اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
ISBN: 964-424-883-X
الصفحات: ٦٨٧

اللامع الرابع

في الماهية ولواحقها

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل : في مباحث الماهية

وفيه مسائل :

الاولى : الماهية مشتقّة من قولنا : ما هو ، فإنّه إذا سئل عن الإنسان مثلا بما هو؟ فقد سئلت عن حقيقته ، فإذا قلنا : حيوان ناطق فالواقع في الجواب هو الماهية.

الثانية : الماهية مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات ، فإنّ الإنسانية من حيث هي هي ليست واحدة وإلّا لما صدقت على الكثير ، وليست كثيرة وإلّا لما صدقت على الواحد ، ولا كلية وإلّا لما صدقت على الجزئي وبالعكس.

وإن كانت لا تخلو عن أحد هذه المتقابلات وتسمّى بهذا الاعتبار المطلق والماهية بلا شرط ، فإن أخذت مع المشخّصات واللواحق تسمّى مخلوطا ، والماهية بشرط شيء وإن أخذت بشرط العراء عن المشخّصات واللواحق تسمّى مجرّدا

١٠١

والماهية بشرط لا ، وهذه لا وجود لها إلّا في الذهن ، إذ كل موجود في الخارج مشخّص فلا يكون عاريا عن الاعتبارات ، وأمّا المخلوط فوجوده في الخارج ظاهر ، وكذا المطلق ، لتركّب المخلوط منه ومن المشخّصات واللواحق ، وجزء الموجود موجود.

الثالثة : الماهية إمّا أن يكون لها جزء تتقوّم منه ومن غيره وهي المركّبة ، أو لا يكون وهي البسيطة ، ووجود الأوّل ظاهر ، وهي إمّا خارجة وأجزاؤها متميزة في الخارج كالإنسان المركّب من البدن والنفس والمثلّث المركّب من المخلوط ، أو عقلية وأجزاؤها ليست كذلك كالنفس المجرّدة والسواد.

ثمّ الأجزاء إمّا أن يكون بعضها أعمّ من بعض وهي المتداخلة كالأجناس والفصول ، أو لا يكون وهي المتباينة ، وهذه إمّا متشابهة كوحدات العشرة أو متخالفة إمّا عقلية كالهيولى والصورة أو خارجية كأعضاء البدن ، وكذا الثانية ، لأنّ وجود المركّب يستلزم وجود أجزائه ضرورة وأجزاؤها يجب انتهاؤها إلى ما لا جزء له وإلّا لزم التسلسل.

الرابعة : الجزء سابق على المركّب ، لأنّ الجزء ما يتمّ المركّب منه ومن مثله ، فبالضرورة يكون تحقّق المركّب متوقّفا على تحقّقه ، والمتوقّف عليه سابق هذا في الخارج وأمّا في الذهن فكذلك ، لأنّ الذهن يجب مطابقته للخارج وكما أنّ الجزء سابق في الوجود فكذا في العدم ، لأنّه إذا عدم جزء من المركّب لم يبق ملتئما فلا تحصل الماهيّة ، فيكون عدم أيّ جزء كان من تلك الأمور علّة لعدم المركّب والعلّة متقدّمة.

الخامسة : المركّب محتاج وهو ظاهر ، فإنّه لا بدّ لبعض الأجزاء من الحاجة إلى البعض الآخر ، إذ لو استغنى كل جزء عن كل جزء لم يحصل منها حقيقة كما لا يحصل من الإنسان الموضوع فوق الحجر حقيقة.

ثمّ الاحتياج قد يكون للجزء الصوري لا غير كالهيئة الاجتماعية في العسكر

١٠٢

والبلدية (١) في البيوت والعشرية في العدد ، وقد يكون للجزء المادي كالهيولى في الجسم ولا يتحقّق شمول الحاجة من الطرفين بأن يكون المادي محتاجا إلى الصوري وبالعكس باعتبار واحد ، لأنّه يلزم منه الدور المحال وإمّا لا باعتبار واحد كالمادة المفتقرة في وجودها إلى الصورة والصورة المفتقرة في شخصها إلى المادة فجائز.

الفصل الثاني في الوحدة والكثرة

وفيه فوائد :

الأولى : الوحدة عبارة عن كون الشيء غير منقسم ، وهي مغايرة للوجود ، لأنّه صادق على الكثير ، بخلافها وهي أمر ثبوتي أي ليس العدم مفهومها ولا جزء مفهومها ، وهو ظاهر من تعريفها ، ولأنّها لو كانت عدمية لكانت عدم الكثرة ، والكثرة مجموع الوحدات العدمية حينئذ ، فيكون النقيضان عدميين وهو باطل ، لكنها من المعقولات الثانية اللاحقة للمعقولات الأولى ، لعدم امكان تصوّرها قائمة بنفسها بل عارضة لغيرها.

الثانية : الكثرة عبارة عن كون الشيء منقسما ، والبحث فيها كما تقدّم في الوحدة.

الثالثة : الوحدة والكثرة قد يكون معروضهما واحدا وقد يكون متغايرا والأوّل يجب أن يكون له جهتان ، لاستحالة كون الشيء (٢) واحدا وكثيرا باعتبار واحد ، فجهة الوحدة قد تكون مقوّمة لجهة الكثرة أي داخلة في قوامها ، فإن كانت جهة الوحدة (٣) مختلفة فالوحدة جنسية وإن كانت متّفقة فالوحدة نوعية إن كانت مقولة في جواب ما هو وفصلية إن كانت مقولة في جواب أي ما هو ، وقد تكون مقوّمة ، وتكون عارضة ، إمّا

__________________

(١) البلدة ـ خ : (آ).

