الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

تحقيق في معنى الأحاديث

والآن يجب التحقيق والتأمّل في نصوص هذه الأحاديث ، لنقف على مدلولها الصحيح.

قبل كلّ شيء ، يجب أن نعلم ـ كأصلٍ عام ـ أنّه كما تكون آية قرآنية مفسِّرة لآية أُخرى ، كذلك الأحاديث يكون أحدها مفسِّراً للآخر وموضّحاً وكاشفاً عن غموضه.

لقد تمسّك الوهّابيّون بظاهر حديثٍ واحد ، واستنتجوا منه حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها ، في حين أنّهم لو كانوا يصهرون الأحاديث كلّها في بوتقة واحدة ، لكانوا يفهمون ما عناه الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

هؤلاء أغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد ، ممّا أدّى بهم إلى تفسير كثير من الأحاديث تفسيراً خاطئاً.

أقول : إنّ ما تمسّك الوهّابيّون به ـ على حرمة بناء المسجد عند القبر ـ من أحاديث إنّما يكون مقبولاً إذا كانت أسناده صحيحة ورواتها ثقاتاً ، وإلّا فلا تصلح تلك الأحاديث للاستدلال أبداً.

وبما أنّ التحدّث عن أسناد كلّ هذه الأحاديث يؤدّي إلى إطالة الكلام ، لهذا نختصر الحديث عمّا تضمّنته تلك الأحاديث فنقول :

أمّا الحديث الأوّل وهو : «لمّا مات الحسن بن الحسن ضربتْ امرأته القبَّة على قبره ...» إلى آخره ، فهو نقيضٌ لمذهب الوهّابيّين ، إذ أنّه دليل على جواز نصب المظلَّة والقبَّة على القبر ، والوهّابيّون يُحرّمون مطلق الظِّلال ، سواء كان مظلّة أو قُبَّة وبناء.

فهذا الحديث يدلّ على جواز نصب المظلَّة وإقامة القبّة على القبر ، ولو كان

٨١

ذلك حراماً لما صدر من امرأة الحسن بن الحسن ، لأنّه كان بمرأى ومسمع من التابعين وفقهاء المدينة.

ولعلَّها نصبت تلك القبَّة لأجل زيارة القبر وتلاوة القرآن عنده ، وقاية من الحرّ والبرد وغيرهما.

وأمّا قول الراوي : «فسمعوا صائحاً يقول ...» فهو أشبه بقول غير الصالح ، لأنّه نوع من الشماتة ـ والشماتة ليست من أخلاق الصالحين ـ ومثله في ذلك ما أجابه الصائح المزعوم الآخر.

إنّ إقامة تلك المرأة على قبر زوجها الفقيد لم يكن على أمل عودته إلى الحياة ، حتّى يقال : إنّها يئست ، بل كان لتلاوة القرآن وغيره.

والخلاصة : إنّ قول ذلك الصائح المزعوم وجواب الآخر ليس حجّة شرعية ، إذ ليس من كتاب الله ولا من السنّة الشريفة ولا هو كلام معصوم.

وأمّا بالنسبة إلى الأحاديث الّتي تلعن اليهود والنصارى وتُحذّر المسلمين من التشبّه بهم ، فنقول :

إنّ التعرّف على مغزى هذه الأحاديث يتوقّف على معرفة ما كان يقوم به اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم ، ذلك لأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّما نهى عن القيام بما كان يقوم به اليهود والنصارى ، فإذا عرفنا عملهم ، عرفنا ـ بالتَّبع ـ الحرام المنهيّ عنه.

أقول : إنّ هنا قرائن شاهدة على أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم قبلةً لهم تصرفهم عن التوجّه إلى القبلة الواجبة ، وأكثر من ذلك ... كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم بدل أن يعبدوا الله الواحد القهار ، أو كانوا يجعلون أنبياءهم شركاء مع الله سبحانه في العبادة.

٨٢

فإذا كان المعنى ـ في تلك الأحاديث ـ أن لا تتخذوا قبور الصالحين قبلة لكم ، أو : لا تجعلوهم شركاء مع الله تعالى في العبادة ، فلا يمكن الاستدلال ـ بأيّ وجه ـ على حرمة البناء على قبورهم أو عندهم ، لأنّ الزائرين لا يتّخذون تلك القبور قبلة لهم ولا يعبدونهم ولا يجعلونهم شركاء في العبادة ، بل كلّهم مؤمنون بالله موحّدون له ، ويتوجّهون ـ في صلواتهم ـ إلى الكعبة المقدَّسة ، والهدف من بناء المسجد عند تلك القبور هو التبرّك بالأرض الّتي احتضنت أجسادهم الطاهرة.

