الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة.

ويدلّ على ما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ). (١)

وقوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ). (٢)

والاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى الله عن قوم هود قولهم له ـ عليه‌السلام ـ : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ...) (٣) وقوله لهم : (... فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) الآية. (٤)

وكقوله تعالى موبّخاً لهم يوم القيامة ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها : (... أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ). (٥)

وقولهم : وهم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية وخصائصها : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ). (٦)

فانظر إلى هذه التّسوية الّتي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب ، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم.

فإنّ التسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب. ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم ، لأنّ صفاته تعالى تجب لها الوحدانية

__________________

(١) الملك : ٢٠.

(٢) الأنبياء : ٤٣.

(٣) هود : ٥٤.

(٤) هود : ٥٥ ـ ٥٦.

(٥) الشعراء : ٩٢ ـ ٩٣.

(٦) الشعراء : ٩٧ ـ ٩٨.

٢٠١

بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزوجل ، كما مرّ مفصّلاً في المقصد.

وإن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق ، وهو صفات الألوهية أو بعضها ، وإن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلّا لمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين ، تعالى الله عمّا يشركون.

وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً وأحبّوها كحبّ الله كما قال تعالى فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ...). (١) والأنداد جمع ندّ وهو على ما قاله أهل التفسير واللغة المثل المناوي ، فهذا ينادي عليهم أنّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المقاومة للحقّ ، تعالى الله عمّا يقولون.

أمّا قوله تعالى فيهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) (٢) ونحوه ، فليس معناه أنّهم لا يثبتون لآلهتهم ربوبية ولا خاصّة من خواصّها ، بل معناه أنّهم إذا نوقشوا اعترفوا بالحقّ الّذي فطر الله عليه النفوس ، ودلّت عليه الكائنات ، ثمّ ما أسرع ما يرجعون إلى اعتقاد الربوبية الباطلة في آلهتهم ، فينتكسون ويرتكسون كما قال عنهم في آية أُخرى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٣) وكقوله تعالى في طائفة منهم : (... كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ...) (٤) وليس ذلك بعجيب ممّن اتّخذ إلهه هواه ، وإنّك لتشاهد بين أهل الأهواء من تناقشه في بدعته ويصغي إليك فيقتنع بالحجّة وقت المناقشة ويعترف بمخالفته للحقّ وتظهر فيه مخايل الإنصاف ، فإذا انقضى المجلس عاد إلى ما ألِف من الهوى ،

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

(٢) الزخرف : ٨٧.

(٣) النحل : ٨٣.

(٤) النساء : ٩١.

٢٠٢

وارتكس في بدعته كأن لم يكن بينك وبينه نقاش ـ إلّا من رحم الله ـ وقد رأينا ذلك كثيراً في كثير ممّن لقينا من أهل الأهواء ـ نسأل الله العافية بفضله.

على أنّه لو سلّم أنّهم لم يعتقدوا لآلهتهم خلقاً ولا رزقاً ولا تدبيراً للأمر ، فهم يعتقدون فيها غير ذلك من خصائص الألوهية وهو وجوب نفوذ مشيئتها ، فإنّهم يرون أنّ شفاعتها مقبولة لا تردّ وليست متوقّفة على إذنه ، تعالى عمّا يقول الجاهلون به علوّاً كبيراً. ولذلك قال الله تعالى في القرآن ردّاً على هذا الزعم : (... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...).(١)

قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في تفسيرها : «بيان لكبرياء شأنه ، ولأنّه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقلّ بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلاً أن يعارضه عناداً ومناصبة» ، فانظر إلى قوله : «يستقلّ بأن يدفع ما يريده شفاعة» تجده صريحاً في اعتقاد وجوب ملاحظة مشيئتها معه عزوجل ، ووجوب نفوذ المشيئة من خصائص الربوبية كما لا يخفى. وهذا النوع من الشفاعة هو الشفاعة الشركية وهي الّتي أبطلها القرآن ، فإنّ اعتقادها كفر ، كما قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ...) (٢) الآيتين. فانظر إلى قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) وكما قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً ...) (٣).

أمّا الشفاعة الّتي يعتقدها أهل التوحيد وجاء بها الكتاب والسنّة فهي بعيدة من هذا بُعد الإيمان عن الكفر والنور عن الظلمة ، وهي دعاء الشافع للمشفوع فيه فيستجيب بفضله لمن شاء ، وهو معنى الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، والمراد هنا بالإذن الرضا كما قال في الآية الأُخرى (... وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) الزمر : ٤٣.

