اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

وأجيب باختيار أنّ علتها ليست أزليّة ، قوله ذلك (١) يقتضي أن تكون علّتها مركّبة.

قلنا : نعم ونلتزم به.

قوله : وكلّ ما علّته مركّبة فهو مركّب.

قلنا : ممنوع وقد تقدّم بيانه.

الثالثة ، قالوا : إنّها ليست حالّة في البدن ولا مجاورة له ، لما ثبت من تجرّدها ، لكنها متعلّقة به تعلّق العاشق بالمعشوق ، وسبب تعلّقها توقّف كمالاتها ولذّاتها الحسّيين والعقليين عليه ، لأنّها في مبدأ الفطرة خالية من جميع العلوم والإدراكات ، وبواسطة الإدراكات الجزئية يحصل لها استعداد البديهيات ، إذ الحواس مبادي اقتناص العلم بمشاركات ومباينات فمن فقد حسّا فقد علما.

ثمّ البديهيات تحصل النظريات بواسطتها ، فتتعلّق أوّلا بالروح المنبعث عن القلب المتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية ، فيفيض عليه من النفس الناطقة قوى تسري لسريانه إلى أجزاء البدن وأعماقه ، فتسير في كلّ عضو قوى تليق به ويكمل بها نفعه بإذن الحكيم العليم ، وتلك القوى تنقسم إلى مدركة ومحركة ، أمّا المدركة فإمّا ظاهرة وهي خمس سيجيء بيانها أو باطنة ، وهي خمس أيضا :

الأوّل : الحسّ المشترك ، وهي قوّة يدرك بها (٢) صور المحسوسات بالحواسّ الخمس ، فإنّه يحكم (٣) على هذا بأنّه أبيض طيب الرائحة حلو ، والحكم بدون استحضار المحكوم عليه وبه محال فلا بدّ من مدرك لهما معا ، ويسمّى أيضا بنطاسيا ، ومحلّها مقدّم البطن الأوّل من الدماغ.

الثاني : الخيال ، وهي قوة تحفظ تلك الصور ، فإنّ الإدراك غير الحفظ ومحلّه مؤخّر هذا البطن.

الثالث : الوهم وهي قوة تدرك المعاني الجزئية المتعلّقة بالمحسوسات ، كصداقة زيد

__________________

(١) أي كل ما علته مركبة فهو مركب.

(٢) بها ـ خ : (آ).

(٣) فإنّا نحكم ـ خ : (آ).

١٢١

وعداوة عمرو ، ومحلّها مقدم البطن الآخر.

الرابع : الحافظة وهي قوة تحفظ ما يدركه الوهم ، ومحلّها مؤخّر هذا البطن.

الخامس : المتصرّفة التي تحلّل وتركّب الصور والمعاني بعضها مع بعض ، فإن استعملها العقل سمّيت مفكّرة ، وإن استعملها الوهم سمّيت متخيّلة ومحلّها مقدّم البطن الأوسط من الدماغ فتكون (١) متوسّطة بين الصور والمعاني ، ويدل على اختصاص هذه القوى بهذه المواضع أنّه إذا عرضت آفة بعضو من الأعضاء المذكورة اختلّ فعل تلك القوة المختصّة به.

وأمّا المحركة فإمّا اختيارية أو طبيعية :

والأولى إمّا باعثة تحثّ على جلب النفع ، وهي الشهوانية ، أو على دفع الضرر ، وهي الغضبية ، وإمّا فاعلة وتسمّى محركة تحرك (٢) الأعضاء بواسطة تمديد الأعصاب لتنبسط نحو المطلوب وإرخائها لتنقبض عن المنافي ، وهي المبدأ القريب للحركة.

والثانية : إمّا حافظة للشخص ، وهي قسمان : غاذية تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ليخلف بدل ما تحلّل منه ، ونامية تزيد في أقطار البدن على تناسب طبيعي إلى غاية النشوء.

وإمّا حافظة للنوع ، وهي قسمان أيضا عندهم : مولّدة تفصل جزء من الغذاء بعد الهضم ليصير مادة شخص آخر.

ومصوّرة تحبل تلك المادة في الرحم وتفيدها الصور والقوى ، بناء منهم على نفي فعل القادر المختار.

والحقّ أنّ المصوّرة باطلة ، لاستحالة صدور أفعال محكمة مركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور.

قالوا : وهذه القوى الأربع تخدمها قوى أربع أخر.

الأوّل : الجاذبة تجذب المحتاج إليه.

__________________

(١) لتكون ـ خ : (آ).

(٢) تحرّى ـ خ : (د).

١٢٢

الثاني : الهاضمة وهي التي تصيّر الغذاء إلى ما يصلح أن يكون جزء من المغتذي ، ومراتبها أربع :

الأولى : عند المضغ لإنضاج الدماميل بالحنطة الممضوغة.

والثانية : في المعدة ، وهي التي تصير الغذاء كماء الكشك الثخين ويسمّى كيلوسا.

والثالثة : في الكبد ، وهي التي تصير الكيلوس أخلاطا ، وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم.

والرابعة : في الأعضاء بحيث يصير مزاج الغذاء شبيها بالعضو المغتذي.

الثالث : الماسكة تمسك المجذوب بقدر ما تفعل به الهاضمة.

الرابع : الدافعة تدفع الفضل الزائد عن الحاجة والمهيأ لعضو آخر إليه.

الرابعة : قالوا : لا تجتمع في بدن نفسان ، وهو ضروري ، فإنّ كلّ أحد يجد نفسه واحدة ، وكذا لا يكون لنفس بدنان وإلّا لكان معلوم أحدهما معلوم الآخر ، وهو باطل ، ولا يصير مبدأ صورة لبدن آخر أعني التناسخ ، لما ثبت (١) من حدوثها وعلّة حدوثها قديمة ، فلا بدّ من حدوث استعداد وقت حدوثها ليتخصّص ذلك الوقت بوجودها ، وذلك باعتبار القابل فإذا حدث وتمّ استحقّ فيضان نفس عن المبادي الفاعلة ، فلو انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع نفسين على بدن واحد ، وهو باطل ، لما قلنا.

الخامسة : قالوا : لا يجوز عليها الفناء بموت البدن ، لأنّها ليست مادية ، وكل ما يقبل الفناء مادي ، فالنفس لا تقبل الفناء.

