الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومدفن عدّة من الأئمّة الطاهرين والأولياء الصالحين إنّما هو في بيوتهم ، فتشييد هذه البيوت وصيانتها من الخراب والاندثار عملٌ جائز بنصّ الآية الكريمة ، بل هو محبوب ومرغوب فيه.

وإن كان المراد منه هو الرفع المعنوي والعظمة المعنوية ، كانت النتيجة من الإذن برفعها هو الإذن بتكريمها وتبجيلها وصيانتها وتطهيرها ممّا لا يليق بشأنها.

وعلى كلّ حال ، فالإذن في الرفع ـ سواء أكان ماديّاً أم معنوياً ـ إنّما جاء بسبب وجود الرجال الصالحين الذين يذكرون الله سبحانه فيه بالغدوّ والآصال.

بعد هذه الآية وآيات أُخرى مماثلة كيف يجوز للوهّابيّين أن يهدموا بيوت آل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّتي كانت مهبطاً لملائكة الله ومركزاً لذكر الله ونشر دينه وأحكامه؟!!

كيف يجوز لهم أن يهدموا هذه المراقد المقدّسة الّتي هي مهوى أفئدة ملايين المؤمنين ، وكانوا يزورونها ـ رجالاً ونساءً ، صباحاً ومساءً ـ ويذكرون الله فيها بالصلاة والدعاء والتسبيح؟!

لما ذا أقدم الوهّابيّون على تحقير هذه البيوت المقدّسة وإذلالها وإهمالها ، وحوّلوها إلى قفار موحشة مهجورة ، يُرثى لها ويحنّ قلب كلّ مؤمن لوضعها المأساوي؟!

لما ذا؟ ولما ذا؟

وقد روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك وبريدة : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قرأ قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ...) فقام إليه رجل وقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : بيوت الأنبياء.

٤١

فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله وهذا البيت منها؟ ـ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ـ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : نعم ، من أفاضلها. (١)

إلى هنا تمّ بيان ما هو رأي القرآن الحكيم في البناء على القبور ، وإليك دراسة رأي الأُمّة الإسلامية حوله.

ب : الأُمّة الإسلامية والبناء على القبور

عند ما انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، وعمّ نوره منطقة واسعة من الشرق الأوسط ، كانت لقبور الأنبياء ـ الّتي كانت معروفة يومذاك ـ بناء وسقف وظلال ، وكانت لبعضها قباب مشيَّدة وضرائح منضّدة ، لا زال البعض منها موجوداً حتّى الآن.

وفي مكّة نفسها ترى قبر النبيّ إسماعيل وأُمّه هاجر عليهما‌السلام يستقرّان في الحِجر المعروف بحجر إسماعيل ، كما أنّ قبر النبيّ دانيال يقع في مدينة شوش في إيران ، وقبور الأنبياء هود وصالح ويونس وذي الكفل ـ عليهم‌السلام ـ في العراق ، وكذلك قبر النبيّ إبراهيم وأولاده إسحاق ويعقوب ويوسف تقع في القدس المحتلّة ، بعد أن كانت في مصر ، فنقل النبيّ موسى ـ بأمر الله تعالى ـ أجسادهم الطاهرة إلى القدس ، ولا زالت موجودة حتّى الآن ولكلٍّ منها معالم وأبنية مشيَّدة. كما أنّ قبور لفيف من الأنبياء في الأُردن وعليها بناء مشيّد.

وقبر أُمّ البشر السيدة حوّاء يقع في مدينة «جدّة» بالحجاز ـ على ما هو المشهور ـ وقد سُمّيت المدينة ب «جدّة» نظراً إلى مثوى السيّدة حواء فيها ، وقد كان

__________________

(١) تفسير الدرّ المنثور : ٥ / ٥٠. وفي سؤال أبي بكر عن بيت عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وجواب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مجال للتأمّل والتعليق ، لما كان يعلمه النبيّ بما سيتعرض له هذا البيت المقدّس بعد وفاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

٤٢

لقبرها آثار مشهودة ، ولمّا احتلّ الوهّابيّون الحجاز عمدوا إلى محو آثاره وطمس معالمه!

