الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

(... وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ...). (١)

والرؤيا الّتي أشار إليها يوسف ـ في الآية ـ هي في قوله تعالى :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). (٢)

٣. إنّ كلّ المسلمين اقتداءً برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يُقبّلون الحجر الأسود المستقرّ في زاوية الكعبة المشرَّفة ويتبرّكون به ، ونفس هذا العمل يقوم به عُبّاد الأصنام تجاه أصنامهم ، مع العلم أنّ عملهم ذلك شرك قطعاً وعمل المسلمين توحيد قطعاً.

إذن ليس معنى «العبادة» نهاية الخضوع والتذلُّل ، وإن كانت في الحقيقة من أركان العبادة إلّا أنّها ليست الركن الوحيد لها ، فلا بدّ من القول بأنّ «العبادة» معناها الخضوع والتذلُّل المقرون ب «الاعتقاد الخاص» فالعبادة تتكوَّن من عنصرين :

١. الخضوع والتذلُّل.

٢. الاعتقاد الخاص.

وهذا «الاعتقاد الخاص» هو الّذي يحسم الموقف ويفصل القضية ... فالخضوع ـ حتّى لو لم يكن كثيراً ـ إذا كان مقروناً «بالاعتقاد الخاص» فهو عبادة.

وفي الحقيقة أنّ «الاعتقاد الخاص» هو الّذي يصبغ العمل بصبغة العبادة ، وبدون «الاعتقاد الخاص» لا تتحقّق العبادة حتّى لو كانت بمظهرها.

والآن ... وبعد أن أثبتنا بطلان التعريفين اللّذين اعتمد عليهما الوهّابيّون ،

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) يوسف : ٤.

١٨١

وظهر ضعفهما ونقصهما يأتي دور التحدّث عن التعريفات الثلاثة للعبادة.

والسؤال الآن : ما هو «الاعتقاد الخاصّ» الّذي يفرز العبادة عن غيرها؟

الجواب : إنّ هذا ـ بالضبط ـ ما يتناوله البحث والتحقيق الآن ، وسوف يظهر من خلال التعاريف الثلاثة الآتية :

التعريف الأوّل :

«العبادة» خضوع عملي أو لفظي ينبع من عقيدة الإنسان ب «ألوهيّة المخضوع له».

وقبل ايضاح التعريف نلفت نظر القارئ إلى أمرين :

١. انّ المهم في هذا التعريف هو التعرف على معنى الألوهية المأخوذة من لفظة الإله ، فانّ المعروف الدارج على الألسن على انّ الإله بمعنى المعبود ، وهذا ما لا يدعمه الذكر الحكيم ، فانّ الامعان في الآيات الواردة حول لفظ الجلالة ولفظ «الإله» يعرب عن انّ اللفظين بمعنى واحد غير انّ أحدهما علم للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال أو لخالق الأشياء أو ما يرادف ذلك والآخر مفهوم كلي لهذا المفهوم الجزئي ، فعند ارادة المصداق الجزئي يؤتى بلفظ الجلالة ، وعند الإشارة إلى كلّي هذا المصداق يؤتى بلفظ الإله.

والذي يدلّ على وحدة مفهومهما انّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان «الإله» وبالعكس. وذلك واضح من الآيتين التاليتين :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ). (١)

__________________

(١) الأنعام : ٣.

١٨٢

فانّ وزان هذه الآية وزان قوله :

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ). (١)

وعلى ضوء ذلك فالمراد من لفظ الإله في التعريف نفس المراد من لفظ الجلالة لكن بصورة كلية حتّى يشمل الآلهة الكاذبة والأصنام المزعومة. (٢)

٢. انّ للألوهية درجات ومراتب أعلاها كونه خالقاً للكون بعامة أجزائه وهو من شئون الله سبحانه وأدناها كون الموجود مالكاً مقام الشفاعة والمغفرة فالأصنام عند المشركين آلهة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الأوّل.

فكلّ خضوع نابع عن الاعتقاد بالوهية المخضوع له بمرتبة من مراتبها فهو عبادة سواء كان الاعتقاد بالألوهيّة حقّاً أم باطلا.