أمّا الصغرى فقد تقدّمت ، وأمّا الكبرى فلأنّ إمكان عدمها يحتاج إلى محلّ مغاير لها ، لأنّ القابل يجب وجوده مع المقبول ، ولا يمكن وجود النفس مع العدم ، فذلك المحلّ هو المادة ، فتكون النفس مادية ، هذا خلف. قالوا : وجاء ذلك أيضا في النصوص الإلهية (٢) كقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ

__________________

(١) نبين ـ خ : (آ).

(٢) فإنّ في الآية الشريفة دلالة على بقاء نفوس الذين قتلوا في سبيل الله تعالى وعدم فنائها بعد فناء أبدانهم وخرابها ، وقد نهى الله تعالى من القول بأنّهم أموات ، وذلك بعد خراب أبدانهم بسبب القتل والشهادة في ـ

١٢٣

عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١) وغير ذلك.

البحث الثالث : في المادة والصورة على وجه مختص (٢)

قالوا : يدلّ على تركيب (٣) الجسم من المادة والصورة أنّه متّصل في نفسه وقابل للانفصال ، ويستحيل أن يكون القابل هو الاتّصال نفسه ، لأنّ الشيء لا يقبل عدمه ، فلا بدّ للاتّصال من محلّ يقبل الانفصال والاتصال ، وذلك هو الهيولى ، والاتصال هو الصورة.

قالوا : والصورة لا تنفكّ عن المادة ، لأنّه على تقدير انفكاكها لا بدّ لها من التناهي والتشكّل ، لما يأتي من تناهي الامتدادات الجسمية ، وكل متناه متشكّل ، فالموجب لهما حينئذ ليس هو الجسمية العامة ، ولا شيء من لوازمها ، ولا تساوي الجزء الكل فيهما ، لاشتراكهما في الصورة الجسمية الموجبة لذلك فرضا ، ولا الفاعل وإلّا لاستقلّت الصورة بالانفعال ، أي قبول التناهي والتشكّل ، إذ لا يمكن حصولهما إلّا بعد كونهما مباينة للانفعال ويكون فيها قوة الفصل والوصل ، وقد تقدم بطلانه.

وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة بقي أن يكون الموجب أمرا آخر هو الحامل لما فيه الصفات ، قالوا : ولا بدّ من صورة أخرى نوعية وإلّا لما اختلفت الأجسام في الهيئات والأمكنة والكيفيات والأوضاع الطبيعية والتشكّل والتفكّك بسهولة وعدمها ، وهذا الكلام كلّه بناء منهم على نفي الجوهر الفرد وعدم استناد الآثار إلى الفاعل المختار ، وسيأتيك إن شاء الله تعالى بيان ذلك مع كلام يرد عليه إيرادات هي بالمطوّلات أشبه.

__________________

ـ سبيله ، ولا يتوهم اختصاصها بالشهداء فإنّه توهّم فاسد كما يأتي بيان عدم الاختصاص فيما يأتي من تعاليقنا على الكتاب في المباحث الآتية.

(١) آل عمران ٣ : ١٦٩.

(٢) مختصر ـ خ : (د).

(٣) تركب ـ خ : (آ).

١٢٤

البحث الرابع : في الجسم وأقسامه

قالوا : الجسم هو القابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم ، وهو المعبّر عنه عندهم بالجسم الطبيعي ، وهو قسمان : فلكي وعنصري.

أمّا الأوّل : فالفلكي منه تسعة :

الأوّل : الفلك الأطلس ، ويقال له أيضا : الجسم المحيط والفلك الأعظم ، وهو خال عن الكواكب ومحدّد الجهات ، وليس وراءه خلاء ولا ملاء ، وهو صاحب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب.

الثاني : فلك الكواكب الثابتة ، أعني ما عدا السبعة ، ويسمّى صاحب الحركة البسيطة ، فعند بعضهم يتحرك في كل ثلاثين ألف سنة دورة ، وعند بعضهم في أربعة وعشرين ألف سنة ، والمرصود من كواكبه ألف ونيف وعشرون.

الثالث : فلك زحل.

الرابع : فلك المشتري.

الخامس : فلك المريخ.

السادس : فلك الشمس.

السابع : فلك الزهرة.

الثامن : فلك عطارد.

التاسع : فلك القمر.

وهذه التسعة متوافقة المراكز وموافقة للأرض في مركزها. ثمّ إنّهم رأوا اختلاف حركات الكواكب السبعة المذكورة في الطول والعرض والاستقامة والرجوع والسرعة والبطء والبعد والقرب ، فأثبتوا لكلّ كوكب فلكا آخر ممثّلا لفلك البروج ، مركزه مركز العالم ، يماسّ بمحدّبه مقعّر ما فوقه ، وبمقعّره محدّب ما تحته إلّا القمر ، فإنّ ممثله محيط يسمّى المائل.

وأثبتوا أيضا فلكا آخر خارج المركز عن مركز الأرض منفصل عن الممثّل والمائل ،

١٢٥

يماسّ محدّبيهما ومقعّريهما على نقطتين يسمّى الأبعد عن الأرض أوجا والأقرب حضيضا.

ثمّ أثبتوا فلكا آخر يسمّى فلك التدوير غير محيط بالأرض ، بل هو في ثخن الخارج المركز للخمسة المتحيرة (١) أعني ما عدا الشمس والقمر ، والمراد بالمتحيرة ماله رجوع واستقامة ، وأثبتوا لعطارد فلكين : خارجي المركز أحدهما المدير والآخر الحامل والمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون.

واستدلّوا على ذلك بالأرصاد.

قالوا : وجميع هذه الأفلاك بما فيها أمور بسيطة شفّافة خالية عن الكيفيات الفعلية كالحرارة والبرودة وما ينسب إليهما ، والانفعالية كالرطوبة واليبوسة وما ينسب إليهما وليست ثقيلة ولا خفيفة ولا لها حركة مستقيمة ، بل حركاتها كلّها مستديرة صادرة عن إرادة قائمة بنفس مجرّدة متعلّقة بذلك الفلك.

قالوا : والكواكب كلّها أجسام بسيطة مركوزة في الفلك مضيئة إلّا القمر ، فإنّه يستفيد الضوء من الشمس ، يشهد بذلك تفاوت نوره بحسب قربه من الشمس وبعده عنها.