كلّ هذه المراقد والقبور كانت بمرأى من المسلمين يوم فتحوا تلك البلاد ، ومع ذلك لم يصدر منهم أيّ ردّ فعل سلبي تجاهها ، ولم يأمروا بهدمها وتخريبها ، فلو كان البناء على القبور ودفن الموتى في مقابر مسقَّفة عملاً محرّماً في الإسلام ، لكان المفروض على أُولئك المسلمين أن يقوموا ـ قبل كلّ شيء ـ بهدم تلك القبور الّتي لا زالت متواجدة ، في مناطق متعدّدة من القدس والأُردن والعراق ، ولكانوا يمنعون من تجديد بنائها أو إعادته على مرّ العصور والأزمان ، ولكنّنا نرى أنّهم لم يأمروا بهدمها فحسب ، بل دأبوا على تعميرها وصيانتها طوال أربعة عشر قرناً.

لقد كانوا يدركون ـ بوحي من العقل ـ أنّ حماية آثار الأنبياء وصيانتها إنّما هي نوع من الاحترام لهم ، وأنّ ذلك (تكريمهم ـ لا عبادتهم ـ) يقرّبهم إلى الله عزوجل ويُنيلهم الأجر والثواب.

يقول ابن تيميّة ـ في كتابه الصراط المستقيم ـ :

«عند ما تمّ فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية ولكن أبوابها كانت مغلقة حتى القرن الرابع الهجري». (١)

فلو كان البناء على القبور حراماً لكان هدمه واجباً ، ولم يكن هناك مبرّر لتركها على حالها مغلّقة الأبواب ، بل كان الإسراع إلى هدمها واجبا ، على فرض صحّة قول ابن تيميّة من إغلاق أبوابها إلى القرن الرابع.

وخلاصة القول : إنّ بقاء تلك الأبنية والقباب على القبور طوال هذه الفترة ، وبمرأى علماء الإسلام وفقهائه دليل واضح على جوازها في الدين الإسلامي المقدّس.

__________________

(١) كشف الارتياب : ٣٨٤.

٤٣

الآثار الإسلامية دليل على أصالة الدين

ممّا لا شكّ فيه أنّ المحافظة على آثار الأنبياء ـ وخاصّة آثار النبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من قبره وقبور زوجاته وأولاده وأصحابه ، وكذلك بيوتهم الّتي كانوا يسكنون فيها ، والمساجد الّتي كانوا يقيمون الصلاة فيها ـ لا شكّ انّ فيها نتائج محمودة وفوائد كثيرة نذكر منها ما يلي :

اليوم وبعد مضي عشرين قرناً على ميلاد السيّد المسيح ـ عليه‌السلام ـ تحوّل المسيح وأُمّه العذراء وكتابه الإنجيل وكذلك الحواريّون ، تحوّلوا ـ في عالم الغرب ـ إلى أُسطورة تاريخية ، وصار بعض المستشرقين يُشكّكون ـ مبدئياً ـ في وجود رجل اسمه المسيح وأُمّه مريم وكتابه الإنجيل ، ويعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لما ذا؟!

لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقي وملموس للمسيح ، فمثلاً لا يُدرى ـ بالضبط ـ أين وُلد؟ وأين داره الّتي كان يسكنها؟ وأين دفنوه بعد وفاته ـ على زعم النصارى أنّه قُتل ـ؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف والتغيير والتزوير ، وهذه الأناجيل الأربعة لا ترتبط إليه بصلة وليست له ، بل هي ل «متّى» و «يوحنا» و «مرقس» و «لوقا» ولهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم ودفنه ، ومن الواضح ـ كالشمس في رائعة النهار ـ أنّها قد كُتبت بعد غيابه.

وعلى هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين والمحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبية الّتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد.

فلو كانت الميزات الخاصّة بعيسى محفوظة ، لكان ذلك دليلاً على حقيقة

٤٤

وجوده وأصالة حياته وزعامته ، وما كان هناك مجال لإثارة الشكوك والاستفهامات من قبل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.

أمّا المسلمون فهم يواجهون العالم مرفوعي الرأس ، ويقولون : يا أيّها الناس لقد بُعث رجل من أرض الحجاز ، قبل ألف وأربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري ، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته وهذه آثار حياته محفوظة تماماً في مكّة والمدينة ، فهذه الدار التي وُلد فيها ، وهذا غار حراء مهبط الوحي والنازل عليه ، وهذا هو مسجده كان يُقيم الصلاة فيه ، وهذا هو البيت الّذي دُفن فيه ، وهذه بيوت أولاده وزوجاته وأقربائه ، وهذه قبور ذرّيته وأوصيائهعليهم‌السلام.

والآن ، إذا قضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجوده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ودلائل أصالته وحقيقته ، ومهّدنا السبيل لأعداء الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة ليس فقط إساءة إليهم عليهم‌السلام وهتكاً لحرمتهم ، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم.

إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة ، وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء حتّى يوم القيامة ، ولا بدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أن تعترف بأصالته وتؤمن بقداسته ، ولأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ أبداً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمّدية ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لكي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة ، حتّى لا يُشكّك أحد في وجود نبي الإسلام ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

لقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسيره وسلوكه حتّى أنّهم

٤٥

سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيته ، حتّى أنّهم سجّلوا ما يرتبط بخاتمه وحذائه وسواكه وسيفه ودرعه ورمحه وجواده وإبله وغلامه ، وحتّى الآبار الّتي شرب منها الماء ، والأراضي الّتي أوقفها لوجه الله سبحانه ، والطعام المفضّل لديه ، بل وكيفيّة مشيته وأكله وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها ، وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا. (١)

ومن خلال مراجعة تاريخ المسلمين وتفقّد البلاد الإسلامية الواسعة واستطلاع معالمها وآثارها يظهر لنا ـ بوضوح ـ أنّ البناء على القبور وصيانتها من الزوال والفناء كان شيئاً متداولاً عند كافّة المسلمين في أنحاء الوطن الإسلامي الكبير ، ولا زالت هناك الضرائح المشيّدة على قبور الأنبياء والأولياء والرجال الصالحين ، ويقصدها المسلمون بالزيارة والدعاء ، وتُعتبر تلك الضرائح من الآثار التاريخية الإسلامية ، وهناك الموقوفات الكثيرة الّتي تُصرف عائداتها لحفظ هذه الآثار وصيانتها ونظافة الساحات المحيطة بها ، وغير ذلك.

ولقد كانت قبور أولياء الله عامرة ومشيّدة حتّى في الحجاز نفسها ـ كانت حتّى قبل فتنة الوهّابيّة واحتلالها للحرمين الشريفين وضواحيهما ـ كانت قبور أولياء الله في كافّة أرجاء الحجاز عامرة ومشيّدة ، تحظى باهتمام المسلمين كافّة ، ولم يكن هناك أيّ عالم ديني يستنكر بقاءها أو يعترض على بنائها وتعميرها.

وليست إيران هي البلد الوحيد الّذي تتواجد فيها الضرائح المشيّدة على قبور أولياء الله تعالى ، بل إنّ ذلك موجود في البلدان الإسلامية ، وخاصّة في مصر وسوريا والعراق والمغرب وتونس والأُردن ، فهناك المقابر المعمورة للعلماء وكبار المسلمين ، ويقوم المسلمون بزيارتها أفواجاً أفواجاً ، ويبتهلون إلى الله تعالى بتلاوة

__________________

(١) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ٣٦٠ ـ ٥٠٣ حول هذا الموضوع.

٤٦

القرآن ـ وخاصّة سورة الفاتحة ـ وإهداء ثوابها إلى روح صاحب القبر الّذي جاءوا لزيارته.

كما أنّ لكلّ من هذه المراقد المشيّدة موظّفين يقومون بالخدمة والحراسة والنظافة والصيانة وغيرها.

مع كلّ ما سبق ... كيف يمكن اعتبار تعمير القبور حراماً ، مع أنّ العادة المتَّبعة عند المسلمين منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا كانت ولا زالت جارية على ذلك ، وهذا ما يُسمّيه الفقهاء والعلماء ب «سيرة المسلمين» وهي الّتي تمتدّ جذورها إلى زمن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو زمن أحدٍ من الأئمّة الطاهرين من أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ.

إنّ هذه السيرة الحسنة تمنح المسلمين الجواز للبناء على قبور أولياء الله ، وبالأحرى ترغّبهم وتشجّعهم على ذلك ولم تتعرّض هذه السيرة ـ طوال وجودها لأيّ نقد أو اعتراض ، وهذا يكشف عن أصالتها وصحتها عند المسلمين طوال التاريخ ـ وأنّها كانت من السُّنن المتّبعة عندهم.

وقد اعترف بهذه الأصالة أحد الكتّاب الوهّابيّين فكتب يقول :

هذا أمرٌ عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً ، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّا وفيها قبور ومشاهد ، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو مشهد ، ولا يسع عقلُ عاقلٍ أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام. (١)

وبالرغم من اعتراف هذا الوهابيّ بأنّ سيرة المسلمين قائمة على إعمار قبور أولياء الله وتكريمها ، فإنّه لا يكفّ عن عناده وسوء سريرته ، فتراه يعتبر ذلك منكراً ويستنكر سكوت العلماء عليه ، وأنّ سكوت أُولئك ـ في تلك الفترة الطويلة ـ لا

__________________

(١) تطهير الاعتقاد : ٣٥ ـ ٣٦ بتلخيص ، طبعة دار الحكمة ، دمشق ـ ١٤١٥ ه‍.