وبعبارة أُخرى : انّ الإله هو الذي يكون بيده مصير العباد عاجلاً وآجلاً كما هو الحال في الإله الحقيقي المعبر عنه بلفظة الجلالة ، فإذا خضع امام موجود بما انّه يملك شيئاً ممّا يرجع إلى الألوهية من الحياة والموت والزرق والنعمة ، وغفران الذنوب والشفاعة فيوصف خضوعه عبادة لانّه خضع امام موجود بما هو إله سواء أكان الهاً واقعياً أو إلهاً باطلاً.

وأمّا إذا خضع مجرداً عن هذا العنوان بل بما انّه عبد من عباد الله سبحانه وله مقام ومنصب في المجتمع أو انّ له حقاً عليه في الحياة فيوصف بالتكريم والتعظيم لا بالعبادة.

وممّا يدلّ على انّ خضوع المشركين امام أصنامهم كان مقروناً باعتقاد انّهم

__________________

(١) الزخرف : ٣.

(٢) وقد بسطنا الكلام في هذا الموضوع في كتابنا «مفاهيم القرآن» : ١ / ٤٩٢ ـ ٤٩٦.

١٨٣

آلهة يملكون لهم العزّة في الحياة والنصرة في الحرب قوله سبحانه :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). (١)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ). (٢)

فكان المشركون يرون العزة والنصر بيد الآلهة مع انّهما من أفعاله سبحانه ، فيخضعون امامها بما انّها آلهة ، ولذلك يرد عليهم الذكر الحكيم ويقول :

(لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). (٣)

إنّ التأمّل في الآيات الّتي تتحدّث عن شرك عبدة الأصنام يكشف لنا عن هذه الحقيقة وهي أنّ شرك هؤلاء إنّما كان بسبب اعتقادهم بألوهيّة أصنامهم المعبودة ، وأنّ تلك الأصنام هي آلهة صغيرة قد خَوَّل الإله الأكبر بعضَ صلاحياته إليهم ، وإن كانت مخلوقة ومعبودة في وقت واحد ، ولهذا كانوا يرفضون دعوة التوحيد.

يقول القرآن الكريم :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).(٤)

هذا وللمفسّر القدير المرحوم آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي تعريفاً رائعاً للعبادة في تفسيره القيّم «آلاء الرحمن» يقول :

العبادة : ما يرونه مستشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً ، ليوفّيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالإلهيّة. (٥)

إنّ المرحوم البلاغي قد صبّ نظريته العلميّة ـ بإيحاء من الفطرة ـ لكلمة

__________________

(١) مريم : ٨١.

(٢) يس : ٧٤.

(٣) الأعراف : ١٩٢.

(٤) المؤمن : ١٢.

(٥) تفسير آلاء الرحمن : ١ / ٥٧.

١٨٤

«العبادة» في قالب اللفظ ، فجاء هذا التعريف الرائع الّذي ينسجم ـ بالكامل ـ مع الآيات القرآنية.

التعريف الثاني للعبادة

إنّ العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره «رَبّاً».

ويمكننا أن نعرفها كالتالي : العبادة هي الخضوع العملي أو القولي لمن يُعتقد بربوبيّته ، فالعبوديّة تلازم الربوبيّة ، فإذا اعتبر إنسان نفسه عبداً ، لمن يعتقده ربّاً تكوينياً ـ سواء كان ذلك ربّاً واقعاً أو لا ـ وخضع له مع هذا الاعتقاد فقد عبَده.

وفي القرآن الكريم آيات يستفاد منها أنّ العبادة هي من شئون الربوبيّة ، وإليك بعضها :

(... وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...). (١)

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). (٢)

وغيرها من الآيات.

وهناك آيات تعتبر العبادة من شئون الخالق ، كما في قوله تعالى :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ...). (٣)

ما معنى كلمة «الربّ»؟

تُطلق كلمة «ربّ» ـ في اللغة العربية ـ على من أُسند إليه تدبير شيء ما ، وترك مصير ذلك الشيء بيده ، فإذا أُطلقت هذه الكلمة على مالك الدار ومالك الإبل ومرضعة الطفل والفلّاح ـ وغيرهم ـ فإنّما هو بسبب امتلاكهم لإدارة ذلك

__________________

(١) المائدة : ٧٢.

(٢) آل عمران : ٥١.

