الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

ه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). (١)

إنّ هذه الآية تظهر لنا حياة آل فرعون في عالَم البرزخ ، حيث إنّهم يُعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً ، إلى قيام الساعة ، فإذا قامت القيامة أدخلوهم في أشدّ العذاب الذي هو عذاب جهنم.

ولو لا قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) لما ظهر المقصود من الآية ، وهو دليل على أنّ ما قبلها يعود إلى عالَم البرزخ.

أضف إلى ذلك : أنّ موضوع الصباح والمساء يدلّ على أنّ المقصود ليس يوم القيامة ، وذلك لأنّه لا صباح ولا مساء في ذلك اليوم.

أيّها القارئ الكريم : كان هذا بحثاً موجزاً عن حياة الإنسان بعد الموت ، والآن جاء دور التحدُّث عن الأمر الثاني وهو :

٢. حقيقة الإنسان هي روحه

يبدو للإنسان ـ في الوهلة الأُولى ـ أنّه مركّب من الروح والجسد معاً ، ولكن حقيقة الإنسان هي روحه الّتي تلازم جسده.

نحن الآن لسنا في مقام التحدُّث عن هذا الموضوع من الوجهة الفلسفية ، بل إنّ هدفنا هو دراسة الموضوع على ضوء كتاب الله الّذي لا ريب فيه.

إنّ التأمّل في الآيات الّتي تتحدّث عن الإنسان ، يكشف لنا ـ بكلّ وضوح ـ أنّ حقيقة الإنسان هي روحه ، اقرأ هذه الآية :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). (٢)

__________________

(١) المؤمن : ٤٦.

(٢) السجدة : ١١.

٢٢١

إنّ كلمة «توفّى» لا تعني الإماتة ـ كما هو معروف ـ بل تعني الأخذ والقبض ، ولهذا فإنّ قوله تعالى : (يَتَوَفَّاكُمْ) معناه : يأخذكم ويقبضكم ، وإنّما يكون هذا التعبير صحيحاً إذا كانت الروح هي الوجود الحقيقي للإنسان ، فهي الّتي «تُقْبَض» و «تؤخَذ».(١)

أمّا لو كانت الروح تُشكّل جزءاً من شخصية الإنسان والجزء الثاني هو جسمه ، فإنّ هذه العبارة تكون مَجازاً ، لأنّ المفروض أنّ مَلَك الموت يقبض أحد الجزءين ـ وهو الروح ـ وأمّا الجزء الثاني ـ وهو الجسد المادّي ـ فهو يتركه باقياً في الدنيا ، ثمّ يودَع في القبر ولا علاقة لَمَلِك الموت به.

إنّ هذه الآية التي تدلّ على أنّ ملك الموت يأخذ الإنسان كلّه وهو محفوظ عند الله إلى يوم القيامة تكشف عن أنّ الروح هي واقع الإنسان ومصدر تكامله النفسي والمعنوي ، كما أنّ الجسد بمثابة الرداء الّذي يغطّي الروح ويكسوها.

والقرآن الكريم لا يعتبر الموت فناءً للإنسان وخاتمةً لحياته ، بل إنّه يؤكّد ـ وخاصّة للشهداء والصالحين ، والمجرمين أيضاً ـ أنّ لهم حياة أُخرى تسبق يوم القيامة ، وأنّ تلك الحياة مصحوبة بالفرح والبشرى أو بالعذاب الأليم.

فإذا كانت حقيقة الإنسان كامنة في جسده ، فلا شكّ أنّ جسده سوف يتلاشى بعد أيّام من موته ودفنه ، ويتحوّل إلى عناصر أُخرى ، فأين الإنسان الباقي بعد موته وتلاشي جسده الذي أخبر عنه الذكر الحكيم في الآيات السابقة؟

٣. الاتصال بعالَم الأرواح

هل يمكن الاتصال بعالَم الأرواح؟

__________________

(١) لقد أجرى المرحوم العلّامة البلاغي بحثاً قيّماً حول كلمة «توفّى» في مقدّمة تفسير آلاء الرحمن : ٣٤.

٢٢٢

إنّ إثبات بقاء الروح مجرّداً عن المادّة ، لا يكون كافياً في صحّة الاستعانة والاستغاثة بها إلّا إذا ثبت إمكان الاتصال بذلك الروح من عالَم الدنيا.

