اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

الأوّل هو ضد (١).

وإمّا اجتماع ، وهو حصول الجوهرين بحيث لا يتخلّلهما ثالث.

وإمّا افتراق ، وهو ضدّه.

وتشترك الأربعة في كونها وجودية ويقع فيها تضادّ وتماثل ، وهو مدركة بواسطة وقوع الضوء واللون على محلها.

الثاني : الحرارة ، وهي محسوسة باللمس من شأنها إحداث الخفّة والجمع بين المتشاكلات والتفريق بين المختلفات من المركّبات ، وهي جنس لأنواع كثيرة كحرارة الحمى والعدو والشمس والأدوية والنار.

وأمّا الحرارة الغريزية فهي مخالفة بالنوع للعرضية. قيل : إنّها الجزء الناري في المركّب إذا لم تبلغ حدّ الإحراق إفراطا ولا حدّ النقصان محاجة. وقيل : تفيدها النفس ، أي هي مبدأ علّتها والروح جاعل (٢) لها محاجة (٣) فهي مركّب لها. وقيل : تحدث عن أشعّة الشمس والكواكب.

الثالث : البرودة ، وهي ملموسة أيضا وآثارها مقابلة لما تقدّم. وقيل : هي عدم الحرارة عمّا من شأنه ، وهو باطل ، لأنّا نحسّ من البارد بزائد على العدم ، ولا شيء من العدم بمحسوس.

الرابع : اليبوسة ، فقيل : هي كيفية يعسر معها قبول الأشكال لموضوعها وتركها. وقيل : هي الجفاف.

الخامس : الرطوبة ، وهي على الأوّل ما يسهل معه قبول الشكل وتركه ، وعلى الثاني البلّة أو سهولة الالتصاق والانفصال ، فالهواء رطب على الأوّل لا الثاني.

السادس : اللون ، وهو محسوس بصري وأصوله عند أبي هاشم خمسة : السواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة ، وما عداها مركّب. وعند بعض الأوائل الأوّلان.

__________________

(١) يعني أنّ السكون على المعنى الأول أمر وجودي مضادّ للحركة.

(٢) خامد ـ خ : (آ).

(٣) محاجة ـ خ : (د).

١٤١

وعند بعضهم : البياض لا حقيقة له بل يحصل عند مخالطة الهواء للأجسام الشفّافة الصغيرة جدّا ، كالزيد والزجاج المدقوق ، ويبطله البيض المسلوق ، فإنّه بعد الطبخ أبيض لا باعتبار إحداث النار هوائية فيه وإلّا لكان أخفّ ، وشرط إدراك اللون وقوع الضوء.

وقال ابن سينا (ره) : هو شرط وجوده. وهو خطأ ، وجعل بعضهم الضوء نوعا من اللون. وهو خطأ أيضا ، فإنّ السواد والبياض يشتركان في الإضاءة مع اختلافهما ماهية.

السابع (١) : الرائحة ، وهي كيفية مشمومة ليس لها اسم يخصّها ، بل إنّما العلم بالإضافة إلى المحلّ أو إلى طعم مقارن لها أو بالموافقة والمخالفة.

الثامن : الطعم ، وهو كيفية مذوقة ، قيل : وأنواعه تسعة ، لأنه كيفية مزاجية والحامل له إمّا كثيف أو لطيف أو معتدل ، والفاعل في كلّ (٢) منها إمّا حارّ أو بارد أو معتدل ، فالحاصل تسعة فالحارّ في الكثيف مرارة عفوصة (٣) وفي اللطيف دسومة والمعتدل تفاهة (٤).

وقد يقال هذه على عدم الطعم عمّا من شأنه.

التاسع : الصوت ، وهو كيفية مسموعة ، وهو غير قار ، لإدراكنا الهيئة الصورية ، ولو كانت أجزاء الصوت باقية لم يكن إدراك هذه أولى من باقي التركيبات ، وأخطأ من جعله جسما وإلّا لشارك الأجسام في اللمس والإبصار.

والحروف (٥) كيفية عارضة له يتميّز به عن صوت آخر مثله تميز (٦) في السمع (٧) ، وهو إمّا مصوّت أو صامت ، وإمّا متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض ، والكلام

__________________

(١) من هاهنا إلى قوله : الثامن. ساقط في نسخة : (آ).

(٢) لكلّ ـ خ ل ـ خ : (د).

(٣) العفوصة : المرارة والقبض اللذان يعسر معهما الابتلاع.

(٤) تفه يتفه تفاهة الطعام : لم يكن له طعم حلاوة أو حموضة أو مرارة.

(٥) والحرف ـ خ : (آ).

(٦) تمييزا ـ خ : (آ).

(٧) في المسموع ـ خ ل ـ خ : (د).

١٤٢

منتظم منه ، والنفساني ليس له حقيقة ودليله خطابي وشعري لا يفيد يقينا.

العاشر : الاعتماد ، ويسمّيه الحكيم ميلا ، وهو كيفية يقتضي حصول الجسم في جهة من الجهات طبعا أو قسرا أو إرادة. قيل : وهو غير باق.

والجهة مقصد المتحرّك ومتعلّق الإشارة ، وهي ستة ؛ إذ الأبعاد ثلاثة ولكلّ طرفان فالحاصل ستة.

وأثبت قوم أعراضا أخر من الفناء والتأليف والموت وغيرها.

والمحقّق ما ذكرناه ، وما ذكروه من أحكام الفناء باطل ، إذ عدمه لذاته يقتضي امتناعه ، وسيأتي لهذا مزيد بحث في اللامع الأخير.

وتشترك الأعراض في عدم الانتقال وإلّا لعدمت ، لاحتياجها في وجودها إلى الفاعل وفي التشخّص إلى المحلّ فلو انتقلت زال أحد عللها.