(٣) الأحزاب : ١٧.

٢٠٣

ارْتَضى ...) (١) وكقوله :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى). (٢)

وبهذا يتبيّن لك الفرق بين ما أثبته القرآن من الشفاعة وبين ما نفاه منها ، وهو ما كان بغير إذنه ورضاه. جلّ أن يكون في ملكه إلّا ما يشاء أمّا الشفاعة بإذنه ورضاه من عباده المصطفين الأخيار لعصاة الموحّدين فهي جائزة بل واقعة لثبوتها بالتواتر وليس فيها محذور ، واعتقادها من الدين ، فإنّها من باب الدعاء وهو تعالى يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

وعسى أن يكون قد وضح لك إن شاء الله ما هو معنى العبادة شرعاً ، وحينئذٍ تعلم أنّه ليس من عبادة غير الله في شيء أن يبتغي المسلم إلى الله الوسيلة. (٣)

هذا نصّ ما أفاده العلّامة القضاعي ، أتينا به لما فيه من فوائد جمّة ، وقد أوضحنا حالها في كلامنا المتقدّم ، فلاحظ أيّها القارئ المنصف.

__________________

(١) الأنبياء : ٢٨.

(٢) النجم : ٢٦.

(٣) فرقان القرآن : ١١١ ـ ١١٥. ولاحظ بقية كلامه فإنّها نافعة.

٢٠٤

الفصل الثاني عشر :

الاستعانة بأولياء الله تعالى في حياتهم

إنّ طلب شيء ما ـ من أولياء الله تعالى ـ يقع بأشكال مختلفة ، نشير إليها فيما يلي :

١. أن نطلب من الإنسان الحيّ بأن يُعيننا في بناء دار أو سقي ماء.

٢. أن نطلب من الإنسان الحيّ بأن يدعو الله ويستغفره لنا.

هاتان الصورتان تشتركان معاً في كون المطلوب أمراً طبيعياً ، والمطلوب منه قادراً على إنجازه ، ويفترقان في أنّ الطلب الأوّل يرتبط بالدنيا والثاني بالآخرة.

٣. أن نطلب من الإنسان الحيّ في الدنيا إنجاز عمل ، بدون الاستعانة بالأسباب المادّية له ، بأن نطلب منه ـ مثلاً ـ شفاء المريض بدون دواء ، أو استرداد الشيء المفقود بدون البحث عنه ، أو أداء الدّين بدون العمل على تحصيل المال.

وبعبارة أُخرى : نطلب منه إنجاز العمل عن طريق المعجزة أو الكرامة (١) من دون أن يستعين بالأسباب المادّية والطبيعية.

__________________

(١) «المعجزة» تُطلق على ما يصدر من المعصوم ـ كالنبيّ والإمام ـ من خوارق العادة ، لإثبات نبوّته أو إمامته.

و «الكرامة» تُطلق على ما يصدر من غيرهم من سائر أولياء الله الصالحين مثل ما ورد في حقّ السيّدة مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم.

٢٠٥

٤. أن نطلب من الإنسان الميّت أن يدعو الله لنا ، ويكون الطلب منه نابعاً من الاعتقاد بأنّه حيٌّ يُرزَق في عالَم البرزخ.

٥. أن نطلب من الإنسان بأن يستعين بقدرة الله ـ الّتي مَنحَها إيّاه ـ على شفاء مريضنا أو إعادة مفقودنا ، أو غير ذلك.

وهاتان الصورتان هما كالصورة الثانية والثالثة ، لكن الفرق بينهما هو أنّ الطلب هناك كان من الإنسان الحيّ في عالم المادّة والطبيعة ، وهنا من الإنسان الميّت في الظاهر ، والحيّ في الواقع.

وعلى هذا فلا يمكن أن نطلب من الميّت بأن يُعيننا ـ في الشئون الماديّة ـ بواسطة الأسباب والعوامل الماديّة ، وذلك لأنّ المفروض انقطاع الميّت عن عالم المادة بارتحاله من هذه الدنيا.

