الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

وتوحيده والإيمان بألوهيّته وربوبيّته وبين عبادة الطاغوت والأنداد والأصنام والاعتقاد بمالكيّتها للرزق والمغفرة والشفاعة والنفع والضرّ.

فاستدلال الوهّابيّين بهذه الآيات ـ على حرمة نداء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم ـ يدعو إلى الاستغراب والتعجّب ، نظراً لعدم علاقتها بهذه المسألة إطلاقاً.

وخلاصة ما ثبت ـ من خلال هذا البحث ـ : إنّ قولك «يا علي» مخاطباً خليفة رسول الله ـ أو «يا حسين» أو «يا زهراء» أو غير ذلك من أسماء أولياء الله الطاهرين لا إشكال فيه أبداً ، بل هو نوع من الاستغاثة بهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فلو جازت الاستغاثة في حياتهم لجازت بعد رحيلهم ولا يتصور ، أن يكون عمل واحد نفس التوحيد في حال الحياة وعين الشرك بعد الممات ، وقد تقدّم منّا انّ الحياة والموت رمز الحدوث وعدمه ، لا التوحيد والشرك ، وعلى كلّ تقدير فالاستغاثة بعباد الله المخلَصين بغية دعائهم لرفع المحن والكرب محبوب مرغوبٌ فيه ، ويعود على الإنسان بالخلاص من الأزمات والفَرَج من الشدائد والنجاة من المهالك.

٣٠١
٣٠٢

الفصل العشرون

في البكاء على الميت قبل الدفن وبعده

لا عتب على العين والقلب عند ما يقف المرء على قبر نبيّه والأئمّة من أهل بيته ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وخيار صحابته ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ أن تذرف الدموع ويحزن ، تعبيراً عمّا يكنّ في النفس من المودّة والولاء والمحبّة والتعاطف والشوق والحنين ، فإنّ هذا أمر تقتضيه الفطرة الإنسانية ولا يأباه التشريع الإلهي.

أمّا الفطرة : فالحزن والتأثّر مقتضى العاطفة الإنسانية إذا ابتلي المرء بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه ، ومن عُدِم هذا الشعور عنده عُدَّ شاذّاً عن الفطرة الإنسانية ، ولا أرى أحداً فوق أديم الأرض ينكر هذه الحقيقة إنكار جدٍّ وموضوعية.

وأمّا التشريع : فيكفي في ذلك بكاء النبيّ الأقدس ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والصحابة والتابعين لهم بإحسان على موتاهم.

فهذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يبكي على ولده العزيز «إبراهيم» ويقول : «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلّا ما يرضي ربّنا ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون». (١)

__________________

(١) سنن أبي داود : ٣ / ٥٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨٢.

٣٠٣

روى أصحاب السِّير والتاريخ أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبيّ جاء ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه ووضعه في حجره وقال : «يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئاً ـ ثمّ ذرفت عيناه وقال : ـ إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولو لا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل مأتية لحزنا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».

ولمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ أجاب بقوله : «لا ، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين ... : صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان ، وصوت عن نغمة لهو ؛ وهذه رحمة ، ومن لا يَرحم لا يُرحَم». (١)

وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يبكي على ابنه «طاهر» ويقول : «إن العين تذرف وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن ولا نعصي الله عزوجل». (٢)

وقد قام العلّامة الأميني في موسوعته الكبيرة «الغدير» بجمع موارد كثيرة بكى فيها النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والصحابة والتابعون على موتاهم وأعزائهم عند افتقادهم ، وإليك نصّ ما جاء به ذلك المتتبع الخبير :

وهذا هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمّا أُصيب حمزة ـ رضي الله عنه ـ وجاءت صفيّة بنت عبد المطلّب ـ رضي الله عنها ـ تطلبه فحال بينها وبينه الأنصار فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : دعوها ، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإذا نشجت نَشَجَ وكانت فاطمة ـ عليها‌السلام ـ تبكي ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كلّما بكت يبكي وقال : لن أُصاب

__________________

(١) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٤٨.

(٢) مجمع الزوائد للهيثمي : ٣ / ٨.