إنّ في القرآن الكريم آيات متعدّدة تُثبت أنّ اتصال الإنسان بعالم الأرواح أمرٌ ممكن ، بل تحقّق ذلك فعلاً ، فمثلاً :

أ : النبيّ صالح ـ عليه‌السلام ـ تحدّث إلى أرواح قومه

يقول تعالى :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). (١)

تأمّل هذه الآيات :

الآية الأُولى : تشير إلى أنّهم ـ يوم كانوا على قيد الحياة ـ طلبوا منه العذاب الإلهي الموعود.

الآية الثانية : تشير إلى نزول العذاب عليهم وموتهم جميعاً.

الآية الثالثة : تُشير إلى مقالة النبيّ صالح ـ عليه‌السلام ـ بعد موتهم وفنائهم ، حيث تأسّف على المصير الأسود الذي اختاروه لأنفهسم وقال ـ مخاطباً لهم ـ : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). والدليل

__________________

(١) الأعراف : ٧٧ ـ ٧٩. لقد ذكر في بعض الآيات أنّ العذاب الّذي نزل عليهم كان صيحة سماوية ـ كما في سورة هود : آية ٦ ، وفي بعضها أنّ العذاب كان صاعقة ناريّة ـ كما في سورة فُصّلت : آية ١٧ ـ وفي بعضها أنّه كان زلزلة ورجفة ، ووجه الجمع بين هذه الآيات هو أنّ الصيحة السماوية والصاعقة كانت مصحوبة بالزلزلة.

٢٢٣

على أنّ هذا الخطاب من النبيّ صالح كان بعد موتهم هو كالتالي :

١. تنظيم وتنسيق الآيات بالشكل الّذي سبقت الإشارة إليه.

٢. حرف «الفاء» في كلمة (فَتَوَلَّى) الّذي يدلّ على الترتيب ، وقد جاءت بعد قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ممّا يدلّ على أنّ خطاب النبيّ صالح لقومه كان بعد نزول العذاب عليهم.

ويُفهم من قوله : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أنّ أُولئك كانوا على حدٍّ من العناد والشقاء بحيث إنّ أرواحهم ـ حتّى بعد مماتهم ـ كانت رافضة للموعظة والنصيحة.

ب : النبيّ شعيب ـ عليه‌السلام ـ تحدَّث إلى أرواح قومه أيضاً

اقرأ هذه الآيات :

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ). (١)

إنّ الاستدلال بهذه الآيات هو كالاستدلال السابق بالآيات المرتبطة بالنبيّ صالح وقومه.

ج : النبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يتّصل بالأنبياء

يقول تعالى :

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).(٢)

__________________

(١) الأعراف : ٩١ ـ ٩٣.

(٢) الزخرف : ٤٥.

٢٢٤

إنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ بإمكان النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي يعيش في هذه النشأة الطبيعية أن يتّصل بالأنبياء الذين يعيشون في النشأة الأُخرى ، كي يثبت للمشركين أنّ جميع الأنبياء ـ وفي كلّ العصور ـ كانوا يدعون إلى توحيد الله وعبادته.

د : سلام القرآن على الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يُسلّم على الأنبياء ، في مواضع متعدّدة ، ولا شكّ أنّ هذا السلام ليس سلاماً سطحياً أجوف ، بل هو سلام حقيقيّ وتحية جدّية يوجّهها القرآن إلى أنبياء الله ورسله.

ومن غير الإنصاف أن يحاول أحدٌ تفسير آيات القرآن الكريم تفسيراً سطحياً سَخيفاً ، يتحوّل إلى مجموعة ألفاظ فارغة جوفاء.

نعم إنّ المادّيين ـ الذين لا يعتقدون بالروح والمعنويّات ـ يبعثون السلام والتحية إلى قادتهم وشخصيّاتهم ، في عبارات جوفاء.

لكن لا يصحّ لنا أن نفسِّر المفاهيم القرآنية ـ النابعة من الحقيقة والواقع ـ تفسيراً مادّيّاً ، بأن نقول : إنّ كافّة التحيّات في القرآن ـ والتي نتلوها في آناء الليل وأطراف النهار ـ ليست إلّا مُجاملات جوفاء وفي مستوى تحيّات المادّيين.

انظر إلى القرآن كيف يُسلّم على الأنبياء :

١. (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ).

٢. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ).

٣. (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ).

٤. (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

٢٢٥

٥. (سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ). (١)

إنّها تحيّات واقعية تصل إلى أصحابها بإذن من الله سبحانه.

ه : السلام على النبيّ عند ختام الصلاة

إنّ جميع المسلمين في العالم ـ بالرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين ـ يُسلّمون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الصلاة عند ختامها فيقولون :

«السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».