أيّها القارئ الكريم : هذه خمسة أقسام من الاستعانة ، ثلاثة منها تختصّ بالإنسان الحيّ في عالم المادّة ، واثنان تختصّ بالإنسان الحيّ في العالم الآخر.

نحن الآن نتحدّث عن الصور الثلاث الأُولى ، ونؤجّل الحديث عن الاستعانة بأولياء الله ـ الأحياء في عالم الآخرة ـ إلى الفصل القادم إن شاء الله.

وإليك البحث عن الأقسام الثلاثة :

الصورة الأُولى

إنّ الاستعانة بالأحياء للشئون العاديّة ـ الّتي لها أسباب طبيعيّة ـ تُشكّل الحَجَر الأساس للحضارة البشريّة ، حيث إنّ حياة البشر ـ في الكرة الأرضية كلّها تقوم على أساس التعاون ، وأنّ العقلاء في العالَم يتعاونون لأُمورهم الحيويّة.

إنّ حكم هذه الصورة واضحٌ جداً ، لدرجة أنّه لم يستنكره أحد ، ولم يعترض

٢٠٦

عليه إنسان وبما أنّ بحثنا قائم على ضوء القرآن والأحاديث ، فإنّنا ندرس هذه المسألة وإن كانت واضحة الحكم من الزاوية القرآنية أيضاً ، ونكتفي بآية واحدة.

عند ما أراد «ذو القرنين» أن يبني سدّاً يحول دون هجوم «يأجوج» و «مأجوج» التفت إلى سُكّان المنطقة وقال :

(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً). (١)

الصورة الثانية

إنّ الاستعانة بالإنسان الحي ـ في هذا العالم الماديّ ـ للدعاء إلى الله تعالى بالخير والاستغفار منه ، هي من الضرورات الواضحة الّتي لا يختلف فيها اثنان ، والقرآن الكريم يؤكّد على ذلك في موارد متعدّدة ، والقيام بجولةٍ خاطفة في رحاب الآيات الكريمة يُثبت لنا أنّ الأنبياء كانت عادتهم الدعاء لأُممهم بالخير والهداية والرشاد ، أو أنّ الأُمم نفسها كانت تطلب من أنبيائها الدعاء لها بالمغفرة والخير.

والآيات كثيرة ، وهي على أقسام ، نذكرها على الأرقام التالية :

١. تارة يأمر الله تعالى نبيّه المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يستغفر لأُمّته ، فيقول :

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). (٢)

(... فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٣)

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (٤)

__________________

(١) الكهف : ٩٥.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) الممتحنة : ١٢.

(٤) التوبة : ١٠٣.

٢٠٧

وفي هذه الآية الأخيرة يأمر الله تعالى نبيّه محمّداً ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالدعاء لهم ، وأنّ دعاءه يبعث السكينة والطمأنينة في قلوبهم.

٢. وأُخرى كان الأنبياء يعدون المذنبين والعاصين بالاستغفار لهم في الفرصة المناسبة ، فمثلاً يقول تعالى :

(... إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ...). (١)

(... سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا). (٢)

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ...). (٣)

إنّ هذه الآيات الكريمة تدلّ على أنّ الأنبياء كانوا يبشّرون المذنبين بالاستغفار ، حتّى أنّ النبيّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وَعَدَ «آزر» بالاستغفار له ، ولكنّه لمّا رأى آزر مُصرّاً على عبادة الأصنام تركه ولم يستغفر له ، لأنّ من شروط استجابة الدعاء أن يكون المدعوّ له مؤمناً بالله تعالى.

٣. وثالثة يأمر سبحانه المؤمنين المذنبين بالحضور عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حتّى يستغفر لهم الرسول ، لأنّ الله يغفر لهم ببركة استغفار النبيّ لهم ، يقول سبحانه :

(... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤) فأيّة آيةٍ أوضح من هذه الآية الّتي يأمر الله المذنبين ـ من هذه الأُمّة ـ بالحضور عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وطلب الاستغفار منه لهم؟!

إنّ المجيء إلى رسول الله وطلب الاستغفار منه له فائدتان :

الأُولى : إنّه يبعث في الإنسان روح الطاعة والانقياد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وذلك

__________________

(١) الممتحنة : ٤.

(٢) مريم : ٤٧.

(٣) التوبة : ١١٤.

(٤) النساء : ٦٤.

٢٠٨

بالانتباه والتوجّه إلى عظمة النبيّ ووجاهته عند الله ، بحيث إنّ استغفاره له يوجب مغفرة الله له.