فالمهم هو أن يثبت لنا أنّ هدف هذه الأحاديث من عدم اتخاذ القبور مساجد هو ما ذكرناه ، وإليك القرائن الدالّة على ذلك :

١. الحديث المذكور في صحيح مسلم ـ وهو الحديث رقم ٤ ـ يوضّح الأحاديث الأُخرى ، فحينما قالت أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ـ زوجتا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأنّهما رأتا تصاوير في إحدى كنائس الحبشة ، قال النبيّ :

«إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك التصاوير ...».

فالهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إنّما كان لأجل السجود عليها وعلى القبر ، بحيث يكون القبر والصورة قبلة لهم ، أو كانتا كالصنم المنصوب يُعبدان ويُسجدان لهما.

إنّ هذا الاحتمال ـ اللائح من هذا الحديث ـ ينطبق مع ما عليه المسيحيّون من عبادة المسيح ووضع التصاوير والتماثيل المجسّمة له وللسيّدة مريم عليهما‌السلام.

ومع هذا المعنى فلا يمكن الاستدلال بهذه الأحاديث على حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها من دون أن يكون في ذلك أيّ شيء يوحي بالعبودية ، كما عليه المسيحيّون.

٨٣

٢. يروي أحمد بن حنبل في مسنده ومالك بن أنس في «الموطّأ» تتمّة لهذا الحديث ، وهو أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال ـ بعد النهي عن اتخاذ القبور مساجد ـ :

«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَناً يُعْبَد». (١)

إنّ هذا يدلّ على أنّ أُولئك كانوا يتّخذون القبر والصورة الّتي عليها قبلة يتوجّهون إليها ، بل صنماً يعبدونه من دون الله سبحانه.

٣. إنّ التأمّل في حديث عائشة ـ الحديث الثاني ـ يزيد في توضيح هذه الحقيقة ، حيث إنّها بعد الرواية عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تقول :

«لو لا ذلك لأبرزوا قبره ، غير أنّي أخشى أن يُتَّخذ مسجداً».

ونتساءل : إقامة الجدار حول القبر يمنع عن أيّ شيء؟!

من الثابت أنّ الجدار يمنع من الصلاة على القبر نفسه وأن يتّخذ وثناً يُعبد ، وعلى الأقل لا يكون قبلة يُتوجّه إليها.

أمّا الصلاة بجوار القبر ـ من دون عبادة القبر أو جعله قبلة للعبادة ـ فلا يمنع منها ، سواء أكان هناك حاجز يحجز القبر عن الرؤية أم لا ، وسواء أكان القبر بارزاً أم لا ، وذلك لأنّ المسلمين ـ منذ أربعة عشر قرناً ـ يُصلّون بجوار قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حين أنّهم يتوجّهون إلى الكعبة ويعبدون الله تعالى ، فوجود الحاجز لم يمنع من هذا كلّه.

والخلاصة : أنّ تتمة الحديث الثاني ـ الّتي هي من كلام عائشة ـ تُوضّح معنى الحديث ، لأنّها تذكر السبب الّذي منع من إبراز قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأنّه للحيلولة دون اتّخاذه مسجداً ، ولهذا أُقيم الجدار الحاجز حول القبر الشريف.

فالحاجز يمنع من شيئين :

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٢٤٨.

٨٤

١. من أن يتحوّل القبر إلى وثن يقف الناس بين يديه يعبدونه ، فمع وجود الحاجز لا يمكن رؤية القبر فلا يمكن اتّخاذه وثناً للعبادة.

٢. من أن يُتَّخذ قبلة ، ذلك لأنّ اتّخاذه قبلة فرع رؤيته.

فإن قال قائل : إنّ الكعبة قبلة للمسلمين في حين أنّ أكثر المسلمين لا يرونها وقت العبادة.

فالجواب : لا تصحّ المقارنة والمقايسة بين الكعبة والقبر ، لأنّ الكعبة قبلة عامّة وعالمية لجميع المسلمين في كافّة أرجاء الكرة الأرضية ، وليست قبلة للعبادة فقط ، بل للعبادة وغيرها كالذبيحة والدفن وما شابه ، فهي قبلة في جميع الأحوال ، ولا علاقة للرؤية فيها بأيّ وجه.

أمّا اتّخاذ قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قبلة ، فإنّما يمكن للّذين يتواجدون في مسجده ويقيمون الصلاة عنده ، فإبراز القبر الشريف يمهّد لهذا الاحتمال ـ على رأي عائشة طبعاً ـ بينما يكون الستر مانعاً عن ذلك.