(٢) الشيء الواحد كثيرا ـ خ : (آ).

(٣) الكثرة ـ خ : (د).

١٠٣

موضوعا كالإنسان هو الكاتب فإنّ جهة الوحدة هي الإنسانية ، وهي موضوع ، أو محمولات لموضوع واحد كقولنا : الكاتب هو الضاحك ، فإنّ جهة الوحدة ما هو موضوعها وهو الإنسان أو موضوعات لمحمول واحد كقولنا : القطن هو كالثلج ، فإنّ جهة الوحدة صفة لهما أعني البياض.

وقد لا تكون عارضة وتسمّى وحدة بالعرض كقولنا : نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الربّان (١) إلى السفينة ، وكذا حال النفس إلى البدن كحال الملك إلى البلد ، فإنّه ليس هنا نسبة واحدة وحالة واحدة بل هما نسبتان وحالتان والثاني (٢) قسمان :

الأوّل : موضوع الوحدة إمّا أن يكون نفس مجرّد عدم الانقسام وهو الوحدة ، أو له مفهوم آخر زائد فإمّا أن يكون قابلا للقسمة أولا ، والثاني إمّا ذا وضع كالنقطة أو غير ذي وضع كالعقل والنفس ، والأوّل إمّا أن تكون أجزاؤه متساوية أو لا ، والأوّل المقدار إن قبل القسمة لذاته وإلّا فالجسم الطبيعي أو غير متساوية كالأجسام المركبة.

الثاني : موضوع الكثرة ، وسيأتي أقسامه.

الرابعة : أنّ الواحد بالنوع كالإنسان كثير بالشخص كزيد وعمرو ، والواحد بالجنس كالحيوان كثير بالنوع كالإنسان والفرس إمّا بالجنس القريب كما قلنا أو بالمتوسّط كالإنسان والشجر أو بالبعيد كالإنسان والحجر ومقوليته على هذه الأقسام بالتشكيك.

الخامسة : أسماء الوحدة مختلفة ففي النوع يسمّى مماثلة وفي الجنس مجانسة وفي الكم مساواة وفي الكيف مشابهة وفي المضاف مناسبة وفي الشكل مشاكلة وفي الوضع موازاة وفي الأطراف مطابقة.

السادسة : أقسام الكثرة كلّ اثنين إمّا أن يتساويا في تمام الماهية أو يختلفا ، والأوّل

__________________

(١) الربان. ج ـ ربابنة وربابين : رئيس الملاحين.

(٢) أي كون معروضهما متغايرا.

١٠٤

المثلان ، ويقال : المتساويان كزيد وعمرو ، والثاني إمّا أن يمكن اجتماعهما في موضوع واحد أولا ، والأوّل المتلاقيان كالسواد والحركة فإمّا أن يصدق كلّ منهما على كلّ ما يصدق عليه الآخر ، وهما المتساويان كالإنسان والناطق أو يصدق أحدهما على بعض ما يصدق عليه الآخر فإن صدق الآخر على كلّ أفراده ، فالأوّل أخصّ مطلقا والثاني أعمّ مطلقا كالإنسان والحيوان وإن لم يصدق على كلّ أفراده ، فكلّ منهما أعمّ من وجه وأخصّ من وجه والثاني المتقابلان ، وهما اللذان لا يجتمعان في موضوع واحد باعتبار واحد في زمان واحد ، فإن كانا وجودين وأمكن تعقّل أحدهما منفكّا عن الآخر ، فهما ضدّان كالسواد والبياض وإن لم يمكن فهما مضافان كالأبوّة والبنوّة وإن كان أحدهما وجوديا والآخر عدميا فإن اعتبر موضوع معيّن لهما فعدم وملكة كالعمى والبصر وإن لم يعتبر فهما نقيضان كالإنسان واللاإنسان.

السابعة : أنّ التضادّ نوعان ، حقيقي وهو كون الشيئين الوجوديين لا يجتمعان في موضوع واحد باعتبار واحد وبينهما غاية البعد كما مثّلناه به ومشهوري ، وهو كون الشيئين يجتمعان في موضوع واحد ، وهذا أعمّ من الأوّل.

والعدم والملكة أيضا نوعان ، حقيقي وهو عدم شيء عن شيء ومشهوري ، وهو عدم شيء عن شيء من شأنه أن يكون له بحسب نوعه أو جنسه والثاني أخصّ ، فعدم البصر عن الحائط عدم ملكة على الأوّل وسلب على الثاني فقد تعاكس هو والتضادّ في العموم والخصوص في مشهوريهما وحقيقيهما.

الثامنة : للتضادّ أحكام :

الأوّل : أنّ أحد الضدّين بعينه قد يكون لازما للموضوع كسواد القارّ وقد لا يكون ، فإمّا أن يكون أحدهما لا بعينه لازما للموضوع كالصحّة والمرض للبدن ، أو لا يكون فإمّا أن يخلو عنهما معا كالهواء الخالي عن السواد والبياض أو يتّصف بالوسط كالفاتر.

الثاني : أنّ الضدّ الحقيقي ليس له إلّا ضدّ واحد ليتحقّق شرطه ، وهو غاية البعد ،

١٠٥

وأمّا المشهوري فيجوز أن يكون للواحد أضداد.

الثالث : أنّ التضادّ منفي عن الأجناس ومشروط في الأنواع بدخولها تحت جنس واحد أخير ، وعلم هذا بالاستقراء ، فنقض الأوّل بالخير والشر ، والثاني بالتهوّر والشجاعة.

وللتناقض أحكام : هي بعلم الميزان أنسب وكذا للمضاف أحكام يأتي.

