الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

في كلّ من سورة النمل من آية ١٦ إلى ٤٤ ، وسورة سبأ آية ١٢ ، وسورة الأنبياء آية ٨١ ، وسورة ص من آية ٣٦ إلى ٤٠.

إنّ التأمّل في هذه الآيات يكشف لنا عن جانب من المواهب العظيمة والقدرات الغيبية الّتي مَنَحها الله لعبده ونبيّه سليمان ـ عليه‌السلام ـ.

وها نحن نذكر لك الآن بعض تلك الآيات ، كي تتجلّى لك عظمة تلك السُّلطة الغيبية وترى بعينك أنّ القرآن الكريم يُثبت القدرة الغيبية لبعض عباد الله تعالى.

لقد كانت للنبي سليمان السُّلطة على الجنّ والطيور ، وكان يعرف منطق الطير ولغات الحشرات ، يقول الله تعالى :

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ* وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) إلى آخر الآيات. (١)

أيّها القارئ الكريم : ولو قرأت ـ في القرآن الحكيم ـ قصّة «الهُدهُد» الذي أرسله سليمان ـ عليه‌السلام ـ مبعوثاً إلى ملكة سبأ ، حاملاً رسالة منه إليها ، لاستولت عليك الدهشةُ والحيرة من القدرة الغيبية التي كانت له ، لهذا نرجو منك التأمّل في الآيات ٢٠ إلى ٤٤ من سورة النمل ، كي تتأكّد أكثر من بُطلان مذهب الوهّابيّة وتناقضه مع القرآن.

__________________

(١) النمل : ١٦ ـ ١٩ وما بعدها.

٢٦١

هذا وقد كان للنبي سليمان ـ بتصريح القرآن الكريم ـ السلطة على الريح ، تجري بأمره حيث يشاء قال تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ). (١)

إنّ ما يُلفت الانتباه ـ في هذه الآية ـ هو قوله سبحانه : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حيث يدلّ على سلطة سليمان الغيبية على الريح ، وتحكُّمه في مسيرها ومجراها.

٤. النبيّ عيسى عليه‌السلام والقدرة الغيبية

يمكننا أن نتعرّف على جانب من القدرة الغيبية التي كانت للنبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ من خلال التأمّل في الآيات القرآنية التي تتحدّث عنه وعنها ، ومنها قوله تعالى ـ عن لسان عيسى ـ.

(... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (٢)

لقد تكرّر قوله «بإذن الله» مرّتين في هذه الآية ، تأكيداً على أنّ التصرُّفات الغيبيّة التي يقوم بها أولياء الله إنّما هي بالاستمداد من قدرة الله تعالى وإرادته ، ولهذا ترى عيسى ـ عليه‌السلام ـ يعتبر تصرُّفاته كلّها رهينة بإذن الله تعالى ، وهكذا غيره من الأنبياء والأولياء قال تعالى :

(... وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...). (٣)

ولكنّك ترى في الوقت نفسه أنّ النبيّ عيسى ينسب كلّ أعماله الغيبية إلى

__________________

(١) الأنبياء : ٨١.

(٢) آل عمران : ٤٩.

(٣) الرعد : ٣٨.

٢٦٢

نفسه الشريفة فيقول : «أخلق» ، «أنفخ» ، «أُبرئ» ، «أَحيي» ، «أُنبِّئُكُمْ» بصيغة المتكلّم وحده.

هذا وليس النبيّ يوسف وموسى وعيسى وسليمان هم فقط الذين كانت لهم القدرات الغيبية ، بل هناك مجموعة من الأنبياء الذين كانوا يملكون تلك القدرة ، وهذا البحث يتطلب كتاباً مستقلاً ، وقد تحدّثنا حوله بالتفصيل في كتاب «القدرة المعنوية للأنبياء» وقد طُبع عدّة مرّات.

٥. الملائكة والقدرة الغيبية

إنّ الملائكة يتمتَّعون بالسلطة الغيبية أيضاً ، فهذا القرآن الكريم يصف جبرئيل بقوله :

(... شَدِيدُ الْقُوى). (١)

ويصف بعض الملائكة بقوله :

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (٢)

وغيرهما من الآيات الّتي تصرّح ـ أو تُشير ـ بأنّ الملائكة تتولّى إدارة شئون العالم ، من قبض الأرواح وحراسة الناس والمحافظة عليهم وكتابة الأعمال «كراماً كاتبين» ومُبيدات الأُمم الطاغية ، وغير ذلك من مسئوليات هذا الكون.