وفي عدم قيام عرض بمحلّين وإلّا لاجتمع على الواحد بالشخص علّتان ، وبه يبطل قول أبي هاشم في التأليف : إنّه قائم بمحلّين لا أزيد ، وكذا قول بعض الأوائل في الإضافات المتفقة كالأخوّة والجوار.

وفي جواز قيام عرض بعرض كالسرعة والبطء القائمين بالحركة.

وفي كون القار من الأعراض ، وهو ما يجتمع أجزاؤه في الوجود باقيا ، وأمّا غيره فلا.

وما قيل : إنّ البقاء عرض ، فلو بقيت لزم قيام العرض بالعرض ، فالمقدّمتان ممنوعتان بل البقاء أمر عقلي هو استمرار الوجود ، وعلى تقدير التسليم قد تقدّم صحّة الفناء منه(١).

__________________

(١) الفناء منه ـ خ : (د). الثانية ـ خ : (آ).

١٤٣
١٤٤

اللامع السادس

في حدوث العالم

بمعنى أنّ وجوده مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، وهو مذهب المليين كافة ، خلافا للحكماء.

والحق الأوّل لوجوه :

الأوّل : أنّه ممكن ، وكلّ ممكن محدث ، والصغرى ظاهرة ، فإنّ العالم متكثّر ولا شيء من الواجب بمتكثّر ، وأمّا الكبرى فلافتقار الممكن إلى المؤثّر كما تقدم ، فحال التأثير لا جائز أن يكون موجودا وإلّا لزم تحصيل الحاصل فيكون معدوما ، فعدمه سابق على وجوده وهو المطلوب.

الثاني : أنّه لا يخلو من الحوادث ، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

أمّا الصغرى فتظهر بأمور :

الأوّل : أنّ هنا أمورا زائدة على الأجسام التي هي أجزاء العالم ، وتلك الأمور هي الحركات والسكنات ، وهو ظاهر ، فإنّ الجسم يسكن بعد أن كان متحرّكا (١) وبالعكس ، فتكون الحركة والسكون غيره ؛ إذ الباقي غير الزائل.

__________________

(١) فإنّ الجسم لا يعقل منفكا عن السكن بعد أن كان متحركا ـ خ : (د).

١٤٥

الثاني : أنّ الأجسام لا تخلو منها ، هو ظاهر أيضا ، فإنّ الجسم لا يعقل منفكّا عن الحيّز ، وحينئذ لا يخلو من أن يكون لابثا وهو الساكن أو غير لابث وهو المتحرّك.

الثالث : إنّ هذه الأمور حادثة بأشخاصها ونوعها ومجموعها ، أمّا أشخاصها فظاهر ، لتبدّل بعضها ببعض ، ولأنّها ممكنة ، لافتقارها إلى موضوعها ، وكلّ ممكن حادث ، لما تقدم. وأمّا نوعها ، فلأنّ النوع لا يوجد إلّا في ضمن أشخاصه ، فهو مفتقر إليها ، وقد دللنا على حدوث الأشخاص ، والمفتقر إلى الحادث (١) أولى بالحدوث وأمّا مجموعها ، فلبرهان التطبيق فإنّا نأخذ جملة من الحركات من زماننا إلى الأزل وجملة أخرى من الطوفان إلى الأزل ، ونطبّق بينهما ، فإن تساويا فباطل ، وإلّا لزم مساواة الزائد الناقص ، وإن لم يتساويا زادت التامّة على الناقصة بمقدار ما نقصناه ، وهو متناه ، فتتناهى الجملتان ، لأنّ الزائد على المتناهي بمقدار متناه متناه.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ كلّ ما لا يخلو من الحوادث لو لم يكن حادثا لكان قديما ، لعدم الواسطة فإن كان معه شيء من الحوادث المذكورة اجتمع النقيضان ، وإن لم يكن معه شيء لزم خلوّ الجسم منها ، وهو باطل ، لما تقدّم.

الثالث : إنّه لا يجوز أن يكون جسم من الأجسام أزليا (٢) ، لأنّه حينئذ إمّا متحرّك أو

__________________

(١) إلى المحدث ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) غير خفي على القارئ الكريم والباحث الخبير أنّ المتكلّمين من علماء الاسلام وفلاسفة المسلمين أقاموا الدلائل العقلية والنقلية قديما وحديثا على إثبات الحدوث الزماني للعالم بطرق مختلفة ، وكانوا يثبتونه بالبراهين الدقيقة العقلية ، كما نرى أنّ المصنّف (ره) في هذا المقام حذا حذوهم ومشى على طريقتهم في بيان الدلائل العقلية ، ولكن في هذه العصور الأخيرة بعد ما انكشف القانون الثاني في العلم الطبيعي (ترموديناميك) (الحرارة والحركة) فقد سهل بهذا الطريق العلمي ثبوت الحدوث الزماني للعالم واضحا جليّا بحيث لم يبق فيه شكّ ولا ريب ، وبطل القول بأنّ العالم أزلي والمادة أزلية ، وأوّل من كشف الحدوث من هذا الطريق وأثبت حدوث الأجسام المخلوقة بأسرها هو «إسحاق نيوتن» (NOTWENCAASl (وقد أظهر نظره بعد المطالعات الدقيقة العلمية ، وأثبت أنّ العالم ينحدر من النظم والترتيب والانتظام إلى ـ

١٤٦

ساكن ، وهو ظاهر ، وكلاهما محال.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير وكلّ متحرك مسبوق بالغير ؛ لما علم من تعريف الحركة.