ومن قال : إنّه كرة تضيء أحد وجهيها وتظلم الآخر ، وتتحرّك على مركزها حركة تساوي حركة الفلك كذّبه الخسوف. هذه حكاية ما قالوه ولهم على ذلك استدلالات هي بمظانّها أنسب (٢).

وأمّا الثاني : فهو إمّا بسائط أو مركّبات ، فالبسائط أربعة (٣) : النار والهواء والماء

__________________

(١) سمّيت الخمسة منها ، ما عدا الشمس والقمر متحيّرة ، لكونها في حركاتها الخاصة تارة مستقيمة وتارة واقفة وتارة راجعة كالمتحيّر في أمره على ما زعموا وتخيلوا.

(٢) وقد تحقّق بطلان تلك الاستدلالات في زماننا هذا ، ولا ينبغي الإذعان بتلك الحدسيّات الواهية كما أنّ المصنّف (ره) بمقتضى ذكاوته ودقّته اكتفى بمجرّد الحكاية عنهم غير مذعن بأقوالهم ومزاعمهم.

(٣) هذا الكلام وكثيرا ما يأتي ذكره كقوله : فالنار تحت فلك القمر ، مبنيّ على ما كان محقّقا عند القدماء على زعمهم ، وأما اليوم فقد تحقّق البسائط والمركّبات بالبحث والتنقيب العلمي الصحيح ، فراجع الكتب المؤلّفة في هذا الشأن ، وقد لغت فكرة العناصر الأربعة ، وثبت أنّها ليست هي العناصر الأصلية البسيطة للمادة ، ـ

١٢٦

والأرض ، كلّ واحد منها محيط بالآخر ، فالنار تحت فلك القمر ، والهواء تحتها ، والماء تحته ، والأرض وسط هي مركز العالم.

فالنار خفيفة مطلق حارّ يابس شفّاف متحرّك بتبعية (١) فلك القمر ، وهي طبقة واحدة ، ولها قوة على إحالة المركّب (٢) إليها.

والهواء خفيف مضاف حارّ رطب شفّاف ، له طبقات أربع : الأولى : ملاصقة للأرض. والثانية : الطبقة الباردة بسبب ما يخالطها من الأبخرة. والثالثة : الطبقة الصرفة. والرابعة : الملاصقة للنار ويمتزج بشيء منها.

والماء ثقيل مضاف بارد رطب شفّاف محيط بثلاثة أرباع الأرض ، له طبقة واحدة.

والأرض ثقيل مطلق بارد يابس ساكن في الوسط ، شفّافة لها ثلاث طبقات : طبقة منكشفة ، وطبقة هي المركز ، وطبقة يحيط بها البحر.

وهذه الأربع كلّها كائنة وفاسدة ، والمركبات تخلق من امتزاج هذه الأربعة بأمزجة مختلفة لخلق متخالفة وهي ثلاث : المعادن والحيوان والنبات.

والمزاج كيفية متوسّطة حاصلة من تفاعل البسائط بعضها مع بعض ، بأن تتصغّر أجزاؤها فيختلط ، بحيث تكسر سورة كلّ واحد منها سورة (٣) الآخر حتّى يحصل كيفية متوسطة.

الفصل الثاني : في التقسيم على رأي المتكلّمين

قالوا : الممكن الوجود إمّا أن يكون متحيّزا أو حالّا في المتحيّز ، والثاني

__________________

ـ فالماء ـ مثلا ـ مركّب من عنصرية البسيطين : الأوكسجين والهيدروجين. والهواء ـ مثلا ـ من آزوت وأو كسجين وغازات أخرى. والتراب من أكثر من مائة عنصر أصيل. وانكشف وسيكشف عناصر أخرى بسيطة.

(١) حركة فلك ـ خ : (آ).

(٢) المتركّب ـ خ : (آ).

(٣) السورة : الخاصية والأثر.

١٢٧

أو منقسما إمّا في جهة واحدة هو الخطّ أو جهتين وهو السطح أو ثلاث جهات وهو الجسم. واستحال أكثرهم وجود ممكن غير متحيّز ولا حالّ فيه وإلّا لشارك الربّ في أخصّ صفاته ، فلا بدّ من مائز فيقع التركيب في الواجب ، وهو محال.

أجيب بأنّه اشتراك في السلب فلا يوجب تركيبا.

وهنا مباحث :

[البحث] الأوّل : في الجوهر الفرد

نفاه الحكماء محتجّين : بأنّه لو وجد متوسّطا بين جوهرين لاقى كلّ منهما بما لا يلاقي به الآخر ، فينقسم وإلّا لزم التداخل.

وبأنّ الخطّ المركّب من ثلاثة أجزاء لو فرض على طرفيه جزءان ، ثمّ تحرّكا معا على السواء في السرعة والبطء والابتداء ، فلا بد من تلاقيهما ، وإنّما يمكن بأن يكون نصف كل واحد منهما على نصف الطرف والنصف الآخر على نصف المتوسّط ، فتنقسم الخمسة.

وبأنّ المتحرك على الاستدارة كالرحى مثلا باق على وضعه ونسبة أجزائه ، ومع القول بالجزء يلزم تفكّكه ، لأنّ الجزء القريب من النقطة لو تحرّك جزء فإن تحرّك البعيد عن القطب جزء تساوى المداران ، وهو باطل ضرورة ، وإن تحرّك أقلّ لزم الانقسام ، وإن لم يتحرك لزم التفكيك ، وهو باطل حسّا.

وأثبت المتكلّمون محتجّين بأنّ الكرة والسطح الحقيقيين ثابتان ، فإذا فرض حركتها عليه كان موضع الملاقاة في كلّ آن غير منقسم ، إذ لو انقسم لأمكن إخراج خطّين من مركزها إلى طرفيه وإيقاع عمود على الوسط ، فيوتران قائمتين ويوتر العمود حادّتين.

وبرهن اقليدس على أنّ وتر القائمة أعظم ، فلا تتساوى الخطوط الخارجة ، فلا تكون الكرة حقيقة بل مضلعة هذا خلف.

وبأنّا إذا حرّكنا خطّا قائما على مثله حتّى أنهاه كان ما لا ينقسم ملاقيا في كلّ آن لمثله ، فيتركب المتحرك عليه من النقط ، وهو المطلوب.