إنّ كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم ـ حتّى لو كان قليلاً ـ يعلم بأنّ للملائكة قدرات غيبيّة ، وأنّها تقوم بتصرّفات إعجازية بإذن الله وقوّته.

فلو كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية يستلزم الاعتقاد بالألوهيّة ، لكان كلّ

__________________

(١) النجم : ٥.

(٢) النازعات : ٥.

٢٦٣

واحدٍ من الأنبياء والملائكة إلهاً مستقلاً من دون الله سبحانه ، وهذا واضح البطلان.

فما هو الحلّ؟

ما هو الحلّ والقول الفصل؟

الجواب : لقد ذكرنا أنّ الحلّ والقول الفصل هو الفرق والتمييز بين القدرة المستقلَّة والقدرة المكتسبة ، فالاعتقاد بالقدرة المستقلّة ـ لغير الله ـ يستلزم الشرك به سبحانه ، بينما الاعتقاد بالقدرة المكتسبة ـ في أيّ مجال ـ هو التوحيد بذاته.

إلى هنا تبيّن لك ـ أيّها القارئ ـ أنّ الاعتقاد بالقدرة الغيبية لدى أولياء الله تعالى لن يُرافقه الشرك بل هو التوحيد بعينه ، بشرط أن تعتبر تلك القدرة مسنَدة إلى القدرة الأزلية لله تعالى.

كما تبيّن لك بأنّه ليس معنى التوحيد أن تسند الأفعال الطبيعية إلى الإنسان ، وتسند الأفعال الغيبية إلى الله تعالى ، بل إنّ حقيقة التوحيد هي أن تسند كلّ الأفعال إليه تعالى ، وتعتبر القوى والطاقات والقدرات نابعة منه وتابعة إليه جلّ جلاله.

والآن ... آن الأوان كي نتحدّث عن الركن الثاني في هذا الفصل ـ وهو جواز طلب الأعمال الإعجازية الغيبية من أولياء الله تعالى.

طلب الأعمال الغيبية من الأولياء

هل يجوز أن تطلب من أحد أولياء الله عملاً إعجازياً؟

وهل يُعتبر هذا الطلب شركاً؟

في البداية نقول : ممّا لا يختلف فيه اثنان هو أنّ «لكلّ معلول علّة ولكلّ

٢٦٤

مسبَّب سبب» فكلّ شيء لا يمكن أن يكون له وجود إلّا بسبب ، فالحياة حياة الأسباب والمسبّبات ، وبالتالي : لا توجد في العالم ظاهرة دون أن يكون لها سبب.

كذلك معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء لا تحدث بدون سبب ، بيدَ أنّ السبب ليس سبباً مادّيّاً طبيعياً ، بل هو غيبيّ ما ورائيّ فوق التصوّر.

فمثلاً : إذا تحوّلت عصا موسى إلى ثعبان ، وأحيا عيسى الموتى ، وانشقّ القمر لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسبَّحتْ حبّات الرمال في يده ، وغير ذلك من معجزات الأنبياء ... فإنّ كلّ هذه لم تحدث بلا سبب ، ولكن السبب ـ كما قلنا ـ ليس مادّيّاً ملموساً نراه بأعيينا ، لا أنّها حدثت بلا سبب أبداً.

بعد هذه الكلمة الخاطفة نتحدّث الآن عن الموضوع المطروح على بساط التحقيق وهو : طلب الأعمال الاستثنائية والإعجازية من أولياء الله تعالى.

إنّ الوهّابيّة تدّعي أنّ طلب الأعمال الخارقة للطبيعة شرك بالله سبحانه ، ولكن طلب الأعمال المادّية الطبيعية ليس كذلك ، فما هو رأي الإسلام حول هذا الادّعاء؟

الجواب : هذا القرآن الكريم خير دستور نتحاكم إليه ، ترى في مواضع متعدّدة منه التصريح بأنّه قد طلب من الأنبياء ـ وغيرهم القيام بأعمال إعجازية خارجة عن إطار قوانين الطبيعة المادّية.

فمثلاً : طلب قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ منه أن يوفّر لهم الماء والمطر ويُنقذهم من الجفاف الذي كانوا يُعانون منه ، وصدر الأمر من الله تعالى بتلبية طلبهم ، قال سبحانه :

(... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ). (١)

__________________

(١) الأعراف : ١٦٠.