ثمّ اعلم كما لا يجتمع المتقابلان فكذا المثلان لا يجتمعان ، إذ لو اجتمعا لما امتازا ، لأنّ امتيازهما إمّا بالذات أو باللوازم أو العوارض ، وبطلان الأوّل ظاهر ، وكذا الثاني لوجوب اتحادهما في اللوازم وإلّا لم يكونا مثلين ، وإمّا الثالث فهو إنّما يكون بواسطة المحلّ فيتّحدان في العوارض ، لأنّ نسبة العوارض إلى كلّ واحد منهما بالسوية فلا يمتازان أيضا.

الفصل الثالث : في العلّة والمعلول وهما من لواحق الماهية

وفيه مسائل :

الأولى : أنّهما من المعلومات الضروريّة لكن يقال تنبيها : إذا استتبع شيء شيئا آخر ، فالأوّل علّة والثاني معلول.

وبعبارة أخرى : إذا صدر شيء عن شيء إمّا استقلالا أو بانضمام فالثاني علّة والأوّل معلول.

ثمّ العلّة لا يجوز أن تكون نفس المعلول ، لأنّ الشيء لا يقدم (١) على نفسه ، وحينئذ إمّا أن تكون داخلية والمعلول معها بالقوة وهي المادية أو بالفعل وهي الصورية ، أو خارجية ، ومنها (٢) الوجود وهي الفاعلية أو لأجلها الوجود وهي الغاية.

__________________

(١) يتقدّم ـ خ : (آ).

(٢) فيها ـ خ : (آ).

١٠٦

الثانية : الفاعلية إمّا تامّة أو ناقصة ، والتامّة هي (١) جميع ما يتوقّف عليه التأثير من حصول الشرائط وارتفاع الموانع ، وعند حصول هذه يجب حصول المعلول وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح أو فرض ما ليس بتامّ تامّا ، هذا خلف ، وذلك لأنّ حصول المعلول بعدها إن لم يتوقّف على غير ما فرضناه لزم الأوّل ، وإن توقّف لزم الثاني. وأمّا الناقصة وهي بعض ما يتوقّف عليه كواحد من الأربعة فهي لا يجب حصول المعلول عندها.

الثالثة : العلّة قد تكون بسيطة وقد تكون مركّبة ، والثانية يجوز صدور الكثرة عنها ، وأمّا الأولى فمع تعدّد الآلات والموادّ يجوز صدور الكثرة عنها أيضا ، ومع عدمه قال الحكماء: لا يصدر عنها إلّا واحد ، مستدلّين بأنّه لو صدر أكثر لكان مصدرية هذا غير مصدرية ذاك ، فإن دخلا أو أحدهما في ذاتها لزم التركيب ، هذا خلف ، وإن خرجا كانا معلولين فينقل (٢) الكلام ويتسلسل (٣).

وأجيب بأنّ الصدور اعتباري لا وجود له خارجا ولا يوصف بالدخول والخروج ، وعلى تقدير تسليمه جاز أن يكون صدور الصدور عينه ، هذا مع المعارضة بصدور (٤) الواحد وباقتضاء (٥) الجسم البسيط عندهم التحيّز وقبول الأعراض الحقيقيّة.

الرابعة : قالوا : الواحد من كلّ وجه لا يجوز أن يكون فاعلا وقابلا ، لأنّ القبول غير الفعل فمصدر أحدهما غير مصدر الآخر فيتعدّد فلا يكون واحدا من كلّ وجه.

وأجيب بأنّ التعدّد بالاعتبار كاف مع أنّا قدّمنا أنّ البسيط تتعدّد آثاره.

__________________

(١) هي ـ خ : (د).

(٢) فننقل ـ خ : (د).

(٣) نتسلسل ـ خ : (د).

(٤) بالصدور ـ خ : (آ).

(٥) اقتضاء ـ خ : (آ).

١٠٧

الخامسة : قيل : لا يجوز أن يكون لمعلول بسيط علّة مركّبة ، إذ لو كان كذلك لكان إمّا أن يكون كل واحد من أجزائها مستقلّا بالتأثير أولا ، والأوّل محال وإلّا لاجتمع على الواحد الشخصي علّتان تامّتان ، وهو باطل كما يجيء وكذا الثاني ، لأنّه إذا (١) لم يكن كل واحد مستقلّا فإمّا أن يكون البعض مستقلّا ، وهو باطل وإلّا لكان ما عداه حشوا لا حاجة إليه فلا يسند التأثير إلى الكلّ من حيث هو كلّ ، هذا خلف.

أو لا يكون شيء من أجزائها مستقلّا فلا يخلو إمّا أن يكون لكلّ واحد منها تأثير في شيء من (٢) ذات المعلول بحيث يحصل من اجتماعها ذلك المعلول بتمامه أو لا يكون ، وعلى الأوّل يكون المعلول مركّبا ، والفرض خلافه ، وعلى الثاني لا يخلو إمّا أن يلزم بعض أجزاء المعلول عن بعض أجزاء العلّة ويلزم ما ذكرناه الآن ، وإمّا أن لا يلزم المعلول ولا بعضه عن شيء من أجزائها ، وحينئذ إمّا أن يحصل عند الاجتماع أمر زائد لم يكن عند الانفراد يكون هو العلّة لوجود ذلك البسيط ، وحينئذ لا تكون تلك العلّة المركّبة علّة بل علّة العلّة ، والكلام إنّما هو في العلّة القريبة.