__________________

ـ الانحلال وعدم النظم والترتيب ، حتّى يأتي يوم تكون الحرارة في جميع الأجسام متساوية لا مزيّة فيها لجسم على آخر ، ووصل من هذا البحث العلمي إلى النتيجة المطلوبة ، وهي القول بأنّ العالم لا بدّ له من ابتداء ، ثمّ بحث في الحرارة واعتقد أنّ من جميع التغييرات التي تتولد في الحرارة يتبدل قسم من القوة التي تستفاد منها إلى القوة التي لا تكون قابلا للاستفادة ولا تتبدّل القوة التي لا يستفاد منها إلى القوة التي يستفاد منها. وهذا هو القانون الثاني يقال له : ترموديناميك (SClMANYDOMREHT).

وفهم بعض الفلاسفة أنّ القانون الثاني «الحرارة والحركة» حالة مخصوصة من أصل كلّي واحد ويثبت أنّ في جميع النقل والانتقالات قسمة من النظم والترتيب تضمحل وتذهب من البين ، وفي مورد الحرارة من تبديل القوة القابلة للاستفادة إلى القوة غير القابلة للاستفادة ، يذهب النظم والترتيب من كل الذرات في البين ويتلاشى طرح الخلقة أصلا وأساسا.

فعلى هذا نقول : إنّ بحسب القانون الثاني «ترموديناميك» يعني قانون الحرارة والحركة الذي يسمّى «انتروپى» (YPORTNE) تجري الحرارة من الأجسام الحارة إلى طرف الأجسام الباردة ، وهذا الجريان لا يمكن أن يجري بنفسه معكوسا ففي الحقيقة أنّ «انتروپى» نسبة قوة غير قابلة للاستفادة إلى قوة قابلة للاستفادة وقد تحقق بلا ريب أنّ «انتروپى» يتزايد دائما على التدريج فإن كان العالم أزليا ولم يكن له ابتداء فكان لا بدّ من مدى بعيد الحرارة في الأجسام متساوية ولم يكن قوة قابلة للاستفادة باقية. وفي نتيجة ذلك لا بدّ وأن لا يوجد فعل وانفعال كيمياوي أصلا وكانت الحياة في سطح الأرض غير ممكنة ، ولكنا نشاهد بالعيان أنّ الفعل والانفعالات الكيمياوية موجودة والحياة في سطح الأرض دائمة وتتجلّى في الكون على الدوام. والحاصل أنّ جميع الأجسام في العالم تتنزل وتصل إلى درجة نازلة دانية ، ولا يوجد فيها قوة قابلة للمصرف ولا يمكن فيها التعيش والحياة ، فإن لم يكن للعالم ابتداء وإنّه كان موجودا أزلا فكان لا بدّ وأن تكون هذه الشمس الطالعة خامدة قبل زماننا بالسنين المتمادية ، والشمس والموجودات الكائنة في منظومتها ومنها الأرض وسكّانها في حالة منكسرة ، وأن لا يوجد عنصر «راديو آكتيو» أصلا ، فهذا القانون المسلّم العلمي يبطل القول بأنّ العالم أزلي ، بل هو دليل من أبرز الدلائل على إثبات الصانع للعالم وتوحيده ، لأنّا إذا قلنا : إنّ العالم وهذا الترتيب الموجود فيه له ابتداء ولكن لا خالق له ولا صانع ، فلا بدّ أن نقول : إنّ المادة بنفسها وجدت من العدم وبعد الوجود أثبت لنفسها بنفسها هذا النظم والترتيب والمحاسبة والحدود ، وأوجد لنفسها قوانين ثابتة لا تتغير فهل يقبل عاقل صاحب فهم وشعور هذا الرأي السخيف والقول المزيّف غير المعقول؟ بل لا يعبأ به أصلا.

١٤٧

وأمّا الثاني ، فلأنّ السكون (١) حينئذ (٢) يكون أزليا فلا يجوز عليه العدم ، لما تقدم من استحالة العدم على القديم ، لكن السكون يجوز عليه العدم ، لأنّ كلّ جسم يجوز عليه الحركة ، أما الفلكي فظاهر ، وأمّا العنصري المركب فكذلك ، وأمّا البسيط فلأنّ كلّ واحد من البسائط يلاقي ما فوقه بمحدّبه وما تحته بمقعّره فيجوز العكس وإلّا لم يكن بسيطا ، إذ مرادنا هنا بالبسيط إمّا طبيعة واحدة ولوازمه واحدة فلا يكون له لازمان مختلفان ، وذلك إنّما يكون بالانقلاب المستلزم للحركة فتكون الحركة جائزة على الأجسام ، وهو المطلوب.

واعلم أنّ الدليل الأوّل يدلّ على حدوث كلّ ما سوى الواجب جسما أو غيره وأمّا الأخيران فيختصّان بالأجسام ويدخل العرض لافتقاره إلى الجسم.

احتجّ الحكماء على القدم بوجوه :

الأوّل : أنّ المؤثّر التامّ في وجود العالم إمّا أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان الأوّل وجب وجود العالم أزلا ، وإلّا لكان حدوثه فيما بعد إمّا أن يتوقف على أمر أو لا فإن كان الأوّل لزم أن لا يكون ما فرضناه أوّلا تاما بتامّ ، والفرض أنّه تام ، هذا خلف. وإن كان الثاني يلزم الترجيح بلا مرجّح ، وإن كان حادثا نقلنا الكلام على علّة حدوثه ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثّر القديم وهو محال ، لتخلف الأثر عنه كما هو الفرض. وهذان المحالان إنّما (٣) نشئا من الحدوث فيكون قديما (٤) محالا.

والجواب : أمّا تفصيلا فلوجوه :

الأوّل : أنّ المؤثّر التامّ قديم لكن الحدوث اختصّ بوقته ، إذ لا وقت قبله ، إذ الزمان يبتدئ وجوده مع ابتداء وجود العالم لكونه جزء منه.

