الشيخ جعفر السبحاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤
إلقاء الأضواء
على زيارة النساء
بحث موجز ، يستعرض بصورة موضوعية موقف الإسلام
من زيارة النساء للقبور
زيارة النساء للقبور
في الشريعة الإسلامية
لقد أسعفني الحظ هذا العام (١٤٢١ ه) بزيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة المفردة ، والتشرّف بزيارة النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وأئمّة البقيع ـ عليهمالسلام ـ وبقية المشاهد المباركة ، وقد استرعى انتباهي عند زيارتي البقيع منع النساء من دخولها من قبل السلطات السعودية ، وذلك بفتوى بعض فقهاء الحنابلة مع أنّ الأدلة الشرعية على خلافها ، وهي تدلّ على كون الرجال والنساء في ذلك سواسية ، ومن حسن الحظ فقد التقيت بأحد الآمرين بالمعروف في البقيع ودار حوار بيني وبينه حول زيارة النساء للقبور ، وقد تبادلنا فيه بعض الرسائل ، ولذلك عزمت على كتابة رسالة مفصلة في هذا الموضوع استعرض فيها أدلّة الموافق والمخالف على وجه لا يبقى لمشكّك شك ، ولا لمرتاب ريب.
هذه هي الرسالة التي أُقدّمها لطلّاب الفقه في الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة عسى أن تنال رضاهم.
المؤلف
زيارة القبور في الشريعة الإسلامية
اتّفق المسلمون على استحباب زيارة القبور تأسّياً بالنّبي الأكرم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في قوله وفعله.
«قال النووي تبعاً للعبدري والحازمي وغيرهما : اتّفقوا على أنّ زيارة القبور للرجال جائزة.
نعم حكي عن ابن أبي شيبة وابن سيرين وإبراهيم النخعي والشَّعبي ، الكراهة ، حتّى قال الشعبي : لو لا نهي النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لزرت قبر ابنتي ... وكأنّ هؤلاء لم يبلغهم الناسخ». (١)
وسيوافيك تضافر الأدلّة على استحبابها لما فيها من الأمر والبعث والأثر البنّاء ، أعني تذكّر الآخرة ، والزهد في الدنيا. وما أبعد هذا القول عما حكي عن ابن حزم أنّ زيارة القبور واجبة ولو مرّة واحدة ، لورود الأمر بها ، وبما أنّ استحبابها للرجال أمر متّفق عليه إلّا من شذّ من الذين لم يبلغهم قول النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وفعله ، فلا نطيل الكلام فيها.
إنّما الكلام في استحبابها أو جوازها للنساء ، فأكثر أهل السنّة على الاستحباب.
قال ابن حجر : واختلف في النساء ، فقيل دُخلن في عموم الإذن ، وهو قول
__________________
(١) ابن حجر ، فتح الباري : ٣ / ١٤٨.
الأكثر ، وقيل الإذن خاص بالرجال ، ولا يجوز للنساء زيارة القبور ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق في المهذب. (١)
وقال السندي في شرحه على سنن النسائي عند شرح قوله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها». فيه جمع بين الناسخ والمنسوخ ، والإذن بقوله «فزوروها» ، قيل : يعمّ الرجال والنساء ، وقيل : مخصوص بالرجال ، كما هو ظاهر الخطاب ، لكن عموم علّة التذكير الواردة في الأحاديث قد يؤيد عموم الحكم ، إلّا أن يمنع شمول قوله «وتذكر الآخرة» للنساء لكثرة غفلتهن. (٢)
ونقل النووي في شرحه على «صحيح مسلم» أقوالاً ثلاثة :
أ. الحرمة ، ب. الكراهة ، ج. الجواز. (٣)
هذه الكلمات تعرب عن اختلاف الآراء وإن كان الأكثر على الجواز ، وهو الحقّ المتعيّن للأدلة التالية :
١. حديث عائشة
أخرج النسائي في سننه عن عائشة ، انّها قالت : ألا أُحدِّثكم عنّي وعن النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ؟ قلنا : بلى ، قالت : لما كانت ليلتي التي هو عندي ـ تعني النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ انقلب فوضع نعليه عند رجليه ، وبسط طرف إزاره على فراشه ، فلم يلبث إلّا ريثما ظن قد رقدتُ ، ثمّ انتعل رويداً ، وأخذ رداءه رويداً ، ثمّ فتح الباب رويداً ، وخرج رويداً ، وجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ، وانطلقت في أثره ،
__________________
(١) ابن حجر ، فتح الباري : ٣ / ١٤٨.
