الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

٤. نجم المهتدي ورجم المقتدي : بقلم فخر بن محمّد القرشي.

٥. دفع الشبهة : بقلم تقيّ الدين الحصني.

٦. التحفة المختارة في الردّ على منكر الزيارة : بقلم تاج الدين.

هذه بعض الردود التي كُتبت ضدّ عقائد ابن تيميّة وآرائه السقيمة ، وكشفتْ عن سفاهتها وقشريَّتها.

الثانية : هجوم العلماء والفقهاء عليه ، وإصدار الحكم والفتوى بفسقه تارةً وبكفره تارةً أُخرى ، والتحذير من البدع التي أحدثها في الدين الحنيف.

ومنهم قاضي القضاة في مصر «البدر بن جماعة» فقد كتبوا إليه رأي ابن تيميّة في زيارة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فكتب قاضي القضاة :

«إنّ زيارة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سنّة مستحبّة ، وقد اتّفق العلماء على ذلك ، وكلّ من يرى حرمة زيارته فيجب على العلماء زجره ونهيه عن مثل هذه الآراء ، فإن لم يردعه ذلك لزم حبسه وفضحه بين الناس حتى لا يقتدوا به».

وليس هذا القاضي الشافعي في مصر وحيداً في فتواه هذه ، بل أصدر قضاة المالكية والحنبلية فتاوى مماثلة في تفسيق ابن تيميّة والحكم بضلاله وانحرافه. (١)

وبالإضافة إلى ذلك كلّه ، فقد كتب الذهبي الّذي يُعتبر من علماء القرن الثامن الهجري ، وله تأليفات قيّمة في الحديث والرجال ـ وكان معاصراً لابن تيميّة ـ كتب رسالة ودّية إليه ينهاه فيها عن منكراته ، وشبّهه فيها بالحجّاج الثقفي في ضلاله وفساده. (٢)

__________________

(١) للتفصيل راجع كتاب «دفع الشبهة» تأليف تقي الدين الحصني.

(٢) وقد نُشرت هذه الرسالة في كتاب تكملة السيف الصقيل ص ١٩٠ ، كما نشر نصّها الشيخ الأميني في كتاب الغدير : ٥ / ٨٧ ـ ٨٩ ، فراجع.

٢١

إلى أن أهلك الله ابن تيمية في عام ٧٢٨ ه‍ في سجن الشام ، فحاول تلميذه ابن القيّم أن يواصل نهج أُستاذه ، لكنّه لم يفلح في ذلك ، فماتت أفكار ابن تيميّة بموته ، وفنيت بفنائه ، وزالت بزواله ، واستراح المؤمنون من بدعه وضلالاته.

إلى أن ألقى الشيطان حبائله من جديد ، فجاء محمّد بن عبد الوهّاب حاملاً أفكار ابن تيميّة البائدة واتّفق مع آل سعود ليقوم كلّ منهما بتأييد الآخر ، هذا في الحكم وذاك في التشريع ، فعاد الضلال ينشر خيوطه في «نجد» وانتشرت الوهابيّة في بلاد نجد انتشار السرطان الأثيم في الجسم ، فانخدع جمعٌ من الناس ، وتحزَّبوا ـ ومع كلّ أسف ـ باسم التوحيد للقضاء على أهل التوحيد ، وأراقوا دماء المسلمين باسم الجهاد مع المشركين ، وراح الأُلوف من الناس ـ رجالاً ونساءً وصغاراً وكباراً ـ ضحيّة لهذه البِدع والأباطيل ، وتوسّعت شُقّة الخلاف بين المسلمين ، وأُضيف على مذاهبهم المتعدّدة ، مذهب جديد.

وقد بلغت المصيبة ذروتَها عند ما سقط الحَرَمان الشريفان ـ مكّة والمدينة ـ في قبضة هذه الزمرة المنحرفة ، وعمد النجديّون الوهّابيّون ـ وبالتعاون مع بريطانيا الحاقدة التي كانت تهدف تقسيم الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة تحدُّها الحدود الجغرافية ـ عمدوا إلى محو الآثار الإسلامية في مكّة والمدينة ، وهدم قبور أولياء الله وهتك حرمة آل رسول الله ، وغير ذلك من الجرائم والمنكرات التي يهتزّ لها ضمير المسلم.