٤. ومن القرائن الدالّة على أنّ نهي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّما هو عن عبادة القبور ، هو أنّ الكثير من شارحي صحيح البخاري ومسلم فسّروا الحديث بمثل ما فسّرناه ، وفهموا منه مثل ما فهمناه ... فمثلاً :

يقول القسطلاني ـ في كتاب إرشاد الساري ـ :

إنّما صوّر أوائلهم الصُّور ليستأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا الله عند قبورهم ، ثمّ خَلَفهم قوم جهلوا مرادهم ، ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويُعظّمونها ، فحذَّر النبي عن مثل ذلك.

إلى أن يقول :

٨٥

قال البيضاوي : لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً ، مُنع المسلمون في مثل ذلك ، فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرُّك بالقرب منه ـ لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه ـ فلا يدخل في الوعيد المذكور. (١)

وليس القسطلاني منفرداً في هذا الشرح ، بل يقول به السندي ـ شارح السُّنن للنسائي ـ حيث يقول :

«اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أي : قبلة للصلاة ويُصلّون إليها ، أو بنوا مساجد عليها يُصلّون فيها. ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يُفضي إلى عبادة نفس القبر. (٢)

ويقول أيضاً :

يُحذّر (النبي) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتّخاذهم تلك القبور مساجد ، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها ، أو بجعلها قبلة يتوجّهون في الصلاة إليها. (٣)

ويقول النووي ـ في شرح صحيح مسلم ـ :

قال العلماء : إنّما نهى النبي عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداً ، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به ، فربّما أدّى ذلك إلى الكفر ، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية ، ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد

__________________

(١) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري. وقد مال إلى هذا المعنى ابن حجر ـ في فتح الباري : ٣ / ٢٠٨ حيث قال : إنّ النهي إنّما هو عمّا يؤدّي بالقبر إلى ما عليه أهل الكتاب ، أمّا غير ذلك فلا إشكال فيه.

(٢) السنن للنسائي : ٢ / ٢١ مطبعة الأزهر.

(٣) نفس المصدر السابق.

٨٦

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين كثر المسلمون وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمّهات المؤمنين فيه ، ومنها حجرة عائشة ، مدفن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصاحبيه بَنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله ، لئلّا يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام ...

ولهذا قالت «عائشة» في الحديث : ولو لا ذلك لأبرزوا قبره ، غير أنّه خُشي أن يُتَّخذ مسجداً. (١)

ويقول شارح آخر :

إنّ حديث عائشة يرتبط بالمسجد النبوي قبل الزيادة فيه ، أمّا بعد الزيادة وإدخال حجرتها فيه ، فقد بنوا الحجرة بشكل مثلَّث كي لا يتمكن أحد من الصلاة على القبر ...

إنّ اليهود والنصارى كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم أو يجعلونهم شركاء في العبادة.

أقول : مع هذه القرائن ومع ما فهمه شُرّاح الحديث لا بدّ من القول به ، ولا يمكن استنتاج غير ذلك أو الفتوى بغيره.

ومع غضّ النظر عن هذه القرائن ، فإنّنا نعالج المسألة بما يلي :

١. إنّ مورد الحديث هو ما إذا كان المسجد مبنيّاً فوق القبر ، فلا علاقة له بالمشاهد المشرَّفة ، لأنّ المسجد ـ في كلّ المشاهد ـ ما عدا مسجد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّما هو بجوارها لا عليها ، بشكل ينفصل أحدهما عن الآخر.

وبعبارة أُخرى : هناك حرم وهناك مسجد ، فالحرم خاصٌّ للزيارة والتوسّل إلى الله تعالى بذلك الوليّ الصالح ، والمسجد ـ بجواره ـ للصلاة والعبادة ، فالمشاهد المشرَّفة ـ في هذه الحالة ـ خارجة عن مفاد الحديث ومعناه ـ على فرض أن يكون

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للنووي : ٥ / ١٣ ـ ١٤.

٨٧

مفاده ما يدّعيه الوهّابيّون ـ.

وبعد هذا كلّه ... كيف يمكن القول بحرمة بناء المسجد بجوار القبر أو كراهته في حين أنّنا نرى بأعيننا أنّ مسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقع بجوار قبره الشريف؟!

إذا كانت الصحابة كالنجوم ويجب الاقتداء بهم ، فلما ذا لا يُقتدى بهم في هذا المجال؟! إنّ أُولئك زادوا في المسجد زيادات كثيرة بحيث استقرَّ قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في وسط المسجد ، بعد أن كان المسجد في الجانب الشرقي من القبر الشريف وبسبب الزيادات الكثيرة دخل الجانب الغربي من القبر أيضاً في المسجد.

فإذا كان بناء المسجد بجوار قبور الصالحين حراماً فلما ذا أحدث المسلمون هذه الزيادات فيه من جميع أطرافه؟!