٣٠٤

بمثلك أبداً. (١)

ولمّا رجع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهم فبلغ ذلك النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : «لكن حمزة لا بواكي له» فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم : لا تبكين أحداً حتّى تبدأن بحمزة ، قال : فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلّا بدأن بحمزة.(٢)

وهذا هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ينعى جعفراً وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وعيناه تذرفان.(٣)

وهذا هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ زار قبر أُمّه وبكى عليها وأبكى من حوله. (٤)

وهذا هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّه.(٥)

وهذا هو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يبكي على ابن لبعض بناته فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول الله؟ قال : الرحمة التي جعلها الله في بني آدم وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء.(٦)

وهذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتقول : يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه. (٧)

__________________

(١) إمتاع المقريزي : ١٥٤.

(٢) مجمع الزوائد : ٦ / ١٢٠.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ٣٤ ، كتاب المناقب ، باب في علامات النبوّة في الإسلام ؛ سنن البيهقي : ٤ / ٧٠.

(٤) سنن البيهقي : ٤ / ٧٠ ؛ تاريخ الخطيب البغدادي : ٧ / ٢٨٩.

(٥) سنن أبي داود : ٢ / ٦٣ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤٥.

(٦) سنن أبي داود : ٢ / ٥٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨١.

(٧) صحيح البخاري : باب مرض النبي ووفاته ؛ سنن أبي داود : ٢ / ١٩٧ ؛ سنن النسائي : ٤ / ١٣ ؛ مستدرك الحاكم : ٣ / ١٦٣ ؛ تاريخ الخطيب : ٦ / ٢٦٢.

٣٠٥

وهذه هي ـ سلام الله عليها ـ وقفت على قبر أبيها الطاهر وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت وأنشأت تقول :

ما ذا على مَن شمّ تربة أحمد

أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا

صُبّت عليَّ مصائب لو أنّها

صُبّت على الأيّام صِرن لياليا (١)

وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويرثيه بقوله :

يا عين فابكي ولا تسأمي

وحُقَّ البكاء على السيّد

وهذا حسّان بن ثابت يبكيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويقول :

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت

عيونٌ ومثلاها من الجفن أسعد

ويقول :

يُبكّون من تبكي السّماوات يومه

ومن قد بكته الأرض فالناس أكمدُ

ويقول :

يا عين جودي بدمع منك إسبال

ولا تملَّنَّ من سحّ وإعوالِ

وهذه أروى بنت عبد المطلّب تبكي عليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وترثيه بقولها :

ألا يا عين! ويحكِ أسعديني

بدمعك ما بقيت وطاوعيني

ألا يا عين! ويحك واستهلّي

على نور البلاد وأسعديني

وهذه عاتكة بنت عبد المطّلب ترثيه وتقول :

__________________

(١) الغدير : ٥ / ١٤٧

٣٠٦

عينيَّ جودا طوال الدّهر وانهمِرا

سكباً وسحّاً بدمع غير تعذير

يا عين فاسحنفري بالدّمع واحتفلي

حتّى الممات بسجل غير منذور

يا عين فانهملي بالدّمع واجتهدي

للمصطفى دون خلق الله بالنور

وهذه صفيّة بنت عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تقول :

أفاطم بكّي ولا تسأمي

بصحبك ما طلع الكوكبُ

هو المرء يُبكى وحقّ البكاء

هو الماجد السيّد الطيّبُ

وتقول :

أعينيّ! جودا بدمع سجمْ

يبادر غرباً بما مُنهدمْ

أعينيّ! فاسحنفرا وأسكبا

بوجدٍ وحزنٍ شديد الألمْ

وهذه هند بنت الحارث بن عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه وتقول :

يا عين جودي بدمع منك وابتدري

كما تنزّل ماء الغيث فانثعبا

وهذه هند بنت أثاثة ترثيه وتقول :

ألا يا عين! بكّي لا تملّي

فقد بكر النعيُّ بمن هويتُ

وهذه عاتكة بنت زيد ترثيه وتقول :

٣٠٧

وأمست مراكبه أوحشت

وقد كان يركبها زينها

وأمست تُبكي على سيّد

تردّد عبرتها عينها

وهذه أمّ أيمن ترثيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتقول :

عين جودي فإنّ بذلك للدم

ـ ع شفاء فاكثري مِ البكاء

بدموع غزيرة منك حتّى

يقضي الله فيك خير القضاء (١)

وهذه عمّة جابر بن عبد الله جاءت يوم أُحد تبكي على أخيها عبد الله بن عمرو قال جابر : فجعلتُ أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا ينهاني ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أبكوه ولا تبكوه فو الله ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتّى دفنتموه. (٢). (٣)

نعم روي عن عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عمر أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله».

أقول : إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل الخليفة في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ.