يقول بعض المؤرّخين :

«بادر الوهّابيّون ـ لمّا استولوا على مكّة ـ بالمساحي فهدموا ـ أوّلاً ـ ما في «المعلّى» مقابر قريش ـ من القباب ، وهي كثيرة ، منها قُبّة سيّدنا عبد المطّلب جدّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقُبّة سيّدنا أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ وقبّة السيدة خديجة ـ رضوان

٢٢

الله عليها ـ كما هدموا قبّة مولد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومولد أبي بكر ، ومولد الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ ، وهدموا قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة ، وتتبّعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين فهدموها ، وكانوا ـ عند الهدم ـ يرتجزون ويضربون بالطبول ويُغنّون ويبالغون في شتم القبور ... حتى قيل إنّ بعضهم بال على قبر السيّد المحجوب!! ...» (١)

قال العلّامة السيد صدر الدين الصدر ـ المغفور له ـ :

لعمري إنّ فاجعة البقيع

يُشيبُ لهولها فؤد الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا

إذا لم يُصح من هذا الهجوع

أما من مسلم لله يرعي

حقوق نبيّه الهادي الشفيع

وقال آخر :

تبّاً لأحفاد اليهود بما جَنَوا

لم يكسبوا من ذاك إلّا العارا

هتكوا حريم محمّدٍ في آله

يا ويلهم قد خالفوا الجبّارا

هدموا قبور الصالحين بحقدهم

بُعداً لهم قد أغضبوا المختارا

وانطلاقاً من قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«إذا ظهرت البِدَع فعلى العالم أن يُظهر علمه ، وإلّا فعليه لعنة الله».

فقد تصدّى علماء الشيعة وعلماء السنّة أيضاً كما ذكرنا ـ لهذا الغزو الوهّابي الحاقد ، وكتبوا الكتب ونشروا المنشورات ، في فضح هذا الرجل ـ الّذي جاء يُحقق أهداف بريطانيا في ثوب جديد ـ وكشف القناع عن حقيقته والردّ على آرائه الشاذّة.

__________________

(١) كشف الارتياب : ٢٢ نقلاً عن تاريخ الجبرتي.

٢٣

وأوّل كتاب صدر في الردّ على ابن عبد الوهّاب هو كتاب «الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابيّة» بقلم أخيه الشيخ سليمان.

كما أنّ أوّل كتاب صدر ضدّه من علماء الشيعة هو كتاب «منهج الرشاد» للشيخ الكبير المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّى سنة ١٢٢٨ ه‍) وقد كتب كتابه هذا جواباً على رسالة بعثها إليه الأمير عبد العزيز بن سعود ـ أحد الأُمراء السعوديّين في وقته ـ وقد زيَّف في كتابه أفكار محمّد بن عبد الوهّاب وأثبت بطلانها على ضوء القرآن والسنّة. وقد طبع الكتاب في عام ١٣٤٣ ه‍ في النجف الأشرف في العراق.

ثمّ تتابع الردّ والنقد في ظروف مختلفة ، وصدرت الكتب تترى واحدة تلو الأُخرى ، حتّى زماننا هذا.

وفي عصرنا الحاضر صعّد الوهّابيّون حملاتهم المسعورة ضدّ مخالفيهم من المسلمين ، بفضل الثروة الطائلة التي يجنيها آل سعود من أرباح البترول العائدة إليهم فقط.

لقد خصّصت السلطة السعودية جزءاً كبيراً من أرباح البترول لترويج هذا المذهب المفرِّق ونشره بين المسلمين ، ولو لا هذه الأموال الطائلة لما عاش هذا المذهب الواهي إلى هذا الوقت. لقد وجد الاستعمار ضالّته في هذا المذهب ، واتّخذه خير وسيلة لإلقاء التفرقة بين المسلمين وتشتيت صفوفهم ، وضرب بعضهم البعض.