فهل معنى الاقتداء ب «السَّلف» و «السَّلفية» ـ الّتي ينادي بها الوهّابيّون ـ هو الاقتداء بهم في موضوع واحد وترك الموارد الأُخرى؟!

ومن هنا نعرف أنّ ما قاله ابن القيّم من «أنّ القبر والمسجد لا يجتمعان معاً» مخالف لسيرة المسلمين السَّلَف ولا أساس لكلامه من الصحّة أبداً.

٢. وفي خاتمة المطاف نذكر أمرين :

الأوّل : إنّ كلّ ما يستفاد من هذه الأحاديث ـ على فرض صحّتها ـ هو أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نهى عن بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها ، ولكن لا يوجد دليل قطعي يثبت أنّ هذا النهي هو نهيٌ تحريمي ، بل يحتمل أن يكون نهياً تنزيهيّاً ـ وبالاصطلاح ـ كراهيّاً ، وهذا بالضبط ما استنبطه البخاري في صحيحه حيث ذكر هذه الأحاديث تحت عنوان : «باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور». (١)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١١١.

٨٨

ويشهد لذلك أيضاً أنّ النهي مقرون بلعن «زائرات القبور». (١)

ومن الثابت أنّ زيارة القبر للمرأة مكروه ـ بسبب بعض الأُمور ـ لا حرام. كيف؟! وقد كانت فاطمة سيدة نساء العالمين تزور قبر عمّها حمزة في كلّ أُسبوع.(٢)

وقد زارت السيدة عائشة قبر أخيها عند ما وردت مكة المكرمة (٣) إلى غير ذلك من الدلائل القاطعة على أنّه تجوز للمرأة زيارة القبور.

فإذا كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يلعن زائرات القبور ، فلا يدلّ اللعن على الحرمة ، لأنّ كثيراً من المكروهات ورد اللعن على مرتكبها ـ في الأحاديث ـ والهدف من اللعن هو شدّة الكراهية والبعد عن رحمة الله تعالى ، فمثلاً جاء في الحديث :

«لعن الله ثلاثة : آكل زاده وحده ، والنائم في بيت وحده ، وراكب الفلاة وحده».(٤)

مع العلم أنّ هذه الثلاثة ليست محرّمة.

وفي ختام هذا الفصل نؤكّد على أنّ بناء المساجد على قبور الصالحين كانت سُنّة مشهورة في صدر الإسلام.

يقول السمهودي في حديث ذكر فيه وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد أُمّ الإمام أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ :

«فلمّا توفيت خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأمر بقبرها فحُفر في موضع المسجد الّذي يُقال له اليوم : قبر فاطمة». (٥)

__________________

(١) السُّنن للنسائي : ٣ / ٧٧ ، طبعة مصر.

(٢) سيوافيك مصدره.

(٣) سيوافيك مصدره.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٣٦٤ ؛ كنز العمال : ١٦ / ٤٠٢ ؛ مسند أحمد : ٢ / ٢٨٧.

(٥) وفاء الوفا : ٣ / ٨٩٧ ، تحقيق محمّد محيي الدين.

٨٩

ويقصد السمهودي أنّ موضع قبر فاطمة بنت أسد تحوّل بعد ذلك إلى مسجد. ويقول أيضاً :

«إنّ مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دُفنا تحت المسجد الّذي بُني على قبر حمزة». (١)

وقد كان ذلك المسجد موجوداً حتّى احتلال الوهّابيّين لهذه البقاع المقدّسة ، حيث عمدوا إلى هذا المسجد ـ ومساجد وآثار كثيرة ـ فهدموها بمعاول الحقد.

الثاني : انّ تاريخ اليهود لا يتفق مع مضامين تلك الروايات أساساً ، لأنّ سيرتهم قد قامت على قتل الأنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم.

ويكفي في ذلك قوله سبحانه : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ). (٢)

وقوله سبحانه : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (٣)

وقال سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ...). (٤)

أفتزعم انّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحول إلى أُمّة تشيد المساجد على قبور أنبيائها تكريماً وتبجيلاً لهم.

__________________

(١) وفاء الوفا : ٣ / ٩٢٣ و ٩٣٦.

(٢) آل عمران : ١٨١.

(٣) آل عمران : ١٨٣.

(٤) النساء : ١٥٥.

٩٠

الفصل الرابع :

زيارة القبور

على ضوء الكتاب والسنّة

لقد أفتى علماء الإسلام وفقهاء الشريعة بجواز زيارة القبور ـ وخاصّة قبور الأنبياء والصالحين ـ استناداً إلى مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، وبالإضافة إلى الجواز فإنّهم أفتوا باستحبابها وفضيلتها.

