اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

ومن هنا يعلم أنّه ليس له ألم ولذة حسّيان ولا ألم عقلي ، إذ لا منافي له تعالى ، إذ الكل ذرّة من ذرّات جوده ورشحة من رشحات وجوده ، وأمّا اللذة العقلية فقال الحكماء بثبوتها له تعالى ؛ لأنّها إدراك الملائم وهو مدرك لذاته إدراكا تامّا ، وهي أكمل الذوات ، فيكون أجلّ مدرك لأعظم مدرك بأتمّ إدراك ، فيكون ملتذّا ، وتابعهم على ذلك بعض شيوخنا (١) ، ومنعه باقي المتكلّمين إمّا لمنع بعضهم اللذات العقلية أو لعدم ورود ذلك في الشرع الشريف.

والذي يقتضيه العقل هو (٢) عدم التهجّم على هذه الذات المقدّسة بما لا ضرورة إلى اثباته ، ولم يرد الإذن فيه.

وبالجملة البحث في هذا الباب عسر والتهجّم بإثبات ما لم يرد (٣) منه تعالى خطر.

__________________

(١) الظاهر أنّه يقصد به بعض شيوخنا الإمامية كالشيخ المتكلّم الأقدم الشيخ أبي إسحاق النوبختي قدس‌سره صاحب كتاب الياقوت في الكلام الذي شرحه العلّامة قدس الله روحه وسمّاه بأنوار الملكوت في شرح الياقوت وطبعته دانشگاه طهران سنة ١٣٣٨ ه‍ ـ ش. وفي مكتبتنا نسخة نفيسة مخطوطة منه في غاية النفاسة ، والظاهر أنّها مكتوبة لبعض السلاطين الصفوية ، وتصدّت بعض المطابع في النجف الأشرف لطبع أنوار الملكوت بتحقيقنا وتعليقنا عليه مع الأستاذ الجعفري ، وطبع منه قريبا من أربعين صفحة ثمّ توقّف طبعه بسبب قفولنا إلى إيران.

قال النوبختي (ره) : المؤثّر مبتهج بالذات ، لأنّ علمه بكماله الأعظم يوجب ذلك ... وهذه المسألة سطّرنا فيها كتابا منفردا وسمّيناه بكتاب الابتهاج ، قال العلامة (ره) في شرحه : هذه المسألة ممّا وافق الشيخ أبو إسحاق فيها الحكماء وخالف الإمامية وباقي المتكلّمين فيها ... وقد ذكر المصنّف (ره) أنّه قد صنّف كتابا في هذه المسألة ولم يصل إلينا ، انتهى. وقد أشار الأستاذ الدجيلي إلى نسخة مكتبتنا من أنوار الملكوت في كتابه أعلام العرب في العلوم والفنون ، انظر ج ٢ ، ص ١١١ ، طبعة النجف.

(٢) هو ـ خ : (آ).

(٣) قال بعض المحشّين على أنوار الملكوت : والتحقيق أنّ هاهنا أمرين : أحدهما : أنّ معنى اللذة لا يوجد فيه تعالى ، وثانيهما : أن ليس لنا أن نطلق عليه هذين اللفظين ـ أي اللذة والألم ـ وما أجمع عليه الإمامية وسائر المتكلّمين ليس إلّا الثاني منهما دون الأول ، فلا يكون ما ذهب إليه المصنّف (ره) ـ يعني النوبختي ـ مخالفا لما أجمعوا عليه. انتهى.

وقال المحقق الطوسي (ره) في نقد المحصّل ص ١١٥ طبعة مصر سنة ١٣٢٣ : والتمسك بإجماع الأمة يفيد في عدم إطلاق لفظي : اللذة والألم عليه تعالى ، لأن كلّ صفة لا يقارنها الإذن الشرعي لا يوصف تعالى بها ـ

١٦١

العاشر : في نفي التحيّز عنه ولواحقه ، وفيه مسائل.

الأوّل : أنّه ليس له مكان وإلّا لافتقر إليه ؛ لأنّ كلّ ذي مكان فله امتداد وبعد وأقطار متناهية ، وكلّ ما كان كذلك يستحيل (١) استغناؤه عن المكان والافتقار عليه تعالى محال ، ومن هنا يعلم أنّه ليس في جهة فوق ، خلافا للكرامية واحتجاجهم بأنّه أشرف الذوات ، والفوق أشرف الجهات ، فناسب الأشرف الأشرف ، وبرفع الأيدي حال الدعاء ضعيف ، لأنّ أشرفية الجهات (٢) كلام خطابي بل شعري فلا يفيد علما ، مع أنّه يلزم منه مخالفة المقصود ؛ إذ الفوقية أمر إضافي مختلف باختلاف المضاف إليه ، ومع كون الأرض كرة لا يتحقّق ما ذكروه ، لأنّ الفوق يقوم تحت الآخرين (٣) ورفع الأيدي ليس فيه دلالة ، وإلّا لكان السجود دليلا على تحتيّته ، وهو باطل ، بل هو كناية عن الطلب. (٤)

__________________

ـ إلّا في العين الذي ادّعاه الفلاسفة ، فالإجماع حاصل ونفي الألم عنه تعالى لا يحتاج إلى بيان ، لأنّ الألم إدراك مناف ، ولا منافي له تعالى ، انتهى.

كذا في نقد المحصّل أو تلخيص المحصّل المطبوع بمصر في السنة المذكورة ، والعبارة لا تخلو من غلط ، والعبارة المنقولة عن نقد المحصّل في هامش النسخة النفيسة المخطوطة من أنوار الملكوت كما يلي : قال أفضل المحقّقين قدس‌سره في نقده : والتمسّك بالإجماع إنّما يفيد عدم إطلاق لفظي : اللذة والألم وما يشتقّ منهما عليه ، لأنّ كلّ ما لا يقارنه الإذن الشرعي لا يوصف هو به. أمّا المعنى الذي أثبته الفلاسفة فالإجماع لا ينعقد عليه ونفى الألم عنه تعالى فتدبّر.

(١) استحيل ـ خ : (آ).

(٢) الجهة ـ خ : (د).

(٣) آخرين ـ خ : (آ).