وقد حقّق هذا المذهب أهداف الاستعمار الغاشم الأثيم ، فتراه قد أوجد الفتنة بين المسلمين ، هذا يُفسّق ذاك وذاك يُكفّر هذا ... ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

٢٤

أيّها القارئ الكريم : لقد قرّرنا ـ في هذا الكتاب ـ أن نطرح عقائد الوهّابيّين على بساط البحث والتحقيق ، ونرفع الستار عن حقيقتها ، حتّى يثبت لك أنّ عقائد المسلمين مستندة إلى القرآن والسّنّة المطهّرة ، وأنّ عقائد الوهّابيّين مخالفة للقرآن وسنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد انتهجنا أُسلوب الإيجاز والاختصار.

٢٥
٢٦

الفصل الثاني :

الوهّابيّون وبناء قبور الأولياء

تُعتبر مسألة بناء القبور وتشييد مراقد الأنبياء وأولياء الله الصالحين من المسائل الحسّاسة عند الوهّابيّين ، وقد كان ابن تيميّة ـ وتلميذه ابن القيّم ـ أوّل من أفتى بحرمة بنائها ووجوب هدمها.

يقول ابن القيّم :

يجب هدم المشاهد الّتي بُنيتْ على القبور ، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها ـ يوماً واحداً. (١)

وفي عام (١٣٤٤ ه‍) بعد ما استولى آل سعود على مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة وضواحيهما ، بدءوا يبحثون عن دليل يبرّر لهم هدم المراقد المقدّسة في البقيع ومحو آثار أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ والصحابة ، فلجئوا إلى الاستفتاء من علماء المدينة المنوّرة حول حرمة البناء على القبور ، محاولة منهم لتبرير موقفهم أمام الرأي العامّ الإسلامي ـ وخاصّة في الحجاز ـ لأنّهم كانوا يُدركون جيّداً أنّ المسلمين في الحجاز هم كالمسلمين في كلّ مكان ، يعتقدون بكرامة أولياء الله وقدسيَّتهم وجواز البناء على قبورهم ، فحاول الوهّابيّون أن يُلبسوا جريمتهم هذه بلباس الإسلام ، دفعاً لنقمة المسلمين! سبحان الله!!

__________________

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد : ٦٦١.

٢٧

أرسلت السلطات السعودية قاضي القضاة في نجد ـ واسمه : سليمان بن بليهد ـ إلى المدينة المنوّرة للاستفتاء من علمائها حول بناء مراقد أولياء الله ، ولكن الجدير بالذكر هو أنّ الأسئلة التي طرحها ابن بليهد كانت تحمل في ثناياها الأجوبة المطابقة لآراء الوهّابيّين أنفسهم ، وما كان من العلماء إلّا الإجابة بمثل ما هو مذكور في الاستفتاء نفسه ، وكانوا يعرفون ـ مسبقاً ـ أنّ الإفتاء على خلاف آرائهم يُعرِّضهم للتهمة بالكفر والشرك ، ومن ثمّ يحكمون عليهم بالقتل إن رفضوا التوبة!!

وقد نشرت جريدة «أُمّ القرى» الصادرة في مكّة ـ في شوال ١٣٤٤ ه‍ ـ تلك الأسئلة والأجوبة ، وقد أثارت ضجّة كبرى بين المسلمين ـ الشيعة والسنّة معاً ـ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ وراء هذا الاستفتاء ـ الّذي قد صدر تحت وطأة التهديد والترهيب ـ هو البدء بهدم القباب والبناء المشيَّد على قبور قادة الإسلام وعظماء المسلمين.