أمّا الوهّابيّون فإنّهم ـ كما يبدو ـ لا يحرّمون أصل الزيارة ، بل يحرّمون السفر وشدّ الرحال إلى زيارة قبور الصالحين. فالبحث هنا في مرحلتين :

١. الزيارة.

٢. السفر للزيارة.

زيارة القبور

ممّا لا شكّ فيه أنّ زيارة القبور تنطوي على آثار أخلاقية وتربوية هامّة ، نشير إليها ـ مختصراً ـ فيما يلي :

إنّ مشاهدة هذا الوادي الهادئ الّذي يضمّ في أعماقه مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذه الحياة الدنيا ثمّ انتقلوا إلى الآخرة ، وهم سواء ... الغني والفقير ، القوي والضعيف ، ولم يصحبوا معهم سوى ثلاث قِطَع من القماش فقط.

٩١

إنّ مشاهدة هذا المنظر يهزّ الإنسان قلباً وروحاً ، ويخفّف فيه روح الطمع والحرص على الدنيا وزخارفها وشهواتها ، ولو نظر الإنسان إليها بعين الاعتبار لغيّر سلوكه في هذه الحياة ، واعتبر لآخرته ، وراح يخاطب نفسه : إنّ هذه الحياة المؤقتة لا بدّ أن تزول ، وإنّ الفترة الّتي أعيشها لا بدّ أن تنتهي ويكون مصيري إلى حفرة عميقة ، تتراكم عليّ تلال من التراب وهناك الحساب ، إمّا ثواب وإمّا عذاب ، فلا تستحقّ هذه الحياة المؤقّتة أن يجهد الإنسان نفسه من أجل المال والجاه والمنصب ، فيظلم هذا ويؤذي ذلك ، ويرتكب الجرائم والمنكرات.

إنّ نظرة تأمّل إلى هذا الوادي الساكن ترقّق القلب مهما كان قاسياً ، وتُسمع الإنسان مهما كان صُماً ، وتُفتح العيون مهما كانت حالكة ، وكثيراً ما تدفع بالإنسان إلى إعادة النظر في سلوكه وحياته ، والشعور بالمسئوليات الكبيرة أمام الله تعالى وأمام الناس.

يقول الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١. «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّها تُذَكِّركُمُ الآخِرَة». (١)

بالرغم من أنّ مسألة زيارة القبور ليست بحاجة إلى إقامة الدليل والبرهان على صحّتها وضرورتها ، ولكننا نضطر إلى التحدّث عنها لأُولئك الذين يتوقّفون فيها.

القرآن وزيارة القبور

إنّ الله تعالى ينهى حبيبه محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن الصلاة على جنازة المنافق والقيام على قبره ، فيقول سبحانه :

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ١١٣ ، باب ما جاء في زيارة القبور.

٩٢

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). (١)

فالآية تسعى لهدم شخصية المنافق ، وهزّ العصا في وجوه حزبه ونظائره ، والنهي عن هذين الأمرين بالنسبة للمنافق وبيان انّ هذين من خصائص المؤمنين لا للمنافقين.

والآن يجب أن ننظر في قوله تعالى : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ما معناه؟

هل المعنى هو القيام وقت الدفن فقط حيث لا يجوز ذلك للمنافق ويستحبّ للمؤمن؟ أم المعنى أعمّ من وقت الدفن وغيره؟

الجواب : نظر بعض المفسّرين إلى الآية نظرة ضيّقة فقال بالقول الأوّل ، ولكنّ بعضاً آخرين ـ كالبيضاوي وغيره ـ نظروا إليها نظرة واسعة فقالوا : إنّ النهي في (لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) هو عن الدفن والزيارة. والتدقيق وإمعان النظر في الآية الكريمة يسوقنا إلى هذا المعنى الأعم ، وذلك لأنّ الآية تتشكّل من جملتين :

الأُولى : (لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً).

إنّ لفظة «أحَدٍ» بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم والاستغراق لجميع الأفراد ، ولفظة «أبداً» تفيد الاستغراق الزمني ، فيكون معناها : لا تُصلّ على أحدٍ من المنافقين في أيّ وقت كان.

فمع الانتباه إلى هذين اللفظين نعرف ـ بوضوح ـ أنّ المراد من النهي عن الصلاة على الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميّت عند الدفن فقط ، لأنّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة ، ولو أُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلى لفظة «أبداً» بل المراد من الصلاة في الآية مطلق الدعاء والترحّم سواء أكان عند

__________________

(١) التوبة : ٨٤.

٩٣

الدفن أم بعده.