الثاني : أنّ المؤثّر التامّ إذا كان مختارا لا يجب وجود أثره معه ، بل يرجّح أحد

__________________

(١) سكونه ـ خ : (آ).

(٢) حينئذ ـ خ : (د).

(٣) إنّما ـ خ : (آ).

(٤) قديما ـ خ : (د).

١٤٨

مقدوريه على الآخر متى شاء لا لأمر ، ومحالية ذلك ممنوعة ، بل المحال إنّما هو الترجيح بلا مرجّح ، وبينهما فرقان (١).

الثالث : جاز أن يكون التأخير لمصلحة لا توجد قبل ذلك.

الرابع : أنّ التأخير لتعلّق العلم الأزلي بالحدوث في وقته ، فيستحيل وجوده قبل ذلك وإلّا لانقلب جهلا.

الخامس : أنّ الفرض حدوث العالم فيكون وجوده أزلا محالا وإلّا لاجتمع النقيضان.

وأمّا إجمالا فالمعارضة بالحادث (٢) اليومي ، فإنّه معلول لا بدّ له من علّة إمّا قديمة فيلزم قدمه أو حادثة فيلزم التسلسل.

الثاني (٣) : أنّ العالم على تقدير حدوثه مسبوق بإمكان وجوده ، وذلك الإمكان ليس أمرا عدميا ، لأنّه نقيض لا إمكان (٤) وهو عدمي ، فلا فرق بينهما حينئذ ، وإذا كان الإمكان ثبوتيا فليس هو قدرة القادر ، لأنّا نعلّلها به فيكون غيرها ، فإمّا أن يكون جوهرا وهو محال ، لأنّه نسبة وإضافة فيكون عرضا فلا بدّ له من محلّ ، ونسمّيه مادة فإن كانت قديمة فالمطلوب ، لأنّها لا تخلو عن الصورة كما تقدّم والجسم مركّب منهما ، فيكون قديما ، وإن كانت حادثة لزم التسلسل.

والجواب : أنّا نختار أنّ الإمكان ليس عدميا ، قولكم : يكون عرضا لا بدّ له من محلّ.

قلنا : ممنوع بل هو أمر اعتباري ليس موجودا خارجيا ليفتقر إلى المحلّ.

إن قلت : مرادنا بالإمكان هاهنا الاستعدادي كالنطفة يمكن أن تصير علقة ، وذلك عرض.

__________________

(١) فرق ـ خ ل ـ خ : (د).

(٢) بالحدوث ـ خ : (آ).

(٣) أي الثانى من احتجاج الحكماء على قدم العالم.

(٤) إلّا إمكان ـ خ : (آ).

١٤٩

قلنا : ذلك أيضا اعتباري ، إذ لو كان عرضا مع أنّه حادث لتوقّف على استعداد له ويعود البحث فيه ويتسلسل ، سلّمنا لكن نقول : المادة لكونها ممكنة لها إمكان ، فمحل إمكانها مغاير لها فيكون لها مادة ويلزم التسلسل.

الثالث : قالوا : إيجاد العالم جود فلا يتأخّر وإلّا انخلى الواجب عن الجود مع أنّه متصف بصفات الكمال.

والجواب : إنّ عدم الإيجاد لا يلزم منه الخلو عن الجود ، لتوقّف التأثير على شرائط في جانب الفاعل والقابل ، فجاز أن يكون التأخّر هنا لفوات الشرط من جهة القابل فلا يلزم نقص الفاعل مع أنّ حديث الجود خطابي لا برهاني.

١٥٠

اللامع السابع

في وجود الصانع تعالى وأحكام وجوده

أمّا الاوّل ، فهو وإن كان غنيا عن الاستدلال بعد ما تقدّم من حدوث العالم ، فإنّ الضرورة قاضية بافتقار ما لم يكن ثمّ كان إلى فاعل حتّى أنّ ذلك مركوز في جبلّة كلّ ذي إدراك ، فإنّ الحمار إذا أحسّ بحدوث الضرب أسرع في المشي ، لكن تكميل الصناعة بإيراد الأدلّة على أعيان المسائل أوثق في النفس وأبعد عن اللبس ، ولنذكر هنا طرقا شريفة منها بديع (١) ومنها مشهور :

أمّا الأوّل فدليلان الأوّل : مخترع المحقّق الطوسي (ره) (٢).

وتقريره : لو لم يكن الواجب موجودا لم يكن لشيء من الممكنات وجود أصلا واللازم كالملزوم في البطلان.

وبيان الملازمة : أنّ الموجود يكون حينئذ منحصرا في الممكن ، وليس له وجود من ذاته كما تقدم بل من غيره ، فإذا لم يعتبر ذلك الغير لم يكن للممكن وجود ، وإذا لم يكن له وجود لم يكن لغيره عنه وجود ، لأنّ إيجاده لغيره فرع على وجوده ،

__________________

(١) أي غير متوقّف على بطلان الدور والتسلسل.

(٢) ذكره المحقّق قدس‌سره في كتابه الفصول وشرحه المصنّف (ره) في كتابه الأنوار الجلالية في شرح الفصول النصيرية منه نسخة مخطوطة في مكتبتنا.

١٥١

لاستحالة كون المعدوم موجدا.

الثاني : مخترع العلّامة القاشي (ره) (١).

وتقريره موقوف على مقدّمتين : إحداهما تصورية ، وهو أنّ مرادنا بالموجب التامّ ما يكون كافيا في وجود أثره (٢) وثانيتهما : تصديقية ، وهي أنّه لا شيء من الممكن بموجب تام لغيره ، لأنّه لو أوجبه وموجبيته له (٣) تتوقّف على موجوديته ، وهي متوقفة على موجودية سببه فلا يكون ذلك الموجب كافيا في إيجاد غيره لما تقدم.