وهذا ما حصل بالفعل ، فبعد ما صدرت تلك الفتوى من خمسة عشر عالماً من علماء المدينة ، وانتشرت في الحجاز ، بدأت السُّلطة الوهابية الحاقدة بهدم قبور آل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الثامن من شوال ذلك العام ، وقضت على آثار أهل البيت عليهم‌السلام والصحابة ، ونهبت كلّ ما كان في ذلك الحرم المقدّس من فُرش وهدايا ثمينة وغيرها ، وحوّلت تلك الزمرة الوحشيّة البقيع المقدّس إلى أرض قفراء موحشة. (١)

__________________

(١) يقول المؤرّخ الجليل الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب الذريعة : ٨ / ٢٦١ : لقد سيطر الوهّابيّون على الحجاز في سنة ١٣٤٣ ه‍ ، وفي الثامن من شهر شوال من نفس العام هدموا قبور الأئمّة الطاهرين ـ عليهم‌السلام ـ والصحابة في البقيع. انتهى كلامه.

أقول : إنّ جريدة «أُمّ القرى» نشرت نصّ الاستفتاء وجوابه في تاريخ ١٧ شوال سنة ١٣٤٤ ه‍ ـ

٢٨

وفيما يلي نذكر جانباً من الاستفتاء ، لتعرف كيف ضمّن السائل الجواب في سؤاله ، وأنّ الهدف لم يكن السؤال والاستفتاء ، بل كان للحصول على مستمسك لتضليل الرأي العام وتدمير آثار النبوّة والرسالة. ولو كان الهدف هو الاستفتاء الحقيقي ومعرفة رأي الإسلام في ذلك ، فما معنى إدخال الجواب في مضمون الاستفتاء؟! بل إنّنا نظن أنّ الاستفتاء والجواب كانا قد أُعدّا مسبقاً في ورقة خاصّة ، ثمّ أُرسلت تلك الورقة إلى علماء المدينة للتوقيع عليها فقط ، وإلّا فليس من المعقول أن يُغيّر علماء المدينة وجهة نظرهم فجأة ، ويُصدروا الفتوى بتحريم البناء على القبور ووجوب هدمها ، مع العلم أنّهم كانوا وآباؤهم ـ طوال سنوات عديدة ـ من الدّاعين إلى حفظ الآثار النبويّة ، وكانوا يزورون تلك المشاهد المقدّسة.

يقول ابن بليهد في سؤاله :

«ما قول علماء المدينة المنوَّرة ـ زادهم الله فهماً وعلماً ـ في البناء على القبور واتّخاذها مساجد ، هل هو جائز أم لا؟

وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهيٌّ عنه نهياً شديداً ، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟

وإذا كان البناء في مَسبلة (١) كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليه ، فهل هو غصب يجب رفعه ، لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟

__________________

ـ وحدّدتْ تاريخ صدور الفتوى من علماء المدينة ب ٢٥ رمضان ، لهذا ينبغي القول انّ احتلال المدينة وهدم قبور أولياء الله حدثا معاً في سنة ١٣٤٤ ه‍ ويعتقد المرحوم السيد محسن الأمين أنّ الاحتلال الكامل والهدم قد وقعا في عام ١٣٤٤ ه‍. راجع كتاب كشف الارتياب : ٥٦ ـ ٦٠.

(١) مَسْبلة : موقوفة في سبيل الله تعالى.

٢٩

وتحت التهديد والتخويف ، يجيب علماء المدينة على سؤال «الشيخ» بما يلي :

«أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً ، لصحّة الأحاديث الواردة في منعه ، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه ، مستندين بحديث علي ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال لأبي الهيّاج : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ، أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته».

ويقول الشيخ النجدي في مقال نشرته جريدة «أُمّ القرى» في عددها الصادر في شهر جمادى الثانية سنة ١٣٤٥ ه‍ :

«إنّ بناء القباب على مراقد الأولياء صار متداولاً منذ القرن الخامس الهجري».

نعم ، هذه نماذج من أقوال الوهّابيّين حول بناء القبور ، وترى أنّ عمدة استدلالهم ـ في كتبهم ومؤلّفاتهم ـ على الحرمة تعتمد على أمرين :

١. إجماع علماء الإسلام على التحريم.

٢. حديث أبي الهيّاج عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وما شابه ذلك.