(٢) النسائي ، السنن ، بشرح السيوطي والسندي : ٤ / ٨٩.
(٣) النووي ، شرح صحيح مسلم : ٧ / ٤٩.
حتّى جاء البقيع ، فرفع يديه ثلاث مرات فأطال ، ثمّ انحرف فانحرفت ، فأسرع فأسرعت ، فهرولَ فهرولتُ ، فأحضرَ فأحضرتُ ، وسبقته فدخلتُ فليس إلّا أن اضطجعتُ ، فدخل فقال : ما لك يا عائشة حشيا رابية؟.
قالت : لا ، قال : لِتُخْبِرَنِّي أو لِيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير ، قلت يا رسول الله : بأبي أنت وأُمّي فأخبرته الخبر ، قال : فأنتِ السواد الذي رأيت إمامي ، قالت : نعم. فلهزني في صدري لهزة أوجعتني ، ثمّ قال : أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ، قلت : مهما يكتم الناس فقد علمه الله.
قال : فانّ جبرئيل أتاني حين رأيت ولم يدخل عليَّ ، وقد وضعت ثيابك فناداني فأخفى منك ، فأجبته فأخفيته منك ، فظننت ان قد رقدتِ وكرهتُ أن أُوقظك وخشيتُ أن تستوحشي ، فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم ، قلت : كيف أقول يا رسول الله؟
قال : قولي : السّلام على أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. (١)
وجه الدلالة : انّ تعليم الزيارة آية جواز العمل بها.
مضافاً إلى أنّ قوله : «وكرهت أن أُوقظك» مشيراً إلى أنّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كره إيقاظها لتشاركه في زيارة البقيع.
نعم ليس في الرواية ما يدلّ على دخولها البقيع ، وإنّما خرجت من بيتها للاطلاع على حال الرسول ، وانّه إلى أين ذهب ، لكن الاستدلال ليس منصبّاً على دخولها البقيع وزيارتها مع النبي ، بل هو منصبّ على أنّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ علّمها الزيارة ،
__________________
(١) سنن النسائي : ٤ / ٩١ ، الأمر بالاستغفار للمؤمنين ؛ صحيح مسلم : ٣ / ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. واللفظ في المتن للنسائي ، وبين النقلين اختلاف طفيف. قوله «حَشْيا» : مرتفعة النفس.
وعندئذٍ لا يخلو الحال من صورتين :
الصورة الأُولى : علّمها وكانت الزيارة للنساء مستحبة أو جائزة.
الصورة الثانية : علّمها وكانت الزيارة لهنّ محرمة.
فعلى الأُولى يثبت المطلوب ، وعلى الثانية يلزم اللغوية كما هو واضح ، لأنّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كيف يعلمها الزيارة المحرمة ، وهذا أشبه بتعليم الحرام؟!
وربما يتصور : انّما تعلّمت لتزور البقيع من بعيد ، ولكن هذا التصوّر من السخافة بمكان ، لأنّ الزيارة عبارة عن حضور الزائر لدى المزور ، فما معنى الزيارة من بعيد؟! ولو كانت الغاية من التعليم هو ذاك النوع من الزيارة كان عليه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أن ينبهها ويأمرها بذلك.
على أنّ معنى قولها : «كيف أقول؟» أي : كيف أقول عند زيارتي البقيع كزيارتك إيّاه؟ فعلّمها الرسول نفس ما كان يقوله عند زيارته.
٢. حديث بريدة
أخرج مسلم في صحيحه ، عن بريدة ، قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها. (١)
وأخرجه النسائي في سننه عنه مثل ذلك ، وزاد : فمن أراد فليزر ولا تقولوا هجراً. (٢)
٣. حديث أبي هريرة
وأخرج ابن ماجة في سننه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «زوروا
__________________
(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦٥ ، باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه.