٤٧

يمنع من نهي العلماء عنه في هذه الفترة.

ولكن الردّ عليه واضح : فكيف سكت العلماء سبعة قرون ولم ينطقوا ببنت شفة؟!

فهل كان هؤلاء جميعاً ـ طوال هذه القرون ـ يسكتون على المنكر ويتحفّظون عن النهي عنه ـ على ما زعم ـ؟!

وعند ما فتح المسلمون بيت المقدس ـ في عهد عمر بن الخطاب ـ لما ذا لم يأمر عمر بهدم قبور الأنبياء هناك؟! فهل تعتبرونه مسالماً للمشركين؟!

عود إلى جواب علماء المدينة

وأغرب ما في المقام هو الجواب المنسوب إلى علماء المدينة ... حيث قالوا :

«أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً ، لصحّة الأحاديث الواردة في منعه ، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه».

كيف يصحّ دعوى الإجماع على تحريم البناء على القبور في حين أنّ المسلمين قد دفنوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في البيت الّذي كانت تسكنه عائشة؟ ثمّ دفنوا ـ من بعده ـ أبا بكر وعمر إلى جواره للتبرّك ، وبعدها أقاموا جداراً في وسط البيت ، ليصبح نصفها منزلاً للسيّدة عائشة والنصف الآخر مقبرة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر وعمر ، وبما أنّ ارتفاع الجدار كان قليلاً فقد زيد في ارتفاعه في زمن عبد الله بن الزبير ، ثمّ كان هذا البيت ـ المقبرة ـ يتجدّد أو يُعاد بناؤه بين حين وآخر على مرّ العصور والأزمان ، وفقاً للفنّ المعماريّ الخاصّ بكلّ عصر ، وفي عهد الأمويّين والعبّاسيّين كان البناء على القبر يحظى باهتمام بالغ ، وكان يتجدّد كما يقتضيه الفنّ المعماريّ الخاصّ بكلّ عصر.

٤٨

وآخر بناء أُقيم على القبر الشريف ـ والّذي لا زال حتّى الآن ـ كان في عهد السلطان عبد الحميد في عام ١٢٧٠ ه‍ واستغرق أربع سنوات ، وبإمكانك ـ أيّها القارئ ـ مراجعة كتاب «وفاء الوفاء» للسمهودي ـ من صفحة ٣٨٣ إلى صفحة ٣٩٠ ـ للحصول على تفاصيل أُخرى حول ما مرّ على مرقد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من بناء وتجديد وتعمير ، طوال التاريخ الإسلامي ، وحتّى عصر السمهودي ، ومن بعده في الكتب الخاصة بتاريخ المدينة المنوّرة.

ج : حديث أبي الهيّاج

والآن قد حان الوقت في أن نبحث في الحديث الّذي يتمسّك به الوهّابيّون في حرمة البناء على القبور.

قبل كلّ شيء نذكر نصّ الحديث بالسّند الّذي رواه مسلم في صحيحه :

«حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا ـ وقال الآخران : حدّثنا ـ وكيعٌ عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهيّاج الأسدي قال : قال لي عليُّ بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالاً إلّا طَمسته ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته». (١)

لقد اتّخذ الوهّابيّون هذا الحديث دليلاً على حرمة البناء على القبور ، من دون أيّ تحقيق في رجاله وسنده ولا في متنه ودلالته.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦١ ، كتاب الجنائز ؛ السُّنن للترمذي : ٢ / ٢٥٦ ، باب ما جاء في تسوية القبر ؛ السنن للنسائي : ٤ / ٨٨ ، باب تسوية القبر.

٤٩

مناقشة الحديث

بصورة عامّة إذا أردنا الاستدلال بحديث من الأحاديث على حكم من أحكام الله تعالى ، فلا بدّ أن يتوفّر في ذلك الحديث هذان الشرطان :

١. صحّة السند : بأن يكون رواة الحديث ورجاله ـ في جميع المراحل والطبقات ـ رجالاً ثقاتاً يمكن الاعتماد عليهم وعلى أقوالهم.

٢. دلالة الحديث : بأن تكون في ألفاظ الحديث وعباراته دلالة كاملة على مقصودنا منه ، بحيث يفهمه غيرنا ـ ممّن يحسن لغة ذلك الحديث ويعرف قواعدها ـ بمثل ما نفهمه نحن ويستنتج ما نستنتجه.

ومن حسن الحظ أنّ حديث أبي الهيّاج فاقد لهذين الشرطين ، وخاصّة للشرط الثاني ، فلا علاقة له بالبناء على القبور إطلاقاً.

