الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

«إنّ المسألة بحقّ المخلوقين لا تجوز ، لأنّه لا حقّ للمخلوق على الخالق». (١)

الجواب

إنّ هذا الاستدلال ليس إلّا اجتهاداً في مقابل النصّ الصريح ، إذ لو لم يكن للمخلوق حقٌّ في ذمّة الخالق سبحانه ، فلما ذا أقسم النبيّ آدم ـ عليه‌السلام ـ والنبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على الله بهذه الحقوق ، وسألا من الله الحاجة بسببها كما ورد في الأحاديث السابقة؟!

وبالإضافة إلى ذلك ... ما ذا يقول هؤلاء بشأن الآيات القرآنية التي تُثبت لعباد الله الصالحين حقوقاً في ذمّته سبحانه ، وكذلك الأحاديث الشريفة؟!

اقرأ هذه الآيات :

(... وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). (٢)

(... وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ...). (٣)

(... كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ). (٤)

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ). (٥)

وبالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة ... هناك مجموعة كبرى من الأحاديث الشريفة في هذا المجال ، وإليك نماذج منها :

١. «حقٌّ على الله عَوْن من نَكَحَ التِماسَ العِفاف مِمّا حَرَّم الله». (٦)

٢. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلى اللهِ عَوْنُهُمْ : الغازي في سَبيل الله ،

__________________

(١) كشف الارتياب : نقلاً عن القدوري.

(٢) الروم : ٤٧.

(٣) التوبة : ١١١.

(٤) يونس : ١٠٣.

(٥) النساء : ١٧.

(٦) الجامع الصغير للسيوطي : ٢ / ٣٣.

٢٨١

والمُكاتَب الّذي يُريدُ الأداء ، والناكحُ الّذي يُريد التَّعَفُّفَ». (١)

٣. «أَتَدْري ما حَقُّ الْعِبادِ عَلَى اللهِ ...». (٢)

نعم ... من الواضح أنّه ليس لأحدٍ بذاته حقٌّ على الله تعالى ، حتّى لو عبد الله قروناً طويلة ، خاشعاً خاضعاً لله ، لأنّ كلّ ما للعبد فهو من عند الله تعالى ، فلم يبذل العبد شيئاً من نفسه في سبيل الله كي يستحقّ بذاته الثواب.

ونسأل : فما معنى «الحقّ»؟

الجواب : أنّ المقصود من الحقّ في هذه العبارات ـ هو الجزاء والمنزلة الّتي يمنحها الله لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم له سبحانه ، فهو مزيدٌ من التفضُّل والعناية منه تعالى ، ويدلّ على ألطافه وعظمته.

فهذا «الحقّ» الّذي نُقسِم به على الله ، حقٌّ جعله الله ، لا أنّ العبد له حقٌّ على الله ، وقد أُشير إلى هذا المعنى بالذات في بعض الأحاديث الشريفة.

وهذا مثل القرض الّذي يستقرضه الله من عباده في قوله سبحانه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ...). (٣)

إنّ هذه التعهدات الإلهية ـ ومَنْح الحقّ لعباده ـ نابعة من ألطاف الله وعنايته الفائقة بعباده الصالحين حيث يعتبر ذاته المقدّسة مديونة لعباده ، ويعتبر عباده أصحاب الحقّ ، وفي هذا الأمر من الترغيب والتشجيع إلى طاعة الله ما لا يخفى.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٤١.

(٢) النهاية لابن الأثير : مادّة «حق».

(٣) البقرة : ٢٤٥.

٢٨٢

الفصل الثامن عشر

الحلف بغير الله تعالى

إنّ الحلف والقَسَم بغير الله تعالى هو من المسائل الحسّاسة عند الوهّابيّين ، والتي يُهرِّجون ضدّها في أبواقهم وأقلامهم المنحرفة.

فهذا «الصنعاني» ـ من مؤلّفي الوهّابيّة ـ يعتبر الحلف بغير الله شركاً!! (١)

كما يعتبره مؤلّف «الهدية السنية» شركاً صغيراً. (٢)

نحن الآن نقوم ـ بحول الله وقوّته ـ بدراسة المسألة ـ دراسة موضوعية بعيدة عن التعصُّب ـ متّخذين من كتاب الله وسنّة رسوله والأئمّة المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ مصباحاً منيراً يضيء لنا الدرب في هذا المجال ـ وكلّ مجال ـ.

