم ، فيكون المؤمنون المعظمون منزّهين عن ذلك.

وأجيب بأنّه يلزم منه رفع الحجاب عن المؤمنين ، ولا يلزم منه الرؤية وإنّما يلزم أن لو كان جائز الرؤية وهو ممنوع ، أو المراد بالحجاب تمثيل بالاستخفاف (٢) ، لأنّه لا يحجب عن الملوك إلّا المهانون ، قال الشاعر :

والناس ما بين مرجوب ومحجوب

أو نقول في الكلام حذف لا محالة ، إمّا محجوبون عن رحمته أو رؤيته ، لكن الثاني باطل ، للدلائل العقلية فتعيّن الأوّل ، وهو المطلوب.

المرصد الثاني : في الإكراميات

وفيه ثلاث فصول :

[الفصل] الأوّل : فيما يتوقّف عليه الأفعال ، وهو أقسام :

الأوّل : كونه قادرا ، أي مع خلّوه عن الداعي يصحّ أن يؤثّر وأن لا يؤثّر إذا لم يكن منع أو ما يجري مجراه ، وهل مع انضمام الداعي يجب المتعلق؟ الحقّ نعم ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح أو فرض ما ليس بتامّ تاما ، هذا خلف.

ومنع منه جماعة وإلّا لم يكن مختارا ، وهو ضعيف إذ الاعتبار بالنسبة إلى القدرة المستقلة ، وهو حاصل ثمّ.

اعلم أنّ الحقّ أنّه تعالى مختار بمعنى أنّ فعله تابع لداعيه وأنّ الداعي لا يدعوه إلى

__________________

(١) المطففين ٨٣ : ١٥.

(٢) تمثل بالاستحقاق ـ خ : (د).

١٩٥

موجود ، وقد اشتهر عن الحكماء القول بالإيجاب كالنار في الإحراق ، ومحقّقوهم ينكرون ذلك بل يثبتون له عناية ، لكن يجوزون تعلّقها بالموجود ، والضرورة قاضية بما ذكرناه أوّلا.

وتقرير دليل المطلوب : أنّه لو لم يكن قادرا مختارا لزم قدم العالم ، والتالي باطل ـ كما تقدّم ـ فكذا المقدّم.

وبيان الشرطية : بأنّ الموجب لا يتأخّر فعله (١) عنه ؛ لأنّ تأثيره إن لم يتوقّف على شرط أو توقّف على شرط قديم لزم القدم ، وإن توقف على شرط حادث نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل.

تتمة : حيث علّة المقدورية هي الإمكان ؛ لاستحالة القدرة على الواجب والممتنع ، والإمكان مشترك فمقتضاه مشترك فيكون قادرا على كل الممكنات ، وهو المطلوب.

وخالف جماعة منهم عباد بن سليمان قال : لا يقدر على خلاف معلومه ، لأنّه محال(٢) وإلّا لزم انقلاب علمه جهلا.

__________________

(١) أثره ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) ترتيبه : خلاف معلومه محال وهو لا يقدر على المحال.

والجواب : خلاف معلومه محال لغيره ، وهو لا يقدر على المحال لذاته فاختلف الوسط. هامش ـ خ : (آ).

قال المصنّف (ره) في إرشاد الطالبين : من المذاهب الباطلة مذهب عباد بن سليمان الصيمري ، وهو أنّه لا يقدر تعالى على خلاف معلومه.

وتقرير حجته : أنّ ما علم الله تعالى وقوعه وجب وقوعه وما علم عدمه امتنع وقوعه ؛ إذ لو لم يقع ما علم وقوعه لو وقع ما علم عدمه لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وانقلاب علمه تعالى جهلا محال ، فيكون خلاف ما علم وقوعه ممتنعا وخلاف ما علم عدمه واجبا ، فيصدق قياس هكذا : خلاف معلومه واجب أو ممتنع ، ولا شيء من الواجب والممتنع بمقدور عليهما ، فلا شيء من خلاف معلومه بمقدور عليه ، أمّا الصغرى فلما قررناه ، وأمّا الكبرى فلأنّ متعلّق القدرة يصحّ وجوده ويصحّ عدمه ، والواجب لا يصحّ عدمه ، فالممتنع لا يصحّ وجوده فلا قدرة عليهما.

ثم ذكر وجوها في جوابه منها : أنّ أوسط القياس غير متّحد في المقدّمتين ؛ فإنّ الواجب والممتنع في الصغرى هما الحاصلان بالغير ، وهو تعلّق العلم بنقيضهما ، وفي الكبرى الذاتيان ؛ فإنّ المنافي للقدرة ـ

١٩٦

أجيب بعدم اتحاد الوسط ؛ إذ هو في الكبرى الضمير لذاته ، وفي صغراه لغيره.

ومنهم النظّام قال : لا يقدر على القبيح وإلّا لصدر عنه فيكون فاعله جاهلا أو محتاجا ، وهو محال فيكون الفعل محالا فلا يقدر عليه.