٢٦٥

فإن قال قائل : لا مانع من طلب المعجزة من الإنسان الحي ، والبحث إنّما هو حول الطلب من الميّت.

فالجواب : أنّ الحياة بعد الموت لا يُغيّران حقيقة التوحيد والشرك ، بأن يكون الشيء توحيداً في حال الحياة وشركاً في حال الممات ، أو بالعكس ، بل تبقى الحقيقة ثابتة على كلّ حال.

نعم ... يمكن أن يكون للحياة والموت أثر في فائدة الطلب أو عدمها ، أمّا حقيقة التوحيد والشرك فلا تؤثّران فيهما.

النبيّ سليمان ـ عليه‌السلام ـ يطلب عرش بلقيس

يحدّثنا القرآن الكريم أنّ النبيّ سليمان ـ عليه‌السلام ـ طلب من الحاضرين عنده أن يحضر أحدهم عرش بلقيس ، بقدرة ماورائية غيبية وخارقة للطبيعة ، فقال لهم ـ كما في القرآن الكريم ـ :

(... أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ...). (١)

فإذا صحّ مذهب الوهّابيّين ـ في حرمة طلب الأعمال الخارقة من أحدٍ إلّا الله ـ لكان طلب النبيّ سليمان من الحاضرين ـ إحضار عرش بلقيس بقوّة ماورائية ـ كفراً وشركاً!!

وكان طلب المعجزة ممّن يدّعي النبوّة ـ في أيّ عصر ومصر ـ كفراً وشركاً ،

__________________

(١) النمل : ٣٨ ـ ٤٠.

٢٦٦

وقد كان الناس يُطالبون كلَّ من يدّعي النبوّة ـ صادقاً كان أم كاذباً ـ بالمعجزة الخارقة للطبيعة ، دليلاً على صدق دعواه واتّصاله بالعالم الأعلى ، ولم يطلبوا ذلك من الله الّذي بعثه ، بل كانوا يقولون :

(... إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). (١)

وهذه عادة كلّ الشعوب والأُمم في العالم ، حيث تريد التمييز بين النبيّ الصادق والمتنبّئ الكاذب ، فتُطالبه بالمعجزة الدالّة على قدرته الغيبية ، وكان الأنبياء ـ بدَورهم ـ يدعون الناس لمشاهدة معجزاتهم الدالّة على صدقهم.

وقد سجّل القرآن الكريم بعض ما دار بينهم وبين الأُمم من حوار حول هذا الموضوع ، دون أن ينتقدهم على طلبهم المعجزة من الأنبياء ، ممّا يدلّ على موافقته لهذا الطلب.

ولنذكر مثالاً : لو أنّ أُمّة ـ تبحث عن الحقّ ـ جاءت إلى النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ وقالت له : «إن كنت صادقاً في دعوى النبوّة فأبرئ هذا الأعمى ورُدّ إليه بصره ، واشفِ هذا الأبرص» فإنّ هذه الأُمّة لا تُعتبر مشركة ، بل تُعَدُّ من الأُمم الراقية التي تبحث عن الحقيقة ، وتمدَح على ذلك.

والآن ، لو فرضنا وفاة النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ (٢) وطلبت أُمّته من روحه الطاهرة أن يُبرئ الأكمه والأبرص ، فلما ذا تُعتبر مشركة ، مع العلم أنّ موت النبيّ وحياته لا يؤثّران في التوحيد والشرك؟! (٣)

__________________

(١) الأعراف : ١٠٦.

(٢) بالرغم من أنّه حيٌّ كما قال تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّه لَهُمْ ... بَلْ رَفَعَهُ الله إِليه ...) وتقول الأحاديث الصحيحة إنّ النبيّ عيسى سوف يعود إلى الأرض عصر ظهور الإمام المهديّ المنتظر ـ عجّل الله ظهوره ـ ليكون ردءً له وظهيراً.

(٣) للاطّلاع على بعض معجزات النبيّ عيسى راجع آية ٤٩ من سورة آل عمران وآية ١٠٠ ـ ١٠١ من سورة المائدة.

٢٦٧

خلاصة القول

وخلاصة القول : إنّ القرآن الكريم يصرِّح بأسماء بعض الأولياء الذين اصطفاهم الله ووهبهم القدرة الغيبية لتنفيذ الأعمال الماورائية الخارقة للطبيعة ، وكان هؤلاء يستخدمون هذه القدرة في الأوقات المناسبة ، كما كان هناك أشخاص يأتون إليهم ويطلبون منهم الاستفادة من هذه القدرة.