الأدلّة على جواز الحِلف بغير الله

الدليل الأوّل

إنّ القرآن الكريم هو الثقل الأكبر والقائد الأعلى والمثَل الحيّ لكلّ مسلم ، وترى فيه الحلف بغير الله في عشرات المواضع منه ، بحيث يؤدّي ذكرها بالتفصيل إلى إطالة البحث.

__________________

(١) تطهير الاعتقاد للصنعاني : ١٤.

(٢) الهدية السنية : ٢٥.

٢٨٣

فمثلاً : أقسم الله تعالى ـ في سورة الشمس وحدها ـ بثمانية أشياء من مخلوقاته وهي : الشمس ، ضُحى الشمس ، القمر ، النهار ، الليل ، السماء ، الأرض ، النفس الإنسانية. (١)

كما أقسم سبحانه في سورة «النازعات» بثلاثة أشياء (٢) وأقسم بشيئين في سورة «المرسلات» (٣) وكذلك ورد الحلف بغير الله في سورة «الطارق» و «القلم» و «العصر» و «البلد».

وإليك نماذج من آيات الحلف بغيره سبحانه ، من سور أُخرى :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). (٤)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى). (٥)

(وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ). (٦)

(وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). (٧)

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). (٨)

فكيف يجوز الحكم بأنّ الحلف بغير الله شرك وحرام ، مع هذه الآيات القرآنية الزاخرة بذلك؟!

فإن قال قائل : إنّ هذا القَسم خاصٌّ بالله سبحانه.

فالجواب كلّا ... إنّ القرآن كتاب هداية للبشر ، والناس يتّخذونه قدوة

__________________

(١) الشمس : ١ ـ ٧.

(٢) النازعات : ١ ـ ٣.

(٣) المرسلات : ١ و ٣.

(٤) التين : ١ ـ ٣.

(٥) الليل : ١ ـ ٢.

(٦) الفجر : ١ ـ ٤.

(٧) الطور : ١ ـ ٦.

(٨) الحجر : ٧٢.

٢٨٤

وأُسوة ، فلو كان هذا النوع من الحلف حراماً على عباد الله ، لكان المفروض أن يُحذّر منه القرآن ويذكر بأنّ هذا القَسم هو من خصائص الله تعالى ، وعدم ذكر ذلك دليلٌ على عدم اختصاصه به سبحانه.

وقد قال بعض من لا ذوق له ـ ممّن يجهل أهداف القرآن ـ بأنّه يمكن أن يكون ما يصدر من الله جميلاً ، وصدور نفس ذلك الشيء من غيره قبيحاً؟!

والجواب على هذا واضح ، لأنّ الحلف بغير الله لو كان شركاً وتشبيهاً لغير الله بالله.

فلما ذا صدر هذا الشِّرك ـ الصغير أو المطلق ـ من الله تعالى؟!

أيصحّ أن يجعل الله لنفسه شريكاً ، ويمنع غيره من ارتكاب مثل هذا الشِّرك؟!

الدليل الثاني

لقد حلف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بغير الله في موارد عديدة منها :

١. روى مسلم في صحيحه :

«جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ فَقالَ : يا رَسُولَ الله أيُّ الصَّدَقَة أعظَمُ أَجْراً؟ فَقال : أما ـ وأبيك ـ لتُنَبّئنَّهُ أن تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحيحٌ شَحيحٌ ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأمَلْ الْبَقاء». (١)

٢. وروى مسلم أيضاً :

«جاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ الله ـ مِنْ نَجْدٍ ـ يَسْألُ عَنِ الإسلام ، فَقالَ رَسُولُ الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : خَمْسُ صَلَوات فِي الْيَوم وَاللَّيلِ.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٩٤ ، كتاب الزكاة ، باب أفضل الصدقة.

٢٨٥

فقال : هَلْ عَلَيَّ غَيْرَهُنَّ؟

قال : لا ... إلّا أن تطوَّعَ ، وصيامُ شَهْرِ رَمَضان.

فَقالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟

قالَ : لا ... إلّا أنْ تَطَوّعَ ، وذكَرَ له رَسُول الله الزَّكاة.

فقال الرجُلُ : هَلْ عليَّ غيره؟

قال : لا ... إلّا أنْ تَطوَّع.

فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَالله لا أزيدُ عَلى هذا ولا أنْقُصُ مِنْهُ.

فَقالَ رَسُولُ الله : أفْلَحَ ـ وأبيه ـ (١) إن صدَقَ. (٢)

ـ أو قال ـ : دَخَلَ الجَنَّةَ وأبيه ـ إنْ صَدَقَ. (٣)

٣. وجاء هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل ، وفي نهايته أنّ النبيّ قال له :

«... فَلَعَمْري لَئنْ تَكَلَّم (٤) بمعرُوفٍ وَتنهى عن مُنْكر ، خيرٌ من أنْ تَسكُتَ». (٥)

وهناك أحاديث أُخرى ، لا يسع هذا الكتاب ذكرها. (٦)

وقد أقسم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ الّذي يُعتبر النموذج البارز للتربية الإسلامية والقِيَم العالية أقسم بنفسه الشريفة أكثر من مرّة في

__________________

(١) أي : قَسَماً بأبيه : فالواو واو القَسم.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ٣٢ ، باب ما هو الإسلام.

(٣) صحيح مسلم : ١ / ٣٢ ، باب ما هو السلام.

(٤) أي تتكلّم ـ للمخاطب ـ كما في قوله تعالى : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتصدّى.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ٢٢٥.

(٦) للتفصيل راجع مسند أحمد : ٥ / ٢١٢ ؛ سنن ابن ماجة : ٤ / ٩٩٥ و ١ / ٢٥٥.

٢٨٦

خُطبه ورسائله وكلماته (١) وكذلك أقسم أبو بكر بن أبي قحافة بأبي الشخص الذي كان يتكلّم معه. (٢)

المذاهب الأربعة والحلف بغير الله

قبل أن نتناول أدلّة الوهّابيّة على حرمة الحلف بغير الله ، من الأفضل أن نسجّل فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة حول هذه المسألة. (٣)

أمّا الحنفيّة فيقولون بأنّ الحلف ـ بالأب والحياة ـ كقول الرجل ـ وأبيك ، أو : وحياتك ـ وما شابه مكروه.

وأمّا الشافعيّة فيقولون بأنّ الحلف بغير الله ـ لو لم يكن باعتقاد الشرك ـ فهو مكروه.

وأمّا المالكيّة فيقولون : إنّ في القَسم بالعظماء والمقدّسات ـ كالنبيّ والكعبة ـ فيه قولان : الحرمة والكراهة ، والمشهور بينهم هو الحرمة.

وأمّا الحنابلة فيقولون بأنّ الحلف بغير الله وبصفاته سبحانه حرام ، حتّى لو كان حلفاً بالنبيّ أو بأحد أولياء الله تعالى.

هذه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة ، ولسنا الآن في مقام المناقشة مع القائلين منهم بالحرمة ، وأنّ فتاواهم من الاجتهاد في مقابل النصوص القرآنية وسنّة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسيرة أولياء الله سبحانه ، وأنّ علماء هذه المذاهب سدُّوا باب الاجتهاد على أنفسهم ، فصاروا مجبورين على الأخذ بآراء أئمّة المذاهب الأربعة فقط.

__________________

(١) راجع نهج البلاغة ـ تعليق محمّد عبده ـ : خطبة رقم ٢٣ ، ٢٥ ، ٥٦ ، ٨٥ ، ١٦١ ، ١٦٨ ، ١٨٢ ، ١٨٧ ، والرسالة رقم ٦ ، ٩ ، ٥٤.

(٢) كتاب الموطّأ : لمالك بن أنس ـ إمام المالكيّة ـ المطبوع مع شرح الزرقاني ، ج ٤ ، ص ١٥٩.

(٣) للتفصيل راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٧٥ ، طبعة مصر.

٢٨٧

ولسنا واثقين ممّا نُسب إليهم في هذه المسألة ، لأنّ القسطلاني ذكر (١) عن مالك بن أنس أنّه كان يقول بكراهة الحلف بغير الله.