وقد أفتى الشافعي وآخرون ـ بوجوب هذا السلام بعد التشهّد في التشهد الأخير خاصة ، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وأبو مسعود الأنصاري وأفتى الآخرون باستحبابه ، لكن الجميع متّفقون على أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علّمهم السّلام (٢) وأنّ سنّة النبي ثابتة في حياته وبعد وفاته.

والسؤال الآن : إذا كانت صِلتنا وعلاقتنا بالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد انقطعت بوفاته ، فما معنى مخاطبته والسّلام عليه يوميّاً؟!

وقد روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال :

«مَنْ صَلّى علَيَّ عِنْدَ قَبْري سَمِعْتُهُ ، وَمَنْ صَلّى عَلَيَّ مِنْ بُعْدٍ أُبْلِغتُهُ». (٣)

هذا وقد تحدّثنا بالتفصيل عن موضوع الاتصال بالأرواح في العالم الآخر في كتاب مستقل ، وذكرنا هناك آيات متعدّدة حوله ، ونكتفي هنا بهذه الآيات مراعاة للاختصار.

__________________

(١) الصافات : ٧٩ ، ١٠٩ ، ١٢٠ ، ١٣٠ ، ١٨١.

(٢) راجع كتاب تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٣٢ ، وكتاب الخلاف للشيخ الطوسي : ١ / ٤٧ لمعرفة أقوال المذاهب والفقهاء في هذا المجال.

(٣) كتاب حقّ اليقين للسيد عبد الله شُبَّر : ٢ / ٧٣.

٢٢٦

وختاماً تجدر الإشارة إلى أنّنا أوردنا الاستدلال بالسلام عند التشهد في خلال البحث عن الآيات المذكورة ، بسبب قطعيّته وثبوته الأكيد.

وإليك الآن نموذجين ـ من التاريخ ـ حول التحدّث مع الأرواح.

١. روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه وقف على قليب (١) «بَدْر» وخاطب المشركين ـ الذين قُتلوا وأُلقيت أجسادهم في القليب ـ :

«لقد كنتم جيرانَ سُوءٍ لرسُولِ اللهِ ، أخرجتُمُوهُ مِنْ مَنزِلهِ وَطردتُمُوهُ ، ثُمَّ اجْتَمعْتُمْ عليهِ فَحارَبْتُمُوهُ ، فقدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَني رَبّي حَقّاً».

فقال له رجل : يا رَسُول الله ما خطابُك لهامٍ قَد صُديَتْ؟ (٢)

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«والله ما أنت بأسمع منهم ، وما بيْنَهم وبين أن تأخذهم الملائكَةُ بِمَقامِعَ من حَديد إلّا أن أُعرضَ بِوَجهي ـ هكذا ـ عَنْهُمْ». (٣)

٢. وروي أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ ركب دابّته ـ بعد انتهاء حرب الجَمل في البصرة ـ وصار يتخلّل القتلى ، حتّى مرّ على كعب بن سور ـ وكان قاضي البصرة منذ أيّام عمر وفي أيّام عثمان ، ولمّا وقعت الفتنة بالبصرة خرج لحرب خليفة رسول الله وإمام زمانه ، مع أهله وولده فقُتلوا جميعاً ـ فوقف عليه أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وهو صريع بين القتلى :

فقال ـ لمن حوله ـ :

«أجْلِسُوا كَعْبَ بن سُور».

__________________

(١) القليب : البئر.

(٢) الهام ـ جمع هامة ـ : الرأس. صُديت : تفسَّخت ، والمعنى : كيف تخاطب رءوساً قد تفسَّخت.

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٧٦ ـ ٧٧ باب قتل أبي جهل ؛ سيرة ابن هشام : ٢ / ٢٩٢ ؛ حقّ اليقين للسيّد عبد الله شُبَّر : ٢ / ٧٣.

٢٢٧

فأجلسوه بين شخصين يمسكانه ، فقال ـ عليه‌السلام ـ :

«يا كعب بن سُور! قَد وَجَدْتُ ما وَعَدَني ربّي حَقّاً ، فهل وجدتَ ما وَعَدَكَ رَبُّكَ حَقّاً»؟!

ثمّ قال : «أضجِعُوهُ».

وسار قليلاً حتّى مرّ بطلحة بن عبد الله صريعاً فقال :

«أجلِسوا طلحة».

فأجلسوه ، فقال ـ عليه‌السلام ـ :

«يا طلحة! قد وجدتُ ما وَعَدَني رَبّي حقّاً ، فهل وجدتَ ما وَعدَكَ رَبُّكَ حَقّاً»؟!