منها : أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لمّا جاءه نعيه ، فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر ، ووضع يده على رأسه يبكي. (٤)

ومنها : بكاؤه مع أبي بكر على سعد بن معاذ حتّى قالت عائشة : فوالذي نفس محمّدٍ بيده إنّي لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر ، وإنّي لفي حجرتي. (٥)

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٣٢ ؛ سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٤٦

(٢) الاستيعاب : في ترجمة عبد الله : ١ / ٣٦٨.

(٣) الغدير : ٣ / ١٦٥ ـ ١٦٧.

(٤) الاستيعاب : في ترجمة النعمان : ١ / ٢٩٧ ؛ العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي : ٣ / ٢٣٥.

(٥) تاريخ الطبري : ٢ / ٢٥٣.

٣٠٨

ومنها : بكاؤه على أخيه زيد بن الخطّاب ، وكان صحبه رجل من بين عدي ابن كعب فرجع إلى المدينة فلمّا رآه عمر دمعت عيناه وقال : وخلّفت زيداً قاضياً وأتيتني. (١)

فالبكاء المتكرّر من الخليفة يهدينا إلى أنّ المراد من الحديث ـ لو صحّ سنده ـ معنى آخر ، كيف وأنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم ، أعني قوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٢). فأيّ معنى لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه!!

قال الشافعي : «وما روت عائشة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أشبه أن يكون محفوظاً عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بدلالة الكتاب والسنّة ، فإن قيل : فأين دلالة الكتاب؟ قيل : في قوله عزوجل : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) و (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). (٣)

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٤) وقوله :

(... لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٥). فإن قيل : أين دلالة السنّة؟ قيل : قال رسول الله لرجل : ابنك هذا؟ قال : نعم ، قال : أما أنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه. فأعلم رسول الله مثلما أعلم الله من أنّ جناية كلّ امرئ عليه ، كما أنّ عمله لا لغيره ولا عليه». (٦)

فقه الحديث

كلّ هذه النقول توقفنا على أنّ المراد من الحديث «إنّ الميّت يعذَّب ...» ـ إن

__________________

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢٣٥.

(٢) فاطر : ١٨.

(٣) النجم : ٣٩.

(٤) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٥) طه : ١٥.

(٦) اختلاف الحديث بهامش كتاب الأُمّ للشافعي : ٧ / ٢٦٧.

٣٠٩

صحّ سنده ـ غير ما يفهم من ظاهره ، وقد كان محتفّاً بقرائن سقطت عند النقل ، ولأجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استناداً على هذا الحديث ، غافلاً عن مرمى الحديث ومغزاه.

روت عمرة : أنّها سمعت عائشة ـ رض ـ وذكرت لها أنّ عبد الله بن عمر يقول : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحي ، فقالت عائشة ـ رض ـ : أما إنّه لم يكذب ، ولكنّه أخطأ أو نسى إنّما مرّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على يهودية يبكي عليها أهلها ، فقال : إنّهم ليبكون عليها وأنّها لتعذَّب في قبرها. (١)

وعن عروة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ، فذكر ذلك لعائشة فقالت ـ وهي تعني ابن عمر ـ : إنّما مرّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على قبر يهودي فقال : إنّ صاحب هذا ليُعذَّب وأهله يبكون عليه ، ثمّ قرأت: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (٢)

هذا فقه الحديث ومعناه ، ولا يشكّ في صحّة هذا المعنى مَن له إلمام ومعرفة بالكتاب والسنّة.

وهناك روايات أُخر تدلّ على أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نهى عمر عن منعه الباكيات لبكائهنّ على الميّت.

عن ابن عبّاس قال : لمّا ماتت زينب بنت رسول الله قال رسول الله : ألحقوها بسلفنا الخير عثمان بن مظعون ، فبكت النساء ، فجعل عمر يضربهنّ بسوطه ، فأخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يده وقال : مهلاً يا عمر ، دعهنّ يبكين ، وإيّاكنّ ونعيق الشيطان ـ إلى

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٨٠ ، الباب ٣٢ من أبواب الجنائز ؛ اختلاف الحديث للشافعي : ٧ / ٢٦٦ ؛ الموطّأ : ١ / ٩٦ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٤٤ ، سنن النسائي : ٤ / ١٧ ، سنن البيهقي : ٤ / ٧٢.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٥٩ ، سنن النسائي : ٢ / ١٧.