(٤) رفع الأيدي في الدعاء من باب التذلّل إلى الله تعالى والخضوع له وكسر صولة التكبر ، ألا ترى أنّ السائل الذليل يرفع يديه بين يدي الإنسان الغني حين يسأل عنه ، فمن أحقّ برفع يدي التذلّل بين يديه من الله تعالى الغني بالذات. ألا ترى أنّ المتكبرين لا يرفعون أيديهم إلى الدعاء. وروى الشيخ الصدوق (ره) في كتاب التوحيد في باب الردّ على الثنوية والزنادقة ، بإسناده عن هشام بن الحكم المتكلّم الكبير رحمه‌الله ، عن الإمام الصادق سلام الله عليه في حديث طويل ما هذا لفظه : قال السائل : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ـ

١٦٢

الثانية : أنّه ليس بجسم ولا شيء من أجزائه ، وإلّا لكان مفتقرا إلى الحيّز ، ولكان متحرّكا أو ساكنا فيكون حادثا ، تعالى الله عن ذلك.

الثالثة : أنّه ليس حالّا في الحيّز وإلّا لكان مفتقرا إليه ، وهو باطل.

الحادي عشر : أنّه ليس بمرئي بالبصر ، لأنّه ليس في جهة ، وكلّ مرئيّ في جهة. أمّا الأولى فقد تقدم بيانها. وأمّا الثانية فلأنّ كلّ مرئيّ مقابل أو في حكمه كالصورة في المرآة ، وهو ضروري ، وكلّ مقابل فهو في جهة ، وهو ضروري أيضا.

ولقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) والمراد

__________________

ـ ولكنّه عزوجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنه تعالى جعله معدن الرزق ، فثبّتنا ما ثبّته القرآن والأخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزوجل ، وهذا مجمع عليه فرق الأمة كلّها. الحديث.

وقال العلّامة الكراجكي (ره) في كتابه كنز الفوائد : فإن قيل : فما معنى رفعكم أيديكم نحو السماء في الدعاء ، وما معنى قوله سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قلنا : الجواب عن ذلك :

أنّا إنّما رفعنا أيدينا نسترزق من السماء لقول الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) وإنّما جاز أن يقال : إنّ الأعمال تصعد إلى الله تعالى ، لأنّ الملائكة الكرام حفظة الأعمال مسكنهم السماء ، وأيضا لأنّ السماء أشرف في الخلقة من الأرض ، فلذلك تعرض الأعمال فيها على الله سبحانه وبالتوجّه إليها دعي الله تعالى ، وكلّ ذلك اتساع في الكلام وليس فيه ما يوجب أن يكون الله سبحانه على الحقيقة في السماء ، ونحن نرى المسلمين يقولون للحجّاج : هؤلاء زوار الله ، وإنّما هم زوار بيت الله.

فإن قيل : فأين الله تعالى؟

فالجواب أنّه لا يستفهم بأين إلّا عن مكان والله تعالى لا يوصف بالمكان.

فان قيل : فكيف هو؟

فالجواب أنّه استفهام عن حال فالله تعالى لا تناله الأحوال ، والذي ساق إليه الدليل هو العلم بوجوده سبحانه وأنّه لا شبه له ، جاء في الحديث أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يقول ـ إذا سبّح الله تعالى ومجّده ـ : سبحان من إذا تناهت العقول في وصفه كانت حائرة عن درك السبيل إليه ، وتبارك من إذا غرقت الفطن في تكييفه لم يكن لها طريق إليه غير إليه غير الدلالة عليه انظر ص ٢٣٩ ـ ٢٣٨ طبعة تبريز سنة ١٣٢٢.

(١) الأنعام. ٦ : ١٠٣.

١٦٣

الرؤية لاقترانها بالإبصار فيكون كذلك ، وإلّا لجاز إثبات الرؤية مع عدم الإدراك ، وهو باطل ضرورة ، وحينئذ نقول : تمدّح بنفي الإدراك لذكره بين مدحين ، فيكون إثباته له نقصا ، لأنّ التمدّح إنّما يكون بصفات الكمال ، فيكون عامّا بالنسبة إلى كلّ شخص وكلّ وقت ، فيكون سالبة كلية دائمة ، وهو المطلوب.

ولقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) (١) النافية للأبد ، واستعماله في غيره مجاز ، لسبق الأوّل إلى الذهن ، فبطل قول المجسّمة.

وأمّا الأشاعرة فإن نفوا الجسمية فقد أثبتوا الرؤية ، مخالفين لجميع العقلاء في ذلك.

وقال الرازي : مرادنا بالرؤية (٢) ليس ارتسام صورة من المرئي في العين ولا اتّصال الشعاع البصري به ، بل الحالة الحاصلة عند رؤية الشيء بعد العلم به.

واستدلّوا بأدلّة نقلية ستأتي ، ودليل عقلي تقريره : أنّه تعالى موجود ، وكل موجود مرئي ، وبيّنوا الكبرى بأنّ الجسم والعرض مرئيان ، ولهذا الحكم المشترك علّة مشتركة ، ولا مشترك بينهما إلّا الوجود أو الحدوث ، والعلّة ليست هي الحدوث ، لعدميته فيكون الوجود ، وهو المطلوب.

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٢) ولسيدنا الإمام المتكلّم الأكبر السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (ره) رسالة لطيفة في مسألة الرؤية ، وهي مطبوعة في صيدا (مطبعة العرفان) سنة ١٣٧١ وقد أثبت فيها قول الشيعة الإمامية القائلين بامتناع الروية في الدنيا والآخرة بالأدلّة العقلية والنقلية ، وزيّف كلّ ما ذكره الرازي ودحض شبهاته وتشكيكاته ، وهو إمام المشكّكين ، بما لا مزيد عليه قدّس الله تعالى روح سيدنا الإمام الراحل العظيم وأسكنه في بحبوحة جنانه ، وهو من أكابر مشايخنا في الرواية ، وعليه من الله تعالى شآبيب الرحمة.