(٢) سنن النسائي : ٤ / ٨٩ ، باب زيارة القبور.
القبور فانّها تذكّركُم الآخرة».
وفي نقل آخر : فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت. (١)
٤. حديث ابن مسعود
أخرج ابن ماجة في سننه ، عن ابن مسعود ، انّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تُزهّد في الدّنيا وتذكّر الآخرة». (٢)
قال ابن حجر : وقد أخرج مسلم حديث بريدة ، وفيه نسخ النهي عن ذلك ، ولفظة: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» وزاد أبو داود والنسائي في حديث أنس : «فانّها تذكر الآخرة» ، وللحاكم من حديث فيه : «وترقُّ القلب وتدمع العين ، فلا تقولوا هجراً» أي كلاماً فاحشاً.
وله من حديث ابن مسعود : «فانّها تزهد في الدّنيا» ، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً : «زوروا القبور فانّها تذكّر الموت». (٣)
وجه الاستدلال هو عموم الخطاب للرجال والنساء ولا يضرّ تذكير الضمير ، لما ثبت في محلّه من أنّ خطابات القرآن والسنّة تعمّ الصنفين إلّا ما خرج بالدليل ، وقوله سبحانه : وَأَقيمُوا الصَّلاة وآتُوا الزَّكاة (٤) ؛ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَولياء (٥) ؛ أَنْ لا تشركُوا بِهِ شَيئاً (٦) إلى عشرات الأمثال ، يعم الصنفين بلا ريب ومنه هذا الحديث.
__________________
(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٠١ ، حديث ١٥٧٢.
(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٠١ ، حديث ١٥٧١.
(٣) فتح الباري : ٣ / ١٤٨.
(٤) البقرة : ١١٠.
(٥) الممتحنة : ١.
(٦) الأنعام : ١٥١.
أضف إلى ذلك انّ التعليل في الحديث آية الشمول ، لأنّ قوله : «فإنّها تذكّركم الآخرة» لا يقبل التخصيص ، وقد قرر في علم الأُصول انّ العلّة تعمم وتخصّص ، وهل يصحّ في منطق العقل الصريح ، اختصاص ما يذكّر الآخرة بالرجال وحرمان النساء منه؟!
٥. حديث أنس بن مالك
أخرج البخاري في صحيحه ، عن أنس بن مالك ، قال : امرَّ النبي بامرأة تبكي عند قبر ، فقال : اتقي الله واصبري ، قالت : إليك عنّي فانّك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه.
فقيل لها : إنّه النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ، فأتت باب النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال : إنّما الصبر عند الصدمة الأُولى. (١)
قال ابن حجر في تفسيره : قوله : الصدمة الأُولى : «وفي رواية الأحكام عند أوّل صدمة» ونحوه لمسلم ، والمعنى إذا وقع الثبات أوّل شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع ، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر ، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله ، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. (٢)
وجه الدلالة : انّ النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أوصاها بالتقوى والصبر ، وكأنّها قالت في كلامها شيئاً يخالف التقوى.
قال القرطبي : الظاهر انّه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره ، ولهذا
__________________
(١) صحيح البخاري : ٢ / ٧٩ ، باب زيارة القبور
(٢) فتح الباري : ٣ / ١٤٩ ، باب زيارة القبور.
أمرها بالتقوى.
قال ابن حجر : ويؤيده انّ في مرسل يحيى بن كثير : «سمع منها ما يكره فوقف عليها» فلو كان وقوفها على القبر وزيارتها له أمراً محرماً كان عليه أن يردعها عنه ، مع أنّه ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أمرها في كلا اللقاءين بالصبر.