ونسبة الحرمة إلى الحنابلة غير ثابت أيضاً ، لأنّ ابن قدامة يذكر ـ في كتاب المغني الّذي كتبه في فقه الحنابلة ـ أنّ أحمد بن حنبل أفتى بجواز الحلف بالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنّه ينعقد ، لأنّه أحد رُكني الشهادة ، فإن حنث لزمته الكفّارة. (٢)

مع كلّ ما سبق من الأقوال ... لا يمكن التأكّد ـ إطلاقاً ـ من أنّ أحد أئمّة المذاهب الأربعة قد أفتى بحرمة الحلف بغير الله تعالى.

أيّها القارئ الكريم : بعد الاطّلاع على فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة ، ننتقل إلى ذكر حديثين تمسّك بهما الوهّابيّون في حرمة الحلف بغير الله ، وأراقوا من أجل ذلك دماء الأبرياء(٣) واستهدفوا ملايين المسلمين بسهام التكفير السامّة :

الحديث الأوّل

«إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سمع عُمَر وَهُو يَقُول ، وأبي ، فقال : إنّ الله يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ ، وَمَنْ كانَ حالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أوْ يَسْكُتْ». (٤)

__________________

عام ١٢٥٩ هـ ولم يرحموا صغيراً ولا كبيراً حتّى انّهم قتلوا سنة آلاف مسلم خلال ثلاثة أيّأم فقط ، ونهبوا كل ما كان في الحرم الحسيني الشريف من نفائس قيّمة ، اقتداء بما فعله جيش يزيد بن معاوية عند الهجوم على مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لماذا؟ لماذا هذه الحملات الحاقدة؟! السبب هو أنّ هؤلاء المسلمين كانوا يُقسمون على الله بأنياء رسول الله ويحملون المحبّة والمودّة تجاهم

(٤) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٧ ؛ سنن الترمذي : ٤ / ١٠٩ وغيرهما.

(١) سنن النسائي : ٧ / ١٧ سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٨ ، والطواغيت : هي الأصنام.

(٢) سنن النسائي : ٧ / ٩.

(١) سنن النسائي : ٧ / ٨.

٢٨٨

الجواب

أوّلاً : لعلّ النهي عن الحلف بالآباء قد جاء لأنّهم ـ في الغالب ـ كانوا مشركين وعَبَدة للأصنام ، ولهذا فلا حُرمة ولا كرامة لهم حتّى يحلف أحدٌ بهم.

وقد جاء في الحديث عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«لا تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ وَلا بِالطَّواغيت». (١)

وروي أيضاً :

«لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ وَلا بأُمّهاتِكُمْ وَلا بالأَنْدادِ». (٢)

فاقتران الطواغيت ، و «الأنداد» بالآباء لدليل واضح على أنّ الآباء كانوا عبدتها.

ثانياً : إنّ المقصود من النهي عن الحلف بالأب هو ذلك الحلف الّذي يُفصل به في القضاء والخُصومات وحسم الخلافات ، لأنّ علماء الإسلام اتّفقوا على أنّ اليمين الّتي تحسم الخلاف والنزاع هو الحلف بالله سبحانه وبصفاته فقط ، أمّا سوى ذلك فلا.

مع وجود هذه القرائن الواضحة ... كيف يمكن أن يقال بأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نهى عن الحلف بالمقدّسات ـ كالكعبة والقرآن وأولياء الله تعالى ـ مع العلم أنّ النهي خاصّ بمورد معيّن ، وأنّ النبيّ بنفسه كان يحلف بغير الله؟

الحديث الثاني

«جاءَ ابن عُمَر رَجلٌ فقال : أحلِف بالكعبة؟ قال له : لا ، ولكن احلف بربّ

__________________

(١) سند النسائي : ٧ / ٨.

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٤.

٢٨٩

الكَعبة ، فإنّ عمر كان يَحلف بأبيه فقال رسول الله : لا تَحلِف بأبيك فإنّ من حَلف بغير الله فقد أشرك». (١)

الجواب الأوّل

إنّ هذا الحديث يتألّف من ثلاثة أُمور :

١. إنّ رجلاً جاء إلى ابن عمر فقال : أحلف بالكعبة؟ فأجابه بقوله : لا ، ولكن احلف بربّ الكعبة.