وغير خفي على من له إلمام بالعلم واطّلاع على الكتب المؤلّفة في العلوم الدينية أنّ علماءنا رضوان الله تعالى عليهم كتبوا في هذه المسألة رسائل مستقلة قديما وحديثا ، ومنها الرسالة التي ألّفها باللغة الفارسية السيد العلامة المتضلّع الأعظم السيد ابو القاسم الرضوي قدّس الله روحه وسمّاها لا تدركه الأبصار في نفي رؤية الله بالأنظار ، المطبوعة في «لاهور» سنة ١٣٠٢ وفي مكتبتنا نسخة منها ومعها رسالة نفي الإجبار عن الفاعل المختار من تأليفه قدس‌سره.

١٦٤

وهذا في غاية السخافة لمنع رؤية الجسم ، بل العرض كما تقدم ، وبمنع (١) تعليل كل حكم ، ويمنع (٢) كون كل حكم مشترك معلّلا بمشترك ، ولمنع (٣) الحصر في الاثنين ، لحصول الإمكان أو لكون أحدهما علّة بشرط الآخر ، وبمنع مساواة وجوده تعالى لوجودهما ، ويلزمهم رؤية كل موجود (٤) حتّى الروائح وغيرها ، وجواز كونها ملموسا لانصباب دليلهم عليه ، وهو محال.

الثاني عشر : في تأويل (٥) آيات احتجّ بها من قال بخلاف ما ذكرناه من المجسّمة والمشبّهة وغيرهم ، ولا بدّ من تقرير مقدّمة قبل الخوض في المقصود فنقول : يجب تأويل ما ورد ممّا ظاهره التشبيه لوجوه :

الأوّل : ما تقدّم من أنّه إذا تعارض العقل والنقل وجب تأويل النقل ، وإلّا لزم اطّراح العقل ، فيطرح النقل أيضا لاطّراح أصله.

الثاني : أنّه ورد في الكتاب العزيز أشياء وقع الإجماع على وجوب تأويلها ، ودعت الضرورة إلى ذلك ، وذلك آيات :

الأولى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦) وكل عاقل يعلم بالبديهة أنّ إله العالم ليس هو الشيء المنبسط على الجدران والحيطان ، ولا هو الفائض من جرم (٧) الشمس والقمر ، فلا بدّ من تأويله بأنّه منوّر السموات والأرض أو هاد لأهلها أو مصلحها (٨).

__________________

(١) لمنع ـ خ : (آ).

(٢) نمنع ـ خ : (آ).

(٣) بمنع ـ خ : (آ).

(٤) ويلزم رؤية كل جسم موجود ـ خ : (آ).

(٥) تأويلات ـ خ : (آ).

(٦) النور ٢٤ : ٣٥.

(٧) من نور جرم ـ خ : (آ).

(٨) أو هاد لأهلهما أو مصلحهما ـ خ : (آ) وهذا المعنى هو المروي عن مولانا الرضا سلام الله عليه ، رواه الشيخ الصدوق رحمه‌الله في كتاب التوحيد بإسناده عن العباس بن هلال ، قال سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : هاد لأهل السموات وهاد لأهل الأرض ، وفي توجيه إضافة ـ

١٦٥

الثانية : قوله : (أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) ومعلوم أنّه (٢) لم تنزل من السماء ، وكذا (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٣) الثالثة : قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٤) (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ

__________________

ـ النور إلى الله تعالى مسلك لا يخلو عن دقة.

وبيانه : أنّ من الضروري أنّ الموجودات بأسرها لما كانت ممكنة لذواتها ، والممكن لذاته يستحقّ العدم من ذاته والوجود من غيره ، والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور ، فكلّ ما سوى الله تعالى مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى ، فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلّا بإظهاره ، وخاصية النور إعطاء الإظهار والتجلّي والانكشاف ، فإنّه ظاهر بذاته مظهر لغيره.

وعند هذا يظهر أنّ النور المطلق هو الله سبحانه وأنّ إطلاق النور على غيره مجاز ، إذ كلّ ما سواه فإنّه من حيث هو هو ظلمة محضة ، لأنّه من حيث إنّه هو هو عدم محض ، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات ، لأنّها من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معلوم والمعدوم مظلم ، وأمّا إذا التفت إليها من حيث إنّ الحقّ سبحانه أفاض عليها نور الوجود. فبهذا الاعتبار صارت أنوارا فثبت أنّه سبحانه هو النور وأنّ كلّ ما سواه فليس بنور إلّا على سبيل المجاز ، ولقد فسّر النور بهذا المعنى غير واحد من أهل التحقيق.

(١) الزمر ٣٩ : ٦. يعني من الأنعام : الإبل والبقر والضأن والمعز ، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والأنثى ، فإنّ من كل صنف اثنان وهما زوجان.

(٢) أنّها ـ خ : ـ (آ).

(٣) الحديد ٥٧ : ٢٥. يعني لا بدّ من فهم معنى النزول هنا فنقول : يقال : أنزل الله الشيء من نعمه أو نقمه : خلقه أو هدى إليه. وذلك أنّ هذه الأشياء ترجع إلى أسباب سماوية كالمطر وأشعّة الكواكب ، أو أنّها مقضية مكتوبة في اللوح المحفوظ وتنزّل الملائكة الموكّلة بإظهارها في العالم السفلي فينسب الإنزال بذلك إليها ، ومن ذلك إنزال الأنعام وإنزال الحديد وإنزال اللباس هداية الناس إليه مع أنّ أسبابه من السماء ، فهو من القطن ونحوه ، وهو يفتقر إلى المطر وإنزال الميزان هداية الناس إليه أو الأمر به في الكتب المنزلة قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) الأعراف ـ ٢٦ ـ أي خلقنا ، وعبّر عنه بالإنزال ، لأنّه بتدبيرات سماوية ، أو يرجع إلى النبات الناشئ عن المطر. فقوله تعالى : (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي خلقنا الحديد ، انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم ج ٢ ، ص ٧٠٣ ـ ٧٠٤ الطبعة الثانية مصر.

(٤) ق ٥٠ : ١٦.

١٦٦

رابِعُهُمْ) (١) و (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢) ومعلوم أنّ المراد بذلك القرب بالعلم والقدرة ، ولذلك نقل الغزالي عن أحمد بن حنبل أنّه أقرّ بالتأويل في ثلاثة أحاديث :

أحدها : الحجر الأسود يمين الله في الأرض.