توضيح ذلك :

أمّا بالنسبة إلى السند ، ففيه رواة لم تتّفق كلمة علماء الرجال على وثاقتهم ، وفيما يلي نذكر أسماء الرواة ـ في هذا الحديث ـ الذين رفض علماء الرجال أحاديثهم :

١. وكيع.

٢. سفيان الثوري.

٣. حبيب بن أبي ثابت.

٤. أبو وائل الأسدي.

هؤلاء الرواة الأربعة انتقدهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ في كتابه تهذيب التهذيب ـ وذكرهم بما يسلب الثقة من حديثهم هذا وأحاديثهم الأُخرى.

٥٠

١. فبالنسبة إلى «وكيع» ، يروي الحافظ العسقلاني عن أحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة ـ أنّه قال فيه :

«إنّه أخطأ في خمسمائة حديث». (١)

ويقول أيضاً نقلاً عن محمد بن نصر المروزي :

«كان وكيع [يحدّث] بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان». (٢)

٢. وبالنسبة إلى «سفيان الثوري» يقول العسقلاني عن ابن مبارك :

«حدّث سفيان بحديث ، فجئته وهو يُدلّسه ، فلمّا رآني استحيا». (٣)

إنّ التدليس ـ بأيّ معنى كان ـ في الحديث يدلّ على أنّ الراوي المدلّس كان فاقداً لملكة العدالة والصدق ، ولذلك كان يُصوِّر غير الواقع واقعاً ، كما هو معنى التدليس في اللغة.

وعند ترجمة حياة يحيى القطّان ، يقول الحافظ العسقلاني : إنّ يحيى القطّان قال :

«جهد سفيان الثوري أن يُدلّس عليّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه». (٤)

٣. وبالنسبة إلى «حبيب بن أبي ثابت» ، كتب العسقلاني نقلاً عن أبي حبان :

أنّه :

«كان مدلّساً». (٥)

وكتب نقلاً عن قطّان : إنّ حبيباً :

«لا يتابع عليه ، وليست بمحفوظة». (٦)

__________________

(١) تهذيب التهذيب للعسقلاني : ١١ / ١٢٥.

(٢) المصدر السابق : ١١ / ١٣٠.

(٣) المصدر السابق : ٤ / ١١٥.

(٤) المصدر السابق : ١١ / ٢١٨.

(٥) تهذيب التهذيب : ٣ / ١٧٩.

(٦) نفس المصدر السابق.

٥١

٤. وأمّا بالنسبة إلى «أبي وائل» فقد كان من المنحرفين عن الإمام علي أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وممّن نصب العداء والبغضاء له ـ عليه‌السلام ـ (١) فكيف يعتمد عليه وقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«يا عليُّ لا يُحِبكَ إلّا مُؤْمِنٌ ، ولَا يُبْغِضُكَ إلّا مُنَافِقٌ». (٢)

والجدير بالذكر : أنّ راوي الحديث (أبو الهيّاج) ليس له حديث في كلّ الصحاح الستة ـ من أوّلها إلى آخرها ـ إلّا هذا الحديث فقط ، فما ذا تقول في رجل ليست له إلّا رواية واحدة؟!

إنّ هذا يدلّ على أنّ الرجل ليس من رجال حلبة الحديث ، وعلى هذا الأساس فالاعتماد على حديثه لا يخلو من إشكال.

أيّها القارئ الكريم : هذا سند حديث أبي الهيّاج ، وقد عرفت ضعف رواته وعدم اتفاق علماء الرجال عليهم ، فإذا كان الحديث محفوفاً بهذه الإشكالات المتعدّدة ، فلا يمكن لأيّ فقيه أن يستند عليه في استنباط الحكم وإصدار الفتوى.

وأمّا دلالة الحديث فلا تقلّ إشكالاً عن السند ذاته ، إذ أنّ النقطة المهمّة الّتي يستشهدون بها ـ في هذا الحديث ـ هو قوله :

«ولا قَبْراً مُشْرِفاً إلّا سَوَّيْتَهُ».

وهنا لا بدّ من وقفة تأمّل وتحقيق عند كلمتي :

١. مشرفاً.

٢. سوّيته.

١. إنّ لفظة «المشرف» معناه : العالي والمرتفع. قال في المنجد :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٩ / ٩٩.

(٢) مجمع الزوائد للهيثمي : ٩ / ١٣٣ ، روى قريباً منه الترمذي في صحيحه : ٢ / ٣٠١ ، مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان وغيرهم.