فإن قال قائل : إنّ لفظة «أبداً» تأكيد للاستغراق الأفرادي لا الزماني.

فالجواب بوجهين :

١. إنّ لفظة «أحدٍ» أفادت الاستغراق والشمول لجميع المنافقين.

٢. إنّ لفظة «أبداً» تُستعمل في اللغة العربية للاستغراق الزماني ، كما في قوله تعالى:

(... وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ...). (١)

فالنتيجة : أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق وعن الاستغفار له ، سواء كان بالصلاة عليه أو بغيرها. سواء كان حين الدفن أم بعده.

الثانية : (لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

إنّ مفهوم هذه الجملة ـ مع الانتباه إلى أنّها معطوفة على الجملة السابقة ـ هو : لا تقم على قبر أحدٍ منهم أبداً ، لأنّ كلّ ما ثبت للمعطوف عليه من القيد ـ أعني : «أبداً» ـ يثبت للمعطوف أيضاً ، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من القيام على القبر هو وقت الدفن ، فقط ، لأنّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام على القبر وقت الدفن ، ولفظة «أبداً» المقدَّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل ، فهذا يدلّ على أنّ القيام على القبر لا يختصّ بوقت الدفن. بل يعمّه وغيره فهو حرام في حقّ المنافق وجائز في حقّ المؤمن.

فيكون معنى الآية الكريمة : إنّ الله تعالى ينهى نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق ، سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء ، وينهى عن مطلق القيام على القبر ، سواء كان عند الدفن أو بعده.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

٩٤

ومفهوم ذلك هو أنّ هذين الأمرين يجوزان للمؤمن.

وبهذا ثبت جواز زيارة قبر المؤمن وجواز الصلاة والدعاء على روحه ، حتّى بعد مئات السنين.

هذا بالنسبة إلى المرحلة الأُولى وهي أصل الزيارة من وجهة نظر القرآن ، وأمّا بالنسبة إليها من ناحية الأحاديث فإليك بيانها :

الأحاديث الشريفة وزيارة القبور

يستفاد من الأحاديث الشريفة ـ الّتي رواها أصحاب الصحاح والسُّنن ـ أنَّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نهي عن زيارة القبور نهياً مؤقّتاً لأسباب خاصّة ، ثمّ رفع النهي ورغّب في الزيارة.

ولعلّ علّة النهي المؤقّت هي أنّ الأموات كانوا مشركين وعبدة للأصنام ، وقد قطع الإسلام كلّ العلاقات مع الشرك وأهله ، فنهى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن زيارة الأموات. (١)

ويحتمل أن تكون العلّة شيئاً آخر ، وهو أنّ المسلمين كانوا حديثي العهد بالإسلام ، فكانوا ينوحون على قبور موتاهم نياحة باطلة تُخرجهم عن نطاق الشريعة ، ولمّا تمركز الإسلام في قلوبهم وأنسُوا بالشريعة والأحكام ، ألغى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأمر الله تعالى النهي عن زيارة القبور ، لما فيها من الآثار الحسنة والنتائج الطيّبة ، ولهذا روى أصحاب الصحاح والسُّنن أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

١. «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زيارَة الْقُبُور ، فَزُورُوها فَإِنَّها تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيا وتُذَكِّرُ

__________________

(١) ويؤيّد هذا الاحتمال ما كان يقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند زيارته لأهل القبور : «دار قوم مؤمنين» كما سيأتي تفصيله.

٩٥

الآخِرَة». (١)

وعلى هذا الأساس كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يزور قبر أُمّه السيّدة آمنة بنت وهب ـ رضوان الله عليها ـ وكان يأمر الناس بزيارة القبور ، لأنّ زيارتها تُذكّر الآخرة.

وقد روى مسلم في صحيحه :

٢. «زَارَ النَّبِيُّ قَبْرَ أُمِّهِ ، فَبَكى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ... وَقالَ : استَأذَنْتُ رَبِّي فِي أنْ أزُورَ قَبْرَها ، فأَذِنَ لي ، فَزُوروا الْقُبُورَ فَإنّها تُذَكِّرُكُمُ الْمَوتَ». (٢)

وقالت عائشة :

٣. «إنّ رسول الله رَخَّصَ في زِيارَة الْقُبُورِ». (٣)

وقالت : إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

__________________

(١) السُّنن لابن ماجة : ١ / ١١٤ ، طبعة الهند باب ما جاء في زيارة القبور ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٢٧٤ ، أبواب الجنائز المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي.

يقول الترمذي ـ بعد نقل هذا الحديث عن بريدة ـ : «حديث بريدة صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم ، ولا يرون بزيارة القبور بأساً ، وهو قول ابن المبارك والشافعي وإسحاق».