١٢٨

لمثله ، فيتركب المتحرك عليه من النقط ، وهو المطلوب.

وبأنّ النقطة موجودة ، وهي ذات وضع اتفاقا وغير منقسم اتفاقا أيضا ، فإن كانت جوهرا فالمطلوب ، وإن كانت عرضا فمحلّه إن انقسم كان الحالّ منقسما وإلّا لم يكن حالّا فيه كلّه ، والفرض خلافه ، وإن لم ينقسم ثبت المطلوب.

وأجابوا عن أولى الحكماء بأنّ الملاقاة ليست ببعض الأجزاء ولا بجميعها ، بل بأعراض حالّة فيها كما هو عندكم في الأجسام المتلاقية بالسطوح ، مع أنّه منقوض بملاقاة النقطة لمحيط الدائرة ، فإنّه لا يستلزم تكثّرها وانقسامها.

وعن الثانية بالمنع من حركتهما ، لأنّ الحركة تتوقّف على المكان ، والحيّز الواحد لا يصحّ أن يكون مكانا لهما.

وعن الثالثة بالتزام التفكيك ، والاستبعاد لا يلتفت إليه.

وفي هذه الأجوبة نظر ، والمقام مقام تردّد.

البحث الثاني : في الجسم ، وهو مركّب عندهم من الجواهر الأفراد ، واختلف في أقلّ ما يتركّب منه ، فعند المحقّقين من ثمانية جواهر ، إذ من اثنين يحصل خطّ ، ومن خطّين سطح ، ومن سطحين جسم.

وقيل : من ستة.

وقيل : من أربعة.

وعند الأشعري : كلّ مؤلّف جسم.

وقال النظّام (١) : وهو مركّب من أجزاء غير متناهية ، ويبطله تناهي مقداره ، ولزوم

__________________

(١) النظّام كشدّاد وعطّار لقّب به أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري ابن اخت أبي الهذيل العلّاف شيخ المعتزلة ، وإنّما سمّي بالنظّام ، لأنّه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها.

وقالت المعتزلة : إنّما سمّي بذلك لحسن كلامه نثرا ونظما ، وكان صاحب معرفة بالكلام وأحد رؤساء المعتزلة ، أستاذ الجاحظ المشهور ، ذكره الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات ونقل ذلك عنه صاحب العبقات مع بعض الأقوال منه كخبر المحسن وأنّ الإجماع ليس بحجّة وكذلك القياس ، وإنّما الحجّة قول المعصوم عليه‌السلام ـ

١٢٩

عدم قطع المسافة المتناهية في زمان متناه. واعتذاره عن الأوّل بالتداخل وعن الثاني بالطفرة شنيع باطل ضرورة.

وهنا فوائد :

الأولى : أنّ كلّ جسم لا بدّ له من مكان ضرورة ، وهو عندهم فراغ يشغله الجسم بالحصول فيه.

وقال أرسطو ـ من الحكماء ـ : بأنّه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للظاهر من المحوي.

وقال أفلاطون : إنّه البعد المجرّد عن المادّة يحلّ فيه الجسم ويلاقيه بجملته ويتّحد به.

واختاره المحقق (ره) فإنّ الأمارات الشهيرة دالّة عليه ، وأبطل السطح بالحجر الواقف في الماء والطير الواقف في الهواء ، فإنّ السطوح متواردة عليهما وهما ساكنان ، ومع القول بالسطح هما متحرّكان ، هذا مع أنّ العقلاء حكموا بأنّ كل جسم لا بدّ له من

__________________

ـ وأنّه نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإمام علي عليه‌السلام وعينه وعرفت الصحابة ذلك ، لكنه كتمه عمر لأجل أبي بكر رضي الله عنهما (انتهى) ونقل الشهرستاني في كتاب الملل والنحل : أنّ النظّام انفرد عن أصحابه بمسائل ثمّ ذكرها تفصيلا ، ومنها أنّه قال : لا إمامة إلّا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا ، وقد نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على عليّ كرّم الله وجهه في مواضع وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة إلّا أنّ عمر كتم ذلك وهو الذي تولّى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، ونسبه إلى الشكّ يوم الحديبية في سؤاله عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : ألسنا على الحقّ؟ أليسوا على الباطل؟ قال : نعم ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا ، قال : هذا شكّ في الدين ... وقال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليها‌السلام يوم البيعة حتّى ألقت المحسن من بطنها وكان يصيح احرقوا الدار بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين ، وقال : تغريبه نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة وإبداعه التراويح ونهيهم عن متعة الحج ومصادرته العمال ، كل ذلك أحداث ـ انظر الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٧٧ ـ ٧٨ طبعة مصر مطبعة حجازي بالقاهرة سنة ١٣٦٨.

وما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج في الجزء الثالث من ص ١٤٧ إلى ص ١٨١ طبعة مصر سنة ١٣٢٩ في الردّ على ما طعن به على عمر وتزييف تلك الطعون ردود ضعيفة واهية ليست على ضوء العلم والتحقيق النزيه وغير خالية عن التعصّب البغيض ولا تكون ردودا على تلك الطعون الفاضحة ، فراجع وتأمل وجانب العصبية والعناد (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

١٣٠

مكان ، ولا يتمّ ذلك على السطح وإلّا لزم عدم تناهي الأجسام ، وهو ظاهر (١).

الثانية : أكثر المتكلّمين على ثبوت الخلاء بين الأجسام ، وإلّا لزم التداخل لو انتقل جسم من مكانه إلى مكان آخر مشغول إن بقي الشاغل كما هو في المنتقل إليه ، والدور إن انتقل إلى مكان المنتقل ، وحركة العالم جملة بحركة البقّة إن انتقل إلى ثالث وهكذا ، والثلاثة باطلة ضرورة.

وقال الحكماء بالملاء ، معتذرين عن الأوّل بالتخلّل والتكاثف الحقيقيين ، بناء منهم على القول بالمادة.

الثالثة : الأجسام متناهية ، وبرهان التطبيق دالّ على ذلك (٢) ، فإنّ الأبعاد لو لم تتناهى لأمكنّا فرض خطّين كذلك متّحدي المبدأ ، وقطعنا من أحدهما قطعة ، ثمّ طبقنا أحدهما على الآخر ، فإن استمرّا كذلك كان الزائد مثلا للناقص ، وإن انقطع الناقص فالزائد كذلك ، لكونه حينئذ زائدا بالمقدار المقطوع ، وهو متناه فيتناهى الخطّان ، وهو المطلوب.