وبصورة عامّة ... الحضور عند النبيّ وطلب الاستغفار منه يوجب الخضوع له ، ويُهيّئ الإنسان نفسيّاً لامتثال قوله تعالى :

(... أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...). (١)

الثانية : إنّ هذا يجسّد منزلة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لدى الأُمّة ، ويبيّن لهم أنّ الإفاضة المادّية كما أنّها متوقّفة على أسباب وعوامل طبيعية كذلك الإفاضة المعنوية ـ الّتي هي مغفرة الله لعباده ـ تأتي عبر أسباب خاصّة ، مثل دعاء النبي وأولياء الله للإنسان.

إذا كانت الشمس منبعاً للإضاءة والطاقة والحرارة ، وكانت هذه الخيرات تنزل على عباد الله بسببها ، فإنّ الفيوضات الإلهيّة والخيرات الربّانيّة تنزل على عباد الله بسبب شمس النبوّة الساطعة وتشملهم بالخير والرحمة.

إنّ عالَم الوجود هو عالَم الأسباب والمسبّبات ، وإنّ الخيرات المادّية والمعنوية تأتي عبر الأسباب المناسبة لها.

٤. ويستفاد من بعض الآيات الكريمة أنّ المسلمين كانوا يحضرون عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دوماً ويسألونه الدعاء والاستغفار لهم ، ولمّا اقترح المسلمون على المنافقين بالحضور عند النبيّ الكريم وطلب الدعاء والاستغفار منه ، رفضوا ذلك كما يقول سبحانه :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ). (٢)

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) المنافقون : ٥.

٢٠٩

٥. وتشهد بعض الآيات الكريمة أنّ الناس كانوا يدركون ـ بفطرتهم النزيهة ـ بأنّ لدعاء النبي لهم تأثيراً خاصّاً ، وأنّ الله تعالى يستجيب دعاءهم بلا تردّد ، ولهذا كانوا يسألونه الدعاء والاستغفار لهم من الله سبحانه.

إنّ الناس كانوا يستلهمون من فطرتهم السليمة أنّ الفيض الإلهي والرحمة الربّانيّة تُدَرّ عبر دعاء الأنبياء ، كما أنّ هداية الناس وإرشادهم يتمّ عبرهم ، ولهذا كانوا يقصدونهم ويسألون منهم الاستغفار ، كما جاء في القرآن الكريم ـ في قصّة إخوة يوسف بعد أن وقفوا على خطئهم وسوء تصرّفهم بالنسبة إلى أخيهم يوسف ـ قوله تعالى :

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (١)

٦. هناك آيات كريمة يُحذّر فيها الله تعالى نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من الدعاء والاستغفار للمنافقين الذين لا زالوا على عبادة الأصنام ، وذلك لأنّ عبادتهم لغير الله تمنع من مغفرة الله لهم ، حتّى لو استغفر لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يدلّ على أنّ استغفار النبيّ نافذ ومؤثّر إلّا لمن يعكف على عبادة الأصنام ، لأنّ عبادة الأصنام مانعة من الاستجابة ، فمثل استغفار النبيّ لهم كمَثَل الماء الزلال الّذي يهطل على الأرض الصلبة المانعة من نفوذ الماء فيها ، يقول تعالى:

(... إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (٢)

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...). (٣)

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ

__________________

(١) يوسف : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) التوبة : ٨٠.

(٣) المنافقون : ٦.

٢١٠

كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ). (١)

إنّ المذنبين سألوا النبيّ موسى ـ عليه‌السلام ـ الدعاء لهم ، وتدلُّ جملة : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) على أنّهم كانوا يعلمون بأنّ لله تعالى عهداً مع موسى.

أمّا قوله تعالى : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ففيه احتمالان :

الأوّل : أن يكون الدعاء لكشف العذاب عنهم عن طريق المعجزة ، وذلك بإيمانهم بقدرة النبيّ موسى على ذلك ـ بالاستعانة بقدرة الله سبحانه ـ.

فلو صحّ هذا الاحتمال فالآية تدخل في البحث عن الصورة الثالثة ـ وهي الاستعانة بالإنسان الحيّ للقيام بعمل إعجازيّ خارق للأسباب المادّية ـ وسوف يأتي البحث عنها إن شاء الله تعالى.