وأجيب بأنّ المحال لازم من الوقوع بالفعل لا من القدرة عليه. وأيضا وسط القياس مختلف ، إذ المحال في الصغرى للغير وفي الكبرى للذات.

ومنهم البلخي (١) قال : لا يقدر على مثل مقدور عبده ؛ لأنّه طاعة أو سفه أو عبث ، والكلّ محال عليه تعالى.

وأجيب بأنّها أوصاف عارضة لا تقدح في التماثل الذاتي ، وإن قدحت جاز التعلق نظرا إلى القدرة لا إلى الداعي ؛ فإنّ كلّا من الثلاثة ممكن ، وكلّ ممكن مقدور ، لكن الصارف يصرفه عن ذلك.

وبأنّه إن أراد بالعبث ما ليس بطاعة منعنا عدم جوازه من الله ؛ فإنّ أفعاله كلّها كذلك.

وإن أراد ما ليس له علّة صحيحة عقلا وشرعا فالحصر ممنوع ؛ فإنّ المباح ليس طاعة ولا عبثا بهذا التفسير.

وكذا قال : لا يقدر أن يخلق فينا ، علما ضروريا بما علمناه استدلالا وإلّا لجاز أن يخلق فينا العلم بقدرة زيد المعلوم وجوده اكتسابا ، ثمّ نشكّ في وجوده فنشكّ في قدرته ، فيلزم السفسطة بوقوع الشكّ في الضروريات.

وأجيب بأنّ التقدير : أنّه معلوم بالكسب ، وعلى تقدير العلم بالشيء يكون عدم العلم (٢) محالا ، والمحال جاز أن يلزمه المحال.

ومنهم الجبائيان قالا : لا يقدر على عين مقدور العبد وإلّا لاجتمع قادران على

__________________

ـ هو الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي وإذا لم يتّحد أوسط القياس لم يحصل الإنتاج ـ راجع ص ٩٦ طبعة بمبئي.

(١) أبو القاسم الكعبي يقال له : البلخي أيضا توفّي سنة ٣١٧ كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم : الكعبية ، له آراء في علم الكلام.

(٢) عدم العلم خ : (آ) ـ وعدم الشك ـ خ : (د).

١٩٧

مقدور واحد وهو محال ، وإلّا لزم وقوعه نظرا إلى إرادة أحدهما وعدمه نظرا إلى كراهة الآخر ، فيكون واقعا غير واقع ، هذا خلف.

وأجيب بأنّه تقدير (١) فعل أقوى القادرين كما إذا أراده الله وكره العبد ، ومنع قوة القادر القوي الآخر لا يخرجه عن كونه قادرا ؛ إذ فعل القادر مشروط بعدم المانع.

الثاني : كونه تعالى عالما بمعنى انكشاف الأشياء له وكونها غير غائبة عنه ؛ لأنّه مختار كما تقدّم ، وكلّ مختار عالم ، لتبعية فعله لداعيه الذي هو العلم الفعلي بما انعقد عليه الباعث على إيجاده.

ولأنّه فعل فعلا محكما ، أي مستتبعا لخواصّ كثيرة ومنافع عظيمة ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم.

أمّا الصغرى فحسيّة ننبّه عليها بوجوه :

الأوّل : العالم الفلكي من نظر فيه عرف كيفية نظام أفلاكه وكيفية نضدها وسيرها على مدارات مختلفة ، وحصول الأوجات والحضيضات بخوارج مراكز وأفلاك ممثلات وأفلاك تداوير ، وما يترتب على الحركات المخصوصة من الفوائد ، فإنّ قرب الشمس من رءوسنا يترتّب عليه نضج الثمار بالسخونة ، وبعدها عنّا يترتّب عليه حصول البرد في الجوّ فتحتقن الحرارة في باطن الأرض فتتكوّن الأبخرة ، والمحلّل الخارجي ضعيف فتحدث الغيوم والأمطار ، فيحصل النبات.

وبالجملة جميع الأحوال الفلكية من نظر في علم تشريحها علم ضرورة أنّها لا تصدر إلّا من لطيف خبير.

الثاني : خلق العالم العنصري ووضع استقصائه بعضها فوق بعض وكيفية تكون المركبات الثلاث : المعدن والحيوان والنبات منها ، وحصول الخواصّ والفوائد فيها ـ كما هو مذكور في مظانّه ـ دليل ظاهر على فاعل عليم حكيم.

__________________

(١) تقدير ـ خ : (د) ـ ويقع ـ خ : (آ).