٢. إنّ عمر بن الخطّاب كان يحلف بأبيه ، فنهاه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن ذلك.

٣. إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علّل ذلك بقوله : «مَن حلف بغير الله فقد أشرك».

والقدر المتيقّن من كلام الرسول ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدّس كالكافر والصنم بشهادة انّ النبي ذكر ذلك عند ما حلف عمر بأبيه الخطاب الكافر ، ولا يمكن انتزاع ضابطة كلية تعمّ الحلف بالكافر والمؤمن. ولكن ابن عمر اجتهد بأنّ قول النبيّ «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» الّذي ورد في الحلف بالمشرك ـ وهو الخطّاب الذي هو والد عمر ـ اجتهد بأنّه يشمل الحلف بالمقدّسات أيضاً كالكعبة ، مع العلم بأنّ كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد ورد في الحلف بالمشرك.

وحصيلة الكلام : أنّ النبيّ إنّما أعطى هذه القاعدة عند ما أعطاها خاصّاً بما إذا كان المحلوف به أمراً غير مقدّس ولكن ابن عمر اجتهد وجعله أعمّ منه ومن غيره ، واجتهاده حجّة على نفسه لا على غيره.

وقد أوضحنا سابقاً بأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يحلف بغير الله سبحانه كثيراً فيجب

__________________

(١) النسائي : ٧ / ٨.

٢٩٠

أن نُفَسِّر قوله : «مَنْ حَلف بغير الله فقد أشرك» على الحلف بالمشرك وأمثاله ، لا على الحلف بالمقدّسات كالقرآن والكعبة والنبيّ ، بدليل أنّ النبيّ إنّما أعطى هذه القاعدة عند حلف عمر بأبيه المشرك.

فتطبيق هذا الحديث على الأعمّ من المشرك وغيره اجتهادٌ من ابن عمر ، واجتهاده حجّة لنفسه فقط لا لغيره.

وتسأل : لما ذا اعتبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الحلف بالمشرك شركاً؟

والجواب : لأنّ الحلف به نوع من الإشادة بشخصيّته والتعظيم له والتصديق لدينه الباطل وعقيدته المنحرفة.

والخلاصة : أنّنا نصدّق أصل الحديث ، ولا نصدّق اجتهاد ابن عمر ، نظراً لمخالفته لسُنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسيرة الصحابة ، فالقاعدة المذكورة في حديث النبيّ الكريم مختصّة بما حلف به عمر ، ولا تعمّ المقدّسات الإسلامية أبداً.

وأمّا الحلف بالكعبة والقرآن والأنبياء والأولياء ـ في غير القضاء والخصومات فهو خارج عن تلك القاعدة العامّة ، وليس شركاً ولا حراماً.

الجواب الثاني

وهنا جواب آخر أوضح من الجواب الأوّل ، وهو أنّ قول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «من حلفَ بغير الله فقد أشرَكَ» يشير إلى حلفٍ خاصّ وهو الحلف بالأصنام ـ كاللّات والعُزّى ـ فقط ولا يعمّ الإنسان المشرك فضلاً عن المقدّسات.

ويؤيّد هذا الجواب ما رواه النسائي في سُنَنه : إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

«مَنْ حَلَفَ فَقالَ في حلفِهِ : باللّات والعُزّى فليَقُل : لا إِلهَ إِلّا الله». (١)

__________________

(١) سنن النسائى : ٧ / ٨.

٢٩١

وما رواه ـ في نفس المصدر ـ إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

«لا تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ ولا بِأُمّهاتِكُمْ وَلا بالأنْدادِ».

إنّ الحديث الأوّل يدلّ على أنّ رواسب الجاهلية كانت باقية في بعض النفوس ، فكانوا يحلفون بأصنامهم المعبودة من دون الله ، فأمرهم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بقول : «لا إلهَ إلّا الله» من أجل القضاء على تلك الرواسب الجاهلية.