الاحتمال الثاني : أن يكون طلب مجرّد الدعاء لكشف العذاب ، لا المعجزة وخرق العادة.

والظاهر هو الاحتمال الثاني : لأنّ المفهوم من جملة (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) هو مجرّد الدعاء لكشف العذاب.

نعم ... ليس في الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستجيب دعاء موسى في حقّ المشركين وعبدة العجل ، وإنّما الإشارة سبقت في آيات أُخرى.

٧. يُستفاد من بعض الآيات القرآنية بأنّ بعض المؤمنين كان يستغفر للبعض الآخر ، كما في قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ...).(٢)

__________________

(١) الأعراف : ١٣٤.

(٢) الحشر : ١٠.

٢١١

٨. وبالإضافة إلى أُولئك المؤمنين المستغفرين فإنّ حَمَلة العرش يستغفرون للمؤمنين أيضاً ، كما في قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). (١)

بناءً على هذا فما أحسن أن نتّبع هؤلاء في هذه السيرة المرضية لله تعالى ، ونستغفر الله للمذنبين.

إلى هنا تمّ البحث عن الصورة الأُولى والثانية ... وإليك البحث عن الصورة الثالثة :

الصورة الثالثة

وهي الاستعانة بالإنسان الحيّ القادر على المعجزة وخرق العادة ـ من أجل تنفيذ عملٍ ما ، عن طريق الإعجاز ، ودون اللجوء إلى الأسباب المادّية ، كشفاء المريض وتفجير الماء من عين يابسة ، وما شابه ذلك.

إنّ بعض السادة الأعاظم يعتبرون هذه الصورة ـ من الاستعانة ـ داخلة في الصورة الثانية ويقولون : إنّ المقصود من المعجزة هو أن يسأل الإنسان ربّه بأن يشفي مريضه أو يُسدِّد دُيونه وغير ذلك ، لأنّ هذه الأفعال خاصّة بالله تعالى ، وما دعاء النبيّ والإمام إلّا وسيلة إلى الله تعالى ، ولهذا فإنّ نسبة هذه الأفعال إلى النبيّ والإمام هي من باب المجاز لا الحقيقة. (٢)

__________________

(١) المؤمن : ٧.

(٢) كشف الارتياب : ٢٧٤.

٢١٢

إلّا أنّ في القرآن آيات تدلّ ـ بوضوح ـ على أنّ طلب هذه الحوائج من الأنبياء والأولياء أمرٌ حقيقي وليس مَجازاً ، فإنّنا إذ نطلب من المعصوم نفسه ـ القادر على المعجزة ـ بأن يشفي المريض ـ الّذي صعب علاجه ـ فإنّ ذلك يتحقّق بحول الله وقوّته.

صحيح أنّ القرآن الكريم يعتبر الشفاء من اختصاص الله تعالى فيقول :

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). (١)

إلّا أنّه في الوقت نفسه ينسب الشفاء إلى القرآن والعسل أيضاً فيقول :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...). (٢)

(... يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ...). (٣)

(... قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ...). (٤)

والسؤال الآن : ما هو وجه الجمع والتوافق بين هذه الآيات؟

الجواب ـ إنّ النظر الصائب في الجمع بين هاتين المجموعتين من الآيات الّتي تجعل الشفاء من اختصاص الله تعالى ، وتثبته للعسل والقرآن والمواعظ الإلهية : هو أنّ الله سبحانه مؤثِّرٌ في الأشياء بالاستقلال ، ومعتمدٌ على ذاته المقدّسة في الأُمور كلّها ، بينما العسل والقرآن والمواعظ الإلهية تترك تأثيرها في الأشياء بإذن الله وإرادته سبحانه.

إنّ النظرة الإسلامية ـ إلى الكون والحياة ـ تعتبر جميع العوامل والمؤثّرات تابعة لإرادة الله وقادرة على التأثير بإذنه سبحانه ، وأنّ العلل والأسباب لا تملك أدنى استقلال لها أبداً من دون فرق بين الأسباب الطبيعية والروحية.

__________________

(١) الشعراء : ٨٠.

(٢) الإسراء : ٨٢.

(٣) النحل : ٦٩.

(٤) يونس : ٥٧.