نحن الآن نتحدّث فقط عن مسألة البناء على القبور وإقامة الظلال والسُّقف والأبنية عليها.

أمّا مسألة زيارة القبور فهو موضوع مستقلّ سوف نتحدّث عنه في فصل خاصّ إن شاء الله تعالى.

بالنسبة إلى المسألة الأُولى فالحديث عنها في ثلاث نقاط :

١. ما رأي القرآن الكريم تجاه البناء على القبور ، وهل نجد في القرآن بياناً لهذه المسألة؟

٢. هل صحيح أنّ الأُمّة الإسلامية متَّفقة على حرمة البناء على القبور؟ أم

٣٠

أنّ البناء كان متداولاً في كلّ العهود الإسلامية ، بدءاً بزمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والصحابة؟

٣. ما ذا يعني حديث أبي الهيّاج وحديث جابر وأُمّ سلمة وناعم ممّا يستغلّه الوهّابيّون للاستدلال على باطلهم؟

أ. رأي القرآن الكريم في البناء على القبور

لم يتطرَّق القرآن الكريم إلى حكم البناء على القبور بصورة خاصّة ، إلّا أنّه يمكن استنباط حكمه من خلال بعض الآيات الكريمة العامّة ، وإليك التفصيل :

١. البناء على قبور الأولياء تعظيمٌ للشعائر الإلهية

إنّ القرآن الحكيم يعتبر تعظيم شعائر الله سبحانه دليلاً على تقوى القلوب ، فيقول عزوجل :

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). (١)

ونتساءل : ما معنى تعظيم شعائر الله؟

الجواب : إنّ (شَعائِرَ) كلمة جمع ، ومفردها «شعيرة» وهي بمعنى الدليل والعلامة.

وليس المقصود من (شَعائِرَ) ـ في هذه الآية ـ العلائم الّتي تُثبت وجود الله تعالى ، ذلك لأنّ الكون كلّه دليل على وجوده سبحانه. يقول الشاعر :

وفي كلّ شيء له آيةٌ

تدلُّ على أنّه واحدٌ

كما أنّه ليس هناك من يقول : إنّ تعظيم كلّ ما هو موجود في الكون دليل

__________________

(١) الحج : ٣٢.

٣١

على التقوى ، وإنّما المقصود هو تعظيم شعائر دين الله ، ولهذا يقول المفسّرون ـ في هذه الآية ـ : إنّ كلمة (شَعائِرَ اللهِ) معناها معالم دين الله. (١)

وإذا كان «الصفا والمروة» وكذلك البعير الّذي يُساق إلى منى للنحر من شعائر الله (٢) فإنّما هو بسبب كونها من معالم الدين الحنيف وإذا كانت «المزدلفة» تُسمّى ب «المشعر» فإنّما هو بسبب كونها من علامات دين الله تعالى ، وأنّ الوقوف في المشعر دليل على طاعة الله سبحانه.

وإذا كانت «مناسك الحجّ» تسمّى بالشعائر فإنّما هي لكونها علامات للتوحيد والدين الحنيف.

وخلاصة القول : إنّ كلّ ما هو شعيرة لدين الله فإنّ تعظيمه ممّا يُقرّب إلى الله تعالى.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الأنبياء وأولياء الله تعالى هم من أكبر وأبرز علامات دين الله ، إذ أنّهم كانوا خير وسيلة لإبلاغ رسالة الله ونشره بين الناس.

إنّ من الثابت لدى كلّ منصف أنّ وجود النبي والأئمّة الطاهرين ـ عليهم‌السلام ـ هو من علامات الإسلام وشعائر هذا الدين المقدَّس ، فتعظيمهم تعظيم لله وعلامة على تقوى القلوب.

ولا شكّ أنّ صيانة آثارهم والمحافظة على قبورهم من المحو والزوال إنّما هي نوع من تعظيم شعائر دين الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : نستطيع أن نُدرك ضرورة تعظيم قبور أولياء الله من خلال هاتين النقطتين :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٤ / ٨٣ ، طبعة صيدا ، وغيره.

(٢) ألف : قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (البقرة : ١٥٨).