٣١٠

أن قال ـ : وقعد رسول الله على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ، فجعل النبيّ يمسح عيني فاطمة بثوبه رحمةً لها. (١)

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى نظيره في موت رقيّة بنت رسول الله ، وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : مهلاً يا عمر ـ ثمّ قال : إيّاكنّ ونعيق الشيطان ، فإنّه مهما يكن من العين والقلب فمن الرحمة ، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان. (٢)

وفي رواية أُخرى : فقال رسول الله : يا عمر دعهنّ فإنّ العين دامعة والقلب مصاب والعهد قريب. (٣)

هذا ما نقلناه من الروايات يوقف القارئ الكريم على حكم الإسلام في مسألة البكاء على الميّت ، سواء كان الميّت قريباً وحميماً أو كان عزيزاً وصديقاً ، فإذا جاز البكاء عليهم فالبكاء على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأهل بيته الأطهار وصحابته الأخيار أولى بالجواز.

كيف لا وقد وردت في هذا المضمار روايات كثيرة من الفريقين في البكاء على النبيّ ومصائب آله لسنا بصدد ذكرها لخروجها عن الاختصار ، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى كتاب «سيرتنا وسنّتنا سيرة النبيّ وسنّته» للعلّامة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني ـ رضوان الله عليه ـ وإن كان ما ذكرناه في هذه الصحائف مقتبساً عمّا حقّقه رحمه‌الله في هذا الباب.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٧ ؛ مستدرك الحاكم : ١ / ١٩١ ، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : سنده صالح.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٤ / ٧٠.

(٣) عمدة القارئ : ٤ / ٨٧.

٣١١
٣١٢

خاتمة المطاف :

إضافة لفظ «العبد» إلى المخلوق

قد تعارف لدى محبّي أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ تسمية أولادهم ب «عبد الرسول» و «عبد علي» و «عبد الحسين» ... ونحوها ، أي إضافة كلمة العبد إلى أسمائهم عليهم‌السلام.

وأثارت هذه التسمية قلقاً في بعض الأوساط خصوصاً الوهّابيّة ، زاعمين أنّ تلك التسمية رمز الشرك ، ولا توافق أُصول التوحيد ، وقد جمعني والشيخ ناصر الدين الألباني ـ وهو مصحّح ومحقّق بعض كتب الأحاديث ـ مجلس في سوريا فرأيت فيه كراهة شديدة أن يتكلّم باسم عبد الحسين ، وكان ذلك عند ما جاء الحديث عن العلّامة الحجّة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ـ قدّس الله سرّه ـ صاحب المراجعات ويأتي فيما يلي تفصيل ما دار بيني وبينه ، ولأجل رفع الستر عن وجه الحقيقة نقوم بتحليل المسألة من وجهة نظر القرآن والسنّة فنقول :

العبودية تطلق ويراد منها :

أوّلاً : ما يقابل الألوهية ، والعبودية بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية الّتي تعمّ جميع العباد ، ويكون المالك هو الله سبحانه وتعالى ، ومن المعلوم أنّ منشأ كون الإنسان عبداً والله سبحانه هو المولى ، كونه خالقاً له من العدم ، والمفيض والمعطي له كلّ ما يتعلّق به.

فالعبودية بهذا المعنى ذاتية كلّ موجود ، وجوهرة كلّ شيء لا تنفكّ عنه

٣١٣

أبداً ، وإلى ذلك ينظر قوله سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً). (١)

كما يشير إليه قول المسيح ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٢) إلى غير ذلك من الآيات ، والعبودية بهذا المعنى تستدعي حصر إضافتها بالله سبحانه وتعالى.

ثانياً : تطلق ويراد منها الطاعة أو ما يقاربها ، وقد صرّح بهذا المعنى أصحاب المعاجم اللغوية.

قال في لسان العرب : التعبّد : التنسّك ، العبادة : الطاعة.

وقال في القاموس المحيط : والعبدية والعبودية والعبودة والعبادة : الطاعة.

وعلى هذا الأساس فالمراد من «عبد الرسول وعبد علي و...» هو مطيع الرسول ومطيع عليّ ولا غبار على ذلك ، كيف لا وأنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بطاعتهما (...أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...). (٣) فعرّف القرآن النبيّ مطاعاً والمسلمين مطيعين ، ولا عتب على الإنسان أن يظهر هذا المعنى في تسمية أولاده ومحبيه.

نعم في حديث أبي هريرة «لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي» وعلّله ابن الأثير في كتابه «النهاية» بقوله : هذا على نفي الاستكبار عليهم وأن ينسب عبوديتهم إليه ، فإنّ المستحقّ لذلك الله تعالى هو ربّ العباد كلّهم.