الرابعة : الأجسام متماثلة ، لدخولها تحت حدّ واحد كما تقدّم ، واجتماع المختلفين (٣) في حدّ باطل ، وخالف النظّام ، لاختلافها في الخواصّ والطبائع ، وهو ضعيف ، إذ اختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها.

الخامسة : أنّها باقية ضرورة ، وقال النظّام بعدم بقائها ، واعتذر له الخوارزميّون بأنّه أراد افتقارها إلى الفاعل حال البقاء فتوهّم الناقل خلافه.

السادسة : الأكثرون على جواز خلوّها عن الكيفيات المذوقة والمشمومة (٤) والمرئية ، إذ الهواء كذلك في الواقع.

السابعة : أكثر المتكلّمين على أنّها مرئية بالذات ، وقال الحكماء بعدمه وإلّا لرئي

__________________

(١) باطل ـ خ : (آ).

(٢) عليه ـ خ : (آ).

(٣) المختلفات ـ خ : (آ).

(٤) الملموسة ـ خ : (آ).

١٣١

الهواء ، نعم هي مرئية بشرط وقوع الضوء واللون عليها ، وهو حقّ.

البحث الثالث : في العرض ، وينقسم إلى مختصّ بالأحياء وغير مختصّ بهم ، والأوّل أقسام :

الأوّل : الحياة ، وهي صفة تقتضي لموضوعها إمكان الاتّصاف بالقدرة والعلم ، إذ لو لا هما لما كان المحلّ أولى بذلك من الجماد المشارك له في الجسمية والتركيب. وقيل : هي عبارة عن الحسّ والحركة ، وقيل : اعتدال المزاج ، ونقض الأوّل بالعضو المفلوج ، فإنّه حيّ ليس بحسّاس ، والثاني بأنّه شرط فيها ، وحينئذ لا بدّ لها من البنية ، لاستحالة حصولها في غير البنية ، ويفتقر إلى الروح ، وهي أجسام لطيفة متكونة من بخارية الأخلاط ، سارية في العروق تنبعث عن القلب ، والموت عدم الحياة عن محلّ اتّصف بها ، فهو عدم ملكة ، وقيل: وجودي ، فيكون ضدّا ، ودليله خلق الموت ، وهو ضعيف ، إذ الخلق التقدير. (١)

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك ٦٧ : ٢. قوله : إذ الخلق التقدير ، يريد أنّ الخلق في الآية الشريفة إمّا بمعنى التقدير فقط بدون اعتبار معنى إحداث فعل معه ، أو بمعنى التقدير مع الإحداث حسب التقدير ، فعلى الأول هو معنى لغوي للخلق بناء على أنّ الموت أمر عدمي كما هو كذلك عند العرف ، وهو عدم الحياة عمّن من شأنه أن يكون حيا فلا يتعلق به الإيجاد ، والتقدير يتعلق بالمعدوم كتعلّقه بالموجود ، وهذا أيضا بناء على أنّ المراد بالموت ما هو المقدّم على الحياة ، وهو عدم الحياة كما يشير إليه قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً). الآية وهذا عدم صرف وأزلي لا يتعلق به الإيجاد ، إذ لو تعلّق به الخلق لكان حادثا.

وأما على الثاني ـ أعني كون المراد هو التقدير مع الإحداث حسب التقدير ـ فيراد بالموت ما هو بعد الحياة ، والموت في اللغة هو زوال الحياة عمن كانت فيه فيعرف بعدم الحياة عمّن اتّصف بها ، وهذا التعريف لا يتناول ما هو قبل الحياة فهو أخصّ من الأول مطلقا.

وعلى المعنى الأول فإطلاق الموت على ما قبل الحياة مجاز واستعارة وأمّا على المعنى الثاني فتعلّق الخلق بالموت ظاهر لا مجاز فيه ، لأنّ عدم الملكة يتعلّق به الخلق كالعمى ، وليس عدم الصرف حتى لا يتعلق به الجعل ، كما هو كذلك في جعل الظلمة من النور فيتعلق بهما الخلق ، فلا مجاز في إطلاق الخلق على الموت بالمعنى الثاني كما لا مجاز في إطلاق الجعل على الظلمة.

١٣٢

الثاني : القدرة ، وهي صفة تقتضي التأثير وفق الإرادة فتخرج الطبيعة ، ولها أحكام :

الأوّل : أنّ الفعل مع انضمام الداعية إليها واجب وبدونه ممكن ، ولا ينافي الأوّل الاختيار ، إذ هو معتبر بالنسبة إلى القدرة فقط.

الثاني : أنّها متقدّمة على الفعل ، وهو ظاهر ضرورة ، ولأنّ الكافر مكلّف بالإيمان حال كفره فلولاه لزم تكليف ما لا يطاق.

الثالث : هي متعلقة بالضدّين على البدل ، وهو ظاهر أيضا ، فإنّا حال الاستقرار نجد إمكان كلّ من الحركة يمنة ويسرة بالنسبة إلينا ، ولأنّه لولاه لما وقع الفرق بين القادر والموجب.

الثالث : (١) الاعتقاد ، وهو الحكم بمتصوّر على متصوّر ، فإن كان جازما مطابقا ثابتا فهو علم تصديقي ، ومع انتفاء الأوّل وانتفاء الثاني جهل مركّب ، وانتفاء الثالث تقليد محض (٢).