وهكذا ظهر لك ـ أيّها القارئ الكريم ـ إنّ آيات القرآن الكريم صريحة في ردّ مذهب الوهّابيّة وإبطال آرائها الشاذّة.

فلو قال الوهّابيّون : إنّ طلب المعجزة من أولياء الله شرك.

قلنا : لما ذا طلب سليمان ـ وغيره ـ ذلك؟!

فإن قالوا : إنّ طلب الحاجة من أولياء الله ـ بطريقة إعجازية ـ يستلزم الاعتقاد بسلطتهم الغيبية.

قلنا : إنّ الاعتقاد بالسُّلطة الغيبية على نوعين : أحدهما : توحيد بعينه ، والثاني : يستلزم الشرك.

فإن قالوا : إنّ طلب الكرامات من أولياء الله في حياتهم ليس شركاً ، ولكن طلبها من الموتى شرك.

قلنا : إنّ الموت والحياة ليسا ملاكاً للتوحيد والشرك ، ولا يُغيِّران حقيقة أحدهما.

فإن قالوا : إنّ طلب الشفاء للمريض وتسديد الدِّين ـ بطريقة غير عادية ـ هو طلب فعل الله من غير الله.

قلنا : إنّ شرط الشرك هو أن تعتقد ألوهيّة من تدعوه أو بكونه مصدراً لأفعال الله بالاستقلال ، وأنّ طلب فعلٍ غير عادي ليس معناه طلب فعل إلهي

٢٦٨

من غير الله ، إذ ليس مقياس أفعال الله هو خروجه عن إطار القوانين الطبيعية ، حتّى يكون هذا الطلب طلب فعل الله من عبده ، كلّا ... بل إنّ مقياس أفعال الله هو أن يكون فاعله مستقلاً في إنجازه.

أمّا لو كان فاعله يُنجّز ذلك الفعل بالاعتماد على قدرة الله تعالى فإنّ الطلب منه ليس طلب فعل الله من غير الله.

ولا فرق بين أن يكون الفعل عادياً أو غيبياً.

ونفس هذا القول يأتي بالنسبة إلى الاستشفاء من أولياء الله ، فإنّ البعض يُنكرون ذلك ويقولون : إنّ طلب الشفاء خاصّ بالله سبحانه بدليل قوله تعالى :

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). (١)

فكيف يصحُّ أن يقال : يا رسول الله اشفني؟! وهكذا الأمر بالنسبة إلى كلّ عمل خارق للعادة.

والجواب : أنّ الذين يعتقدون هذا الاعتقاد لم يميّزوا ـ ومع الأسف ـ بين الأفعال الإلهيّة والأفعال البشريّة ، ولهذا يتصوّرون بأنّ أيّ فعلٍ يخرج عن مجراه المادّي الطبيعي فهو من أفعال الله ، وأيّ فعلٍ يأخذ مجراه المادّي الطبيعي فهو من أفعال البشر.

إنّ هؤلاء لم يفهموا ـ أو تجاهلوا ـ المقياس المُمَيِّز لأفعال الله عن غيرها ، ولو كان كلّ فعل يخرج عن مجراه الطبيعي يعتبر من أفعال الله لكانت أفعال المرتاضين ـ في الهند ـ أفعالاً إلهيّة ، وكانوا جميعاً «آلهة».

وقد ذكرنا أكثر من مرّة أنّ المقياس ـ في الأفعال الإلهيّة ـ هو الاستقلال في الفعل ، وعدم الاعتماد على أيّة قدرة أُخرى ، والفعل البشري هو عكس ذلك.

__________________

(١) الشعراء : ٨٠.

٢٦٩

إنّ الإنسان يعتمد على الله ويستعين بقدرته في كلّ عمل ـ سواء كان مادّيّاً أو خارجاً عن حدود المادّة ـ والكثيرون يحصلون على قدرات اكتسابية ويستغلّونها للوصول إلى أهدافهم المنشودة ، فهل أنّ طلب الفعل من هؤلاء شرك بالله؟!