ب : قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (الحج : ٣٦).

٣٢

الف : إنّ أولياء الله ـ وخاصّة أُولئك الذين ضحّوا من أجل الدين ونشره ـ هم من شعائر الله وعلائم دينه.

ب : إنّ بناء قبورهم ـ بالإضافة إلى تخليد ذكرياتهم والسير على نهجهم السديد ـ هو نوع من تعظيمهم واحترامهم.

وعلى هذا الأساس فإنّنا نرى كافّة الشعوب والأُمم في العالَم تُخصّص مناطق خاصّة لمثوى شخصيّاتهم السياسية والدينية ، كي تبقى رمزاً خالداً لأتباعهم إلى الأبد ، فكأنّ حفظ مراقدهم من المحو والاندراس يؤدّي إلى خلود ذكراهم وإحياء أفكارهم ومناهجهم.

ولكي نعرف هذه الحقيقة جيّداً ، لا بدّ من أن نتأمّل الآية السادسة والثلاثين من سورة الحج :

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

إنّ بعض حجّاج بيت الله الحرام كانوا يسوقون معهم بعيراً من بلادهم (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) كي يُنحر بجوار بيت الله ، وكانوا يتركون على عنقه قلادة ـ أو غيرها ـ كناية عن أنّه يُساق للنحر في مكّة ، فهو لله تعالى لا يُباع ولا يُشترى ، فكان يتميَّز بهذه القلادة عن بقية الإبل.

لهذا السبب اعتبره الله تعالى (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ولهذا حكم الإسلام باحترام هذا الهَدي ، فلا يجوز ركوبه ـ مثلاً ـ ويجب توفير المأكل والمشرب له حتّى ساعة الذبح بجوار الكعبة.

فإذا كان هذا البعير يكتسب هذا الاحترام والإكرام ، فقط لكونه صار من شعائر الله تعالى ، فما تقول في الأنبياء والأئمّة الطاهرين؟!

ألا يُعتبر الأنبياء والأئمّة الطاهرون ـ عليهم‌السلام ـ والعلماء والشهداء ـ الذين ألبسوا

٣٣

أنفسهم قلادة العبودية لله منذ البداية ونذروا أنفسهم لخدمة دين الله وقاموا بدَور الوسيط بين الله وخلقه في هدايتهم وإرشادهم ـ ألا يُعتبرون من شعائر الله؟!

ألا يجب تعظيمهم واحترامهم ، في حياتهم وبعد مماتهم ، التعظيم اللائق بهم؟!

إذا كانت الكعبة والصفا والمروة ومنى وعرفات ـ وما هي إلّا جمادات مركّبة من التراب والحجر ـ تُعتبر من شعائر الله وتستحقّ الاحترام والتعظيم المناسب لها بسبب ارتباطها بالله سبحانه ، فلما ذا لا يكون أولياء الله ـ الذين هم حُماة دين الله وناشرو أحكامه ـ وما يرتبط بهم ، لما ذا لا يكونوا جميعاً من شعائر الله؟!

إنّنا ندعو الوهّابيّين إلى تحكيم وجدانهم ـ في هذا المجال ـ ونطرح عليهم هذا السؤال : هل تشكّون وتتردّدون في أنّ الأنبياء والرسل هم من شعائر الله؟!

ألا يحكم الوجدان بضرورة تعظيمهم وتخليدهم والتمسُّك بمناهجهم؟!

هل أنّ البناء على قبورهم وتنظيف الساحة الّتي تضمّ مراقدهم تعظيمٌ واحترامٌ لهم ، أم هدم قبورهم وإهمال الساحة المحتضنة لمراقدهم وتحويلها إلى خربة مهجورة موحشة يُعتبر تعظيماً لهم؟!

٢. حبّ النبيّ والمودّة في القربى

إنّ صيانة القبور والآثار الباقية من بيت الوحي والعصمة ـ عليهم‌السلام ـ من مظاهر حب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتكريمه ، وقد أمر المسلمون في الكتاب والسنّة بحبه وتكريمه وتبجيله ، قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي

٣٤

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (١)

وقال سبحانه في وصف المؤمنين : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (٢)

فالآية الكريمة تأمر بأُمور أربعة :

١. الإيمان به.