وحينئذ نقول : لا شكّ في وجود موجود فإن كان واجبا لذاته فالمطلوب ، وإن كان ممكنا فلا بدّ له من موجب وليس بممكن ، لما تقدم فيكون واجبا لذاته وهو المطلوب.

لا يقال : يلزم من ذلك قدم الحوادث لقدم موجبها ، لأنّا نقول : إنّما يلزم أن لو كان الكافي في وجودها موجبا بالذات أمّا إذا كان فاعلا بالاختيار يرجّح أحد مقدوريه بلا مرجّح فلا يلزم ذلك.

وأمّا الثاني : فهو إمّا الإمكان أو الحدوث ، والأوّل طريقة الحكماء.

وتقريره : أنّ هنا موجودا بالضرورة فإن كان واجبا فالمطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر

__________________

(١) ذكره المصنّف (ره) في شرح الفصول النصيرية بهذه العبارة : ولشيخنا الإمام العلّامة القاشي قدّس الله روحه تقرير حسن لهذه الطريقة ، ووصفه الشيخ الشهيد (ره) بالشيخ الإمام العلّامة المحقّق أستاذ الفضلاء ... قلت : هو نصير الدين علي بن محمد القاشاني الحلّي من أكابر متكلّمي الإمامية وكبار فقهائهم مولده بكاشان ، ونشأ بالحلّة ، وتوفّي بالنجف الأشرف سنة ٧٥٥ ذكره القاضي الشهيد (ره) في مجالس المؤمنين وافندى التبريزي الأصفهاني في رياض العلماء والسيد حيدر الآملي (ره) في كتابه منبع الأنوار وذكر في المجالس : أنّه فاق على حكماء عصره وفقهاء دهره وكان معروفا بدقة الطبع وحدّة الفهم ، وكان دائما يشتغل في الحلة وبغداد بإفادة العلوم الدينية والمعارف اليقينية ثم ذكر له مؤلفات ممتعة ، والقاشي نسبة إلى قاشان معرب كاشان ، والصحيح في تعريب كاشان : قاشان بالشين المعجمة لا القاسان لئلّا يلتبس الأمر في النسبة إلى قاسان وأمّا القاشي معرب الكاشي في النسبة إلى كاشان فهو من لحن العامة ولا ينبغي ذكره في الكتب العلمية.

(٢) أي لا يحتاج في إيجاد الأثر إلى أمر خارج عن ذاته.

(٣) له ـ خ : (د).

١٥٢

إلى مؤثّر ، فإن كان واجبا فالمطلوب ، وإن كان ممكنا دار وتسلسل ، وهما محالان كما تقدّم.

قالوا : وهذه طريقة شريفة أشير إليها في الكتاب العزيز بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١) وهو برهان لمّي (٢) لأنّه استدلال به تعالى على غيره.

والثاني : طريقة المتكلّمين ، وهو إمّا استدلال لحدوث الذوات أو الصفات.

فالاوّل تقريره : أنّ العالم محدث ، وكلّ محدث مفتقر إلى محدث ، والمقدمتان تقدم بيانهما.

والثاني : منحصر في نوعين :

الأوّل : دلائل الأنفس ، وهو أنّ النطفة (٣) جسم متشابه الأجزاء يتكوّن منه جسم(٤)

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٥٣.

(٢) الاستدلال بالعلّة على المعلول يسمّى برهانا لميّا ، لأنه يفيد لميّة الحكم في الواقع ونفس الأمر عند المستدل كما يستدل بوجود النار على الاحتراق ، لأنّ العلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول المعين ، لأنّه انتقال من العلّة إلى المعلول ، والبرهان اللميّ منسوب إلى «لم» التي هي السؤال عن العلة ، وإنما شدّد الميم لقاعدة النسبة وأنّ كلّ ما نسب إلى شيء مركّب من حرفين شدّد ثانيهما ، ومن أنكر القاعدة في النسبة مطلقا في اللسان العربي المبين من المعاصرين فقد خبط خبط العشواء ودحضنا شبهاته بنحو أحسن وأو في في المقدمة التي كتبناها على تفسير جوامع الجامع للطبرسي (ره) فراجع.

وقد يكون الاستدلال بالمعلول على العلة كالاستدلال من وجود الإحراق في جسم على ملاقاة النار ، لأنّ العلم بالمعلول يستلزم العلم بعلة ما. وقد يصحّ الاستدلال بأحد المعلولين على الآخر كالاستدلال بوجود النهار على إضاءة العالم وهما معا معلولا علّة واحدة ، وهي طلوع الشمس ، ويسمّيان معا برهانا إنّيا ، لأنّهما يفيدان علية الحكم عند المستدلّ لا في نفس الأمر.

والبرهان الإنّي منسوب إلى «إنّ» التي هي بمعنى التحقق.

وقد يكون الدليل هو الاستدلال بموجود على موجود كالاستدلال بثبوت الحياة على ثبوت العلم.

وقد يكون الاستدلال بموجود على معدوم كالاستدلال بوجود أحد الضدّين على عدم الآخر.

وقد يكون الاستدلال بمعدوم على معدوم كالاستدلال بنفي الحياة على نفي العلم.

وقد يكون الاستدلال بمعدوم على موجود كالاستدلال بعدم أحد الضدّين على وجود الآخر.

(٣) النقطة ـ خ : (د) وهو غلط.

(٤) بدن ـ خ ل ـ : (د) و ـ خ : (آ).