وثانيها : قوله عليه‌السلام : «إنّي لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» (٣).

وثالثها : قوله تعالى (٤) : «أنا جليس من ذكرني» وحيث وقع الاتّفاق على تأويل هذه لمنافاتها العقل فكذا غيرها من المنافيات.

الثالث (٥) : أنّ القرآن كالكلمة الواحدة في الاتّفاق وعدم التناقض ، ولهذا قال تعالى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٦) فلا شكّ أنّه جاء فيه ما يدلّ على التنزيه عن الجسمية والجهة وغيرها كقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٧) فإنّه يدلّ على نفي الجسمية والجهة والحيّز (٨).

أمّا الأوّل فلأنّ الجسم أقلّ ما قيل في تركّبه (٩) : إنّه من جزءين ، وذلك ينافي الوحدة وقوله : (أَحَدٌ) مبالغة في الوحدانية ، وذلك يدلّ على نفي كونه جوهرا فردا.

أمّا على رأي من ينفيه ، فإنّه يقول : كلّ متحيّز لا بدّ أن (١٠) يكون يمينه غير يساره

__________________

(١) المجادلة ٥٨ : ٧.

(٢) البقرة ٢ : ١١٥.

(٣) قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ أويس القرني قدّس الله روحه. راهب هذه الأمة وأحد الزهّاد الثمانية ، من أكابر التابعين استشهد في صفّين بين يدي أمير المؤمنين سلام الله عليه وهو من حواريه ، وقد اتّفق المسلمون على جلالة شأنه ورفعة مقامه وزهده وتقواه ووثاقته وعظمته وملئوا الكتب من مدائحه وفضائله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه ليشفع في مثل ربيعة ومضر» رزقنا الله تعالى شفاعته.

(٤) يعني في الحديث القدسي.

(٥) الرابع ـ خ : ـ د ـ والصحيح ما أثبتناه من ـ خ : (آ).

(٦) النساء ٤ : ٨٢.

(٧) الإخلاص ١١٢ : ١.

(٨) والحيز ـ خ : (د).

(٩) تركيبه ـ خ : (آ).

(١٠) وإن ـ خ : (آ).

١٦٧

وقدّامه غير خلفه ، وكلّ ما يتميز أحد جانبيه عن الآخر فهو منقسم ، وإلّا لكان اليمين بعينه ليس بيمين بل بيسار (١) وبالعكس ، وكلّ منقسم فليس بأحد.

وأمّا على رأي من يثبته فيدلّ من وجه آخر ، وهو أنّ الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف فقد يراد به نفي الضدّ والندّ ، ولو كان جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد (٢) مثلا له ، ولهذا أكّد هذا الوجه بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

وإذا دلّ ذلك على نفي الجسمية والجوهرية دلّ على نفي الحيّز والجهة ، لأنّ كلّ ما كان مختصّا بحيّز وجهة ، فإن كان منقسما كان جسما وإن لم يكن منقسما كان جوهرا فردا ، وقد مضى (٣) بطلانهما.

وكقوله : (اللهُ الصَّمَدُ) فإنّ الصمد (٤) هو السيد المصمود إليه في الحوائج ، فلو كان

__________________

(١) يسار ـ خ : (آ).

(٢) فرد ـ خ : (آ).

(٣) ثبت ـ خ : (آ).

(٤) روى الشيخ الصدوق (ره) في كتاب التوحيد مسندا إلى أبي البختري وهب بن وهب القرشي : أنّ الصادق جعفر بن محمد حدّثه عن أبيه الباقر عن أبيه عليهما‌السلام : أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام يسألونه عن الصمد فكتب إليهم :

بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد : فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد فقال : (اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) ثمّ فسّره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ) : لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة والنوم والخطرة والهمّ والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة ، والجوع والشبع ، تعالى عن أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف و (لَمْ يُولَدْ) لم يتولّد من شيء ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة والنبات من الأرض والماء من الينابيع والثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ، لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء مبدع الأشياء وخالقها ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيته ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ـ

١٦٨

جسما مركّبا محتاجا إلى أجزائه لم يكن غنيا محتاجا إليه فلم يكن صمدا مطلقا ، ولأنّ الأجسام المتماثلة يجب اشتراكها في اللوازم ، فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض وجب كون الكلّ محتاجا إلى ذلك الجسم ، ولزم كونه محتاجا إلى نفسه ، وكل ذلك محال.

وكذا يدلّ على نفي الحيّز والجهة ، لأنّه لو حلّ فيهما مع وجوب الحلول ، لزم افتقاره في الوجود إلى غيره ، ويكون ذلك الحيّز مستغنيا عنه ، فلا يكون صمدا مطلقا ، وإن حلّ مع جواز الحلول افتقر إلى مخصّص يخصّصه بالحلول ، وذلك يوجب كونه محتاجا.

وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فإنّه يدلّ على نفي الجسمية والجوهرية ، لأنّ الأجسام والجواهر متماثلة فيكون كفؤا له ، وهو باطل (١).

وكقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) ولو كان جسما لكان له مثل.

وقوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٣) ولو كان جسما لم يكن (٤) غنيا ، لأنّ

__________________

ـ ولم يكن له كفؤا أحد ، ثم نقل وهب بن وهب القرشي ما نقله الإمام الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه الباقر عليه‌السلام حين قدم وفد من أهل فلسطين على الباقر عليه‌السلام فسألوه عن مسائل فأجابهم ثمّ سألوه عن الصمد وفسّره عليه‌السلام إليهم. الحديث.