ثمّ قال :

«أضْجِعُوا طَلحَة».

فقال له رجل :

يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟!

فقال ـ عليه‌السلام ـ :

«يا رجل والله لقد سمعا كلامي ، كما سمع أهلُ القليبِ كلام رسول الله». (١)

نتيجة البحث

بصورة خاطفة نستنتج ممّا سبق من البحث ما يلي :

١. لقد أثبتنا ـ في الموضوع الأوّل ـ أنّ الموت ليس هو النهاية للحياة ، ولا يعني فناء الإنسان ، إنّما هو معبَر ينتقل الإنسان به إلى عالم آخر.

__________________

(١) الشيخ المفيد : حرب الجمل : ١٩٥.

٢٢٨

٢. كما أثبتنا ـ في الموضوع الثاني ـ أنّ حقيقة الإنسان هي روحه ، وأنّ الجسد ليس إلّا رداء يُغطّي الروح ، وبقاء الروح يعني بقاء المعنويّات والكمالات والشخصية الإنسانية ـ باستثناء القدرات الماديّة الّتي تزول بزوال الجسد ـ.

وعلى هذا الأساس ... لو كانت لنفس الإنسان وروحه القدرة على الدعاء أو إنجاز أعمال إعجازية ـ عند ما كان على قيد الحياة ـ فلروحه أيضاً القدرة على إنجاز كلّ تلك الأعمال بعد موته بإذن الله تعالى.

٣. وفي الموضوع الثالث أثبتنا إمكان الاتّصال بالعالم الآخر ، بل وقوعه وحدوثه وأنّ الأرواح قادرة على سماع كلامنا وخطابنا لها ، ولا فرق بين أرواح الصالحين أو المجرمين ، كما مرّ عليك ذلك في القصص القرآنية والتاريخية.

بعد الانتباه إلى هذه الأُمور الثلاثة ، ثبت أنّ أولياء الله تعالى يسمعون كلامنا وخطابنا ، وإذا أذن الله لهم فإنّهم يردّون علينا الجواب.

والسؤال الآن : هل يجوز لنا ـ شرعاً ـ مخاطبة أرواح أولياء الله والاستعانة بها؟

الجواب يأتيك في الأمر الرابع إن شاء الله تعالى.

٤. المسلمون وطلب الحاجة من الأرواح المقدّسة

لقد تسرّع ابن تيميّة ـ وأتباعه ـ في الحكم ، فأنكروا أن يكون الصحابة والتابعون قد طلبوا حاجة من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهم يقولون :

ولم يكن أحد من سلف الأُمّة ـ في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين ـ يتخيّرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ، ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم. (١)

__________________

(١) رسالة الهدية السَّنيّة : ١٦٢ طبعة المنار في مصر.

٢٢٩

لعلّ الإنسان الجاهل بتاريخ الصحابة والتابعين ينخدع بهذا الكلام ويتصوّر صدقه وصحته ، ولكن سرعان ما يثبت له كذب هذا الادّعاء وبطلانه إذا نظر إلى التاريخ بنظرة خاطفة ، وقرأ بعينه توسُّل الصحابة وغيرهم بالنبي ، والاستغاثة به ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وإليك بعض النماذج من ذلك :

١. أصاب الناس قحطٌ في عهد عمر بن الخطاب ، فجاء رجل إلى قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله استسق الله لأُمّتك فإنّهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في المنام فقال : ائت عمر ، فاقرئه السلام وأخبره إنّهم مسقَون». (١)

ثمّ يقول السمهودي ـ بعد ذكر هذه القضية ـ :

«ومحلُّ الاستشهاد طلب الاستسقاء منه ـ عليه‌السلام ـ وهو في البرزخ ، ودعاؤه لربّه في هذه الحالة غير ممتنع ، وعلمه بسؤال من يسأله ، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه ، كما كان في الدنيا». (٢)

٢. ويروي السمهودي أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله محمد بن موسى بن النعمان ، بسند ينتهي إلى الإمام عليّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ :

«أنّ أعرابياً جاء إلى المدينة بعد ثلاثة أيّام من دفن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فرمى بنفسه على قبر النبي وحثا من ترابه على رأسه وقال : «يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، ووعيتَ عن الله سبحانه ما وعينا عنك ، وكان فيما أُنزل عليك : (... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٣) وقد ظلمتُ نفسي وجئتك تستغفر لي». (٤)

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٧١.

(٢) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٧١.

(٣) النساء : ٦٤.

(٤) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٦١ وقد سبق ذكر هذا الحديث في فصلٍ سابق.