ويُستفاد ممّا رواه إمام الحنابلة أنّ قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «مَنْ حَلَفَ بِغَير الله فَقَدْ أَشْرَكَ» كان حديثاً مستقلاً ، فجاء ابن عمر وأدخل اجتهاده الشخصي ـ في عموم الحلف بالأب وبالمقدّسات ـ في سياق الحديث ، ولم يكن الحلف بالآباء ولا المقدّسات داخلاً فيه ، وإن أدخلهما فيه ابن عمر.

الحديث الّذي رواه إمام الحنابلة هو هذا :

«عن ابن عمر : كان يحلف أبي ، فنهاه النبيّ ، قال : من حلفَ بشيء دون الله فقد أشرك». (١)

فإنّك ترى حديث النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مستقلاً عن مقالة ابن عمر ، ولم يأت ب «واو» العاطفة أو «فاء» التفريع ، بل قال «فنهاه النبيّ ، قال : ...» ممّا يدلّ على أنّ الحديث صدر في وقت آخر ، بصورة مستقلّة.

أيّها القارئ الكريم : لقد تلخّص من كلّ ما سبق :

١. إنّ الحلف بغير الله لا مانع منه شرعاً ، وقد صدر ذلك من الله تعالى في القرآن الكريم ومن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والإمام أمير المؤمنين عليّ ـ عليه‌السلام ـ والمسلمين.

٢. إنّ الحلف بغير الله لا يصحّ ـ ولا نقول : لا يجوز ـ في القضاء والخصومات ، بل لا بدّ من الحلف بالله جلّ جلاله أو بإحدى صفاته ، وقد ثبت

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٤.

٢٩٢

هذا بالدليل الخاصّ ولا علاقة له بهذا البحث.

٣. إنّ الحديثين اللّذين استدلّ بهما الوهّابيّون ـ على حرمة الحلف بغير الله ـ لا علاقة لهما بما نحن فيه من الحلف بالمقدّسات الإسلامية ـ كالقرآن والكعبة والأنبياء والأئمّة والأولياء ـ بل هي خاصّة بالحلف بالأُمور غير المقدّسة كالآباء المشركين والأصنام المعبودة في الجاهلية.

وهكذا يتعرّى الوهّابيّون من الأقنعة «الإسلامية!!» المزيَّفة الّتي يُلبسون بها آراءهم الشاذّة وأفكارهم الباطلة ، والحمد لله ربّ العالمين.

٢٩٣
٢٩٤

الفصل التاسع عشر

الاستغاثة بأولياء الله تعالى

هل يجوز نداء أولياء الله والاستغاثة بهم في الشدائد والمكاره؟

هذه المسألة من المسائل التي وقع الاختلاف فيها بين الوهّابيّين وغيرهم. فالسُنَّة الإسلامية قائمة بين المسلمين على الاستغاثة بالأنبياء وأولياء الله ، وندائهم بأسمائهم عند الشدائد والمصاعب والأخطار المحتملة ، سواء كانت الاستغاثة عند قبورهم الشريفة أو في مكان آخر. ولا يرى المسلمون بأساً في هذه الاستغاثة ، ولا شركاً ولا مخالفة للدين ، في حين يتعصّب الوهّابيّون ضدّ هذه الظاهرة الإسلامية تعصُّباً شديداً ، ويتذرّعون ببعض الآيات القرآنية ـ التي لا علاقة لها بالمسألة أبداً ـ لتلبيس باطلهم بالحق ، كقوله تعالى :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). (١)

ولكي تطّلع ـ أيّها القارئ الكريم ـ على الآيات القرآنية التي يستدلّ بها الوهّابيّون على رأيهم الشاذ ، نتناول تلك الآيات بالبحث والتشريح ـ إن شاء الله تعالى ـ كي تعرف تفسيرها الصحيح ، وبذلك نردّ عليهم من نفس القرآن الكريم الذي زعموا أنّهم يستدلّون به ، قبل كلّ شيء ، نذكر بعض تلك الآيات :

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ...). (٢)

__________________

(١) الجن : ١٨.

(٢) الرعد : ١٤.

٢٩٥

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). (١)

(... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). (٢)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ...). (٣)

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)(٤)

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ...). (٥)

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ...). (٦)

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ...). (٧)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...). (٨)

بهذه الآيات يستدلّ الوهّابيّون على حرمة الاستغاثة بأولياء الله ودعائهم وندائهم بعد وفاتهم ، وأنّ ذلك عبادة لهم وشرك بالله ، فإذا قال رجل ـ عند قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو في مكان آخر ـ : «يا محمّد» فقد عبده بهذا النداء والدعاء!!!