٦. زيارة عائشة قبر أخيها
أخرج الترمذي في سننه ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، قال : توفّي عبد الرحمن بن أبي بكر ب «حبشى» ، قال : فحمل إلى مكة فدفن فيها ، فلمّا قدمتْ عائشة ، أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقالت :
وكنّا كندماني جذيمة حِقْبةً |
|
فلما تفرقنا كأني ومالكا |
من الدهر حتى قيل : لن يتصدعا |
|
لطول اجتماع لم نَبِتْ ليلة معا |
ثمّ قالت : والله لو حضرتك ما دفنت إلّا حيث مت ، ولو شهدتك ما زرتك. (١)
والمتبادر من العبارة انّها لما قدمت مكة ذهبت إلى زيارة قبر أخيها لا انّها مرّت عليه عفواً في طريقها إلى مكة.
وأمّا قولها : «ولو شهدتك لما زرتك» فهو بمعنى انّي بما ان لم أؤدّي حقّك في حال حياتك ، فلذلك أزورك بعد مماتك ولو كنت مؤدية لحقّك لما تحملت عبء زيارتك.
__________________
(١) سنن الترمذي : ٣ / ٣٧١ ، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور ، حديث ١٠٥٥.
٧. زيارة السيدة فاطمة عليهاالسلام قبر حمزة
أخرج الحاكم في مستدركه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه : انّ فاطمة ـ عليهاالسلام ـ بنت النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كانت تزور قبر عمّها حمزة كلّ جمعة وتبكي عنده.
قال الحاكم بعد نقل هذا الحديث : «رواته عن آخرهم ثقات». (١)
هذه الروايات العديدة الصحيحة تدل بوضوح على جواز الزيارة للنساء ، ومن أمعن النظر فيها يقف على أنّ المسألة من الوضوح بمكان غير انّه إكمالاً للبحث نذكر دليل المخالف ، وهي ليست إلّا شبهاً طارئة.
دليل من لم يجوّز زيارة القبور للنساء
احتجّ المخالف بوجوه :
الأوّل : بما أخرجه الترمذي ، عن أبي هريرة انّ رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لعن زوّارات القبور. (٢)
وأخرجه ابن ماجة عن حسّان بن ثابت ، وعن ابن عباس واللفظ في الجميع واحد.
قال الترمذي صاحب السنن : وقد رأى بعض أهل العلم انّ هذا كان قبل أن يرخّص النبي في زيارة القبور ، فلمّا رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء.
وقال بعضهم : إنّما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ. (٣)
__________________
(١) الحاكم : المستدرك : ١ / ٣٧٧ ، كتاب الجنائز.
(٢) سنن الترمذي : ٣ / ٣٧١ ، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء من كتاب الجنائز ، حديث ١٠٥٦.
(٣) المصدر نفسه.
وقال القرطبي : لم يلعن النبي كلّ امرأة تزور القبور بل لعن المرأة التي تزور القبور دوماً ، والدليل على ذلك قوله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : زوّارات القبور ، وكلمة «زوار» هي صيغة المبالغة وتدلّ على الكثرة والتكرار.
أقول : إنّ أمر هذا الحديث دائر بين كونه منسوخاً أو مخصصاً ، فلو ورد قبل الترخيص كان عموم الترخيص «فزوروا» ناسخاً والحديث منسوخاً وإن ورد بعد الترخيص يكون مخصصاً ، فإذا دار أمره بين كونه متروكاً أو معمولاً به فلا يحتج به.
الثاني : ما أخرجه ابن ماجة عن ابن الحنفية عن علي ، قال : خرج رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فإذا نسوة جلوس ، فقال : ما يجلسكنَّ؟ قلنَ : ننتظر الجنازة.
قال : هل تغسلن؟ قلن : لا ، قال : هل تحملن؟ قلن : لا.
قال : هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن : لا.
قال : فأرجعنَ مأزورات غير مأجورات. (١)
انّ الحديث قاصر سنداً ودلالة.
أمّا السند ففيه دينار بن عمر (أبو عمر).
قال أبو حاتم في حقّه : إنّه ليس بالمشهور ، وقال الأزدي : متروك ، وقال الخليل في الإرشاد : كذّاب ، وقال ابن حبان : يخطئ.
فهل يمكن أن يستدل بحديث كهذا.