٢٣٠

أيّها القارئ الكريم : إنّ السمهودي يذكر ـ في كتابه وفاء الوفا ، الباب الثامن ـ قضايا ووقائع كثيرة وكلّها تدلّ على أنّ الاستغاثة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت سيرة مستمرة للمسلمين ، حتّى أنّه يقول : إنّ الإمام محمّد بن نعمان كتب كتاباً حول هذا الموضوع بعنوان : مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام.

٣. يقول محمّد بن المنكدر :

«أودع رجلٌ أبي ثمانين ديناراً ، وخرج للجهاد وقال لأبي : إن احتجت أنفقها إلى أن أعود ، وأصاب الناس جُهدٌ من الغلاء ، فأنفق أبي الدنانير ، فقدم الرجل وطلب ماله ، فقال له أبي : عُد إليَّ غداً. وبات في المسجد يلوذ بقبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مرّة وبمنبره مرّة ، حتّى كاد أن يُصبح ، يستغيث بقبر النبيّ ، فبينما هو كذلك وإذا بشخصٍ ـ في الظلام ـ يقول : دونكها يا أبا محمّد ، فمدّ أبي يده فإذا هو بصُرّة فيها ثمانون ديناراً ، فلما أصبح جاء الرجل فدفعها إليه». (١)

٤. يقول أبو بكر المقري :

«كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكنّا على حالة وأثّر فينا الجوع ، وواصلنا ذلك اليوم ، فلمّا كان وقت العشاء حضرتُ قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقلت : يا رسول الله : الجوع ...

فحضر بالباب علويٌّ فدقَّ ففتحنا له ، فإذا معه غلامان مع كلّ واحد زنبيل فيه شيء كثير ، فجلسنا ، وأكلنا ، وظننّا أنّ الباقي يأخذه الغلام ، فولّى وترك عندنا الباقي ، فلمّا فرغنا من الطعام قال العلوي : يا قوم أشكوتم إلى رسول الله؟ فإنّي رأيت رسول الله في المنام فأمرني أن أحمل بشيء إليكم». (٢)

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٨٠.

(٢) المصدر السابق.

٢٣١

٥. يقول ابن الجلّاد :

«دخلتُ مدينة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبي فاقة ، فتقدّمتُ إلى القبر وقلت : ضيفُك. فغفوتُ فرأيت النبي فأعطاني رغيفاً ، فأكلتُ نصفه ، فانتبهتُ وبيدي النصف الآخر». (١)

نحن الآن لسنا في مقام مناقشة هذه القضايا المذكورة ، وبيان صحيحها من سقيمها ، وإنّما الكلام هو أنّ هذه الوقائع ـ بمجموعها ـ تشهد بأنّ الاستغاثة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت سُنّة جارية بين المسلمين ، ولو كانت بدعة ومحرّمة ، أو شركاً وكفراً ، لما ذكرها حتّى وُضّاع الحديث ، خوفاً من تشويه سمعتهم بين الناس.

والجدير بالذكر ، أنّنا قد أفردنا كتاباً مستقلاً بعنوان «أصالة الروح» وتحدّثنا فيه ـ بالتفصيل ـ عن كلّ ما يرتبط بهذا الموضوع ، وأوردنا أحاديث وروايات كثيرة فيه ، وكلّها تدلّ على صحّة طلب الدعاء والحاجة من الأرواح المقدّسة وصحّة طلب إنجاز عمل إعجازي خارق للطبيعة منهم.

وفي ختام هذا الفصل نجلب الانتباه إلى الأُمور التالية :

١. إنّ طلب الحوائج من أولياء الله ليس عبادة لهم أبداً ، وخاصّة بعد أن تحدّثنا ـ بالتفصيل ـ عن معنى العبادة ومواردها ، وأنّ الاعتقاد بالألوهيّة والربوبيّة هو الّذي يصبغ العمل بصبغة العبادة ، ومن الواضح أنّ المتوسّل بأولياء الله لا يعتقد بألوهيّتهم ولا بربوبيّتهم ، ولا بتدبيرهم لشئون الكون ولا بقيامهم بأفعال الله ـ بالاستقلال والاختيار ـ بل يعتبرهم عباداً مكرمين ، أطهاراً طيّبين ، وُجَهاء عند الله ، مطيعين له ، غير مرتكبين لأدنى ذنب ومعصية.

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٨١.