١٥٣

مركّب من أعضاء مختلفة في الكمّ والكيف والشكل والطبيعة ، فلو كان الفاعل في ذلك الحرارة أو فعل الكواكب لكان فعلا متساويا ، وإذا كان تأثير المؤثر متساويا وأجزاء القابل مشابهة كان الأثر متشابها ، ولذا قال الحكماء : الشكل الطبيعي هو الكرة لكنّ الأثر مختلف كما عرفت ، فدلّ ذلك على فاعل حكيم يدبر بالقدرة والاختيار.

الثاني : دلائل الآفاق فإمّا في العالم الفلكي أو العالم العنصري من الحيوان والمعدن والنبات. وتفصيل ذلك مذكور في مظانّه المطوّلة ، وأشير في الكتاب العزيز إلى هذه الطريقة بقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١) وهو استدلال إنّي.

وأمّا الثاني فنقول : الواجب تعالى قديم ، أي لا أوّل لوجوده وأزلي كذلك ، وباق أي مستمر الوجود ، وأبديّ أي لا آخر لوجوده ، وسرمديّ أي أنّه مصاحب لجميع الأزمنة المحقّقة والمقدّرة ماضية كانت أو حاضرة أو مستقبلة ، إذ لو لا ذلك لجاز عليه العدم وقتا ما فيكون ممكنا فيفتقر إلى المؤثر ، فيلزم الدور أو التسلسل ، وهما باطلان. وقد تقدم في خواصّ الواجب أنّه لا يزيد وجوده ولا وجوبه على ماهيته فلا حاجة إلى إعادته.

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٥٣.

١٥٤

اللامع الثامن

في صفاته تعالى

وفيه مرصدان :

[المرصد] الأوّل : في الجلاليات (١)

وفيه فصول :

الأوّل : أنّ حقيقته غير معلومة لأحد من البشر ، لأنّها ليست معلومة ضرورة (٢) وهو ظاهر ، ولا استدلالا (٣) وإلّا لكان له حد فيكون له جنس وفصل فيكون له جزء ، وهو محال ، وإلّا لكان مفتقرا إليه.

ومن هنا يعلم استحالة التركيب عليه مطلقا سواء كان التركيب عقليا أو حسيا ، بل المعلوم إنّما هو الصفات ، ولذلك لمّا سئل الكليم على نبينا وعليه‌السلام عنه أجاب بذكر الخواصّ والصفات ، فنسب إلى الجنون فذكر صفات أبين وقال :

__________________

(١) في الجلالية ـ خ : (آ).

(٢) أي بداهة.

(٣) أي نظرا.

١٥٥

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١) إنّه غير معلوم الحقيقة.

إن قلت : فلم لا يكون معلوما بالرسم؟

قلت : الرسم تعريف بالخارج فهو لا يفيد الحقيقة.

وقال كثير من المتكلمين : إنّها معلومة ، لأنّ وجوده معلوم وهو نفس حقيقته ، وهو خطأ ، فإنّ الوجود المعلوم هو الزائد المقول عليه وعلى غيره بالتشكيك لا ما هو نفس حقيقته.

الثاني : أنّ حقيقته ليست مماثلة لغيرها من الذوات ، لأنّها لو كانت مماثلة لكان امتيازها عن غيرها ، إن كان لنفسها لزم الترجيح بلا مرجّح ، وإن كان لأمر زائد عليها فإن كان لازما لها عاد الكلام في اللزوم كما قلنا أوّلا ، وإن كان عارضا نقلنا الكلام إلى سبب عروضه ويتسلسل.

من هنا يعلم أنّه لا ندّ له ، لأنّه يقال على المشارك في الحقيقة.

الثالث : أنّه لا ضدّ له ، لأنّ الضدّ يقال على معنيين :

الأوّل : مساو في القوة ممانع في الوجود ، والثاني : عرض يعاقب عرضا آخر في محلّه وينافيه فيه ، والواجب سبحانه لا مساوي له كما تقدّم وليس بعرض كما يجيء ، فلا يكون له ضدّ بالمعنيين.

الرابع : أنّه ليس بمحتاج ، لأنّه لو كان كذلك لكان احتياجه إمّا في ذاته أو في صفاته ، وكلاهما محال ، وإلّا لكان ممكنا وناقصا ، تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٢٨ ـ أشار المصنّف (ره) من قوله : ولذلك لما سئل الكليم ... إلى قوله : إنّه غير معلوم الحقيقة ... إلى سؤال فرعون عن موسى عليه‌السلام عن ربّه تعالى بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟ ـ الشعراء ٢٦ : ٢٣ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) ٢٦ : ٢٤ ثم ذكر سبحانه وتعالى قول فرعون : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ٢٦ : ٢٧ ـ انظر إلى الآيات الشريفة في سورة الشعراء.

١٥٦

الخامس : أنّه غير متّحد بغيره ، والاتحاد عبارة عن صيرورة الشيئين شيئا واحدا موجودا واحدا ، وهو محال ؛ لأنّهما إن بقيا كما كانا فهما اثنان لا واحد ، وإن عدما فلا اتّحاد أيضا بل وجد ثالث ، وإن عدم أحدهما فلا اتّحاد أيضا بل عدم أحدهما وبقي الآخر.

وقال بعض النصارى باتّحاده بالمسيح وتفصيل مذهبهم : أنّهم أجمعوا على أنّه تعالى واحد بالجوهر ، أي بالذات ثلاثة بالأقنومية أي بالصفات ، ومعنى لفظة أقنوم الصفة الشخصية ويعبرون عن هذه الأقانيم بالأب أعني الذات مع الوجود ، وبالابن أعني الذات مع العلم ، ويطلقون عليه اسم الكلمة ويختصّونه بالاتّحاد ، وروح القدس الذات مع الحياة.