١٩٨

الثالث : بدن الإنسان (وكيفية تكوّن المركبات الثلاث) (١) وخلقه ونشئه وفوائد أعضائه وآلاته ، فخلق المعدة للهضم وجعل القوّة الهاضمة فيها وخوادمها من الجاذبة والماسكة ، وكذلك قرب المرارة منها لتصفّي الدم ممّا غلظ من المرّة الصفراء لئلّا تسري في جميع البدن فيحصل اليرقان الأصفر ، فهو يتغذى بالبعض ، ويقذف بالباقي إلى الأمعاء لتغسل (٢) ما فيها من الأثقال ، وكذا الطحال يجذب ما غلظ من المرّة السوداء لئلّا يسري في البدن كلّه فيستولي (٣) اليرقان الأسود عليه ، ثمّ الكليتان الجاذبتان لمائية الدم ؛ إذ لو لا ذلك لسرى في البدن فيحصل الاستسقاء الدقّي ، وكذا الدماغ وما يشتمل عليه من القوى الخمس كما تقدّم ذكره ، برهان قاطع بوجود مدبّر قدير.

وأمّا الكبرى فضرورية وإن أنقضت (٤) بالنحل ؛ لأنّه يبني بيتا مسدّسا يعجز حذّاق المهندسين عنه مع عدم علمه ، وبالمحتذي بغيره في نقش من النقوش التزمنا العلم في كلّ منهما ومنعنا عدمه ، أو نقول : إنّهما ليسا فاعلين أما النحل فلكونه يفعل بالطبيعة ، وأمّا المحتذي فلعدم استقلاله.

خاتمة : حيث صفاته تعالى ذاتية كما يجيء ، فكلّ ما صحّ له وصف وجب له وإلّا لم يكن ذاتيا ، هذا خلف ، وهو تعالى يصحّ أن يعلم كلّ معلوم ؛ لأنّه حيّ فيجب له ذلك ، وهو المطلوب ، وخالف هنا أقوام :

الأوّل : من منع علمه بذاته وإلّا لزم التكثّر في ذاته ؛ لكون العلم نسبة بين العالم والمعلوم ، ولا يحصل إلّا بين شيئين.

وأجيب بأنّه منقوض بعلم الواحد منّا بنفسه ، على أنّا نقول : إنّ التغاير بالاعتبار كاف ، فالذات (٥) من حيث إنّها عالمة مغايرة لها من حيث إنّها معلومة.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ـ خ : (د) و ـ خ : (آ) خالية عنه ، والظاهر أنه زائد.

(٢) ويقذف الباقي إلى المعاء تغسل ما فيها ـ خ : (آ).

(٣) فيتولى ـ خ : (د).

(٤) نقضت ـ خ : (آ).

(٥) في الذات ـ خ : (د).

١٩٩

قيل : يلزم الدور ؛ لأنّ العلم يتوقّف على التغاير ، فلو حصل التغاير باعتباره دار(١).

أجيب بأنّ التغاير يحصل بكون الذات عالمة ومعلومة بالقوة ، والذي يتوقّف على العلم حصولها بالفعل.

الثاني : من منع علمه بغيره وإلّا لزم اجتماع الصور في ذاته فيجتمع الأمثال.

وأجيب بأنّه مبنيّ على أنّ العلم هو الصورة ، وهو ممنوع ، بل هو إمّا إضافة أو صفة يلزمها الإضافة أو ليس واحدا منهما ، بل الكشف كما قرّرناه.

الثالث : من منع علمه بالجزئيات على أنّها واقعة الآن أو وقعت أو سيقع ، بل يعلمها مقرونة بأسبابها وأزمانها لا من حيث التقييد.

قالوا : لو كان عالما بها كذلك تغيّر علمه الذاتي بتغيّرها وإلّا لزم الجهل.

وأجيب بأنّ التغيّر في التعلّقات إمّا العلم الذي هو صفة حقيقية يستلزم التعلّق بالمعلوم فلا ، وهو ضعيف ؛ للزوم زيادة صفة زائدة على ذاته.

والأجود جوابا أنّ جميع الأشياء من الأزل إلى الأبد كلّ منها على ما هو عليه منكشف له أزلا وأبدا ، ولا يتغير ذلك الانكشاف ولا شيء منه أصلا ، فيعلم الثابت ثابتا والمتغيّر حاصلا في حينه غير حاصل في غيره ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

الرابع : من منع (٢) علمه بما لا يتناهى ؛ لأنّ المعلوم متميّز عن غيره وإلّا لم يتعلّق به العلم دون غيره ، والتميز عن غيره محصور فلا يكون غير متناه.

أجيب بأنّه يعلمه على ما هو عليه فإن كان متناهيا علمه كذلك ، وإن كان غير متناه علمه كذلك ، والتميّز يحصل في غير المتناهي ، وهو ظاهر.

الثالث : كونه حيّا بمعنى أنّه لا يستحيل أن يقدر ويعلم ، أو الدرّاك الفعّال ، وثبوته(٣) له حينئذ بعد ثبوت قدرته وعلمه ظاهر.

__________________

(١) من قوله قيل يلزم ـ إلى ـ قوله دار ـ ساقط من نسخة : (د).

(٢) ومنهم من منع ـ خ : (د).

(٣) وثبوتها ـ خ : (آ).

٢٠٠