ثمّ العلم له أحكام :

__________________

هذا كله بناء على أنّ الموت أمر عدمي من قبيل عدم الملكة ، ولكن الظاهر من الآية الشريفة أنّ الموت عرض موجود يضاد الحياة ، وكيف يكون أمرا عدميا وقد وصف بكونه مخلوقا؟ بل قيل : لو كان الموت عدم الحياة استحال أن يكون مخلوقا. وظاهر الآية أنّ الموت والحياة عرضان وجوديان مخلوقان يضادّ أحدهما الآخر. وما ذكره المصنف (ره) : «أنّ دليله ضعيف ، اذ الخلق التقدير» وقد عرفت المراد بالتقدير بالمعنيين ـ فهو علي خلاف ظاهر الآية وظاهر القرآن الكريم دليل قوي ـ على أنّ الموت كما هو ظاهر تعليم القرآن الكريم ـ كما في تفسير الميزان لسيدنا العلامة الطباطبائي دام ظله الوارف ، انتقال من نشأة من نشئات الحياة إلى نشأة أخرى كما يستفاد ذلك من قوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ...) إلى قوله : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) الواقعة ٥٦ : ٦١. فلا مانع من تعلّق الخلق بالموت كالحياة ، فالموت إنشاء. خلق يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيوي الداثر ، فالموت انتقال من دار إلى دار وتبدّل خلق إلى خلق آخر وليس بانعدام وفناء ، فالخلق يتعلق بالموت كالحياة. راجع تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ١٥١ وج ٢٠ ، ص ٤ طبعة إيران.

(١) أي الثالث من أقسام العرض المختصّ بالأحياء.

(٢) محق ـ خ : (آ).

١٣٣

الأوّل : أنّه لا يحدّ لكونه وجدانيا فهو أحد الضروريات.

الثاني : أنّه ينقسم إلى فعلي وهو ما تحصل الأعيان الخارجية عنه ، كعلم الواجب تعالى وكما إذا تصوّرنا شيئا ثمّ أوجدناه ، وانفعالي وهو المستفاد من الأعيان الخارجية وما ليس واحدا منهما ، كعلم الواجب بذاته تعالى.

الثالث : أنّه ينقسم إلى ضروري ونظري ، والضروريات ستة :

بديهيات وهي قضايا يحكم بها العقل بمجرّد تصوّر الطرفين نحو : السماء فوقنا.

وفطرية القياس ، وهي ما يفتقر مع تصوّر الطرفين إلى وسط لا يغيب ، ويقال لها : قضايا تصاحبها أدلّتها (١) نحو : الأربعة زوج.

وحسيات تدرك بالحسّ الظاهر كمدركات الحواس الخمس ، وتسمّى مشاهدات ، أو بالحسّ الباطن وتسمّى وجدانيات كالجوع والشبع.

ومجرّبات ، وهي ما يفتقر الحكم فيها إلى مشاهدات متكرّرة ، ويلزمها القياس الخفي كالسقمونيا مسهل.

وحدسيات ، وهي ما يحكم فيها بحدس قوي من النفس ، ويفتقر إلى القياس الخفي أيضا ، كالحكم بأنّ نور القمر مستفاد من نور الشمس والحدس سرعة الانتقال من المبادي إلى المطالب فهي (٢) إحدى حركتي النظر.

ومتواترات ، وهي ما يحصل الجزم فيها عن سماع الخبر من جماعة يستحيل (٣) العقل تواطئهم على الكذب ، ولا يشترط عدد مخصوص ، ويشترط فيه استواء الطرفين والواسطة ، واستناده إلى محسوس ، وعدم سبق شبهة تخالف مقتضاه.

الرابع : قيل : العلم صورة مساوية للمعلوم في ذات العالم ، ونقض بالجدار

__________________

(١) يعني قضايا قياساتها معها كالحكم بأنّ الاثنين نصف الأربعة ، لوجود وسط لا ينفكّ عنها ، وهو قولنا : الاثنين عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه ، وكلّ عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه ، فهو نصف ذلك العدد ، ينتج أنّ الاثنين نصف الأربعة.

(٢) فهو ـ خ : (آ).

(٣) يحيل تواطئهم ـ خ : (آ).

١٣٤

القائم به السواد مع أنّه غير عالم به.

وفيه نظر. (١)

وقيل : إضافة بين العالم والمعلوم ، والحقّ أنّه انكشاف الشيء وظهوره لا (٢) بأحد المعنيين.

الخامس : أنّه قد يتعلّق بالمعدوم ، وهو ظاهر ، فإنّا نعلم الطلوع غدا وهو الآن معدوم.

قيل : لو تعلّق به لتميز فيكون ثابتا.

قلنا : يتميز ذهنا ، وقد تقدّم تحقيقه.

السادس : قيل : يستدعي تغاير العالم والمعلوم وإلّا لزم حصول الأمثال أو تكثّر الواحد ، وهو ضعيف ، فإنّ اجتماع الأمثال يكون في حقّ عالم بغيره والتكثّر بالاعتبار كاف ، فلا ينافي الواحدية ، مع أنّه مبنيّ على القول بالصورة والإضافة.

والحقّ كما تقدّم خلافهما.

السابع : قيل : العلم بالعلة علم بالمعلول.

والحقّ أنّه كذلك إذا كان على وجه التمام ، كما إذا حصل العلم بالذات ولوازمها فيحصل العلم بالمعلول حينئذ لا مطلقا.

الثامن : العلم تابع للمعلوم ، أي في المطابقة ، بمعنى أنّه إذا تعقّل أحدهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق ، وأنّ العلم مثال له وحكاية عنه ، وأنّ فاعلية العلم فرع فاعلية المعلوم لا بمعنى أنّ العلم متأخّر عن المعلوم أو مستفاد منه ليلزمنا الدور ، لكون العلم الفعلي يأبى ذلك كأنّه محصّل للمعلوم.

فإنّا نقول : إنّه محصّل (٣) خارجا لا مطلقا.

__________________

(١) لأنّ قولهم : في ذات العالم ، يخرج الجدار ، نعم لو قالوا : صورة مساوية للشيء في ذات آخر نقض بالجدار ونحوه.

(٢) لفظ : «لا» كأنّه شطب في ـ خ : (د) ولم يظهر لي وجهه وهو موجود في ـ خ : (آ) والأنسب إثباته بل هو الحقّ.

(٣) يحصل ـ خ : (د)

١٣٥

التاسع : العلم منتزع (١) عن العقل ، وهو غريزة في القلب يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة آلاتها ، وقسّمه الحكماء إلى علمي وعملي ، والأوّل إلى أربع مراتب :

الاوّل : العقل الهيولاني ، أي ما شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروري أو كسبي.

الثاني : العقل بالملكة ، وهو أن يحصل البديهيات باستعمال الحواسّ في الجزئيات ، وهو مناط التكليف.

الثالث : العقل بالفعل ، وهو الاستعداد لحصول النظريات بحيث متى شاء استحضرها.

الرابع : العقل المستفاد ، وهو حصول النظريات بالفعل ، وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوة.