وأيضا ذلك الزائد إمّا عدمي أو وجودي ، والأوّل باطل ، لأنّ العدمي لا يستقل بالتأثير في الوجودي ، والفرض استقلاله ، هذا خلف ، والثاني إمّا أن يكون بسيطا أو مركّبا ، وكلاهما يلزم منه التسلسل ، أمّا على تقدير البساطة فلأنّ الكلام يعود في كيفية صدور ذلك البسيط عنه (٣) ، وأمّا على تقدير التركيب فلأنّا نعود بالكلام في كيفية صدور ذلك البسيط عنه. أولا (٤) يحصل عند الاجتماع زائد ، وحينئذ يكون الكلّ غير مؤثّر كما كان كلّ واحد كذلك.

وفيه نظر : أمّا تفصيلا فلأنّ قوله : إمّا أن لا يلزم المعلول ... إلى آخره ، نختار أنّه

__________________

(١) إذ ـ خ : (د).

(٢) في ذات ـ خ : (آ).

(٣) صدوره عن ذلك المركّب ـ خ : (آ).

(٤) عطف على قوله فيما تقدّم : إما أن يحصل عند الاجتماع أمر زائد ...

١٠٨

لا يلزم المعلول شيئا من أجزاء العلّة.

قوله : وحينئذ إمّا أن يحصل عند الاجتماع ... إلى آخره ، نختار أنّه يحصل ولا نسلّم أنّه هو العلّة ليلزم ما ذكر ، لجواز أن يكون شرطا لتأثير الأجزاء ، فإنّ كلّ واحد له تأثير ناقص بشرط الاجتماع ولمجموعها تأثير تامّ ، لحصول جميع أجزاء العلّة وشروطها (١) ، وما لم يبطل ذلك لم يحصل المطلوب مع أنّه لا سبيل إلى إبطاله خصوصا مع وقوعه ، فإنّ مجموع أجزاء العشرة (٢) علّة تامّة لحصول العشرة ولكلّ واحد من أجزائها تأثير ناقص عند الاجتماع ، وكذا إذا كان مائة ألف رطل تغرق السفينة كان لكلّ واحد من الآلاف تأثير ناقص بشرط الاجتماع ، ولمجموعها تأثير تامّ لحصول جميع أجزاء العلّة التامّة.

وأمّا إجمالا فلأنّه لو صحّ مدّعاه في الجملة لزم التسلسل ، واللازم كالملزوم في البطلان.

وبيان الملازمة يتوقّف على إثبات معلول بسيط حادث فنقول : الجزء الصوري لكلّ مركّب حادث بالضرورة فإمّا أن يكون بسيطا أو مركّبا ، فإن كان بسيطا فهو المطلوب ، وإن كان مركّبا فلا بدّ له من جزء آخر صوريّ وهكذا ، ولا بدّ أن يتناهى إلى جزء آخر صوريّ بسيط حادث (٣) وإلّا لزم تركّبه من أجزاء غير متناهية ، وهو محال ، وإذا ثبت جزء صوريّ بسيط حادث قلنا : يلزم من بساطته بساطة علّته ، ومن حدوثه حدوثها ، ومن بساطة علّته بساطة علّة علّته وهكذا حتّى يلزم التسلسل.

وأمّا معارضه فلأنّه على تقدير دلالته على امتناع صدور البسيط عن المركب فعندنا ما يدلّ على جوازه ، وهو أنّه كلّما ثبت حادث بسيط فلا بدّ من انتهاء علله إلى علّة مركّبة وإلّا لزم التسلسل المحال ، لكن ثبت الملزوم بما تقدّم من الدليل فيثبت اللازم ، وهو المطلوب.

__________________

(١) وشرطها ـ خ : (آ).

(٢) العشرية خ ل ـ خ : (د).

(٣) حادث ـ خ : (د).

١٠٩

السادسة : المعلول الشخصي لا تجتمع عليه علّتان تامّتان وإلّا لاستغنى بكلّ واحدة عن كل واحدة ، فيكون مستغنيا أو محتاجا عنهما وإليهما معا ، وهو محال.

وبيان ذلك : أنّا إذا فرضنا تحقّق الأولى مثلا وجب صدوره عنها فيستغني بها عن الثانية ، وكذا نقول في الثانية عند تحقّقها فيكون مستغنيا عن العلل التامة ومحتاجا إليهما ، هذا خلف.

وأمّا النوعي فيجوز فيه ذلك كالحرارة الصادرة عن علل مختلفة.

السابعة : لا يجوز تعاكس العلل ولا تراميها إلى غير النهاية ، والأوّل دور والثاني تسلسل ، وكلّ منهما باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّه يفضي إلى كون الشيء الواحد موجودا معدوما ، وهو محال.

وبيان ذلك يظهر من وجوب تقدّم العلّة على معلولها فيكون معدوما حال فرض وجودها قبله ، فلو انعكس لزم تقدّمه فتكون معدومة حال فرض وجوده.

وأمّا الثاني : لوجهين : الأوّل : التطبيق بين جملة من الآن إلى الأزل ، وأخرى من الطوفان إليه بحيث يجعل مبدأهما واحدا ، فإن تساويا لزم مساواة الزائد للناقص وإلّا نقصت الناقصة بمقدار متناه فتتناهى الجملتان للزيادة التامة بمقدار متناه.

الثاني : أنّ المجموع مفتقر ، فمؤثّره ليس نفسه ضرورة ولا جزؤه ، وإلّا لأثّر في نفسه وعلله ، لأنّ المؤثّر في المجموع مؤثّر في كلّ واحد ولا خارج عنه ، وإلّا لاجتمعت على الواحد الشخصي علّتان تامتان ، هذا خلف.

واشترط الحكماء في بطلانه وجود الأفراد معا وترتّبها طبعا (١) أو وضعا ، فتسلسل

__________________

(١) معا ـ خ : (د) طبعا ـ خ ل.