٥٢

«المشرف من الأماكن : العالي والمطلّ على غيره».

وقال صاحب القاموس ـ وهو أكثر أصالة في ترتيب معاني الألفاظ ـ :

«الشَّرَف ـ محرّكة ـ : العلو ، ومن البعير : سنامه».

إذن : معنى «مشرف» هو الارتفاع المطلق ، وخاصّة الارتفاع الّذي على شكل سنام البعير.

فيجب هنا مع الانتباه والالتفات إلى القرائن ـ أن نبحث عن المعنى المراد من «المشرف» في الحديث.

٢. لفظة «سوّيته» معناها : جعل الشيء متساوياً ، وتقويم المعوج.

سوّى الشيء : جعله سويّاً ، يقال : سوّيت المعوج فاستوى : صنعتُه مستوياً.

وجاء في القرآن الكريم :

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). (١)

بعد الاطّلاع على معاني المفردات ، يجب أن نعلم ، ما هو المقصود من هذا الحديث؟

الواقع : لهذا الحديث في بدء النظر احتمالان ، ولا بدّ من تعيين أحدهما على ضوء معاني المفردات والدلائل الأُخرى.

الأوّل : هدم القبر

المقصود من الأمر بتسوية القبر هو هدم القبور المرتفعة ، وتسويتها مع الأرض تماماً.

ولكن هذا الاحتمال ـ الذي يتمسّك به الوهّابيّون ـ مردود ومرفوض لعدّة أسباب ـ

__________________

(١) الأعلى : ٢.

٥٣

أوّلاً : لأنّ لفظة «التسوية» لم تأت ـ في اللغة ـ بمعنى الهدم والتدمير ، ولو كان المقصود به هنا هو ذلك لكان المفروض أن يقال : «ولا قبراً إلّا سوّيته بالأرض» وليس في الحديث إلّا لفظة «سويته» أي سويت القبر.

ثانياً : لو كان المقصود منه هو الهدم ، فلما ذا لم يُصدر أحدٌ من علماء الإسلام الفتوى بذلك؟!

كيف وتسوية القبر بالأرض هي خلاف للسنّة الإسلامية والاستحباب الشرعي ، إذ أنّه يستحب شرعاً أن يكون القبر مرتفعاً عن الأرض ، وقد أفتى جميع فقهاء الإسلام باستحباب ارتفاع القبر عن الأرض شبراً واحداً.

جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ـ الذي يُطابق فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة ـ ما يلي :

«ويندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر شبر». (١)

فإذا كان هذا الاحتمال الأوّل مردوداً ، وجب أن نفسّر الحديث بالاحتمال الآتي.

الاحتمال الثاني : تسطيح القبر مقابل تسنيمه

المراد من تسوية القبر هو جعل سطحه مستوياً ومسطّحاً ، بعكس القبور التي تبنى على شكل ظهر السَّمك وسنام البعير ، وعلى هذا الأساس فإنّ الحديث يعني أن يكون سقف القبر مسطّحاً ومستوياً ، ولا يجوز أن يكون كظهر السَّمك أو مسنَّماً ، كما هي العادة عند بعض أهل السنّة ، وقد أفتى أئمّة المذاهب الأربعة ـ

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢٠.

٥٤

باستثناء الشافعي ـ باستحباب تسنيم القبر. (١)

والذي يؤيد هذا الاحتمال أُمور :

١. أنّ مسلماً أورد في صحيحه حديث أبي الهيّاج وحديثاً آخر ـ سنذكره ـ تحت عنوان : باب الأمر بتسوية القبر ، وكذلك ذكره الترمذي والنسائي في سننهما تحت نفس العنوان ، والمقصود من هذا العنوان هو أن يكون القبر مسطّحاً ومستوياً ، ولو كان المقصود منه تسوية القبر بالأرض لكان المفروض تسمية الباب المذكور ب «باب الأمر بتخريب القبور وهدمها».

وأمّا الحديث الآخر الّذي ذكره مسلم في صحيحه ـ والّذي يحتوي نفس المضمون الّذي اخترناه ـ فهو :

«كُنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الرُّوم ب «رَوْدَس» فتُوفّي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي ثمّ قال : سمعتُ رسول الله يَأمُرُ بتسويَتها». (٢)

٢. ما ذكره العلّامة النووي ـ شارح صحيح مسلم ـ تفسير حديث أبي الهياج لنرى كيف يشرح الحديث ويقول :

«إنّ السنّة أنّ القبر لا يُرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يُسنَّم ، بل يُرفع نحو شبر ويسطّح». (٣)

يظهر من هذه العبارة أنّ شارح صحيح مسلم قد استنبط نفس المعنى

__________________

(١) نفس المصدر السابق. وفيه : ويُجعل كسنام البعير ، وقال الشافعي : جعل التراب مستوياً مسطّحاً أفضل من تسنيمه.