٢٣٢

٢. إنّ الأُمور الأربعة المذكورة أثبتت ـ بالدليل والبرهان ـ أنّ أولياء الله يملكون القدرة على قضاء حاجة المتوسّل ، نظراً لحياتهم عند الله ، وأنّ كلّ ما يصدر منهم إنّما هو بإذن الله تعالى ، فهم من مصاديق قوله تعالى :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

فمثلاً : كما أنّ النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ كان في حياته المادّية في الدنيا يسأل الله تعالى الخير لمن يريد ، أو يُبرئ الأكمه والأبرص (١) بإذن الله كذلك يملك هذه القدرة بعد الانتقال إلى عالم الأرواح «البرزخ» لأنّ روحه ـ الّتي هي حقيقته ـ باقية.

٣. إنّ التواضع والخضوع أمام قبور أولياء الله هو ـ في الحقيقة ـ تواضعٌ لله وخضوعٌ له ، وإن كان في ظاهره تواضعاً لذلك الوليّ الصالح ، إلّا أنّه لو كشفنا الستار عن قلب ذلك المتواضع لرأينا أنّه يتواضع لله من خلال تواضعه لوليّه الصالح ، وأنّه يطلب حاجته من الله بواسطة هذا الوليّ الصالح وبسببه ، فالتوسُّل بالأسباب هو عين التوسُّل بمسبِّب الأسباب ـ وهو الله سبحانه ـ وهذا واضح لأهل البصيرة والمعرفة.

وأنت لو سألت المتوسِّل بأولياء الله عن الّذي دعاه إلى التوسُّل به ، لأجابك ـ فوراً ـ بأنّه «وسيلة» إلى الله سبحانه ، كما قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). (٢)

فكما أنّ الإنسان يتوسّل إلى الله بالصلاة والصوم والعبادات والطاعات ، كذلك يتوسّل إليه سبحانه بأوليائه الصالحين المكرَّمين لديه.

__________________

(١) الأكمه : الّذي وُلد أعمى. البرص : مرض جلدي يكون بظهور بُقَع بيضاء في الجسم.

(٢) المائدة : ٣٥.

٢٣٣

والخلاصة أنّ المؤمن يعتقد ـ في قرارة نفسه ـ بأنّ توسُّله بالنبيّ وغيره من المعصومين والصالحين يدفع المتوسَّل به إلى السؤال من الله تعالى لقضاء حاجة من توسَّل به ، سواء كانت الحاجة غفران ذنب ، أو أداء دَين ، أو شفاء مريض ، أو رفاهيّة عيش ، أو غير ذلك.

٢٣٤

الفصل الرابع عشر :

طلب الشفاعة من أولياء الله تعالى

إنّ «الشفاعة» كلمة معروفة بيننا جميعاً ، وهي تتردّد على ألسنتنا في وقتها المناسب ، فمثلاً : إذا دار الحديث عن إنسان ارتكب جريمة وحكمت عليه المحكمة بالإعدام أو السجن أو غيرهما ، ثمّ تدخَّل إنسان آخر وتوسّط له وأنقذه ممّا حُكم عليه عندها نقول : إنّ فلاناً «تشفَّع» لفلان.

معنى الشفاعة

«الشفاعة» مشتقّة من مادة الشفع ـ بمعنى الزوج ـ ويُقابله : الوتر ـ بمعنى الفرد ـ والسبب في إطلاق «الشفاعة» على الوساطة و «الشفيع» على الوسيط هو أنّ جهود الوسيط ومساعيه تَزْدَوج مع عوامل الإنقاذ والجهود والمساعي الأُخرى الموجودة في المشفوع له ، فتنقذ المذنب أو المتَّهم من ورطته.

إنّ شفاعة أولياء الله للمذنبين تأتي بسبب قرب هؤلاء من الله تعالى ، ومكانتهم وجاههم عنده سبحانه ، فهم يشفعون ـ بإذن الله وضمن شروط خاصّة ـ للمذنبين والمجرمين كي يغفر الله لهم أو يقضي حوائجهم.

وبعبارة أُخرى : إنّ الشفاعة إعانة من أولياء الله ـ بإذن الله ـ لأشخاص لم يقطعوا روابطهم المعنوية مع الله وأوليائه ، بالرغم من أنّهم مذنبون ، هذا تعريف

٢٣٥

دقيق يجب الانتباه إليه دائماً.

وبتعبير ثالث : إنّ الشفاعة هي إعانة موجود عال لموجود دان ، بشرط أن تكون في الداني القابلية والاستعداد لشمول الشفاعة له ، من حيث صلاحيّته للتكامل والرقي إلى مرتبة عالية ودرجة سامية ، وتُحوّله إلى إنسان صالح نزيه.