اشترط الحكماء في إبطال التسلسل حصول أمرين : الأول : أن يكون بين الآحاد الموجودة ترتيب طبيعي كالعلل والمعلولات أو وضعي كالأجسام والمقادير. مثال الترتيب الوضعي كالخطّ الغير المتناهي ، فإنّ أبعاضه النقطة المفروضة علّته موجودة دفعة مع ترتيب وضعى.

١١٠

الحركات والنفوس ليس بباطل عندهم ، والمتكلّمون لم يشترطوا ذلك ، بل كلّ عدد فرض غير متناه باطل عندهم.

الثامنة : للمادّة والصورة أحكام تأتي.

وأمّا الغاية فلها اعتباران :

الأوّل : ماهيتها وهي علّة لعلّته الفاعلية ، فهي متقدّمة حينئذ بها ، لأنّ الفاعل يفتقر إلى تصوّر جزئي (١) ثمّ شوق ثمّ إرادة ، فيستلزم تصور الغاية فتحمله على الفعل.

الثاني : وجودها وهي بهذا متأخّرة ، لتأخّره عن فعل الفاعل.

التاسعة : كما استند وجود المعلول إلى وجود علّته ، فعدمه مستند إلى عدمها ، لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته ، وإلّا لكان ممتنعا ، ولا إلى وجود شيء غير عدم علّته ، لأنّ عند وجود علّته يجب وجوده ، فتأثير ذلك الشيء في العدم (٢) إن كان عند وجود علّة الوجود لزم أن يكون موجودا بالنظر إلى علّة وجوده ومعدوما بالنظر إلى علّة عدمه ، هذا خلف ، ولا ترجيح لأحدهما ، لأنّا فرضنا هما تامّتين ، وإن كان عند اختلال بعض شرائط العلّة أو عدم جزء منها كان المقتضي للعدم هو عدم ذلك الجزء أو الشرط لا غير ولا إلى عدم شيء غير العلّة وأجزائها وشرائطها ، لأنّ ما عدا العلّة وأجزائها وشرائطها لا يحتاج إليه المعلول ، وما لا يحتاج إليه الشيء لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء بالضرورة فلم يبق إلّا عدم علّته ، وهو المطلوب.

__________________

الثاني : أن تكون موجودة دفعة ، وجوّزوا تسلسلا خاليا عنهما ، فلهذا قالوا بتسلسل الحركات الفلكية على زعمهم ، لأنّها وان كانت مترتبة إلّا أنّها ليست موجودة دفعة ، وقالوا بتسلسل النفوس البشرية ، لأنّها وإن كانت موجودة إلّا أنّها لا ترتيب بينها وأبطلوا تسلسل العلل والمعلولات لوجود شرطين فيه.

(١) جزئيتين ـ خ : (آ).

(٢) المعدوم ـ خ : (آ).

١١١

العاشرة : العلّة قد تكون معدّة ، وهي ما تقرّب العلّة المؤثّرة إلى معلولها بعد بعدها عنه ، وهي إمّا أن تؤدّي إلى ما يماثلها كالحركة إلى المنتصف (١) ، فإنّها تؤدّي إلى الحركة إلى المنتهى ، وليست فاعلة بل الفاعل غيرها (٢) أو إلى مخالفها (٣) كالحركة المعدّة للسخونة (٤) ، أو مضادّها كالحركة المعدّة للسكون عند الوصول إلى المنتهى (٥) ثمّ الإعداد إمّا قريب كالجنين المستعدّ (٦) لقبول الصورة الإنسانية أو بعيد كالنطفة لها ، فالمعدّة القريبة حينئذ ما يحصل المعلول عقبها ، والبعيدة ما ليس كذلك.

__________________

(١) أي منتصف المسافة.

(٢) غيرهما ـ خ : (د).

(٣) أو إلى ما يخالفها ـ خ : (آ).

(٤) وهي مخالفة لها.

(٥) وكالحركة إلى الفوق المؤدية إلى الحركة إلى الأسفل وهما متضادتان.

(٦) المعد ـ خ : (آ).

١١٢

اللامع الخامس

في تقسيم الممكنات

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل : في التقسيم على رأي الحكماء

وتقريره : أنّ الممكن الموجود إمّا أن يكون قائما بالموضوع أو لا ، والأوّل العرض ، والمراد بالموضوع هو المقوّم لما يحلّ فيه ، والثاني إمّا أن يكون له دخل في التحيّز أو لا ، والثاني المجرّد ، وهو إمّا أن يكون بحيث تتوقّف كمالاته على التعلّق بالماديات أو لا ، والأوّل النفس والثاني العقل ، والأوّل من القسم الثاني إمّا أن يكون محلّا ، وهو المتقوّم بما يحلّ فيه ، وهو المادة والهيولى أو حالّا ، أعني المقوّم لما يحلّ فيه ، وهو الصورة إمّا مركّبا منهما ، وهو الجسم.

ثمّ العرض إمّا أن يقتضي قسمة أو نسبة أو لا يقتضي شيئا منهما ، والأوّل إمّا أن يوجد فيه واحد عاد بالفعل وهو الكمّ المنفصل كالعدد ، أو بالقوة وهو الكمّ المتصل ، وهو إمّا غير قارّ الذات وهو الزمان ، أو قارّ الذات وهو إمّا ينقسم في جهة واحدة وهو الخط ، أو جهتين وهو السطح ، أو ثلاث جهات وهو الجسم التعليمي.