أقول : فعلى هذا فإنّ حديث أبي الهيّاج لا يُعمل به إلّا في المذهب الشافعي والمذهب الشيعي.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٦١ ، كتاب الجنائز.

(٣) شرح صحيح مسلم للنووي : ٧ / ٣٦.

٥٥

الّذي استنبطناه من هذا الحديث ، وأنّ الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أوصى أبا الهيّاج بتبديل القبور المسنَّمة ـ أو التي على شكل ظهر السمك ـ إلى قبور مسطّحة ، ولم يأمر بتسوية القبور بالأرض.

٣. لم ينفرد النوويّ في استنباط هذا المعنى من هذا الحديث ، بل قال به الحافظ القسطلاني في كتاب «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» ، فبعد ما يذكر أنّ السنّة في القبر تسطيحه وأنّه لا يجوز ترك هذه السنّة ، لمجرّد أنّها صارت شعاراً «للروافض» وأنّه لا منافاة بين التسطيح وحديث أبي الهيّاج ... يقول :

«... لأنّه لم يُرد تسويته بالأرض وإنّما أراد تسطيحه ، جمعاً بين الأخبار». (١)

٤. تطلق التسوية تارة ويكون وصفاً لنفس الشيء بما هو هو لا بمقايسته إلى شيء آخر فعندئذٍ يتعدى إلى معقول واحد قال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). (٢) أي فسوّاه.

وقال سبحانه : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٣)

وتطلق مرّة أُخرى ويكون وصفاً للشيء باعتبار اضافته لشيء أُخرى الذي يعبّر عنه بمساواة شيء لشيء وعندئذٍ يتعدى إلى المفعولين إلى الأوّل بنفسه وإلى الآخر بحرف الجرّ قال سبحانه : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٤) أي كنّا نحكم بمساواة الأصنام بربّ العالمين.

وعلى ضوء ذلك ، فالتسوية في الحديث ـ بحكم انّه لم يأخذ إلّا مفعولاً واحداً ـ وصف لنفس القبر ، وليس وصفاً له بالقياس إلى شيء آخر أي الأرض

__________________

(١) إرشاد الساري : ٢ / ٤٦٨.

(٢) الأعلى : ٢.

(٣) القيامة : ٤.

(٤) الشعراء : ٩٨.

٥٦

فيتعين كون المقصود هو التسطيح مقابل التسنيم ، لا الهدم وجعله مساوياً بالأرض وإلّا لوجب أن يقول «إلّا سويته بالأرض».

٥. لو فرضنا أنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ أمر أبا الهيّاج بهدم القبور المرتفعة وتسويتها مع الأرض تماماً ، فليس في الحديث ما يدلّ على وجوب هدم البناء المشيَّد على القبور ، ذلك لأنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ قال لأبي الهيّاج ـ على فرض صحّة الحديث ـ :

«ولا قبراً إلّا سوّيته».

ولم يقل : «ولا بناءً ولا قبّة إلّا سوّيتهما» مع العلم أنّ البحث ليس عن القبر نفسه وإنّما عن الأبنية المقامة عليه.

احتمالان آخران في النهاية

هناك احتمالان آخران ، لا مناصّ من ذكرهما إتماماً للموضوع.

الأوّل : أن يكون هذا الحديث ـ وما يشابهه ـ إشارة إلى ما كان متعارفاً عند بعض الأُمم السابقة ، من اتّخاذ قبور الصالحين قبلة لعباداتهم يتوجّهون إليها عند العبادة ، وكانوا ينصبون صورةً إلى جانب القبر ، وبذلك يتركون التوجّه إلى القبلة الّتي أمرهم الله تعالى بالتوجّه إليها حال العبادة.

وعلى هذا الاحتمال فلا يمكن أن تكون لهذا الحديث أيّة صلة بقبور المسلمين ، ولم يُعهد من أيّ مسلم أن يتوجّه إليها في الصلاة أو يسجد عليها ، بل جرت سيرة المسلمين على الصلاة بجوار القبور ، من دون أن تكون قبلة لهم ، بل وجوههم نحو الكعبة ، يقيمون الصلاة ويتلون كتاب الله وهم بجوار القبور.