والثاني : إلى ثلاثة أقسام :

الاوّل : القوة التي بها يحصل التميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة.

الثاني : المقدّمات التي يستنبط بها الأمور الحسنة والقبيحة.

الثالث : فعل الأمور الحسنة والقبيحة.

العاشر : الجهل ، وهو إمّا مركّب ، وهو ما تقدّم ذكره ، وإمّا بسيط وهو عدم العلم ، والأوّل قسم من الاعتقاد والثاني مقابل له.

والسهو عدم ملكة العلم وهل بينه وبين النسيان فرق؟

قيل : نعم ، فإنّ السهو زوال الصورة عن المدركة خاصّة دون الحافظة والنسيان زوالها عنهما.

الرابع (٢) : الإرادة وهو صفة يقتضي ترجيح أحد طرفي المقدور ، إذ لولاها لامتنع الفعل ، لما تقدّم من تساوي طرفي الممكن ، وهي نوع من العلم عند بعضهم ،

__________________

(١) متفرّع ـ خ : (د).

(٢) أي الرابع من أقسام العرض المختصّ بالأحياء كما تقدّم في صفحة ١٣١.

١٣٦

وزائدة عليه عند آخرين.

والحقّ الزيادة في حقّنا ، لوجود الميل عقيب علمنا بالمصلحة ، والحقّ أنّ إرادة الشيء يستلزم (١) كراهة ضدّه لا أنّها نفسها ، وإلّا لزم تصوّرها حينئذ وهو باطل ، ثمّ الإرادة قد تتعلّق بذاتها وكذا الكراهة.

الخامس : الكراهة ، وهي صفة تقتضي ترجيح الترك.

السادس : الشهوة ، وهو الميل طبعا إلى الملائم ، وهي مغايرة للإرادة ، فإنّ المريض مريد شرب الدواء ولا يشتهيه.

السابع : النفرة ، وهي الإباء طبعا عن المنافي ، وهي غير الكراهة ، فإنّا نكره الملاذّ المحرّمة ولا ننفر عنها.

الثامن : الألم ، وهو نوع من الإدراك ، لكنه تخصيص بالمنافي ، وسببه إمّا تفرّق اتّصال أو سوء مزاج مختلف ، واللذة نوع منه أيضا ، لكنّها تخصّصت بالملائم.

وقول بعضهم : إنّها خلاص عن الألم (٢) باطل للالتذاذ بالوجه الحسن من غير سابقة ألم الشوق ، وكلّ من الإدراكين قد يكون حسيا وقد يكون عقليا ، ودفع الثاني مكابرة ضرورة.

__________________

(١) مستلزم ـ خ : (آ).

(٢) وقد زيف هذا القول وأبطله صدر المتألهين في الأسفار كالمصنّف ، وقال : وأما بطلان هذا الظن فلأنّ الإنسان قد يستلذّ من النظر إلى الصور الحسنة التي لم يكن عالما بوجودها مشتاقا إليها سابقا حتى يقال بأنّ النظر إليها يدفع ضرر الاشتياق وألم الفراق ، وكذلك ربما يدرك مسألة علمية من غير طلب وشوق إليها ولا تعب فكري في تحصيلها ، كما في عقيب انحلال الشبهات المشكلة التي قد تعب في حلّها حتّى يقال بأنّ الاستلذاذ لها لأجل زوال أذى الانزعاج الفكري وكذلك إذا أعطي له مال عظيم أو منصب جليل لم يكن متوقّعا له ولا طالبا لحصوله حتى يقال بأنّ حصول هذه الأمور يدفع ألم الطلب والشوق مع أنّ كل هذه الامور لذيذة فبطل هذا المذهب (انتهى) راجع الأسفار ، ج ٤ ، ص ١١٨ ، كما أنّك إن شئت أن تعرف تفصيل اللذات وتفضيل بعضها على بعض وأنّ كلّا من اللذة والألم ينقسم بحسب القوة المدركة إلى العقلي والوهمي والخيالي والحسي على نحو التحقيق العلمي راجع الأسفار.

١٣٧

التاسع : النظر ، وقد تقدم ذكره.

العاشر : الإدراك ، وهو اطّلاع الحيوان على الأمور الخارجية بواسطة الحواس ، وهو زائد على العلم فينا ، للفرق بين علمنا بالحرارة وبين لمسنا بها ، لحصول الألم في الثاني لا الأوّل ، ولأنّه لولاه لكان كلّ موصوف به عالما ، وهو باطل ضرورة ، والزيادة راجعة إلى تأثّر الحاسّة لا إلى المعنى ، وهنا مزيد بحث حقّقناه في شرح النهج (١).

ثمّ أنواع الإدراك خمسة :

الأوّل : الإبصار ، فقيل : يحصل بانطباع صورة المرئي في العين ، إذ لو كان بالشعاع لتشوّش بالرياح العاصفة ، ولأنّه إن كان عرضا فباطل ، لعدم جواز الانتقال عليه ، وإن كان حسّا استحال خروج جسم بقدر من (٢) العين يتصل بهذه الأجسام العظيمة.

وقيل بخروج شعاع على شكل مخروط رأسه عند مركز الباصرة وقاعدته على سطح المرئي ، إذ لو حصل بالأوّل لزم انطباع العظيم في الصغير.

والحقّ أنّه يحصل (٣) بقوة قائمة بالمحلّ عند حصول الشرائط ، وهي سلامة الحاسة وكثافة المبصر وعدم البعد والقرب المفرطين والمقابلة أو حكمها وإضاءة المرئي بذاته أو بغيره وعدم إفراطها وعدم الحجاب وتعمّد (٤) الإبصار ، قيل : وتوسط الشفاف (٥).

الثاني : السماع ، وهو قوّة قائمة بالصماخ تدرك الصوت ، وهو يحصل بتموّج الهواء الصادر عن قرع أو قلع ، فيحدث صوت يصل إلى سطح الصماخ ، وقيامه بالهواء.

وقيل بعدمه وإلّا لما أدركنا الصوت خلف الجدار ، وهو استبعاد مجرّد.

__________________

(١) يعني نهج المسترشدين لآية الله العلّامة قدس‌سره ، وسمّاه بإرشاد الطالبين ، وهو مطبوع ببمبئي سنة ١٣٠٣ كما أو عزنا إليه في المقدّمة.