وانفردت الملكائية بقولهم : إنّ جزء من اللاهوت حلّ في الناسوت واتّحد بجسد المسيح وتدرّع به ، ولا يسمّون العلم قبل تدرّعه ابنا ، بل المسيح مع ما تدرّع به هو الابن ، ويقولون: إنّ الكلمة مازجت الجسد ممازجة الخمر (١) والماء اللبن.

وقالوا : إنّ الجوهر غير الأقانيم وصرّحوا بالتثليث ، وإليه أشار بقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٢) وقالوا : إنّ المسيح ناسوت كلّي لا جزئي ، وإنّ القتل والصلب وقع على الناسوت دون اللاهوت.

وانفردت اليعقوبية بقولهم بإلهية المسيح وإنّ الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الجميع هو الإله ، وإنّه (٣) ظاهر بجسده (٤) وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٥) وزعموا أنّ الكلمة اتّحدت بالإنسان الجزئي لا الكلي ،

__________________

(١) الخمر جمع الخمرة. وخمرة اللبن : روبته التي تجعل فيه ليروب سريعا. والروبة خميرة تلقى في اللبن ليروب بقية اللبن.

(٢) المائدة ٥ : ٧٣.

(٣) وأنّهما ـ خ : (د).

(٤) وأنّه ظاهر الجسد ـ خ ل ـ خ : (د).

(٥) المائدة ٥ : ١٧ ؛ ٧٢.

١٥٧

وقالوا : إنّ المسيح جوهر واحد وأقنوم واحد إلّا (١) أنّه من جوهرين ، وربما قالوا : طبيعة من طبيعتين.

وانفردت النسطورية بقولهم : اللاهوت أشرق على الناسوت كإشراق الشمس على بلّورة وظهر فيه كظهور النقش على خاتم ، وقال بعضهم : حلول اللاهوت في الناسوت حلول العظمة والوقار ، وهو بناسوت المسيح أتمّ وأكمل ممّا عداه ، ووافقوا الملكائية : في أنّ القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته ، ومرادهم بالناسوت الجسد وباللاهوت الروح. هذا تفصيل مذهبهم ذكرناه ليوقف عليه. (٢)

__________________

(١) لا ـ خ : (د).

(٢) اكتفى المصنف قدس‌سره بنقل عقائد النصارى ليقف القارئ الكريم على هذه العقائد المضحكة ، ولم يتعرّض لدحضها وردّها تفصيلا ، لسخافتها وظهور بطلانها مما ذكره من صفات الواجب تعالى التي يعلم من المعرفة بها بطلان تلك العقائد الخرافية.

والقول الفصل في بطلان مذهب النصارى أنّ أساسه هو القول بالحلول والاتحاد ، وهما محالان ، ويلزم من مذهبهم التناقض ، وهو محال أيضا بالضرورة من العقل فأساس مذهبهم لا يقبله العقل السليم.

فنقول : معنى الحلول هو أن يكون الشيء موجودا في محل قائما به ، ومعنى الاتحاد هو أن يصير الشيئان أو الأكثر شيئا واحدا. أمّا بطلان الأوّل : فقد ثبت أنّ الواجب ما كان وجوده من نفسه ولا يحتاج في وجوده إلى غيره ، وما كان كذلك لا بدّ أن يكون غير متناه وإلّا لاحتاج إلى مكان ، وإذا لم يكن متناهيا فلا يعقل أن يحلّ في غيره ؛ لأنّه يحدّ به حينئذ فيكون متناهيا ، ولا يعقل أن يكون الشيء الواحد متناهيا وغير متناه. وأمّا إنّه لا يحلّ فيه غيره فهو أن المحلّ محدود بالحالّ ، وقد ثبت أنّ الواجب ليس بمحدود ، وإذا لم يكن الواجب محلّا فيستحيل أن تعرض له الأعراض ، لأنّها لا تعرض إلّا للمحل الذي تقوم به.

وأمّا بطلان الثاني فهو أنّ كلّ شيء اتحد بسواه لا بدّ أن يحدّ به ، والواجب إذا لم يكن محدودا فلا يعقل اتحاده بغيره ، ولا سيما إذا كان المتّحد به من الأجسام الصغيرة الضعيفة التي لا تقوى على شيء كالاجسام البشرية ، فإنّ تنزيل الواجب عن تلك العظمة والقوة الإلهيّة التي هي المبدأ لكل شيء ولكلّ العوالم المختلفة التي لا تحصى ، وبها قوام كل موجود إلى هذا الضعف والعجز الملازم لأجسام البشريّة العاجزة عن قهر ما هو أقوى منها من الموجودات ، وعن تصريف أدنى المحتاجات ـ غفلة ينفر عنها العلم الصحيح ويأباها ترقّي مدارك البشر في العصر الحاضر الذي تشعّبت فيه العلوم وانكشفت اسرار الكون ، أفيعذر العقل بعد تشعّب العلوم وترقّيها في هذا الأمر العظيم إذا انقلب عنها خاسئا إلى القول بأنّ مبدأ الكون ومنشأ وجود العوالم اتّحد بإنسان عاجز ضعيف قوامه الغذاء وحاجته إلى شرب الماء؟

هذا ما تقتضيه بداهة البرهان في عقيدة الاتحاد ومع قطع النظر عن الدليل نقول : إنّ الاتّحاد الذي زعمه ـ