وأمّا الدلالة ففيها أوّلاً : أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ يذم النسوة اللواتي لم يكن لهنّ أيّة مسئولية في تجهيز الميّت ، وإنّما جلسنَ للنظر والمشاهدة ، وإلّا فلو كان لهنّ مهمة
__________________
(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٠٢ ، باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز ، الحديث ١٥٧٨.
معينة فتنعكس القضية ، ويكنّ مأجورات لا مأزورات ، ولذلك سألهن النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عن وجه جلوسهن فلمّا علم حالهنّ ندد بهنّ.
وثانياً : أنّ غاية ما يمكن حمل الرواية عليها هو النهي عن اتّباع النساء الجنائز ، وقد نقله الترمذي أيضاً تحت هذا العنوان وهو أمر مكروه بالاتّفاق ، ويدلّ عليه حديث أُمّ عطية حيث قالت : «نهينا عن اتّباع الجنائز ، ولم يعزم علينا». (١)
قوله : «ولم يُعزم علينا» أي ولم يوجب علينا ، والمراد انّه لم يقطع علينا بالنهي ليكون حراماً فهو مكروه تنزيهاً. (٢)
وأين هذا ممّا نحن فيه من زيارة القبور للنساء حيناً بعد حين؟!
وختاماً نلفت نظر القارئ إلى نكتة ، وهي : انّ الإسلام دين الفطرة ، والشريعة السهلة السمحة.
قال ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «إنّ هذا الدين لمتين فأوغلوا فيه برفق».
فمنع المرأة المؤمنة الصالحة التي دفنت فلذة كبدها تحت ركام من التراب عن زيارة قبر ولدها على طرف النقيض من الشريعة السهلة السمحة ، التي لا تجبر أحداً على كبت أحاسيسه وعواطفه في قلبه دون إظهارها.
الآن حصحص الحقّ وبان بأجلى مظاهره وتبين انّ القول بالجواز هو القول الحقّ المتعيّن.
أرجو من الله سبحانه أن يحقّ الحقّ ويبطل الباطل ويجمع شمل المسلمين ، ويرزقهم توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد ، والمسلمون ـ مع تفرّقهم في الفروع والأحكام ـ تجمعهم مشتركات عديدة.
__________________
(١) و (٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٠٢ ، باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز ، الحديث ١٥٧٨.
ولنعم ما قال شاعر الأهرام :
إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّة |
|
ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا |
ويضمّنا دين الهدى اتباعا |
|
مهما ذهبنا في الهوى أشياعا |
وفي الختام نعكس رأي الإمامية في مسألة زيارة القبور للنساء ونكتفي بكلمة العلّامة الحلي في كتاب «منتهى المطلب» الذي ألّفه في الفقه المقارن ، قال :
الرابع : يجوز للنساء زيارة القبور ، وعن أحمد روايتان : إحداهما : الكراهة.
لنا : ما رواه الجمهور عن النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» وهو بعمومه يتناول النساء.
وعن ابن أبي مليكة انّه قال لعائشة : يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن ، فقلت لها : قد نهى رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ عن زيارة القبور؟ قالت : نعم ، قد نهى ثمّ أمر بزيارتها. (١)
ومن طريق الخاصة : ما رواه الشيخ عن يونس ، عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : إنّ فاطمة ـ عليهاالسلام ـ كانت تأتي قبور الشهداء في كلّ غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له (٢). (٣)
__________________
(١) المستدرك : للحاكم : ١ / ٣٧٦ ؛ سنن البيهقي : ٤ / ٧٨.
(٢) مرّ مصدر الرواية ولاحظ التهذيب للشيخ الطوسي : ١ / ٤٦٥ برقم ١٥٢٣.
(٣) منتهى المطلب : ٧ / ٤٣٠.