(٢) من ـ خ ل ـ خ : (د).

(٣) لا بهما بل ـ خ : (آ).

(٤) قوة ـ خ : (آ).

(٥) بناء على أنّ العالم ملاء ـ هامش ـ خ : (آ).

١٣٨

الثالث : الشمّ ، وهو قوة مودعة في حلمتين في مقدّم الدماغ يدرك الرائحة عند حصول الهواء المتكيّف بها عندها.

الرابع : الذوق ، وهو قوة تحصل في سطح اللسان تحت الجلدة ، ولا بدّ من توسط الرطوبة اللعابية المنفعلة عن الطعم ، وتلك الرطوبة خالية عن الطعم ، إذ لو كان مماثلا لم يحصل الانفعال الذي هو شرط ومخالفا لم يتأدّى الطعم (١) على حاله كالمريض.

الخامس : اللمس ، وهو منبثّ في البدن كلّه ، وهو قوة واحدة. وقيل : أربع (٢) بناء على عدم صدور الكثرة عن الواحد.

ثمّ إنّه أنفع الأنواع لدفعه الضرر وتلك جالبة للنفع ، والأوّل أقدم ، إذ النفع

__________________

(١) أو مخالفا ولم يتأدّى الطعم وإلّا لما يؤدّي الطعم على حاله كالمريض ـ خ : (د). وما أثبتناه في المتن من ـ خ : (آ) هو الصحيح والمناسب لسياق الكلام.

(٢) قسّم الجمهور من الحكماء اللمس إلى قوى أربعة : الأول : القوة الحاكمة بين الحارّ والبارد. والثاني : القوة الحاكمة بين الرطب واليابس. الثالث : القوة الحاكمة بين الصلب واللين. الرابع : القوة الحاكمة بين الخشن والأملس ، بناء منهم على أنّ القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من واحد.

وذهب آخرون إلى أنّه قوة واحدة تدرك جميع هذه الكيفيات ، وإليه مال العلّامة قدس‌سره في المناهج وعقد صدر المتألّهين قدس‌سره في الأسفار فصلا فيما يظنّ دخوله في الكيفيات اللمسية وليس منها قال : فمن ذلك الخشونة والملاسة والصلابة واللين وإنّما يقع الاشتباه في مثل هذه الأمور ، لعدم الفرق بين ما بالذات وما بالعرض راجع تفصيل ذلك في الأسفار ، ج ٤ ،. ص ٨٤ من الطبعة الجديدة. وأما استدلال الحكماء بادّعائهم المذكور من تقسيم اللمس إلى قوى أربعة بقاعدة الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد فلا يصدر الكثير عن الواحد ، فهو مبني على أنّ القاعدة كلية غير مخصوصة بالواحد الحقّ الواجب بالذات ، بل تشمل كل واحد بجهته الوحدانية ، ولكن كلية القاعدة غير تامة ، وصدر المتألّهين (ره) مع ادّعائه الكلية في الأسفار في الموقف التاسع الفصل الثاني (مجلد ٧ ص ٢٠٤ طبعة جديدة) يقول في سفر النفس بعدم الكلية وبالاختصاص بالواحد الحقّ الواجب بالذات كما صرّح به الحكيم السبزواري (ره) في حواشيه على الأسفار.

وأمّا استدلال المحقق الخراساني (ره) في الكفاية في بعض المباحث الأصولية بهذه القاعدة فهو كما ترى ، فلعلّه مبني على تقدير كونها كلية ، وكان سيدنا وأستاذنا العلّامة المجاهد الأكبر في سبيل الله تعالى السيد المرجع الأعظم آية الله العظمى الحاج سيّد روح الله الموسوي الخميني القاطن اليوم في النجف الأشرف أدام الله تعالى ظله الوارف كما سمعناه في درسه ببلدة قم قائلا بعدم الكلية في القاعدة.

١٣٩

لا يصل إلى البدن إلّا بعد اعتداله المتوقّف على بعده عن المنافي.

واعلم أنّ الضرورة قاضية بوجوب حصول مقتضيات هذه الإدراكات عند حصول شرائطها ، والمانع مكابر لمقتضى عقله.

والثاني (١) : أيضا أقسام :

الأوّل : الكون وهو الحصول في الحيّز. إمّا حركة وهو حصول الجسم في حيّز بعد أن كان في آخر ، وقال الحكماء : كمال أوّل لما بالقوة من حيث هو بالقوة ، وهي متوقّفة على أمور ستة :

ما منه أعني مبدأها وما إليه أعني منتهاها وما به الحركة أعني العلّة الفاعلية ، وما له الحركة أعني العلّة الغائية وما فيه وهو المقولة التي يتحرّك الجسم فيها من نوع إلى آخر ، وهي أربع الكمّ : إمّا بتخلخل (٢) أو تكاثف أو ذبول (٣) كالضابئ أو نموّ ، كحركة أجزاء المغتذي في جميع الأقطار (٤) على تناسب ، والكيف كالانتقال من الخضرة إلى الحمرة أو البياض ، والأين والوضع ، والسادس (٥) المقدار وهو الزمان.

وإمّا سكون أعني حفظ النسب الحاصلة بين الأجسام الثابتة على حالها ، وهو معنى قولهم : إنّه حصول الجسم في مكان أكثر من زمان ، هذا في الأين وفي غيره حفظ النوع الذي وقع فيه.

وقال الحكماء : هو عدم الحركة عمّا من شأنه (٦) ، فهو عدم ملكة وعلى

__________________

(١) أي العرض غير المختصّ بالأحياء.

(٢) التخلخل هو أن يزيد مقدار الجسم من غير أن ينضمّ إليه غيره ، كما في هواء باطن القارورة عند مصّها. والتكاثف هو أن ينتقص مقدار الجسم من غير أن ينفصل منه جزء كما في هواء باطن القارورة عند النفح فيها. (٣) هو انتقاص حجم الجسم بسبب ما ينتقص منه في الطول والعرض والعمق على نسبة طبيعية. والضابئ : الرماد.

(٤) الطول والعرض والعمق.

(٥) هذا راجع إلى الأمور الستة وهو تمامها.

(٦) بقيد عمّا من شأنه يخرج عدم حركة الأعراض والمفارقات والاجسام في آن ابتداء الحركة أو انتهائها بل في كلّ آن.

١٤٠