بعد هذه التعاريف المتعدّدة نقول : إنّ التاريخ الإسلامي يُثبت أنّ المسلمين منذ عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وما بعده كانوا يطلبون الشفاعة من أولياء الله الصالحين ، سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم ، ولم يعتبر أحدٌ من علماء الإسلام بأنّ هذه الشفاعة معارضة للمبادئ والأُصول الإسلامية.

حتّى جاء ابن تيميّة ـ في القرن الثامن الهجري ـ بأفكار شاذّة وآراء سقيمة ، فاستنكر كثيراً من سُنن المسلمين.

وبعده بثلاثة قرون جاء محمّد بن عبد الوهّاب النجدي ، فرفع راية الخلاف مع المسلمين وأحدث الفتنة والشقاق بينهم ، وأحيا مبتدعات ابن تيميّة بأشدّ ممّا كان عليه.

إنّ الوهّابيّة تعتقد بالشفاعة ـ من حيث المبدأ ـ ولكن نقطة الخلاف بينها وبين المسلمين هي أنّها تُحرِّم الاستشفاع بأولياء الله في الدّنيا ، وقد عبّر الوهّابيّون عن عقيدتهم هذه بعبارات قاسية متضمِّنة للإهانة والاستخفاف بالأنبياء والأولياء ونحن نتورّع حتّى ذكر تلك العبارات.

وممّا يقولون في الشفاعة : إنّ نبيّ الإسلام ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسائر الأنبياء والأولياء والملائكة ، لهم حقّ الشفاعة في الآخرة فقط ، لكن طلب الشفاعة يجب أن يكون من الله لا منهم ، بأن يقال :

«اللهمّ شَفِّع نبيّنا محمّداً فينا يوم القيامة. أو : اللهمّ شَفِّع فينا عبادك

٢٣٦

الصالحين. أو ملائكتك أو نحو ذلك ممّا يُطلَب من الله لا منهم ، فلا يُقال : يا رسول الله ـ أو ـ يا وليّ الله أسألُك الشفاعة أو غيرها ممّا لا يقدر عليه إلّا الله ، فإذا طلبتَ ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك». (١)

وهكذا ترى الوهّابيّين يرمون المسلمين بالشرك ، لأنّهم يسألون الشفاعة من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأولياء الله الصالحين في الدنيا والآخرة.

نحن قبل أن نتطرّق إلى مناقشة أدلّة الوهّابيّين نبدأ أوّلاً بدراسة المسألة على ضوء القرآن الكريم والسُّنّة الشريفة وسيرة المسلمين ، ثمّ نتناول أدلّة الوهّابيّين بالبحث والمناقشة.

الأدلّة على جواز طلب الشفاعة في الدنيا

إنّ دليلنا على جواز طلب الشفاعة في الدنيا يتركّب من أمرين ، ومع ثبوتهما يتّضح الموضوع بالكامل ، أمّا الأمران فهما :

١. إنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء بالضبط.

٢. إنّ طلب الدعاء من الصالحين أمرٌ مستحبٌّ في الإسلام.

وإليك البحث عن هذين الأمرين :

١. طلب الشفاعة هو طلب الدعاء بالضبط

إنّ شفاعة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وسائر الشفعاء الصالحين ليست سوى الدعاء إلى الله تعالى ، إذ أنّهم ـ لمنزلتهم الوجيهة عند الله وكرامتهم عليه ـ يبتهلون إليه سبحانه بالدعاء وطلب المغفرة للمذنبين ، والله تعالى يستجيب دعاءهم فيشمل عباده العاصين برحمته ومغفرته ويغسل ذنوبهم ويكفّر سيّئاتهم.

__________________

(١) الهديّة السنيّة ، الرسالة الثانية : ٤٢.

٢٣٧

إنّ طلب الدعاء من الأخ المؤمن هو أمرٌ مُسْتَحسن ولم يتردّد في حُسنه أحدٌ من علماء الإسلام والمذاهب المتعدّدة حتّى الوهّابيّة ـ فكيف بدعاء النبيّ والأولياء الصالحين؟!

طبعاً ... لا يمكن القول بأنّ حقيقة الشفاعة لا تتجاوز الدعاء في مواقف يوم القيامة ، ولكن يمكن القول بأنّ من المعاني الواضحة للشفاعة هو الدعاء ، وأنّ مَن يخاطب أحد أولياء الله ويقول : «يا وَجيهاً عِنْدَ الله إِشْفَعْ لَنا عِنْدَ الله» لا يقصد إلّا هذا المعنى.