ويظهر من كلام الإمام عليه‌السلام في ذلك الخبر أنّ الإمام عليه‌السلام لم يجد حملة لنشر علمه من تفسير «الصمد» ولم يكن في عصره من يتحمّله كما أنّ الأمر كذلك في نشر كثير من العلوم حيث لم يجد الأئمة عليهم‌السلام من يتحمّلها في عصر هم قال عليه‌السلام :

لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله عزوجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه حتى كان يتنفّس الصعداء ويقول على المنبر :

«سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين الجوانح منّي علما جمّا هاه هاه! ألا لا أجد من يحمله» انظر التوحيد ص ٩٢ ـ ٩٣ طبعة طهران سنة ١٣٨٧ ومكاتيب الأئمة عليه‌السلام لعلم الهدى ابن العلامة الفيض الكاشاني (ره) ج ٢ ، ص ٤٨ ، طبعة طهران سنة ١٣٨٨.

(١) باطل كذا ـ خ : (د).

(٢) الشورى ٤٢ : ١١.

(٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٣٨.

(٤) لما كان ـ خ : (د).

١٦٩

كلّ جسم مركّب ومحتاج إلى أجزائه (١). إلى غير ذلك من الآيات ، وإذا وجب تأويل أمثال ذلك وجب تأويل غيرها من المتشابهات ، لئلا يتناقض كلامه سبحانه ، وهو المطلوب.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الآيات المتأوّلة أنواع.

[النوع] الأوّل : ما فيه إشعار بالجسمية ، وهو أقسام.

الأوّل : ما يدلّ على الوجه وهو قسمان :

الأوّل : قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٢) أضاف الوجه إلى نفسه ، وإضافة الشيء إلى نفسه محال ، فيكون جزؤه ، وكذا قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٤).

الثاني : قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (٥) وكذا (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)(٦) وغير ذلك.

والجواب عن الأوّل : ليس المراد بالوجه العضو ، وإلّا لزم أن يفنى جميع الجسد ويبقى الوجه ، بل (٧) ظاهره أنّه الموصوف بالجلال والإكرام ولهذا قرئ برفع (ذو) ولا شكّ أنّ الموصوف بالجلال والإكرام هو الله ، فيكون كناية عن الذات ، وكذا الكلام في قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) إلى آخره.

وأمّا (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) فلو كان المراد العضو لزم حصوله في جميع جوانب العالم ، ومعلوم بالحسّ خلافه ، وإلّا لزم حصول الجسم الواحد في أماكن كثيرة ، فيكون المراد

__________________

(١) جزئه ـ خ : (د).

(٢) الرحمن ٥٥ : ٢٧.

(٣) القصص ٢٨ : ٨٨.

(٤) البقرة ٢ : ١١٥.

(٥) الانسان ٧٦ : ٩.

(٦) الليل ٩٢ : ٢٠.

(٧) بل ـ خ : (د).

١٧٠

به الذات ، والمقصود به التأكيد والمبالغة.

وإنّما كنّى بالوجه عن الذات ، لأنّ المرئي من الإنسان في الأغلب ليس إلّا وجهه ، وبوجهه (١) يتميّز عن غيره ، فكأنّه العضو الذي به يتحقّق وجوده.

وأيضا إنّ المقصود من الإنسان ظهور آثار عقله وحسنه وفهمه وفكره ، ومعلوم أنّ معدن هذه القوى هو الرأس ، ومظهر آثارها هو الوجه.

وأيضا لاختصاصه بمزيد الحسّ واللطافة والتركيب العجيب والتأليف الغريب وظهور ما في القلب من الأحوال عليه فحسن الإطلاق.

وعن الثاني أنّه ليس المراد العضو ، لأنّه قديم عندهم ، والقديم لا يراد حصوله (٢) ، لأنّ الشيء الذي يراد معناه يراد حصوله ودخوله في الوجود ، وذلك في القديم والأزل محال ، بل المراد الرضا ، (٣) وإنّما كنّى به عن الرضا ، لأنّ الإنسان إذا مال قلبه إلى

__________________

(١) وبوجه ـ خ : (د).

(٢) لا يزاد حصوله ودخوله في الوجود ، وذلك في القديم الأزلي محال ـ خ ـ : (آ).

(٣) يعني رضا الله تعالى ، وقد يقال في توجيه إضافة الوجه إلى الله تعالى : أن يكون المراد ما يقصد به الله تعالى ، ويوجّه به نحو القربة إليه من الأعمال ، فلا نشرك بالله ولا ندع إلها آخر ، فإنّ كلّ فعل يتقرّب به إلى غيره ويقصد به سواه فهو هالك باطل. وهذا توجيه حسن. وأما ما ورد عن العترة الطاهرة أهل بيت العصمة حملة كتاب الله تعالى سلام الله عليهم الذين أمرنا بالرجوع إليهم في أمثال ذلك فكما يلي :

فقد روى الشيخ الصدوق رحمه‌الله في كتاب التوحيد ، بإسناده في حديث عن عبد السّلام بن صالح الهروي ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه أنّ ثواب لا إله الّا الله النظر إلى وجه الله؟ فقال عليه‌السلام : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم هم الذين بهم يتوجه إلى الله وإلى دينه ومعرفته وقال الله عزوجل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) وقال عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه عليهم‌السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة. الحديث. انظر التوحيد ، ص ١١٧ والاحتجاج للطبرسي ره ج ٢ ، ص ١٩٠ ، طبعة النجف.

وروى بإسناده عن أبي حمزة ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : فيهلك كلّ شيء ويبقى الوجه ، إنّ الله عزوجل أعظم من أن يوصف بالوجه ، ولكن معناه كل شيء هالك إلّا دينه ، والوجه الذي يؤتى منه.

وروى بسنده عن الحارث بن المغيرة النصري قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ

١٧١

الشيء اقبل بوجهه عليه ، وإذا كرهه أعرض بوجهه عنه.

الثاني : ما يدلّ على العين قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (١) (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (٣).

والجواب : لا يمكن إجزاء ذلك على ظاهره ، وإلّا لزم كون العين آلة لتلك الصنيعة (٤) في الأولى ، وأن يكون موسى عليه‌السلام مستقرا على العين ملتصقا بها مستعليا عليها.

وأيضا للزم إثبات أعين في الوجه الواحد ، وهو قبيح فيكون المراد غير ذلك ، وهو

__________________

هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : كلّ شيء هالك إلّا من أخذ طريق الحقّ.

وبسنده عن صفوان الجمّال عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد والأئمة من بعده صلوات الله عليهم ، فهو الوجه الذي لا يهلك ، ثمّ قرأ : «من يطع الرسول فقد أطاع الله».