وفي هذا المجال يحسن مراجعة المصادر الآتية :

أ. صحيح مسلم : ٣ / ٦٥ باب استئذان النبي ربّه عزوجل في زيارة قبر أُمّه.

ب. سنن أبي داود : ٢ / ١٩٥ ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور.

ج. صحيح مسلم : ٤ / ٧٣ ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٩٥ ، كتاب الجنائز طبعة مصر ؛ صحيح مسلم : ٣ / ٦٥ ، باب استئذان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ربّه عزوجل في زيارة قبر أُمّه ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ١١٤.

أقول : إنّ السبب الّذي يذكرونه لاستئذان النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ زيارة قبر أُمّه هو ـ كما يزعمون ـ لأنّ أُمّه كانت مشركة ، ولكن الثابت الذي لا ريب فيه هو أنّ أُمّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت كآبائه وأجداده من أهل الإيمان والتوحيد ، من هنا فانّ هذا التوجيه والتفسير مخالف لأُصول العقيدة الإسلامية ويمكن أن يكون له تفسير آخر.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ١١٤.

٩٦

٤. «فَأَمرَني رَبّي أن آتي الْبَقيعَ فَأستَغْفرَ لهُمْ».

قلت : كَيْفَ أقُولُ يا رَسُولَ الله؟

قال : قُولي : السَّلامُ عَلى أهلِ الدِّيارِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُسْلِمينَ ، يَرْحَمُ الله الْمُسْتَقدِمينَ مِنّا وَالمُسْتأخِرينَ ، وَإنّا إن شاء الله بِكُمْ لاحِقُونَ». (١)

وجاء في أحاديث أُخرى نصّ الكلمات الّتي كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقولها عند زيارة القبور ، وهي :

٥. «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دارَ قَومٍ مُؤْمِنينَ ، وَإنّا وإيّاكُمْ مُتَواعِدُونَ غَداً وَمُواكِلُونَ ، وَإنّا إن شاء الله بِكُمْ لاحِقُونَ اللهمّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقيعِ الْغَرقَد». (٢)

وجاء في حديث آخر نصّ الكلمات بما يلي :

«السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهْلِ الدِّيار مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُسْلِمينَ وَإنّا إن شاء الله بِكُمْ لاحِقُونَ ، أَنْتُمْ لَنا فَرطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ ، أسألُ الله الْعافِيَةَ لَنا وَلَكُمْ». (٣)

وفي حديث ثالث :

«السَّلامُ عَلَيْكُمْ دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ ، وإنّا إنْ شاءَ الله بِكُمْ لاحِقُونَ». (٤)

ويستفاد من حديث عائشة أنّ النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يخرج إلى البقيع في آخر الليل من كلّ ليلة ، ويقول :

«السَّلامُ عَلَيْكُمْ دارَ قَومٍ مُؤْمِنينَ ، وأتاكُمْ ما تُوعَدُونَ غَداً مؤجَّلُونَ ، وَإنّا إنْ شاء الله بِكُمْ لاحِقُونَ ، اللهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقيع الْغَرْقَدِ». (٥)

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور ؛ السنن للنسائي : ٣ / ٧٦.

(٢) السنن للنسائي : ٤ / ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) السنن لأبي داود : ٢ / ١٩٦.

(٥) صحيح مسلم : ٣ / ٦٣ ، باب ما يقال عند دخول القبر.

٩٧

ويستفاد من حديث آخر أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يزور المقابر مع جماعة من أصحابه ، ويُعلّمهم كيفية الزيارة :

«كانَ رَسُولُ الله يُعَلِّمُهُمْ ـ إذا خَرَجُوا إلى الْمَقابِرِ فَكانَ قائِلُهُمْ يَقُولُ : السَّلامُ عَلى أَهْلِ الدِّيارِ ـ أو ـ السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيارِ مِنَ المؤمنينَ وَالْمُسْلِمينَ ، وإنّا إنْ شاء الله للاحِقُونَ ، أسألُ الله لَنا ولَكُمُ الْعافِيَة». (١)

النساء وزيارة القبور

المسألة الأخيرة الّتي ينبغي التحدّث عنها هي : زيارة النساء للقبور ، وقد روي في بعض الأحاديث أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نهى عن زيارة النساء للقبور :

«لَعَنَ رَسُولُ الله زَوّارات الْقُبُور». (٢)

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ تحريم النساء من زيارة القبور ـ استدلالاً بهذا الحديث ـ غير صحيح ، وذلك لعدّة أُمور :

أوّلاً : إنّ كثيراً من العلماء يعتبرون هذا النهي نهي تنزيه وكراهة ، وقد جاءت الكراهة لأسباب خاصّة بذلك الزمان ، يشير إليها صاحب كتاب «مفتاح الحاجة في شرح صحيح ابن ماجة» فيقول :

«اختلفوا في الكراهة هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ ذهب الأكثر إلى الجواز إذا أمِنَت الفتنة».