١٥٨

السادس : أنّه ليس بحالّ في شيء والمعقول من الحلول هو قيام موجود بموجود على

__________________

ـ النصارى غير معقول في رتبة التصور ، أي أنّ العقل لا يمكن أن يتصوّره ، فكيف يصدّق به ويعتقده ، ونحن لا نحتاج في ردّه إلى تكلّف إقامة الدليل بعد أن كان غير معقول بنفسه ، لأنّ أرباب هذه العقيدة يعتقدون أنّ الواجب واحد ، وهو الله تعالى ، وهو ثلاثة : الله وهو الأب ...؟! وعيسى وهو الابن ، والروح القدس ، وهذه الثلاثة يسمّونها الأقانيم ويدّعون أنّها واحد فيحفظون عنوان الواحدية لها وعنوان الثلاثية. يقولون : إنّ الثلاثة واحد وإنّ الواحد ثلاثة بالاتحاد ، وهذا تناقض واضح وغير معقول في حدّ ذاته ولا يمكن تصوره ؛ لأنّ العقل يجزم بأنّ الثلاثة غير الواحد وأنّ الواحد غير الثلاثة ، فصيرورة الثلاثة واحدا محال عقلا ، وهذا أمر فطري يميّزه حتّى الرضيع من الأطفال ، ألا ترى الطفل إذا نضب أحد ثديي مرضعته تركه والتقم الثدي الآخر فهو يدرك بفطرته أنّ الاثنين غير الواحد.

قال بعض في كتابه الذي ألّفه في حال استقامته بعد أن بين ما ذكرناه : ليست عقيدة الاتحاد التي تمسك بها المسيحيون من مختصات النصرانية ومبتدعاتها ، فقد سبق الناس إلى أمثالها من العقائد قبل النصرانية بألوف من السنين ، وقد دقق الباحثون في معتقدات النصرانية فرأوها لا تختلف عن العقائد الوثنية وديانات الهند ، وجزموا بأنها قد أخذت من تلك الديانات ، والاعتبار يساعد على ذلك ، فإنّ كل ذي عقل ودين ينزّه المسيح عليه‌السلام من أن يأتي بخرافات لا تنطبق على العقل وينفيها صريح الوجدان.

قلت : وقد أشار القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (سورة التوبة ـ ٣٠) إلى أنّ عقائد النصارى في حقّ المسيح مأخوذة من الكفّار الذين سبقوهم في الزمن الغابر ، وقد انكشفت في هذه السنين الأخيرة الحقائق الراهنة في حقّ أهل الكتاب ، وظهرت أسرار الآية الشريفة في حقّهم ، وقد اتّضح أنّ العهدين ـ العتيق والجديد ـ متضمّنان من مذاهب البوذيين والبرهمانيين والمجوس وغيرهم من الوثنيين ومأخوذان عنهم ، بحيث لم تختلف عنهم قيد شعرة حتى في القصص والحكايات والأساطير التي اشتملت عليها الأناجيل ، ولم يبق لأي باحث منقّب ريب فيما تضمّنه قوله تعالى : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الآية ـ من الإشارة إلى المعاني الكثيرة التي خفيت منذ القرون إلى هذه العصور عند أكثر المفسرين للقرآن الكريم ، فإنّهم لم يكشفوا عن معناها في حقّ أهل الكتاب كما يستحقّ بالذكر ، ولم يلفتوا أنظارهم إلى العقائد الوثنية التي تسرّبت إلى دين النصارى واليهود ، وقد كشف الغطاء عن وجه أسرار الآية الشريفة الشيخ الفاضل المتكلّم محمد طاهر التنير البيروتي المتوفّى سنة ١٣٥٢ في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ، وطبع في بيروت سنة ١٣٣٠ ولكن أتباع الكنيسة أبادوا نسخه ووفقني الله تعالى لطبعه ونشره ثانيا بطريق (الأفست) في سنة ١٣٩١ والحمد لله تعالى. وغير خفي على الخبير أنّ بعض أهل أوربا وغيرهم أيضا ألّف على منوال ذلك الكتاب تأليفا في هذا الباب ، فتفحّص والله الموفق.

١٥٩

سبيل التبعية بحيث يبطل وجود الحال ببطلان المحل ، ولا شكّ في نفيه عنه تعالى ، وإلّا لكان محتاجا إلى المحلّ ، وهو محال.

وقال جمع من المتصوّفة بحلوله في قلوب العارفين ، فإن أرادوا ما قلناه فباطل ، وإن أرادوا غيره فلا بدّ من تصويره لنذعن له أو نمنع.

السابع : أنّه لا يقوم به شيء من الحوادث وإلّا لكان منفعلا عن الغير ، وهو محال كمال تقدم ، ولأنّ علة ذلك الحادث التامة (١) إمّا ذاته أو شيء من لوازمها فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو اختصاص ذلك الحادث بوقت دون آخر ، وإمّا وصف آخر فيلزم التسلسل ، وإمّا غير ذلك فيكون الواجب مفتقرا إلى أمر منفصل ، وهو محال ، ولأنّ ذلك الحادث إن كان صفة نقص امتنعت (٢) عليه ، وإن كان صفة كمال لزم خلوه عن (٣) الكمال ، والخلو من الكمال نقص ، تعالى الله عنه ، وقالت الكرامية : إنّ صفاته حادثة وهي قائمة به.

الثامن : أنّه ليس له صفة زائدة على ذاته ، بل ليس له صفة أصلا كما أشار إليه ولى الله بقوله : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف» فلو كان له صفة زائدة (٤) لزم افتقاره إليها والمفتقر إلى الغير ممكن ، ويلزم أيضا تعدّد القدماء فبطل قول الأشاعرة القائلين بالمعاني والبهشمية القائلين بالأحوال ، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق.

التاسع : في سلب الأعراض المحسوسة عنه ، وهذا مطلب ظاهر اتّفق العقلاء عليه فليس له طعم ولا لون ولا رائحة ولا غير ذلك ، وإلّا لكان محتاجا تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) التامّة ـ خ : (آ).

(٢) امتنع ـ خ : (آ).

(٣) من ـ خ : (آ).

(٤) مغايرة ـ خ : (د).

١٦٠