إنّ نقطة الانحراف عن التوحيد تكمن في الاعتقاد المقرون بالطلب ، فإذا كان طالب الحاجة ـ من أحد أولياء الله ـ يعتقد باستقلال ذلك الوليّ فقد اعتبره مستغنياً بالذات ، ومعنى ذلك أنّه اعتبره مُستغنياً عن الله ، وهذا هو الشرك ، لأنّه لا مستغني بالذات سوى الله الواحد الأحد سبحانه ، وقد كان كثير من المشركين ـ في العهد الجاهلي وعند طلوع الإسلام ـ يعتقدون هذا الاعتقاد بالنسبة إلى الملائكة والنجوم وأنّ الله خلقها وفوّض إليها إدارة الكون وتدبيره ، تفويضاً مستقلاً تماماً (١) أو ـ على الأقل ـ أنّها تملك الشفاعة والمغفرة ، وتتصرّف كما تشاء حيث تشاء.

المعتزلة والشِّرك

أمّا فرقة المعتزلة (٢) فهي تعتبر الإنسان من حيث الوجود مخلوقاً لله تعالى ، ولكنّها ـ في الوقت نفسه ـ تعتبره مستقلاً من حيث التأثير في الأشياء وإنجاز الأفعال ، ولو أنّ المعتزلة تأمّلوا قليلاً في قولهم هذا ، لأدركوا بأنّ في هذه العقيدة نوعاً من الشرك الخفي ، ولكنّهم في غفلة منه.

__________________

(١) ولذلك عند ما سأل عمرو بن لحي أهل الشام عن علّة عبادتهم للأصنام؟ قالوا ـ في جوابه ـ : إنّنا نطلب المطر من هذا الأصنام فتسقينا ، ونستعين بها فتُعيننا ، وبهذا الاعتقاد اصطحب عمرو معه «هُبَل» وجاء به إلى مكّة. راجع سيرة ابن هشام : ١ / ٧٧.

(٢) كما أنّ مذاهب السُّنَّة تنقسم ـ في فروع الأحكام ـ إلى المذاهب الأربعة كذلك تنقسم في الأُصول والمعارف إلى قسمين : الأشاعرة والمعتزلة.

٢٧٠

طبعاً هذا الشرك الخفي لا يصل إلى درجة شرك المشركين ، والفرق بين الشركَين هو أنّ المشركين يدّعون استقلال أصنامهم في إدارة شئون الكون وأفعال الله تعالى ، وهؤلاء يدّعون استقلال الإنسان في أعماله.

ومن حاول التفصيل في عقيدة المعتزلة فليرجع إلى كتاب «بحوث في الملل والنحل ، الجزء الثالث».

٢٧١
٢٧٢

الفصل السابع عشر :

الحلف على الله تعالى بحقّ الأولياء

إنّ من نقاط الخلاف بين الوهّابيّين وسائر المسلمين هي أنّها تدّعي حرمة :

١. الحلف على الله بحقّ الأولياء.

٢. الحلف بغير الله.

وتعتبر ـ أحياناً ـ هذين القَسَمين شركاً بالله في العبادة.

وفيما يلي نضع هذا الموضوع على طاولة البحث والتشريح لاستخراج الحكم الشرعي الصحيح.

الحلف على الله تعالى بحقّ الأولياء

إنّ القرآن الكريم يَصف بعض عباد الله بقوله :

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ). (١)

فلو أنّ إنساناً قام في جوف الليل وصلّى لربّه ركعات ، ثمّ تضرّع إلى الله قائلاً :

«اللهُمَّ إِنّي أسْأَلُكَ بِحَقِّ الْمُسْتَغْفِرينَ بِالأَسْحار اغْفِر لي ذَنْبي».

فكيف يمكن أن نعتبر قوله هذا شركاً في العبادة؟!

__________________

(١) آل عمران : ١٧.

٢٧٣

إنّ الشرك في العبادة معناه عبادة غير الله ، أو اعتبار غيره سبحانه إلهاً أو ربّاً أو مصدراً للأفعال الإلهية.

أمّا في هذا المجال فإنّ المصلّي يتوجّه إلى الله تعالى ولا يطلب شيئاً إلّا منه سبحانه ، فإذا كان هذا العمل حراماً فلا بدّ أن يكون له سبب آخر غير الشرك.

نحن هنا نجلب انتباه الوهّابيّين إلى أنّ القرآن الكريم قد ذكر مقياساً ومَحَكاً للفصل والتمييز بين المشرك ـ في العبادة ـ وبين الموحِّد ، وبهذا المقياس سدّ القرآن الطريق أمام كلّ تفسير بالرأي لمعنى المشرك ، وهذا المقياس هو قوله تعالى :

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (١)

وفي آية أُخرى يصف القرآن المجرمين ـ هم المشركون ـ بقوله :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ). (٢)

إذن : إنّ المشرك ـ وفقاً لهاتين الآيتين ـ هو ذاك الذي يشمئزُّ قلبه إذا ذكر الله الواحد الأحد ، ويفرح إذا ذكرت الآلهة الباطلة ، أو يستكبر عن الاعتراف بوحدانيّة الله سبحانه.