وإذا كان المسلمون يتسارعون إلى زيارة قبور أولياء الله الصالحين ، ويقضون هناك ساعات في عبادة الله تعالى بجوار تلك المراقد المقدّسة ، فإنّما هو بسبب ما

٥٧

اكتسبته تلك الأرض من الشرف والقدسيّة بسبب احتضانها لذلك الجسد الطاهر.

ولهذا البحث تفصيل قادم.

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من قوله ـ عليه‌السلام ـ لأبي الهيّاج : «أن لا تدَع تمثالاً إلّا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» أن يكون المقصود من «التمثال» تصاوير الأصنام ، ومن «القبر» قبور المشركين الّتي كانت مشمولة بالعطف والعناية من ذويهم.

والخلاصة : أنّ حديث أبي الهيّاج لا علاقة له بالبناء على قبور الأولياء أصلاً ، بل هو بشأن القبور المسنَّمة ، أو بشأن قبور المشركين وتماثيل الأصنام.

وفيما يلي نذكر فتوى أئمّة المذاهب الأربعة حول البناء على القبور :

«يكره أن يُبنى القبر ببيتٍ أو قبّة أو مدرسة أو مسجد». (١)

فما دام أئمّة المذاهب الأربعة متّفقين على كراهية البناء على القبور ... فكيف يتجرّأ قاضي نجد على الفتوى بحرمة البناء؟!!

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). (٢)

مع العلم أنّ الحكم بالكراهة لا دليل صحيح عليه مع قيام السيرة بين المسلمين على خلافها ، وخاصّة إذا كان البناء مساعداً للزائر لإقامة الفرائض الدينية وتلاوة القرآن الحكيم عند القبر الّذي يُقام عليه البناء.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢١.

(٢) ص : ٧.

٥٨

حديث جابر

أو

مستمسك آخر للوهابيين

يُعتبر حديث جابر من جملة الأدلّة الّتي يتمسّك بها الوهّابيّون على حرمة البناء على القبور ، وقد روي هذا الحديث في الصحاح والسنن بألفاظ مختلفة ، ويوجد في جميع أسنادها ورواتها رجلان :

١. ابن جُريج.

٢. أبو الزبير.

والتحقيق في صحّة هذا الحديث يتوقّف على معرفة أحوال رواته ورجال سنده ، وفيما يلي نذكر الحديث بألفاظه المتعدّدة المختلفة :

جاء في صحيح مسلم ـ باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه ـ حديث جابر مرويّاً بثلاثة طُرق وفي صورتين :

١. حدّثنا أبو بكر بن أبي شَيبة ، حدّثنا حفص بن غياث ، عن ابن جُريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : نهى رسول الله أن يُجصَّصَ القَبرُ وأن يُقعد عليه وأن يُبنى عليه.

٢. حدّثني هارون بن عبد الله ، حدّثنا حَجّاج بن محمّد ، وحدّثني محمّد بن

٥٩

رافع ، حدّثنا عبد الرّزاق ، جميعاً عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنّه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت النبيّ بمثله.

٣. حدّثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أيّوب ، عن أبي الزّبير ، عن جابر قال : نُهي عن تقصيص القُبُور». (١)

وجاء في صحيح الترمذي ـ باب كراهة تجصيص القبور والكتابة عليها ـ حديث واحد عن طريق واحد ، هو :

٤. حدّثنا عبد الرحمن بن الأسود ، أخبرنا محمّد بن ربيعة ، عن ابن جريج ، عن أبي الزّبير ، عن جابر قال : نهى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن تجصّص القُبور وأن يكتب عليها وأن يُبنى عليها وأن تُوطأ.

ثمّ يذكر الترمذي عن الحسن البصري والشافعي أنّهما أفتيا بجواز تجصيص القبور. (٢)

وجاء في صحيح ابن ماجة ـ باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها ـ هذا الحديث بطريقين وصورتين هما :

٥. حدّثنا أزهر بن مروان ، ومحمّد بن زياد قال : حدّثنا عبد الوارث ، عن أيّوب ، عن أبي الزّبير ، عن جابر قال : نهى رسول الله عن تجصيص القُبور.

٦. حدّثنا عبد الله بن سعيد ، حدّثنا حفص ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن جابر قال : نهى رسول الله أن يُكْتَبَ على القَبر شَيء. (٣)

وبعد ذكر هذا الحديث يقول السندي ـ شارح الحديث ـ نقلاً عن الحاكم

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦٢ ، كتاب الجنائز.

(٢) السنن للترمذي : ٢ / ٢٠٨ ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان ، طبعة المكتبة السلفية.

(٣) صحيح ابن ماجة : ١ / ٤٧٣ ، كتاب الجنائز.

٦٠