والثاني ـ أي ما يقتضي نسبة ـ إمّا أن يكون نسبة التأثير وهو الفعل ، أو التأثّر وهو الانفعال ، أولا واحدا منهما فإمّا نسبة المكان وهو الأين أو الزمان وهو المتى ، أو نسبة

١١٣

إلى الأمور الخارجية غيرهما وهو الوضع ، أو نسبة التملّك وهو الملك أو نسبة متكرّرة وهو الإضافة.

والثالث قيل : هو الكيف.

وفي الحصر نظر ، لانتقاضه بالحركة والنقطة والآن ، وهذه التسعة (١) مع الجوهر يسمّونها بالمقولات العشر الشاملة لأنواع الممكنات ، وقد جمعها بعضهم في بيت من الشعر تمثيلا في المادة في قوله :

قمر غزير الحسن ألطف (٢) مصره

لو قام يكشف غمّتى لمّا انثنى (٣)

فهنا مباحث :

[البحث] الأوّل : في تتمة مباحث العرض ، وفيه فوائد :

الأولى : الكمّ وقد ذكرنا أنّه قسمان : أحدهما المتّصل غير القارّ ـ أعني الزمان ـ ومرادنا بكونه غير قارّ أن (٤) لا تجتمع أجزاؤه في الوجود والحال هنا كذلك ، فإنّه لا يكون

__________________

(١) القسمة ـ خ : (آ).

(٢) أنطق ـ خ : (د). وما أثبتناه من ـ خ : (آ) هو الأنسب.

(٣) في الشعر إشارة إلى المقولات العشر : ١ ـ فالقمر للجوهر ٢ ـ والغزير للكم ٣ ـ والحسن للكيف ٤ ـ وألطف للإضافة ٥ ـ ومصره للأين وإضافته إشارة إلى أنّ الأين ، الحصول في مصر ، لا نفس المصر ٦ ـ وقام للوضع ٧ ـ ويكشف للفعل ٨ ـ وغمّتي للملك ٩ ـ ولمّا (بتشديد الميم) للمتى ١٠ ـ وانثنى للانفعال.

وقد زاد بعض فلا سفة الغرب عليها مقولتين أخريين هما : ١ ـ النفي ٢ ـ الإثبات ، الوضع ، هو اسم للهيئة الحاصلة من نسبة بعض الأجزاء إلى بعض ومن نسبتها إلى أمر خارجي ، الملك : هو اسم للهيئة الحاصلة في إحاطة شيء بشيء كلّا أو بعضا ، انثنى للانفعال ، أي إذا كان بتأثير مؤثّر ، أي فعل فاعل. المقولات ، أي المحمولات ـ يعني الموجودات العشرة ـ أي الكون احتوى على هذه العشرة.

كلمة «مقولة» اشتقت من مصدر القول ، وهي ترجمة لكلمة كاتيجورياairojitaK اليونانية ولا يعرف بالضبط أول من وضع هذا الاصطلاح في العربية ، ولا نجد له في معاجمنا وجودا وقد دخلت في جميع اللغات بلفظها تقريباeirojetaC ـ yrojetaC حتّى في كتب الفلاسفة المسلمين ومعناها في الأصل «العلاقة».

(٤) أي ـ خ : (آ).

١١٤

أحد الزمانين مجتمعا مع صاحبه. ثمّ الزمان قيل : هو مقدار الحركة الفلكية العليا ، وقيل : مقدار الوجود ، وعلى ذلك كلّه أدلّة هي بالمطوّلات أشبه.

والكمّ قد يكون بالذات كالذي عددناه ، وقد يكون بالعرض ، وهو إمّا معروض ذلك كالجسم الطبيعي أو عارضا له كالسواد القائم بالجسم والسطح ، ويوصف بالزيادة والنقصان والكثرة والقلة ، ولا يوصف بالشدة والضعف ، وهو ظاهر.

الثانية : كلّ من الأين والمتى قد يكون حقيقيا ، وهو حصول الشيء في المكان الخاص به والزمان الخاص به ، وغير حقيقي ، وهو نسبة إلى مكان عامّ أو زمان كذلك كقولنا : زيد في الدار وفي سنة كذا.

الثالثة : الوضع يحصل للشيء بحسب نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه ، ككون رأس زيد مثلا قريبا من السقف ورجليه قريبين من الأرض ، وبحسب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ككون رأسه فوق رجليه وهما تحته ، أو (١) يقع فيه التضادّ كالقيام والانتكاس والشدّة والضعف كالانتصاب ، فإنّه يكون شديدا وضعيفا.

الرابعة : الملك ، قيل : هو نسبة التملّك ، وقيل : كون الشيء محاطا لغير أو محيطا بغيره ، ولحقائقها اختلفت العبارات في التعبير عنها.

الخامسة : المضاف فيقال لنفس الإضافة ، أعني العارض للشيء باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوّة والبنوّة وهو الحقيقي ، ويقال لمعروض ذلك كالأب والابن وهو المشهوري ، ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ.

أمّا الأوّل : فمعناه إضافة كلّ منهما إلى صاحبه من حيث إنّه مضاف إليه ، فإنّه كما أنّ الأب أب للابن (٢) كذا الابن ابن للأب (٣) ، وقيّدنا بحيثية الإضافة ، لأنّه لو أخذ المضاف مجرّدا عن الإضافة لم يجب الانعكاس ، فإنّه إذا قيل : الرأس رأس الإنسان

__________________

(١) و ـ خ : (آ).

(٢) أب الابن ـ خ : (آ).

(٣) ابن الأب ـ خ : (آ).

١١٥

لم يصدق التعاكس ، بخلاف ما لو قيل : الرأس رأس لذي الرأس فإنّه يصدق ذو الرأس بالرأس (١).