ثمّ قال الشيخ الصدوق (ره) : وبهذا الإسناد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : نحن وجه الله الذي لا يهلك.

وبسنده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال : نحن.

قال بعض المعاصرين في تعاليقه على كتاب التوحيد : الوجه من كلّ شيء هو أول ما يظهر منه ويتوجّه إليه منه ، وجميع الأخبار الواردة في هذا الباب في هذا الكتاب ، يعني كتاب التوحيد للصدوق (ره) ، وغيره عن أئمتنا صلوات الله عليهم فسّر الوجه فيه بهم وبما يتعلق بهم من الأمور الإلهية انظر التوحيد ، ص ١٥٠.

وقال بعض الأعاظم رحمه‌الله : معنى كونهم عليهم‌السلام «وجه الله» أنّهم يتوجّه بهم إلى الله تعالى. قلت : قال الباقر عليه‌السلام كما رواه في الكافي والتوحيد وتفسير علي بن ابراهيم وغيره : نحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم ، عرفنا من عرفنا ومن جهلنا فأمامه اليقين ـ الحديث : وفيه اختلاف في التعبير فراجع الجوامع الحديثية.

قوله : فأمامه اليقين ، أي أمامه الموت وسيموت وينكشف له ما هو الحقّ ويتيقن بعد الموت الذي أمامه أنّا وجه الله الذي لا بدّ لعباده أن يتوجّهوا إليه به.

(١) هود ١١ : ٣٧ ، المؤمنون ٢٣ : ٢٧.

(٢) طه ٢٠ : ٣٩.

(٣) الطور ٥٢ : ٤٨.

(٤) الصنعة في الأزل ـ خ : ـ (آ).

١٧٢

الحمل على شدّة العناية والحراسة ، ووجه حسن هذا المجاز أنّ من عظمت رعايته لشيء واشتدّت عنايته به كثر نظره إليه.

الثالث : ما يدلّ على اليد وقد وردت تارة بصيغة الإفراد كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٢) وتارة بصيغة التثنية كقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)(٣) وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٤) وتارة بصيغة الجمع كقوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (٥)

والجواب أنّ اليد يعبّر بها مجازا عن أمور :

منها : القدرة فيقال : يد السلطان فوق يد الرعية ، أي قدرته. ووجه حسن هذا المجاز أنّ كمال حال هذا العضو إنّما يظهر بالقدرة ، فلمّا كان المقصود القدرة أطلق اسم اليد على القدرة.

ومنها : النعمة ؛ لأنّ آلة إعطاء النعمة اليد (٦) فيكون إطلاق اسم السبب على المسبّب.

ومنها : أن يذكر لفظ اليد صلة للكلام وتوكيدا ، يقال : يداك أوكتا وفوك (٧) نفخ ، ويقرب منه (٨) قوله تعالى : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (٩) ، و (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)(١٠)

إذا عرفت هذا. فالمراد في الأولى : أنّ قدرة الله غالبة على قدرتهم ، وفي الثانية : النعمة.

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٠.

(٢) المائدة ٥ : ٦٤.

(٣) ص ٣٨ : ٧٥.

(٤) المائدة ٥ : ٦٤.

(٥) يس ٣٦ : ٧١.

(٦) لأن اعطاء النعمة باليد ـ خ : (آ).

(٧) وكذا وفوك نفخ ـ خ : (د).

(٨) ونعرف منه ـ خ : (آ) ـ ونعرف منه قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) والمراد بأنفسكم إلى التهلكة ـ هامش ـ خ : (آ).

(٩) المجادلة ٥٨ : ١٢.

(١٠) الأعراف ٧ : ٥٧ ؛ الفرقان ٢٥ : ٤٨ ؛ النمل ٢٧ : ٦٣.

١٧٣

ويدلّ عليه أنّه كلام اليهود (١) فإمّا أن يكونوا مقرّين بإثبات الخالق أو منكرين ، فإن كان الأوّل امتنع أن يقال : خالق العالم مغلول مقيّد ، فإنّه لا يقوله عاقل ، وإن كان الثاني لم يكن لذلك الكلام فائدة فلم يبق إلّا أن يكون المراد النعمة ، لاعتقادهم أنّ نعمة الله (٢) محبوسة عن الخلق ممنوعة عنهم.

وأمّا قوله تعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، فنقول : للعلماء فيه قولان :

الأوّل : أنّ اليدين صفتان قائمتان بذاته تعالى ، يحصل بهما التخليق على وجه التكريم والاصطفاء كما في حقّ آدم عليه‌السلام ؛ لأنّ قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يشعر (٣) بالعلّية للسجود ، فلو كان المراد القدرة لكانت علّة للسجود في جميع الخلق ، ولأنّها مذكورة بالتثنية ، والقدرة واحدة ، ولأنّ فيه إشعارا بأنّ آدم مخصوص بذلك ، وأنّ الحكم منفي عن غيره.

وفي هذا نظر :

أمّا أوّلا فلأنّه لو كان التخليق باليدين يوجب التكريم ومزيد الاصطفاء ، لكان تخليق البهائم والأنعام بالأيدي يوجب رجحانها على آدم عليه‌السلام ، لقوله في حالها : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (٤).

وأمّا ثانيا فلأنّه لا يدلّ على حصول العدد ، بدليل قوله تعالى : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (٥).

وأمّا ثالثا فلأنّ التخصيص بالذكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه.

الثاني : أنّ المراد القدرة وإنّما ثنّاها لكثرة العناية بآدم في تكوينه وإيجاده ، فإنّ الإنسان إذا أراد المبالغة في بعض المهمّات وتكميلها يقول : هذا عملت (٦) بيدي ، ومن

__________________

(١) كلام لليهود ـ خ : (د).

(٢) نعم الله تعالى ـ خ : (آ).

(٣) مشعر ـ خ : (آ).

(٤) يس ٣٦ : ٧١.

(٥) المجادلة ٥٨ : ١٢.

(٦) علمت ـ خ : (د) ـ والظاهر عدم الصحة ، وما أثبتناه من ـ خ : (آ) هو الصحيح.