يقول الصنعاني ـ الوهّابيّ ـ :

«وقد سمّى الله الدعاء عبادة بقوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء ، أو قال «اشفع لي إلى الله في حاجتي» أو «أستشفع بك إلى الله في حاجتي» أو نحو ذلك ، أو قال :

__________________

(١) الأعراف : ١٩٧.

(٢) فاطر : ١٣.

(٣) الأعراف : ١٩٤.

(٤) الإسراء : ٥٦.

(٥) الإسراء : ٥٧.

(٦) يونس : ١٠٦.

(٧) فاطر : ١٤.

(٨) الأحقاف : ٥.

٢٩٦

«اقض دَيني» أو «اشف مريضي» أو نحو ذلك فقد دعا النبيّ والصالح ، والدعاء عبادة بل مُخُّها ، فيكون قد عبد غير الله وصار مشركاً ، إذ لا يتمّ التوحيد إلّا بتوحيده تعالى في الإلهيّة (١) باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات ، وعُبّاد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد الله في العبادة». (٢)

الجواب

ممّا لا شكّ فيه أنّ لفظ «الدعاء» ـ في اللغة العربية ـ معناه : النداء ، وقد يُستعمل في معنى العبادة ، إلّا أنّه لا يمكن ـ بأيّ وجه ـ أن نعتبر الدعاء والعبادة لفظين مترادفين في المعنى ، فلا يمكن أن نقول : كلّ دعاء عبادة ، وذلك للأُمور التالية :

الأوّل : لقد استعمل القرآن المجيد لفظ «الدعاء» في مواضع عديدة ، ولا يمكن القول بأنّ مقصوده منه : العبادة ، فمثلاً ... يقول تعالى :

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً). (٣)

فهل يصحّ أن يُقال : إنّ النبيّ نوحاً ـ عليه‌السلام ـ قصد من كلامه هذا أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً؟!

واقرأ قوله تعالى ـ عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة ـ :

(... وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). (٤)

هل هناك من يحتمل أنّ معنى دعاء الشيطان للمذنبين هو عبادته لهم؟! مع العلم أنّ العبادة ـ إذا تحقّقت ـ تكون من المذنبين للشيطان لا من الشيطان لهم.

__________________

(١) لقد استعمل الصنعاني كلمة «الإلهيّة» بدل «الربوبيّة» على خلاف عادة الوهّابيّين.

(٢) كشف الارتياب : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ نقلاً عن تنزيه الاعتقاد للصنعاني.

(٣) نوح : ٥.

(٤) إبراهيم : ٢٢.

٢٩٧

في هاتين الآيتين ـ وآيات أُخرى مماثلة نغضّ النظر عن ذكرها جاء لفظ «الدعوة» في غير معنى العبادة ، ولهذا لا يمكن القول بأنّ الدعاء والعبادة لفظان مُترادفان ، وأنّ من دعا أحد الأنبياء أو الأولياء فقد عبَده وأشرك بالله ، كلّا ، لأنّ الدعوة ـ والدعاء ـ أعمّ من العبادة وغيرها. (١)

الثاني : إنّ معنى «الدعاء» ـ في الآيات التي استدلّ بها الوهّابيّون ، ليس مطلق النداء ، بل معناه النداء على وجه يكون مرادفاً للعبادة ، لأنّ جميع هذه الآيات إنّما نزلت في شأن عَبَدة الأصنام الذين كانوا يعتقدون بأنّها آلهة صغيرة قد فُوِّض إليها بعض شئون الكون ، ولها الاستقلال في التصرُّف ، فمن الواضح أنّ كلّ دعاء ونداء لهذه الأصنام ـ سواء كانت آلهة كبيرة أو صغيرة ـ مع الاعتقاد بأنّها مالكة الشفاعة والمغفرة ، يُعتبر شركاً وعبادة لها.