٢. تعزيره.

٣. نصرته.

٤. اتّباع كتابه وهو النور الذي أُنزل معه.

وليس المراد من تعزيره هو نصرته ، لأنّه قد ذكره بقوله : (نَصَرُوهُ) وإنّما المراد توقيره ، وتكريمه وتعظيمه بما انّه نبيُّ الرحمة والعظمة ، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته ، كما أنّ الإيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة.

وعلى هذا فحب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن يمت إليه بصلة أصل إسلامي يجب أن يهتم به المسلمون ويطبقونه في حياتهم.

ولأجل كرامة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومنزلته يدعو الذكر الحكيم إلى تعظيمه في المجالس وحفظ كرامته ويقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). (٣)

وقال أيضاً : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى). (٤)

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

(٣) الحجرات : ٢.

(٤) الحجرات : ٣.

٣٥

وقال : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). (١)

فأي إجلال أبلغ من هذا ، وأي تقدير أروع من هذا التقدير.

وليس الذكر الحكيم وحده هو الداعي والآمر بحب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بل السنّة النبوية تضافرت على لزوم حبه.

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين». (٢)

وقد تواتر مضمون هذه الرواية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فمن أراد فليرجع إلى الكتب المعدّة لهذا الغرض. (٣)

مظاهر الحب

إنّ لهذا الحب مظاهر ومجالي ، إذ ليس الحب شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته ، بل من خصائصه أن يظهر أثره على سلوك الإنسان وملامحه.

١. حب الله ورسوله لا ينفك عن اتّباع دينه والاستنان بسنّته والانتهاء عن نواهيه ، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محباً لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه. والاتّباع أحد مظاهر الحبّ قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (٤). فمن ادّعى الحب في النفس وخالف في العمل ، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٨ ، باب حبّ الرسول من الإيمان من كتاب الإيمان.

(٣) كنز العمال : ٢ / ١٢٦.

(٤) آل عمران : ٣١.

٣٦

وقد نسب إلى الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ انّه أنشد البيتين التاليين :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

انّ المحب لمن يحب مطيع (١)

٢. ومن مظاهر هذا الحب ، صيانة آثارهم وحفظ معالمهم والعناية بكلّ ما يتصل بهم حتى الاحتفاظ بما صلوا فيه من ألبسة أو شربوا منه الماء من أوان أو استخدموه من أشياء ، وتشييد مراقدهم ، وتعمير قبورهم ... كلّ ذلك انعكاس طبيعي لهذا الحب الكامن في النفوس والود المتمكن في القلوب.

وليس هذا أمراً مختصاً بالمسلمين ، بل الأُمم المتحضّرة المعتزّة بماضيها وتاريخها ، تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخي باق من الماضي وصيانة مراقد شخصياتهم العلمية.

إنّ القرآن الكريم يأمرنا ـ بكلّ صراحة ـ بالحبّ والمعاملة الحسنة مع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأقربائه فيقول :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (٢)

ومن الواضح لدى كلّ من يُخاطبه الله بهذه الآية أنّ البناء على مراقد أهل بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونوع من أنواع إظهار الحبّ والمودّة لهم.

وهذه العادة مُتَّبعة عند كافّة الشعوب والأُمم في العالم ، والجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودَّة لصاحب ذلك القبر ، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ، ويزرعون أنواع الأزهار والأشجار حولها.

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة حب.

(٢) الشورى : ٢٣.

٣٧

٣. البناء على القبور في الأُمم السابقة

يستفاد من بعض الآيات الكريمة ـ في القرآن ـ أنّ تعظيم قبور المؤمنين كان أمراً شائعاً بين الأُمم الّتي سبقت ظهور الإسلام ، فبالنسبة إلى أصحاب الكهف ـ بعد ما انتشر خبرهم بين الناس وهرعوا إلى الكهف لمشاهدتهم ـ وقع الخلاف والنزاع حول مدفنهم وانقسموا قسمين ، فقال أحدهما :

(ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً).