ثانياً : (٣) لقد مرّ عليك ـ في حديث عائشة ـ أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ رخّص في زيارة القبور. (٤)

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦٥ ، باب ما يقال عند دخول القبر.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٧٨ ، كتاب الجنائز الطبعة الأُولى بمصر.

(٣) حواشي سنن ابن ماجة : ١ / ١١٤ ، طبعة الهند.

(٤) راجع الحديث رقم ٣.

٩٨

فلو كان الترخيص خاصّاً بالرجال لكان اللازم أن تذكر عائشة ذلك ، وتقول : انّ الترخيص خاص بالرجال ولا يعمّ النساء وليس في كلامها ما يدلّ على التخصص.

ثالثاً : وقد مرّ عليك أيضاً أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علّم عائشة ما ينبغي قوله عند زيارة القبور ، فلو كانت الزيارة محرمة عليها فما معنى هذا التعليم؟! (١)

كانت عائشة تزور القبور بعد رسول الله. يروي الترمذي أنّه لمّا مات عبد الرحمن بن أبي بكر ـ شقيق عائشة ـ في «الجُنْتى» حملوا جثمانه إلى مكّة ودفنوه فيها ، ولمّا جاءت عائشة إلى مكّة ـ من المدينة ـ خرجت لزيارة قبر أخيها وأنشدت بيتين من الشعر في رثائه.(٢)

يقول شارح صحيح الترمذي ـ الحافظ ابن العربي المولود سنة ٤٣٥ ه‍ والمتوفّى سنة ٥٤٣ ه‍ ـ :

«الصحيح أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سمح للرجال والنساء بزيارة القبور ، والّذي يقول بالكراهة فإنّما هو بسبب جزعهنّ عند القبر وقلّة صبرهنّ ، أو لعدم رعايتهنّ للحجاب».

رابعاً : يروي البخاري عن أنس أنّه قال :

«مرّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بامرأة تبكي عند قبر ، فقال : اتّقي الله واصبري.

قالت : إليك عنّي فإنّك لم تُصبْ بمصيبتي ، ولم تعرفه.

فقيل لها : إنّه النبيّ! فأتت باب النبي ... فقالت : لم أعرفك!

__________________

(١) راجع الحديث رقم ٤.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٢٧٥ ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في زيارة القبور.

٩٩

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّما الصبر عند الصدمة الأُولى». (١)

فإذا كانت زيارة القبور محرّمة لنهاها النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن الزيارة ، ولكنّك ترى أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوصاها بالتقوى والصبر عند المصيبة ، ولم ينهاها عن زيارة المقابر.

خامساً : إنّ السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت تخرج إلى زيارة قبر عمّها حمزة ـ في كلّ جمعة أو أقلّ من ذلك ـ وكانت تصلّي عند قبره وتبكي. (٢)

سادساً : يقول القرطبي :

«لم يلعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كلّ امرأة تزور القبور ، بل لعن المرأة الّتي تزور القبور دوماً والدليل على ذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «زوّارات القبور» وكلمة «زوّار» هي صيغة المبالغة ، وتدلّ على الكرّة والتكرار». (٣)

ولعلّ العلّة في لعن «زوّارات القبور» هي أنّ الإكثار منها يؤدّي إلى ضياع حقّ الزوج ويجرّها إلى التبرّج المنهيّ عنه ، ويكون مصحوباً بالبكاء بصوتٍ عال ، ولكن لو كانت الزيارة خالية عن كلّ محذور فلا إشكال فيها أبداً ، لأنّ تذكّر الموت والآخرة ممّا يحتاج إليه الرجل والمرأة على السواء.

سابعاً : إنّ زيارة القبور ـ في الوقت الّذي تؤدّي إلى الزهد في الدنيا وزخارفها تعود بالنفع على الميّت الراقد تحت أكوام التراب ، إذ أنّ الزيارة ـ عادة ـ تكون مقرونة بتلاوة سورة الفاتحة وإهدائها إلى روح ذلك الميّت ، وهذه الهديّة هي أفضل ما يقدّمه الإنسان الحيّ إلى روح فقيده الغالي.

يروي ابن ماجة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال :

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٧٩ ، كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور.

(٢) مستدرك الصحيحين : ١ / ٣٧٧ ، وفاء الوفا : ٢ / ١١٢.

(٣) جاء في سنن أبي داود : «زائرات» بدل «زوّارات».

١٠٠