وأوضح دليل على أنّ عبدة الأصنام كانوا يدعون أصنامهم باعتقاد ألوهيّتها هو قوله تعالى :

(... فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ...). (٢)

إذن : لا علاقة بين الآيات المذكورة وهذه المسألة إطلاقاً ، لأنّ البحث حول استغاثة إنسان بإنسان آخر من دون الاعتقاد بربوبيّته وألوهيته ولا بمالكيّته ولا باستقلاله في التصرّف في أُمور الكون والدنيا والآخرة ، بل باعتبار أنّه عبدٌ صالح ووجيهٌ عند الله ، قد اصطفاه الله للنبوّة أو للإمامة ، ووعد باستجابة دعائه في حقّ

__________________

(١) وعلى اصطلاح أهل المنطق ، بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه ، فالاستغاثة بأولياء الله ـ مع الاعتقاد بقدرتهم المستمدَّة من قدرة الله ـ دعاء لا عبادة ، وبعض الفرائض الدينية كالركوع والسجود ـ المقرونين بألوهيّة من تركع وتسجد له ـ عبادة لا دعاء ، والصلاة ـ مثلاً ـ دعاء وعبادة.

(٢) هود : ١٠١.

٢٩٨

من يدعو له ، كما قال تعالى :

(... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). (١)

الثالث : إنّ في الآيات ـ التي استدلّ بها الوهّابيّون ـ دليلاً على أنّ المقصود من «الدعاء» هو العبادة لا مطلقاً.

تأمّل قوله تعالى :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ). (٢)

لقد ذكر سبحانه لفظ (ادْعُونِي) ثمّ أتبعها بلفظ (عِبادَتِي) ممّا يدلّ دلالة واضحة ـ على أنّ المقصود من (ادْعُونِي) ـ هنا ـ : عبادة الله وترك عبادة غيره. ولهذا كان المشركون (يَسْتَكْبِرُونَ) عن دعائه وعبادته سبحانه.

يقول حفيد رسول الله الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ في دعاء له :

«... فَسَمَّيتَ دُعاءَكَ عِبادةً ، وتَرْكَهُ استِكْباراً ، وتَوعَّدتَ عَلى تَركِهِ دُخُول جَهَنَّمَ داخِرينَ». (٣)

وقد جاءت في القرآن الكريم آيتان بمعنى واحد ، استعمل في إحداها لفظ «العبادة» وفي الثانية لفظ «الدعوة».

فالأُولى قوله سبحانه :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ...). (١)

والثانية هي قوله سبحانه :

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) غافر : ٦٠.

(٣) الصحيفة السجّادية : دعاء رقم ٤٥.

٢٩٩

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ...). (٢)

ويقول سبحانه :

(... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). (٣)

في هذه الآية جاء بلفظ «تَدْعُونَ» وفيها دلالة واضحة على أنّ هذه الدعوة هي دعوة الأصنام ، وكان المشركون يعتقدون بأنّها آلهة «مِنْ دُونِهِ» تضرُّ وتنفع ، ولهذا ردّ الله عليهم بقوله : (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).

وجاء هذا المعنى في آية مماثلة بلفظ «تَعْبُدونَ» وهي قوله سبحانه :

(... إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ...). (٤)

وفي آية أُخرى جاءت الكلمتان مُتقارنتين بمعنى واحد ، وهي قوله عزوجل :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...). (٥)

أيّها القارئ الكريم : أرجو منك أن تقوم بمراجعة «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» مادّة : «عَبَدَ» و «دعا» كي ترى بعينك كيف جاء لفظ «العبادة» ـ في آية ـ و «الدعوة والدعاء» ـ في آية أُخرى ـ بمعنى واحد ومضمون واحد ، ممّا يدلّ ـ أوضح دلالة ـ على أنّ المقصود من الدعوة والدعاء ـ في هذه الآيات ـ هي العبادة ، لا مطلق النداء والدعاء.

فإذا تأمّلتَ الآيات الّتي تضمّنت لفظ «الدعاء والدعوة» بمعنى العبادة ، لرأيت أنّ تلك الآيات تتحدّث عن الصراع بين الإيمان والكفر ، بين عبادة الله

__________________

(١) المائدة : ٧٦.

(٢) الأنعام : ٧١.

(٣) فاطر : ١٣.

(٤) الأنعام : ٥٦ ، وبهذا المضمون في سورة غافر : آية ٦٦.

٣٠٠