وقال الآخر :

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يذكر لنا هذين الرأيين ، من دون أن ينتقدهما ، وعلى هذا يمكن القول بأنّه لو كان الرأيان باطلين لانتقدهما ، أو قصّ ، قصّتهما بأُسلوب رافضٍ مستنكر.

ويقول المفسّرون : إنّ النزاع ـ حول مدفن أصحاب الكهف ـ إنّما وقع بين المؤمنين والكافرين ، أمّا الكافرون فقالوا :

(ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً).

والمؤمنون قالوا :

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً). (١)

وكانت الغلبة مع المؤمنين حيث قال سبحانه :

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

وبني المسجد وصارت قبور أصحاب الكهف مركزاً للتعظيم والاحترام.

__________________

(١) الكهف : ٢١.

٣٨

وهكذا يظهر لنا أنّ الهدف من البناء على قبور أصحاب الكهف إنّما كان نوعاً من التعظيم لأولياء الله الصالحين.

أيّها القارئ الكريم : بعد ما مرّ عليك من الآيات الكريمة الثلاث ، لا يمكن القول بحرمة البناء على قبور أولياء الله ولا بكراهته بأيّ وجه ، بل يمكن اعتباره نوعاً من تعظيم شعائر الله ومظهراً من مظاهر المودّة للقربى.

٤. الإذن في ترفيع بيوتٍ خاصّة

لقد أذن الله تعالى في ترفيع البيوت الّتي يُذكر فيها اسمه عزوجل ، فقال عزّ من قائل : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ...). (١)

والاستدلال بهذه الآية ـ على جواز البناء على القبور ـ يتمّ ببيان أمرين :

الأوّل : ما هو المقصود من البيوت؟

الثاني : ما هو المقصود من الرفع؟

بالنسبة إلى الأمر الأوّل : ليس المراد من البيوت هو المساجد فقط ، بل المراد منها ما هو الأعمّ من المساجد والأماكن الّتي يُذكر فيها اسم الله تعالى ، سواء كانت مساجد أو غير مساجد ، كبيوت الأنبياء والأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ والصالحين الذين لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فهذه البيوت تُعتبر من المصاديق البارزة للآية الكريمة.

بل يمكن أن يقال : إنّ المراد من البيوت هو غير المساجد ، لأنّ البيت هو البناء الّذي يتشكّل من جدران أربعة وعليها سقف قائم ، وإذا كانت الكعبة يُقال

__________________

(١) النور : ٣٦ ـ ٣٧.

٣٩

لها : بيت الله فإنّما هو بسبب كونها مسقّفة ، والقرآن الحكيم يعتبر البيت هو المكان المسقَّف فيقول سبحانه :

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...). (١)

إنّ المستفاد من هذه الآية الكريمة هو أنّ البيت لا ينفكّ عن السقف ، مع العلم أنّه يستحبّ شرعاً أن تكون المساجد غير مسقّفة. هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يُظلّله.

وعلى كلّ تقدير ... فالمقصود من البيوت إمّا هو الأعمّ من المساجد ، أو غير المساجد ...

هذا بالنسبة إلى الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو معنى الرفع ـ فيحتمل أمرين :

أن يكون المراد منه هو الرفع المادّي الظاهري ، الّذي يتحقّق بإرساء القواعد وإقامة الجدار والبناء ، كما قال سبحانه :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ...). (٢)

أو يكون المراد منه هو الرفع المعنوي ، كما قال عزوجل :

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا). (٣)

أي : منحناه مكانةً عالية.

فإن كان المراد هو المعنى الأوّل ، فهو يدلّ ـ بكلّ وضوح ـ على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء وتعميرها ، في حياتهم وبعد وفاتهم ، ومن المعلوم أنّ مدفن

__________________

(١) الزخرف : ٣٣.

(٢) البقرة : ١٢٧.

(٣) مريم : ٥٧.

٤٠