وأمّا الثاني : أعني التكافؤ في الوجود ، على معنى أنّه يستحيل تقدّم أحدهما على الآخر ، بل يجب وجودهما معا خارجا وذهنا ، وهذا الحكم ضروري ، فإنّ العقل يقضي بوجوب المصاحبة بينهما.

السادسة : الكيف رسموه بأنّه هيئة عارضة للجسم لا يقتضي قسمة ولا نسبة اقتضاء أوّليا وقسّموه إلى أربعة أقسام :

الأوّل : الكيفيات المختصة بالكميات كالاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير (٢) والتقبيب.

الثاني : الكيفيات النفسانية كالعلم والظنّ والنظر وأمثالهما.

الثالث : الكيفيات الاستعدادية كالقوة واللاقوة ، ونعني بالأوّل استعداد اللاقبول كالصلابة وبالثاني استعداد القبول كاللين.

الرابع : الكيفيات المحسوسة وهي إمّا راسخة ، أي مستمرّة ثابتة وتسمّى انفعاليات كحمرة الذهب ، أو غير راسخة وتسمّى انفعالات كحمرة الخجل سمّيت بذلك لانفعال الحواس عنها أو لا (٣) أو لأنّها تابعة للمزاج فينفعل عنها ، وهي تنقسم بانقسام الحواس الخمس الظاهرة إلى الملموسات كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهي كيفيات أول ويتبعها الخفّة والثقل والصلابة واللين والخشونة والملوسة ، وإلى مبصرات وهي كالألوان والأضواء ، ومسموعات وهي الأصوات والحروف ، ومذوقات وهي الطعوم ، ومشمومات وهي الروائح ، ولهذه الأعراض مزيد بسط يأتي في الفصل الثاني.

ثمّ إنّ المتكلّمين أنكروا وجود الأعراض النسبية المذكورة ، استسلاما (٤) منهم

__________________

(١) ذو الرأس ذو رأس ـ خ : (آ).

(٢) التقعر ـ خ : (آ).

(٣) أولا ـ خ : (د).

(٤) استسلافا ـ خ : (آ).

١١٦

لنفي (١) الإضافات خارجا وإلّا لزم التسلسل ، إذ لا بدّ لها حينئذ من إضافة إلى محلّها ، وننقل الكلام ويلزم ما قلناه.

البحث الثاني : في المجرّدات ، وهي قسمان :

الأوّل : العقول العشرة واستدلّوا على إثباتها بأنّ الصادر الأوّل عن الواجب يجب أن يكون واحدا ، لما تقدّم ، وحينئذ إمّا أن يكون جسما أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا ، والكلّ باطل إلّا الأخير.

أمّا الجسم فلأنّه مركّب من المادّة والصورة ، وهو حينئذ متكثّر.

وأمّا المادة فلأنّ الصادر الأوّل يجب أن يكون فاعلا لما بعده ، ولا شيء من المادة بفاعل ، لأنّها قابلة ، ولا تكون فاعلة ، لأنّ نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفعل نسبة الوجوب ، ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب.

وأمّا الصورة فلأنّها مفتقرة (٢) في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة ، لأنّها إنّما تؤثّر إذا كانت مشخّصة ، وإنّما يكون كذلك بالمادة ، فلو كانت هي الصادر الأوّل لكانت واحدة مستغنية عن المادة ، وهو باطل.

وأمّا النفس فلأنّها تعقل (٣) بواسطة البدن فلو كانت هي الصادر لوجب كونها علّة لما بعدها ، فتكون مستغنية عن البدن فتكون عقلا لا نفسا ، وهو باطل.

وأمّا العرض فلأنّه محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو كان هو الصادر الأوّل مع وجوب كونه علّة لما بعده لكان السابق مشروطا باللاحق ، وهو باطل أيضا ، فلم يبق إلّا الأخير.

وقد عرفت ضعف ما تبنى عليه هذه الحجّة (٤)

__________________

(١) كنفي ـ خ : (آ).

(٢) تفتقر ـ خ : (آ).

(٣) فلأنّها إنّما تفعل ـ خ : (آ).

(٤) انظر ص ١٠٦ ـ ١٠٨ من الكتاب.

١١٧

ثمّ إنّ هؤلاء قالوا : الصادر الأوّل عقل فيه تكثّر باعتبار وجوده وإمكانه الذاتي ووجوبه الغيري ، فتصدر الكثرة عنه حينئذ بذلك ، فيصدر عنه عقل آخر ونفس وفلك ، ويصدر عن العقل الثاني عقل آخر ونفس وفلك كذلك ، فأثبتوا عقولا عشرة سمّوا آخرها بالعقل الفعّال.

الثاني : النفوس الناطقة واستدلّوا على مغايرتها للأبدان أوّلا وعلى تجرّدها ثانيا.

أمّا الأوّل فلوجوه :

الأوّل : أنّ الواحد قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة ولا يغفل عن ذاته ، فلا يكون ذاته هو البدن.

الثاني : أنّ البدن جسم فهو مشارك لغيره من الأجسام في الجسمية ومخالف له بنفسه الناطقة ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة.

الثالث : أنّ البدن يتبدّل ولا شيء من النفس يتبدّل فلا يكون هو هي ، أمّا الأولى فلأنّ الحرارة الغريزية تقتضي تحليل الرطوبات البدنية ، فالبدن دائما في التحلّل والاستخلاف ، وأمّا الثانية فظاهر.

وأمّا الثاني : فتقريره بوجوه :

الأوّل : أنّ هنا معلوما غير منقسم كالواجب والنقطة والوحدة.