٢١٣

وعلى هذا الأساس فلا مانع ـ على ضوء القرآن والعقل ـ أن يمنح الله ـ الّذي جعل الشفاء في العسل والأدوية النباتية والكيمياوية ـ أن يمنح نفس تلك القدرة للأنبياء والأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ.

انظر إلى المرتاضين (١) كيف يتمكّنون من بعض التصرّفات الغريبة ، فما المانع من أن يتفضّل الله على الأنبياء والأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ بقدرة الإشفاء ، ويجعلهم قادرين على القيام بأعمال محيِّرة للعقول وخارقة للأسباب المادّية والطبيعية؟!

إنّ قدرة الأنبياء والأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ على شفاء المريض والقيام بأعمال استثنائية لا تُنافي أن يكون الله هو السبب الحقيقي والعلّة الأساسية لها ، وذلك بأن مَنَحهم القدرة على التصرُّف في الكون ـ بإذنه تعالى ـ عند الحاجة والمصلحة.

والجدير بالذكر أنّ في القرآن الحكيم آيات تصرّح بأنّ الناس كانوا يراجعون الأنبياء ـ وغير الأنبياء أيضاً ـ كي يقوموا بأعمال استثنائية خارقة للعادة الطبيعيّة.

وإليك بعض تلك الآيات :

(... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ ...). (٢)

يدلّ ظاهر هذه الآية على أنّ بني إسرائيل طلبوا من النبيّ موسى ـ عليه‌السلام ـ في وقت الجفاف وعدم توفّر الماء أن يهيّئ لهم الماء بالطُّرق الغيبية والمعجزة ، لا بالأسباب المادّية الطبيعية.

وترى واضحاً ـ في الآية ـ أنّ بني إسرائيل لم يطلبوا من النبيّ موسى أن

__________________

(١) المرتاض : هو الّذي يقوم بالرياضة الروحيّة والتمارين الشاقّة ، ليمنح روحه شفّافيّة خارقة ، تمكّنه من بعض التصرّفات الغريبة ، طبعاً تلك الشفّافيّة شيطانيّة وليست رحمانيّة ، ولهذا فهي تزول مع ترك تلك التمارين.

(٢) الأعراف : ١٦٠.

٢١٤

يدعو الله ويسأله توفير الماء بل طلبوا منه أن يوفّر لهم الماء فجأة ومن دون سبب مادّي ، ولهذا أمره الله بأن يضرب بعصاه الحجر كي ينفجر منه الماء ، بطريقة إعجازيّة ، قال سبحانه:

(... فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ...). (١)

وأوضح من هذه الآية هي الآية الّتي تحكي قصّة النبيّ سليمان ـ عليه‌السلام ـ عند ما طلب من الحاضرين عنده بإحضار عرش بلقيس ، على الرغم من الحواجز والموانع الّتي كانت في طريقه يقول (٢) تعالى ـ حاكياً قول سليمان لمن حولَه ـ :

(... أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). (٣)

لقد كان هدف سليمان ـ عليه‌السلام ـ إحضار عرش بلقيس بطريقة غير عادية ، ولقد تحقّق ذلك فعلاً بطريق خرق الطبيعة ، كما قال سبحانه :

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ...). (٤)

إنّ روح الموضوع وبيت القصيد هو تصوّر البعض بأنّ الأعمال العادية هي من صلاحيات الإنسان ، وأنّ الأعمال الاستثنائية ـ الّتي يعجز الناس عنها عادة ـ خاصّة بالله سبحانه ، وهذا هو الخطأ ، لأنّ المقياس في تمييز أفعال الله عن غيره هو الاستقلال وعدم الاستقلال فيها.

إنّ الأعمال الإلهية هي الّتي ينفّذها الفاعل ـ وهو الله ـ دون تدخّل الغير فيها ودون الاستعانة بقدرة الآخرين.

__________________

(١) البقرة : ٦٠.

(٢) كان النبيّ سليمان في الأُردن وكان عرش بلقيس في اليمن ، وبينهما مئات الفراسخ والكيلومترات.

(٣) النمل : ٣٨.

(٤) النمل : ٤٠.

٢١٥

وبعبارة أُخرى : إنّ الأعمال الإلهية هي الّتي يكون الفاعل مستقلاً تماماً في تنفيذها ، ولا يحتاج إلى الغير في إنجازها أبداً.