فهرس المحتویات
مقدّمة المؤلف.................................................................... ٥
ابن تيمية من منظار علماء عصره وغيرهم............................................ ٨
الفصل الاول
لمحات من حياة مؤسس الوهابية
الردود على قائد الوهابيين....................................................... ٢٠
الفصل الثاني
الوهابيون وبناء قبورالأولياء
رأي القرآن الکریم فی البناء على القبور............................................ ٣١
١. البناء على قبور الأولياء تعظيم للشعائر الإلهية................................ ٣١
٢. حب النبيّ والمودّة في القربى................................................ ٣٤
مظاهر الحب............................................................... ٣٦
٣. البناء على القبور في الأُمم السابقة.......................................... ٣٨
٤. الإذن في ترفيع بيوت خاصة............................................... ٣٩
الأُمة الإسلامية والبناء على القبور................................................ ٤٢
الآثار الإسلامية دليل على أصالة الدين........................................... ٤٤
عود إلى جواب علماء المدينة..................................................... ٤٨
حديث أبي الهيّاج............................................................... ٤٩
مناقشة الحديث............................................................. ٥٠
احتمالان في النهاية.......................................................... ٥٧
حديث جابر أو مستمسك آخر للوهابیین......................................... ٥٩
نقاط الضعف في الحديث.................................................... ٦٢
الاستدلال بحديثين آخرین....................................................... ٦٨
التناقض بین الوهابیة وسيرة المسلمين.............................................. ٧١
اختلاق الأدلة الواهية تبريراً لجريمة هدم مراقد الأئمة عليهم السلام..................... ٧٢
الفصل الثالث
بناء المسجد بجوار المراقد المشرّفة
هل بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها جائز ام لا؟.......................... ٧٧
أدلّة الوهابيين على حرمة بناء المساجد بجوار قبور الصالحين........................... ٧٩
تحقيق معنى الأحاديث........................................................... ٨١
الفصل الرابع
زيارة القبور على ضوء الكتاب والسنّة
زيارة القبور..................................................................... ٩١
القرآن وزيارة القبور.............................................................. ٩٢
الأحاديث الشريفة وزيارة القبور................................................... ٩٥
النساء وزيارة القبور.............................................................. ٩٨
الفصل الخامس
النتائج البنّاة لزيارة قبور الشخصيات الدينيّة
زيارة قبر الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم................................................ ١٠٥
الأحاديث الشريفة حول زيارة قبر الرسول......................................... ١١٠
أدلّة الوهّابييّن على حرمة السفر لزيارة القبور...................................... ١١٢
الفصل السادس
إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء
الإضاء عند القبور............................................................ ١٢٣
الفصل السابع
التوسّل بأولياء الله
الأحاديث الشريفة الدالّة على جوازه............................................. ١٢٦
الحديث الأوّل : التوسّل إلى الله بنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم.................................. ١٢٦
الحديث الثاني : التوسل بحقّ السائلين........................................ ١٣٠
الحديث الثالث : التوسل بحقّ النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم.............................. ١٣٠
الحديث الرابع : توسل النبي بحقّة وحقّ من سبقه من الأنبياء..................... ١٣٤
الحديث الخامس : التوسّل بالنبي نفسه........................................ ١٣٥
نماذج من أدعية التوسّل........................................................ ١٣٨
سيرة المسلمين في التوسّل....................................................... ١٣٩
بعض ما كتب في التوسّل...................................................... ١٤٤
الفصل الثامن
النذرلأهل القبور
في تعريف النذر............................................................... ١٤٧
الفصل التاسع
تكريم مواليد أولياء الله ووفيّاتهم
هل تكريم مواليد أولياء الله ووفيّأتهم بدعة؟....................................... ١٥٥
القرآن وتکریم الأنبياء والأولياء.................................................. ١٥٧
التناقض بين قول الوهّأبيّة وعملها............................................... ١٦٣
الفصل العاشر
التبرّك والاستشفاء بآثاراولياء الله
التبرّك وسيرة المسلمين......................................................... ١٦٩
الفصل الحادي عشر
التوحيد في العبادة
تحديد معنى العبادة والتعريف الكامل لها.......................................... ١٧٨
تعريفان ناقصان للعبادة........................................................ ١٧٩
١. العبادة خضوع وتدلّل................................................... ١٧٩
٢. العبادة نهاية الخضوع.................................................... ١٨٠
التعريف الأوّل للعبادة......................................................... ١٨٢
التعريف الثاني للعبادة.......................................................... ١٨٥
ما معنى كلمة الربّ؟....................................................... ١٨٥
التعريف الثالث للعبادة........................................................ ١٨٦