الثاني : أنّ العلم بذلك غير منقسم وإلّا لكان كلّ واحد من جزئه إمّا أن لا يكون علما ، وهو باطل ، لأنّ عند الاجتماع إن لم يحصل أمر زائد لم يكن ما فرضناه علما علما ، هذا خلف ، وإن حصل فذلك الزائد إمّا أن يكون منقسما فيعود الكلام ، أو غير منقسم وهو المطلوب ، أو يكون كل واحد من أجزائه علما تاما بكلّ (١) المعلوم فيتساوى الجزء الكل أو ببعضه فينقسم ، والفرض خلافه.

الثالث : أنّ محلّ العلم غير منقسم وإلّا لانقسم (٢) ، لأنّه إن لم يحلّ في شيء من

__________________

(١) لكل ـ خ : (د).

(٢) لانقسم العلم ـ خ : (آ).

١١٨

أجزائه لم يكن حالّا فيه ، والفرض أنّه كذلك ، وإن يحل (١) فإمّا في جزء غير منقسم وهو المطلوب ، أو جزء منقسم فإمّا أن يكون الحالّ في أحد الجزءين عين الحالّ في الآخر وهو محال بالضرورة (٢) أو غيره فينقسم.

الرابع : أنّ كلّ جسم وجسماني منقسم بناء على نفي الجوهر الفرد ، وحينئذ نقول : النفس عالمة بما لا ينقسم فيكون غير منقسم ، فلا يكون جسما ولا جسمانيا وهو المطلوب.

وفي هذا (٣) نظر لأنّا (٤) لا نسلّم أنّه يلزم من مساواة الجزء للكل في التعلّق المساواة في الحقيقة المدّعى بطلانها ضرورة.

وفي هذا البحث فوائد :

الأولى : قال أكثرهم : إنّ النفوس الناطقة واحدة بالنوع ، لأنّها يشملها حدّ واحد ولا شيء من المختلفات كذلك.

أمّا الأوّل فلأنّهم عرّفوها بأنّها كمال أوّل (٥) لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة ، وهذا المعنى حاصل في جميع أفرادها.

وأمّا الثاني فظاهر.

وفي هذا نظر (٦).

قال بعضهم : باختلافها لاختلاف عوارضها من الذكاء والبلادة (٧) والعفة والفجور وغيرها ، وليس ذلك مستندا إلى المزاج ، لأنّه قد يكون واحدا والعوارض مختلفة ، فإنّ بارد المزاج قد يكون ذكيا في الغاية وكذا حارّ المزاج قد يكون في غاية البلادة ، ولا إلى سبب خارجي ، لأنّه قد يقتضي خلقا والحاصل غيره.

__________________

(١) حل ـ خ : (آ).

(٢) ضرورة ـ خ : (آ).

(٣) وفيه ـ خ : (آ).

(٤) فإنّا ـ خ : (آ).

(٥) أول ـ خ : (د).

(٦) فإنّ المختلفات قد يشملها حدّ واحد كما يعرف الإنسان والفرس بالحيوان الحسّاس ـ هامش ـ خ : (د).

(٧) البلاهة ـ خ : (آ).

١١٩

فأجاب (١) الأوّلون بأنّ هذه عوارض مفارقة غير لازمة ، فاختلافها لا يقتضي اختلاف معروضاتها.

الثانية : مذهب محقّقهم أرسطو : أنّ النفوس حادثة ، وقال أفلاطون بقدمها.

احتجّ الأوّل بأنّها لو كانت أزلية لكانت إمّا واحدة أو كثيرة ، فإن كان الأوّل فإمّا أن يبقى كذلك مهما لا يزال (٢) وهو باطل ، وإلّا لكانت نفس زيد هي نفس عمرو ، فما علمه أحدهما يعلمه الآخر (٣) هذا خلف ، أو لا يبقى كذلك فيلزم انقسامها ، ولا شيء من المجرد بمنقسم ، وإن كان الثاني فباطل أيضا ، لأن التكثّر (٤) حينئذ ليس للذات ، لما ثبت من وحدتها بالنوع ، ولا للوازم كذلك أيضا (٥) ولا للعوارض ، لأنّ ذلك إنّما يكون عند تغاير المواد ، ولأنّ نسبة العارض إلى المثلين واحدة ، لكن مادّة النفس البدن ، لاستحالة الانطباع عليها ، وقيل : البدن لا مادة وإلّا لزم التناسخ ، وهو محال.

وأمّا الثاني : فلم أظفر له بدليل خاص غير الأدلّة العامة (٦) لهم على قدم العالم ، وذكر بعض من تابعه في مقالته من المتأخّرين دليلا تقريره :

لو كانت حادثة لكانت علّتها التامة إمّا موجودة قبل حدوثها ، وهو محال ، لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامة ، أو لا يكون كذلك وهو يقتضي أن تكون علّتها مركّبة ، إذ لو كانت بسيطة لكانت لها علّة حادثة وبسيطة ، لاستحالة صدور الحادث عن القديم والبسيط عن المركّب ، ويكون الكلام في علتها كالكلام فيها ، وهلمّ جرّا فإذا كانت علتها مركبة ، وكلّ ما علته مركبة فهو مركّب ، فتكون النفس مركّبة ، وقد برهن على أنّها بسيطة ، هذا خلف.

__________________

(١) وأجاب ـ خ : (آ).

(٢) فيما يزال ـ خ : (آ).

(٣) فما علم أحدهما فعلم الآخر ـ خ : (د).

(٤) الكثرة ـ خ : (آ).

(٥) أيضا ـ خ : (د).

(٦) لهم ـ خ : (آ).

١٢٠