١٧٤

المعلوم أنّ التخليق مع هذا النوع من العناية ما كان حاصلا في غير آدم.

وأمّا يداه مبسوطتان ، فالمراد النعمة ؛ لأنّه ورد جوابا عن قول اليهود ، وقد بيّنا وجه ذلك ، والتثنية عبارة عن كثرة النعم وشمولها للخلق.

وقيل : المراد نعمتاه الظاهرة والباطنة أو نعمة (١) الدنيا والآخرة.

الرابع : ما يدلّ على اليمين كقوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٢) وقوله : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٣).

والجواب أنّ اليمين عبارة عن القوة والقدرة ، بدليل أنّه يسمّى جانب الأيمن باليمين ؛ لأنّه أقوى الجانبين ، وسمّى الحلف باليمين ؛ لأنّه يقوي عزم الإنسان على الفعل والترك ، فعلى هذا المراد بالسماوات مطويات بقدرته.

وأمّا قوله : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ثمّ أخذنا بيمين ذلك الإنسان ، كما يقال :

أخذت بيمين الصبي إلى المكتب أو يكون بيمين الآخذ ، فيكون المراد أخذنا منه بالقوة والقدرة.

الخامس : ما يدلّ على القبضة كقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٤).

والجواب : ظاهر الآية يدلّ على أنّ الأرض قبضته ، وذلك محال لوجوه :

الأوّل : أنّ الأرض محتوية على النجاسات ، فكيف يقول العاقل : إنّها قبضة إله العالم.

الثاني : أنّ القرآن دالّ على أنّ الأرض مخلوقة ، وقبضة الخالق لا تكون مخلوقة.

الثالث : أنّ الأرض تقبل الاجتماع والافتراق والعمارة والتخريب ، وقبضة الخالق لا تكون كذلك.

فإذن لا بدّ من التأويل ، وهو أنّ الأرض في قبضته. ثمّ إنّ القبضة قد يراد بها احتواء

__________________

(١) أو نعمتا ـ خ : (آ).

(٢) الزمر ٣٩ : ٦٧.

(٣) الحاقة ٦٩ : ٤٥.

(٤) الزمر ٣٩ : ٦٧.

١٧٥

الأنامل على الشيء ، وقد يراد بها كون الشيء في قدرته وتصرّفه وملكه ، يقال : البلد في قبضة السلطان ، والمراد هنا ما ذكرناه (١).

السادس : ما يدلّ على الجنب ، قال تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٢)

والجواب : قيل : المراد من الجنب الحقّ ، والسبب في حسن هذا المجاز أنّ جنب الشيء إنّما يسمّى حقّا ، لأنّه به يصير ذلك الشيء مجانبا لغيره ، فمن أتى بعمل على سبيل الإخلاص في حقّ الله فقد جانب في ذلك العمل غير الله ، فيصحّ أن يقال : إنّه أتى بذلك العمل في جنب الله تعالى ، وهذه الاستعارة معروفة معتادة في العرف.

السابع : ما يدلّ على الساق في قوله تعالى : (يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٣) وروى صاحب شرح السنّة عن أبي سعيد الخدري أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد له فيعود ظهره طبقا (٤).

والجواب : لا حجّة في الآية والخبر ، لوجوه.

الأوّل : إنّه ليس في الآية أن (٥) يكشف عن ساقه بل قال : عن ساق ، وذكره بما (٦) لم يسمّ فاعله.

__________________

(١) هذا المعنى ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) الزمر ٣٩ : ٥٦.

(٣) القلم ٦٨ : ٤٢.

(٤) انظر الدّرّ المنثور للسيوطي ، ج ٦ ، ص ٢٥٦ ، وروى فيه عن ابن عباس أنّه سئل عن قوله : «يكشف عن ساق» قال : إذا خفى عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر:

اصبر عناق أنه شر باق

قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدّة.

(٥) أنّه ـ خ : (آ).

(٦) بلفظ ما ـ خ : (آ).

١٧٦

الثاني : أنّ إثبات الساق الواحدة للحيوان نقص ، تعالى الله عنه.

الثالث : أنّ الكشف إنّما يكون عن الاحتراز عن تلوّث الثوب بشيء محذور ، وجلّ إله العالم ، بل المراد شدّة أهوال القيامة يقال : قامت الحرب على ساقها ، أي شدّتها فقوله: (يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي عن شدّة القيامة وأهوالها وأنواع عذابها وأضافه إلى نفسه في الخب ؛ لأنّه شدّة لا يقدر عليها إلّا هو.

الثامن : ما يدلّ على صفات لا تقوم إلّا بالأجسام (١) ، وهو أقسام :

الأوّل : الحياء ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً)(٢)وكما روى سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّ الله حيّ كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردّهما صفرا حتّى يضع فيهما خيرا».

والجواب : أنّ الحياء هو تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاقب به أو يذمّ عليه ، واشتقاقه من الحياة جعل الحياء لما يعتريه من الانكسار والتغيّر ، فتنكسر القوة فتنقص الحياة (٣) ولهذا يقال : هلك فلان حياء من كذا ، ومات حياء ، وحينئذ لا بدّ من تأويل.

فنقول : إنّ القانون الكلّي أنّ كلّ وصف يختصّ بالأجسام إذا وصف به تعالى ، فهو محمول على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض.

مثاله : إنّ الحياء حالة تحصل للإنسان ، لها مبدأ ونهاية ، أمّا المبدأ فهو التغيّر المذكور ، وأمّا النهاية فهو ترك ذلك الفعل ، فإذا ورد في حقّ الله تعالى ، فليس المراد ذلك التغيّر والخوف الذي هو مبدأ ، بل المراد ترك الفعل الذي هو نهايته ، وكذلك الغضب له مبدأ ، وهو غليان دم القلب وشهوة الانتقام ، وله غاية ، وهو إيصال العقاب إلى المغضوب عليه ، فإذا وصف الله تعالى به فليس المراد المبدأ بل النهاية والغاية.

__________________

(١) بأجسام ـ خ : (آ).

(٢) البقرة ٢ : ٢٦.