أمّا الأعمال غير الإلهية ـ سواء كانت بسيطة وعادية أو صعبة وغير عادية ـ فهي الّتي لا يكون الفاعل مستقلاً في تنفيذها ، بل يتمّ التنفيذ تحت ظلّ قدرة مستقلّة وبالاستمداد منها ، وهي قدرة الله تعالى.

بناءً على هذا فليس هناك أيُّ مانع من أن يتفضّل الله على أوليائه بالقدرة على إنجاز الأعمال الخارقة للعادة والطبيعة ، والّتي يعجز البشر عادة عن القيام بها.

يقول الله تعالى للنبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ :

(... تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ...). (١)

فما أصرح من هذه الآية في الدلالة على الموضوع؟!

إنّ هذه المجموعة من الآيات تدلّ على أنّ أولياء الله كانوا يملكون هذه القدرة ، وأنّ طلب الناس منهم القيام بالأعمال الاستثنائية والإعجازية كان أمراً مُتداولاً معروفاً.

أيُّها القارئ الكريم : لقد تحدّثنا ـ حتّى الآن ـ عن الصور الثلاث للاستعانة بأولياء الله في حياتهم ، على ضوء القرآن الكريم ، وقد عرفتَ بأنّ القرآن يُصرّح بصحّة تلك الصور ويؤكّد عليها في آيات متعدّدة.

أمّا التحدّث عن الصورتين الأخيرتين اللّتين تتعلّقان بالاستعانة بالأرواح المقدّسة فسيأتيك في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المائدة : ١١٠.

٢١٦

الفصل الثالث عشر :

الاستعانة بأولياء الله بعد رحيلهم

إنّ مسألة الاستعانة بأولياء الله ـ بعد وفاتهم وغيابهم عن هذه الحياة المادّية ـ هي أهمّ مسألة في بحث الاستعانة بأولياء الله ، ولا فرق بين أن تكون الاستعانة بصورة الدعاء أو طلب المعجزة.

أمّا السبب في أهميّة هذه المسألة ـ عن الّتي سبقَتها ـ فهو لأنّ المسلمين اليوم ليسوا في محضر نبيّ أو إمام كي يستعينوا به بصورة مباشرة (١) ولهذا فهم يستعينون بأرواحهم المقدّسة.

من هنا كان هذا البحث أكثر أهميّة من الّذي سبقه.

أيّها القارئ الكريم : إنّ البحث في هذا الموضوع يتوقّف على التحدّث عن أربعة أُمور ، ومن خلال التحدّث عنها والاطّلاع عليها تعرف جيّداً صحّة الاستعانة والاستغاثة بالأرواح المقدّسة ، والأُمور الأربعة هي :

١. بقاء الروح بعد الموت.

٢. حقيقة الإنسان هي روحه.

__________________

(١) إنّما عبرنا ب «مَحضر» ولم نعبّر ب «عصر» نظراً لأنّ الزمان لا يخلو من حجّة لله تعالى ، ونحن الآن في عصر الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر ـ عليه‌السلام ـ ولكنّه غائب عن الأبصار ، ولهذا فلسنا في محضره الشريف ، نسأل الله تعالى أن يعجّل في ظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

٢١٧

٣. الاتّصال بعالَم الأرواح ممكن.

٤. الأحاديث الصحيحة الّتي رواها المحدّثون ، وهي تنادي بصحّة الاستعانة بأولياء الله ، بعد رحيلهم وأنّ سيرة المسلمين كانت جارية على ذلك.

وإليك الآن تفصيل هذه الأُمور الأربعة :

١. موت الإنسان لا يعني فناءه

إنّ الآيات القرآنية تدلّ ـ بوضوح ـ على أنّ الموت ليس هو النهاية للحياة ، بل هو محطّة انتقال إلى حياة جديدة ، وبالموت يدخل الإنسان في عالَم جديد أسمى من عالم المادّة والطبيعة.

إنّ كلّ من يعتقد بأنّ الموت فناءٌ وعدم ، وأنّ الإنسان يفقد كلّ شيء بالموت ولا يبقى منه أثر ، سوى جسد لا روح فيه ، ثمّ يتحوّل ذلك الجسد بعد فترة من الزمن ـ إلى التراب والعناصر الأُخرى : إنّ كلّ من يعتقد هذا الاعتقاد فهو ـ في الحقيقة ـ يُقلّد الفلسفة الماديّة ـ القائمة على إنكار ما وراء المادّة ـ تقليداً لا شعوريّاً.