بعد هذا المقياس القرآني نتساءل : هل الّذي يقوم في ظلال الليل ويقضي ساعات في العبادة والمناجاة والدعاء ، ويصلّي بين يدي الله بكلّ إخلاص وخضوع ، ويقسم على الله بمنزلة أوليائه الصالحين ويسأله بعباده المتّقين ... هل أنّ هذا الإنسان يكون مشركاً بعمله هذا؟!

__________________

(١) الزمر : ٤٥.

(٢) الصافّات : ٣٥ ـ ٣٦.

٢٧٤

وكيف تمرّد على ذكر الله واستكبر عن الاعتراف بوحدانيته سبحانه؟!

لما ذا ترى المؤلّفين الوهّابيّين يستندون إلى أُسس خيالية وأدلّة أوهن من بيت العنكبوت ويتّهمون المسلمين بالشرك ويعتبرون أنفسهم فقط «شَعبُ الله المختار»؟!!

وكيف يجوز أن يعتبروا تسعة وتسعين بالمائة من أهل القبلة مشركين ، ويعتبروا «النجديّين» هم الموحِّدون فقط ، مع ما سبق من المقياس القرآني؟!

وهل خَوَّل القرآن تفسير «الشِّرك» إلى الوهّابيّين حتّى يُفسّروه كيفما يشاءون ، ويعتبروا جماعة مشركين وأُخرى موحِّدين؟!!

بل (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

أمير المؤمنين والحلف على الله سبحانه بحقّ الأولياء

إنّنا نلاحظ القَسم على الله في أدعية أوليائه المقرَّبين ، فمثلاً : هذا إمام المتّقين أمير المؤمنين عليّ ـ عليه‌السلام ـ تراه يقول في دعائه بعد صلاة الليل :

«اللهُمَّ إنّي أسألُكَ بِحُرْمَة مَنْ عاذَ بِكَ مِنْكَ ، ولجأ إِلى عِزِّكَ ، واسْتَظَلَّ بِفيئِكَ ، واعْتَصَمَ بِحَبْلِكَ وَلَمْ يَثِقْ إِلّا بِكَ ...». (١)

ويقول ـ عليه‌السلام ـ في دعاء علّمه لأحد أصحابه :

«... وَبِحَقِّ السائِلينَ عَلَيْكَ ، والرّاغِبينَ إِلَيْكَ وَالْمُتَعوِّذينَ بِكَ ، والمُتَضرِّعينَ إِلَيْكَ ، وَبِحَقِّ كُلِّ عَبْدٍ مُتَعبِّدٍ لَكَ في كُلِّ بَرٍّ أو بَحْرٍ أو سَهْلٍ أو جَبَلٍ أدعُوك دُعاء مَنِ اشتدَّت فاقَتُهُ ...». (٢)

__________________

(١) الصحيفة العلوية : ٣٧٠.

(٢) الصحيفة العلوية : ٥١.

٢٧٥

فهل لهذه المناجاة المنشِّطة للروح والباعثة على العبادة ، وهذا التذلُّل أمام الله ... هل لذلك كلّه نتيجة أُخرى سوى ترسيخ وحدانيّة الله وأنّه لا معاذ إلّا به ، وإظهار المحبّة والمودّة لأولياء الله وأحبّائه الّذي هو توجُّهٌ إلى الله في الوقت ذاته؟!!

من هذا المنطق ... يجب الكفّ عن توجيه تهمة الكفر والشرك ـ الرائجة في سوق الوهّابيّة أكثر من أيّ شيء ـ وينبغي دراسة الموضوع من زاوية المنطق والبرهان.

لذلك ترى بعض الوهّابيّين ـ المعتدلين نوعاً ما ـ عالجوا مسألة ـ «القَسَم على الله بحقّ الأولياء» في إطار الحرمة أو الكراهة ، بعكس «الصنعاني» ـ الوهّابيّ المتطرِّف ـ الذي بحث عن هذه المسألة في نطاق الشرك.