والحديث بظاهره يخالف الذكر الحكيم ، كيف لا وهو الذي نسب العبودية إلى الناس الذين يملكونهم ، قال سبحانه : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ

__________________

(١) مريم : ٩٣.

(٢) مريم : ٣٠.

(٣) النساء : ٥٩.

٣١٤

مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١). ترى أنّه سبحانه ينسب العبودية والإمائية إلى الذين يمتلكونهم ، ولو كان في التعبير شيء من التكبّر للمولى لما استعمل سبحانه هذا التعبير.

ثمّ إنّ أساس الشبهة أنّ المستشكلين لا يفرّقون بين العبودية التكوينية الحقيقية ـ التي لا تنفكّ عن الإنسان منذ بدء وجوده إلى أُخريات أيامه ـ وبين المملوكية العارضة على الإنسان حسب الأحوال والشرائط ، فيصير السيّد عبداً رقّاً ، والعبد الرقّ سيّداً وحاكماً.

هذا هو الفقه الإسلامي يحكم في أسرى الحرب بجواز استرقاقهم رجالاً ونساءً ، قال ابن قدامة في كتابه «المغني» : وإذا أسبى الإمام فهو مخيَّرٌ إن رأى قتلهم ، وإن رأى منّ عليهم وأطلقهم بلا عوض ، وإن رأى أطلقهم على مالٍ يأخذه منهم ، وإن رأى فادى بهم ، وإن رأى استرقّهم.

هذا وفي الكتب الفقهية باب واسع لأحكام العبيد والإماء ، فلهم أحكام خاصّة يقف عليها العارف بالفقه الإسلامي ، فيطلقون كلمة المولى على السيّد الّذي ملكهم بالأسر أو بالشراء ، كما يطلقون كلمة العبد والأمة على الأسرى الذين رأى الحاكم استرقاقهم ، ولم يرَ أحدٌ من الفقهاء في هذه التسمية حرجاً.

وممّا يُقضى منه العجب قول محمّد بن عبد الوهّاب : «إنّ من قال لأحد مولانا أو سيّدنا فهو كافر» (٢) مع أنّ القرآن يطلق كلمة السيّد على غيره ـ سبحانه وتعالى ـ قال : (... مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ...) (٣) وقال عزوجل : (... وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ...) (٤) وقال تعالى :

__________________

(١) النور : ٣٢.

(٢) كشف الارتياب للسيد محسن الأمين : نقله عن خلاصة الكلام.

(٣) آل عمران : ٣٩.

(٤) يوسف : ٢٥.

٣١٥

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا). (١)

أضف إلى ذلك ما تواتر في الروايات من إطلاق السيّد على النبيّ والحسنين (٢) حيث لا يشكّ في صحّتها أحد.

وقد رثى أبو بكر النبيّ الأعظم بأبيات أوّلها :

يا عين فابكي ولا تسأمي

وحقّ البكاءُ على السيّد

على خير خندق عند البلا

أأمسى يغيب في الملحد (٣)

نعم أورد السيوطي في الجامع الصغير عن الديلمي في مسند الفردوسي عن عليّ «السيّد الله».

كما أورد العزيزي في شرح الجامع الصغير عن مسند أبي داود أنّه جاء وفد بني عامر إلى النبيّ فقالوا : أنت سيّدنا ، فقال : السيّد الله.

فلو صحّ الحديثان فيجب أن يحملا على المعنى الحقيقي للسيادة ـ أعني : المالك والخالق ـ فإنّ السيادة بهذا المعنى تختصّ بالله سبحانه.

كيف وقد أطلق رسول الله كلمة السيّد على سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ روى الطبري : لمّا طلع سعد قال رسول الله : قوموا إلى سيّدكم. (٤)

فهذه المناهي الواردة حول كلمة السيّد محمولة على إرادة المعنى الذي ينافي إخلاص العبادة وتوحيد الله.

__________________

(١) الأحزاب : ٦٧.

(٢) المقصود «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».

(٣) الطبقات الكبرى لابن سعد : ٢ / ٣١٩ ، والهمزة الأُولى في البيت الثاني جزء من كلمة البلاء ، وإنّما يتلفّظ بها في المصرع الثاني ، ويسمى هذا القسم في علم العروض بالشعر المدوّر ، باعتبار امتزاج الصدر بالعجز

(٤) تاريخ الطبري : ٢ / ٢٤٩.