(٣) جعل الحيّ لما يعتريه من الانكسار والتغيّر منكسر القوة بمنتقض الحياء ـ خ : (آ).

١٧٧

الثاني : اللقاء ، قال الله تعالى : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (١) (يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) (٢) واللقاء من صفات الأجسام.

والجواب أنّه محمول على أحد وجهين :

الأوّل : أنّ الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه ، دخل هناك تحت حكمه وقهره دخولا لا حيلة له في رفعه ، وكان ذلك اللقاء سببا لظهور قدرة الملك عليه ، فعلى هذا الوجه يكون من قسم الحمل على نهايات الأغراض.

وثانيهما : أن يكون في الكلام حذف مضاف ، أي ملاقوا جزاء ربّهم ، وكذا في غيرها.

الثالث : المجيء نحو : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٣) وكذا في قوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) (٤) و (جاءَ رَبُّكَ) (٥).

والجواب : أنّ إتيان الله تعالى ومجيئه يمتنع حمله على ظاهره ، وإلّا لكان محدثا ؛ لأنّه لا ينفكّ حينئذ من الحوادث ، ولكان محدودا ، ولجاز إثبات إلهيّة غيره من الأجسام ؛ لأنّ منع إلهيّتها لجريان صفات الأجسام عليها وإلّا لما كان يتمّ طعن الخليل عليه‌السلام في إلهيّة الكواكب والشمس والقمر ، فيكون المراد حينئذ غير ذلك.

أمّا في الإتيان فوجهان : الأوّل : أنّ المراد أن يأتيهم آيات الله ، فجعل مجيئها مجيئا له على التعظيم لشأنها ، ويدلّ على هذا قوله من قبل : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) (٦).

أو يكون المراد أن يأتيهم أمر الله ، لقوله في سورة النحل : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٦ ؛ هود ١١ : ٢٩.

(٢) التوبة ٩ : ٧٧ ؛ الاحزاب ٣٣ : ٤٤.

(٣) البقرة ٢ : ٢١٠.

(٤) الأنعام ٦ : ١٥٨.

(٥) الفجر ٨٩ : ٢٢.

(٦) البقرة ٢ : ٢٠٩.

١٧٨

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١) فكان هذا مفسّرا لذلك ، ولقوله بعد ذلك : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (٢) واللام للمعهود (٣) السابق فيكون مقتضيا لذكر أمر جرى (٤) ليكون معهودا ذهنيا ، والمراد باللام هنا الفعل كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥) وإن حمل على القول جاز أن يكون المراد مناداة مناد من عند الله ، وحصول أصوات مقطّعة مخصوصة في تلك الغمامات ، دالّة على حكم ، أو يكون هناك حذف تقديره : أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب ، فحذف ما يأتي به ، تعويلا (٦) على الفهم فيكون الحذف أبلغ في التهويل لتقسيم أفكارهم وخواطرهم في كلّ وجه ومثله (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (٧).

الثاني : أن يكون في بمعنى الباء ، وحروف الجرّ يقام بعضها مقام بعض ، وتقديره : أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة أي مع الملائكة.

وأمّا المجيء فوجهان أيضا : الأوّل : حذف المضاف فيحتمل حينئذ وجوها :

الأوّل : جاء أمر ربّك بالمجازاة والمحاسبة.

الثاني : جاء قهر ربّك كما يقال : جاء الملك القاهر إذا جاء عسكره.

الثالث : جاء ظهوره معرفة الله تعالى بالضرورة في ذلك اليوم ، فصار ذلك جاريا مجرى مجيئه وظهوره.

الثاني : أن يكون هناك حذف مضاف ، ويكون المراد من الآية التمسّك بظهور آيات الله وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه ، والمقصود (٨) تمثيل تلك الحالة بحال الملك

__________________

(١) النحل ١٦ : ٣٣.

(٢) البقرة ٢ : ٢١٠.

(٣) للعهد ـ خ ل ـ خ : (د) خ : (آ).

(٤) جزئى ـ خ : (آ).

(٥) القمر ٥٤ : ٥٠.

(٦) تعولا ـ خ : (آ).

(٧) الحشر ٥٩ : ٢.

(٨) والمراد ـ خ : (آ).

١٧٩

إذا حضر ، فإنّه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلّها.

التاسع : ما يدلّ على أنّه جسم أو متعلّق بالجسم كالروح والنفس كقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) وغير ذلك ، وقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) (٢) فإنّه يدلّ على التجزّي أو على ما يستلزم ذلك.

والجواب : أمّا الروح ، فإنّ إضافة الروح (٣) إلى نفسه فهو إضافة التشريف ، والمراد بالنفخ التعبير بالسبب عن المسبّب ، لامتناع أن يكون تعالى قابلا للتجزّي والتبعيض.

وأمّا النفس فقد جاء لغة على وجوه.

الأوّل : البدن كقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٤).

الثاني : الدم نحو : حيوان له نفس سائلة ، ومنه سمّيت النفساء.

الثالث : الروح كقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٥).

الرابع : العقل كقوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٦) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٧) وذلك لأنّ الأحوال بأسرها باقية حالة النوم إلّا العقل (٨) ، فإنّه هو الذي يختلف الحال فيه عند النوم واليقظة.

الخامس : ذات الشيء وعينه ، نحو قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (٩) (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١٠).

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٢٩ ؛ ص ٣٨ : ٧٢.

(٢) المائدة ٥ : ١١٦ والاستشهاد على المطلب بقوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).

(٣) إضافة الروح ـ خ : (د). إضافتها ـ خ : (آ).

(٤) آل عمران ٣ : ١٨٥ ، الأنبياء ٢١ : ٣٥ ؛ العنكبوت ٢٩ : ٥٧.

(٥) الزمر ٣٩ : ٤٢.

(٦) الزمر ٣٩ : ٤٢.

(٧) الأنعام ٦ : ٦٠.

(٨) لأنّ الأحوال التي ثابتة هنا باقية حال النوم لا العقل ـ خ : (آ) قوله : «الذي» كذا في النسخة.

(٩) البقرة ٢ : ٩.

(١٠) البقرة ٢ : ٥٤.

١٨٠