يروي نظام الدين النيشابوري في تفسير قوله تعالى :

(... مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها). (١)

يروي عن مقاتل أنّه قال :

الشَّفاعة إلى الله إنّما هي الدَّعوة لِمُسلم.

وقد روي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل كلّما دعا لأخيه بخير ، قال الملك الموكّل به : آمين ولك بمثل. (٢)

إنّ ابن تيميّة هو من الّذين يعتبرون طلب الدعاء من الإنسان الحيّ صحيحاً ، وعلى هذا الأساس فانّ طلب الشفاعة لا يختصّ بالنبيّ وأولياء الله ، بل يجوز ذلك من كلّ مؤمنٍ يحظى بالوجاهة والمنزلة عنده سبحانه.

والفخر الرازي هو أحد الذين يُفسّرون «الشفاعة» بالدعاء والتوسُّل إلى الله تعالى ، فقد قال ـ في تفسير قوله سبحانه :

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ...). (٣)

__________________

(١) النساء : ٨٥.

(٢) صحيح مسلم : ٨ / ٨٦ ، دار الفكر ، بيروت.

(٣) غافر : ٧.

٢٣٨

قال : هذه الآية تدلّ على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين. (١)

وإذا ثبتت هذه في حقّ الملائكة فكذلك في حقّ الأنبياء ، لانعقاد الإجماع على أنّه لا فرق.

وقال أيضاً :

وأيضاً قال تعالى لمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فأمر محمّداً أن يذكر ـ أوّلاً ـ الاستغفار لنفسه ، ثمّ بعده يذكر الاستغفار لغيره ، وحكى عن نوح ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). (٢)

إنّ هذا التوضيح من الفخر الرازي شاهدٌ على أنّه يرى معنى الشفاعة هو دعاء الشفيع للمذنب ، وطلب الشفاعة هو طلب الدعاء منه.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ دعاء المسلم لأخيه المسلم هو شفاعة له ، فعن ابن عبّاس عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال :

«ما مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ على جَنازَتِهِ أرْبَعُونَ رَجلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيئاً إِلّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فيهِ». (٣)

لقد جاء في هذا الحديث ـ تعبير «شفَّعهم الله فيه» للّذين يدعون لأخيهم المسلم.

وانطلاقاً من هذا الحديث فلو أنّ رجلاً أوصى في حياته إلى أربعين رجلاً

__________________

(١) لأنّ في نهاية الآية قوله تعالى : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٧ / ٣٣ ـ ٣٤. أقول : لقد ثبت بالأدلّة القطعية أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وغيره من الأنبياء معصومون عن كلّ خطإٍ وذنب ، مطهَّرون من كلّ معصية ، ولهذا فالمقصود من قوله تعالى : «لذنبك» ليس هو المعصية المصطلحة ، والتفصيل يطلب من محلّه.

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ٥٤.

٢٣٩

من أصدقائه الأوفياء بأن يقوموا على جنازته بعد وفاته ويدعوا له ، فهو بذلك قد طلب الشفاعة منهم ، وهيّأ أسباب شفاعة عباد الله لنفسه.

وقد أفرد البخاري ـ في صحيحه ـ باباً بعنوان «إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم ، لم يردّهم» وأفرد أيضاً باباً آخر بعنوان «إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط». (١)

وتدلّ الأحاديث الّتي ذكرها في هذين البابين أنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء بذاته ، ولا يجوز تفسير ذلك بمعنى آخر.

إلى هنا ننتهي من الاستدلال الأوّل ، وقد ثبت أنّ طلب الشفاعة ليس إلّا طلب الدعاء لا غير.

والآن نبدأ البحث عن الموضوع الثاني وهو أنّ طلب الدعاء من المؤمن مستحب ، فكيف من الأنبياء وأولياء الله تعالى؟!

٢. القرآن وطلب الدعاء من الصالحين

إنّ الآيات القرآنية تشهد بأنّ طلب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المغفرة من الله لبعض عباده مُفيدٌ ونافع جدّاً ... يقول تعالى :

١. (... وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ...). (٢)

٢. (... وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). (٣)

فما دام دعاء النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يترك هذا الأثر الكبير والنتيجة الحسنة لمن دعا له ، فما المانع من أن يطلب الإنسان من أن يدعو له ، مع العلم أنّ طلب الدعاء ليس إلّا طلب الشفاعة منه ، قال تعالى :

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٣٧ ، باب الاستسقاء.

(٢) محمّد : ١٩.

(٣) التوبة : ١٠٣.

٢٤٠