إنّ أصحاب هذه النظرية لا يعتبرون الحياة إلّا نتيجة مادّية لسلسلة تفاعلات كيميائية وعمليات فيزيائية تحصل في المخّ والأعصاب ، وعند ما يفقد الجسم حرارته وتتوقّف الخلايا عن الحركة والإنتاج ، تتوقّف حياة الإنسان أيضاً ويتحوّل إلى جسد جامد هامد.

وتذهب هذه النظرية إلى أنّ الروح ليس إلّا انعكاساً للمادّة وآثارها وخواصّها ، ومع فقدان هذه الآثار والخواص تبطل الروح وتفنى تبعاً للمادّة.

ولهذا فهؤلاء لا يعتقدون بوجود عالم آخر باسم عالم الأرواح.

٢١٨

إنّ نظرية كهذه تستلهم أفكارها من «الفلسفة الماديّة» الّتي تعتبر الإنسان كماكنة مركّبة من قِطَع وأجزاء مختلفة ، وأنّ تأثير هذه الأجزاء على بعضها يولّد قدرة التفكير والإدراك في المخ ، فإذا تعطلت هذه الأجزاء عن الحركة انعدمت آثار التفكير وتفنى الحياة فناءً كاملاً.

إنّ كبار الفلاسفة والعلماء الإلهيّين يُفنّدون تماماً نظريات المادّيين حول الروح ويقولون بأنّ للإنسان ـ بالإضافة إلى النظام المادّي الحاكم في جسمه ، والتفاعلات المتبادلة وسلسلة الأعصاب ـ جوهراً أصيلاً اسمه «الروح» ، وهذا الجوهر يُلازم البَدن فترة من الزمان ثمّ ينفصل عنه ويُحلّق في عالم آخر اسمه «البرزخ» ليلتحق بجسم لطيف هناك.

إنّ التحدّث عن بقاء الروح بعد الموت يستدعي كتاباً مستقلاً حوله ، ولا يمكن البحث عنه ـ بالتفصيل ـ في هذه الصفحات المحدودة ، وذلك لأنّ الآيات القرآنية والأدلّة الفلسفية وتجارب الروحيّين الثابتة قد برهنت اليوم على بقاء الروح الإنسانية بعد الموت.

وهنا نكتفي فقط بذكر بعض الآيات الّتي تثبت بقاء الروح بعد الموت.

القرآن وبقاء الأرواح

إنّ الآيات القرآنية تدلّ بوضوح كامل ـ على بقاء الروح بعد الجسد ، ولمراعاة الاختصار نذكرها ذكراً عابراً ، على أمل أن نُقدّم تحليلاً لها في فرصة أُخرى :

أ : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). (١)

__________________

(١) البقرة : ١٥٤.

٢١٩

ب : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ... * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ...). (١)

ودلالة الآيتين على المقصود واضحة.

ج : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). (٢)

إنّ المقصود من الجنّة الّتي أُمر أن يدخل فيها هي الجنة البرزخية لا الجنة الأُخروية بدليل قوله تعالى : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). إنّ تمنّي معرفة قومه على مكانه لا يتّفق مع عالَم الآخرة الّتي «تُبلى السرائر» فيها وتُرفع فيها الأستار أمام الأنظار ، ولا تخفى ـ يومئذٍ ـ أحوال بعض الناس عن بعضهم ، بل إنّه ينسجم مع الحياة الدنيا الّتي يعيش الناس فيها منقطعين عن البرزخ وقضاياها وما يجري على الناس فيها ، وهذا ما يشهد به القرآن الكريم.

بالإضافة إلى ذلك ... إنّ الآية الأُخرى التالية ـ بعد الآية المذكورة ـ تدلّ بأنّ قوم ذلك الرجل فارقوا الحياة ـ بعد ذلك ـ إثر صيحة سماوية عنيفة ، يقول تعالى : د : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ). (٣)

يُستفاد من هاتين الآيتين بأنّ قوم الرجل ـ الذي دخل الجنّة ـ كانوا يعيشون في هذه الحياة ، ثمّ فاجأهم الموت بغتة ، فهذه الجنّة ليست إلّا جنّة البرزخ.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

(٢) يس : ٢٥ ـ ٢٧.

(٣) يس : ٢٨ ـ ٢٩.

٢٢٠