والآن ... وبعد ما تبيّن محور الحديث ، يجب دراسة الموضوع في إطار الحرام والمكروه وبيان الدليل الواضح حول صحّة هذا الموضوع وجوازه فنقول :

حقيقة هذا القَسَم في الإسلام وواقعيّته

لقد ورد «القَسَم على الله بحقّ الأولياء» في أحاديث شريفة متواترة ، بعضها مرويّة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعضها عن أئمّة أهل البيت المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ ، وبناءً على هذه الأحاديث لا يمكن القول بحرمته ولا بكراهته.

وإليك نماذج من ذلك :

١. لقد سبقت الإشارة إلى أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علّم ذلك الأعمى الذي جاء يطلب منه أن يردّ الله عليه بصره ، علّمه أن يقول :

٢٧٦

«اللهمّ إنّي أسألُكَ وَأتوَجَّهُ إِليكَ بِنَبيِّكَ مُحَمّدٍ نَبيّ الرَّحْمَة». (١)

٢. وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هذا الدعاء :

«اللهُمَّ إنّي أسألُكَ بِحَقِّ السّائلينَ عَلَيكَ ، وأسألُكَ بِحَقِّ مَمْشايَ هذا ...». (٢)

٣. وقد تاب النبيّ آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى الله بقوله :

«أسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلّا غَفَرْتَ لي». (٣)

٤. وبعد ما دفن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ السيّدة فاطمة بنت أسد والدة الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ دعا لها بقوله :

«اغْفِرْ لأُمّي فاطِمَةَ بِنْتِ أسَد ، ووسِّع عَلَيْها مَدْخَلَها ، بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبياء الَّذينَ مِنْ قَبْلي». (٤)

إنّ هذه الأدعية ـ وإن خلت من لفظ القَسم بعينه ـ إلّا أنّ مضمونها هو ذلك ، لوجود «باء» القَسم فيها جميعاً ، فعند ما يقول : «اللهمّ إنّي أسأَلُكَ بِحَقِّ السائلينَ عَلَيْكَ».

أي : أُقسم عليك بحقّهم.

٥. يقول سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام في دعاء له :

«اللهُمّ إنّي أسألكَ بِكَلماتِكَ وَمَعاقِدِ عَرشِكَ وَسُكّانِ سَماواتِكَ وَأرْضِكَ ، وَأنبيائِكَ وَرُسُلِكَ ، أنْ تَسْتَجيبَ لي فَقَدْ رَهَقْني مِنْ أَمْرِي عُسْرٌ ،

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤١ ؛ مستدرك الصحيحين : ١ / ٣١٣ ؛ مسند أحمد : ٤ / ١٣٨ وغيرها.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٦١ ، مسند أحمد : ٣ / ٢١.

(٣) تفسير الدرّ المنثور : ١ / ٥٩ ؛ مستدرك الحاكم : ٢ / ٦١٥ ؛ روح المعاني : ١ / ٢١٧. وقد مرّت بعض هذه الأحاديث في فصل التوسّل بأولياء الله.

(٤) الفصول المهمّة : ٣١ لابن الصبّاغ المالكي (المتوفّى سنة ٨٥٥ ه‍).

٢٧٧

فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّد وَأَنْ تَجْعَلَ مِنْ عُسْري يُسراً». (١)

وإذا ألقيتَ نظرة على الصحيفة السجّادية المرويّة عن رابع أئمة أهل البيت : الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ لرأيت القَسَم فيها كثيراً جدّاً ، فهو خير دليل على صحّة هذا النوع من التوسّل ... وإليك نموذجاً منه :

٦. يقول ـ عليه‌السلام ـ في دعائه يوم عَرَفة ، وهو يُناجي ربّه الكريم :

«بِحَقِّ مَنِ انْتَجَبْتَ مِنْ خَلْقِكَ ، وَبِمَنِ اصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ ، بِحَقِّ مَنِ اخْتَرْتَ مِنْ بَرِيَّتِكَ ، وَمَنِ اجْتَبَيْتَ لِشَأْنِكَ ، بِحَقِّ مَنْ وَصَلْتَ طاعَتَهُ بِطاعَتِكَ ، وَمَنْ ينطْتَ (٢) مُعاداتَهُ بِمُعاداتِكَ». (٣)

٧. وعند ما زار الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ مرقد جدّه الإمام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ دعا في ختام الزيارة بقوله :

«اللهُمَّ اسْتَجِبْ دُعائي وَاقْبَل ثَنائي وَاجْمَعْ بَيْني وَبَيْنَ أَوليائي ، بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلىٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالحُسَيْنِ». (٤)

أيّها القارئ الكريم : لقد ورد هذا النوع من الأدعية ـ المتضمّنة للقَسَم على الله بحقّ أوليائه ـ كثيراً جدّاً عن الأئمّة المعصومين من أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ولا يسع المجال لذكر أكثر ممّا سبق ... وكلّ هذه الأدعية تدلّ على جواز القسم على الله بحقّ أوليائه الصالحين.