٣١٦

ولعمري أنّ الحقيقة واضحة لا تحتاج إلى التطويل ، كيف وكلمات العرب والرسول والصحابة والتابعين والأئمّة من آل الرسول وفقهاء الأُمّة مشحونة باستعمال هذه الكلمات في غيره سبحانه. ولم ير أحدٌ في إطلاقها على غيره ـ عزّ اسمه ـ حرجاً ، وقد نظروا إلى هذه المسائل بصدر رحب وعين بعيدة المدى ، ولم يضيّقوا الأمر على المسلمين ووجدوا الإسلام شريعة سهلة سمحة تتبع المقاصد والأغراض لا الظواهر والألفاظ.

فالوهّابيّة ـ كالخوارج ـ ضيّقوا الأمر على أنفسهم وعلى المسلمين بما لم يضيّق به سبحانه ، والطائفتان تسيران في عدّة من المسائل جنباً إلى جنب.

٣١٧

الآن حصحص الحقّ

حان الآن أيّها القارئ الكريم أن نختم هذا البحث الضافي حول عقائد الوهّابيّة وأُصولها وأهدافها بكلمة قصيرة نافعة للمجتمع الإسلامي عامّة وللشباب المسلم الغيور خاصّة.

إنّ الإسلام بُني على كلمتين : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، فيجب على الأُمّة الإسلامية أن تحفظ وحدة الكلمة وعُرى الاخوّة ، كما يجب عليها أن تحتفظ بكلمة التوحيد ، فإنّهما صنوان نابتان من أصل واحد.

فكما أنّ القرآن والسنّة حثّا على توحيده ـ سبحانه ـ ذاتاً وفعلاً وعبادةً ، فقد حثّا أيضاً على الاعتصام بحبل الله ونهيا عن التفرّق (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (١) وقال عزّ شأنه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً). (٢)

وقال الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «وألزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب ، ألا ومن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه». (٣)

فإذا كان توحيد الكلمة بهذا المكانة العالية ، فما حال من شقّ عصا

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) النساء : ١١٥.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٣.

٣١٨

المسلمين وبثّ فيهم الفرقة ومزّق صفوفهم وشتّت شملهم بغرس شكوك في أُمور طالما اتّفقت عليها الأُمّة الإسلامية قبل أن يتولّد باذر الشكوك ـ أعني : ابن تيميّة ـ وساقيها ـ أعني : محمّد بن عبد الوهّاب ـ.

أيّها القارئ العزيز : إنّ ما تلوناه عليك في هذه الصحائف هو مقتضى نصوص الكتاب الحكيم وسنّة النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونتيجة ما أجمعت عليه الأُمّة الإسلامية طوال القرون ، فأيّ قيمة لكلمة أو كلمات تضادّ كتاب الله وسنّة نبيّه ـ عليه وعلى آله الصلاة والسلام ـ وما اتّفقت عليه الأُمّة.

يعزّ على الأُمّة الإسلامية وفي مقدّمتها علماؤها ومفكّروها أن يوجد أُناس في «أُمّ القرى» ومهبط الوحي يكفّرون الأُمّة جمعاء من سنّة وشيعة ولا يستثنون منهم إلّا شذّاذ الآفاق من بلاد نجد.

وقد وقف الأعاظم من أبناء الأُمّة الإسلامية على خطورة الموقف وأضرار هذه الهواجس الشيطانية التي زرعها ابن تيمية حتّى قال الحافظ ابن حجر في كتابه «الفتاوى الحديثية» في حقّه ما هذا نصّه :

«ابن تيميّة عبدٌ خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه ، وبذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله ، ومن أراد فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتّفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبو الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العزّ بن جماعة وأهل عصرهم من الشافعية والمالكية والحنفية ، ولم يقصر اعتراضه ـ ابن تيميّة ـ على متأخّري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما.

والحاصل : أنّه لا يقام لكلامه وزن يرمى في كلّ وعر وحَزَن ، ويعتقد فيه أنّه

٣١٩

مبتدع ضالّ مضلّ غال عامَله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله ـ آمين ـ.(١)

وأسأل الله أن يجعلنا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

وصلّى الله على سيّدنا محمّد خاتم النّبيّين

وآله الطّيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين

وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربّ العالين.

جعفر السبحاني

قم المشرّفة

عيد الغدير ـ ١٨ ذي الحجة ـ ١٤٠٦ هـ

__________________

(١) الفتاوى الحديثية : ص ٨٦.

٣٢٠