__________________

(١) بحار الأنوار : ٣٦ / ٢٠٥ ح ٨.

(٢) ينطْت ـ من أناط ينيطه : الوصل والربط.

(٣) الصحيفة السجادية : الدعاء ٤٧.

(٤) زيارة أمين الله المعروفة.

٢٧٨

أدلّة الوهّابيّين على الحرمة

لقد ذكر الوهّابيّون بعض الأدلّة على حرمة القَسَم على الله بحقّ أوليائه ، وهي أدلّة واهية ضعيفة ، لا تصلح للحُجِّيَّة والاعتبار ، والآن نذكرها مع التحليل فيما يلي :

الدليل الأوّل

قالوا : اتّفق علماء الإسلام على أنّ القَسم على الله بالمخلوق ـ أو بحقّ المخلوق ـ حرام. (١)

الجواب

إنّ معنى الإجماع هو اتّفاق علماء الإسلام ـ في عصرٍ واحد ، أو في كلّ العصور ـ على حكم من الأحكام الشرعية.

هذا هو الإجماع ، وهو حجّة شرعية عند السُّنّة ، نظراً لاتّفاق العلماء على ذلك الحكم ، وحجّة شرعية عند الشيعة لكونه يكشف عن موافقته لرأي الإمام المعصوم الذي يعيش بين الناس ـ غائباً كان عن أعينهم أم حاضراً ـ.

والآن لنرى : هل قام إجماع العلماء على الحرمة في هذه المسألة أم لا؟ نحن نصرف النظر ـ الآن ـ عن رأي علماء الشيعة وعلماء السُّنّة في هذا المسألة ، ونكتفي بذكر فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة ، ونتساءل : هل أفتى أئمّة المذاهب الأربعة بالحرمة في هذه المسألة؟

وإذا كانوا قد أفتَوا بالحرمة ، فنرجو أن تذكروا لنا نصَّ الفتوى مع اسم الكتاب الّذي جاء فيه ورقم الصفحة الّتي تشتمل عليه.

__________________

(١) كشف الارتياب : ٣٢ نقلاً عن «الهدية السنيّة».

٢٧٩

إنّ كتب الفقه والحديث عند علماء السنّة لم تتعرّض إطلاقاً لهذه المسألة ، حتّى نعرف نظرتهم الشخصية فيها.

إذن : أين ذلك الإجماع والاتّفاق الذي يدّعيه مؤلّف كتاب «الهدية السّنيّة»؟!

إنّ الشخص الوحيد الّذي نقل المؤلّف التحريم عنه هو «العزّ بن عبد السلام» ، فهل انصهرت المؤلّفات كلّها في كتاب الهدية السنيّة وانصهر علماء الإسلام كلّهم في «العز بن عبد السلام»؟!!

والجدير بالذكر أنّ المؤلّف يروي في الكتاب نفسه أنّ أبا حنيفة وتلميذه أبا يوسف قد أفتيا بكراهة القَسَم بحقّ المخلوق ، لا بحرمته.

ثمّ ما قيمة فتوى إنسان في مقابل الأحاديث الصحيحة المرويّة عن رسول الله وآله الأئمّة الأطهار الذين اتّفق علماء السنّة على أنّهم الثِّقل الأصغر بعد القرآن وأنّ أقوالهم حجّة شرعية؟! (١)

بالإضافة إلى أنّ ما ذكره عن أبي حنيفة غير ثابت.

وخلاصة القول : ليس هناك دليل باسم الإجماع في المسألة إطلاقاً.

الدليل الثاني

بعد إبطال الدليل الأوّل للوهّابيّة وبيان عدم صحّته نذكر الدليل الثاني وهو قول أحدهم :

__________________

(١) حديث الثقلين متواتر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد ذكره أصحاب الصحاح والسنن والمحدّثون والمؤرّخون ، ولا ينكره إلّا جاهل أو معاند ، والحديث هو : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».

٢٨٠