(٣) الأنعام : ١٠٢.

١٨٥

الشيء وتكفّلهم لمسئوليته.

ونحن إذ نعتبر الله تعالى «ربّاً» فإنّما هو بسبب أنّ شئوننا وأُمورنا ومصيرنا ـ كالموت والحياة والرزق والصحّة والتقنين والتشريع والمغفرة والعفو وغير ذلك ـ بيد الله تعالى.

والآن ... لو اعتقد إنسان أنّ أحد هذه الشئون ـ أو كلّها ـ قد خوّلها الله تعالى إلى شخص ما ، فإنّ هذا الاعتقاد يعني اعتبار ذلك الشخص «ربّاً والإيمان بهذا الربّ والخضوع له عبادة له.

وبعبارة أُخرى : إنّ العبادة تنبع من شعور الإنسان بكونه عبداً ، مملوكاً والأعلى منه مالكاً للوجود والموت والحياة والرزق ... أو ـ على الأقل ـ مالكاً لصلاحية المغفرة (١) والشفاعة (٢) فيكون بذلك قد جعل المالك «ربّاً» له ، وكلُّ من يُجسّد هذا الشعور في نفسه ويترجمه إلى قول أو فعل ، فلا شكّ أنّه يَعبُد المالك الّذي اعتبره ربّاً.

التعريف الثالث للعبادة

«العبادة : خضوع أمام من نعتبره إله العالمين أو مفوَّضاً إليه أفعاله».

العبادة هي الخضوع أمام من نعتقد انّه إله العالم ، أو من فوض إليه أعماله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة التي تعد من الأفعال الكونية أو التقنين والتشريع وحقّ الشفاعة والمغفرة التي تعد من الأفعال التشريعية.

إنّ الموحد يعبد الله سبحانه بما انّه قائم بهذه الأفعال ، من دون أن يفوِّض شيئاً منها إلى مخلوقاته ، ولكنّ المشركين مع اعتقادهم بأنّ آلهتهم وأربابهم مخلوقون

__________________

(١) يقول تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران : ١٣٥).

(٢) يقول تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر : ٤٤).

١٨٦

لله تبارك وتعالى ، لكن كانوا على اعتقاد انّه فُوض إلى الآلهة أُمور التكوين والتشريع كلّها أو بعضها ، فلذلك كانوا يستمطرون بالأنواء والأصنام ويطلبون الشفاعة منهم بتصور انّهم مالكون لحقّ الشفاعة ، ويطلبون منهم النصرة والعزة في الحرب بزعم انّ الأمر بيدهم وانّه فوض إليهم.

وعلى ضوء هذه التعاريف الثلاثة يظهر الفرق الجوهري بين التوحيد في العبادة والشرك فيها ، فكلّ خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهية المخضوع له وربوبيته أو تفويض الأمر إليه فهو عبادة للمخضوع له سواء أكان الاعتقاد بالأُلوهية أو الربوبيّة في حقّ المعبود حقاً ـ كما في الله سبحانه ـ أم باطلاً كما في حقّ الأصنام. وعلى كلّ تقدير فالخضوع الناجم عن هذا النوع من الاعتقاد ، عبادة للمخضوع له.

وأمّا لو كان الخضوع مجرداً عن هذه العقيدة فهو تعظيم وتكريم ، وليس بعبادة ، ولا يكون الخاضع مشركاً ، ولا عمله موصوفاً بالشرك ، غاية الأمر ربما يكون حلالاً كما في الخضوع أمام الأنبياء والأولياء ومن وجب له حقّ بالتعليم والتربية ، وربما يكون حراماً كالسجود أمام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والولي ـ عليه‌السلام ـ وغيرهما لا لأنّه عبادة للمسجود له ، بل لانّه لا يجوز السجود لغيره سبحانه وانّ السجود خضوع لا يليق بغيره.

إيضاح للقول بالتفويض

لو أنّ إنساناً اعتقد بأنّ الله سبحانه قد فوَّض أفعاله ـ من الإرزاق والإحياء وغيرهما ـ إلى بعض مخلوقاته ـ كالملائكة والأولياء ـ وأنّهم هم الذين يُديرون شئون الكون ويدبّرون أُموره ، ولا علاقة لله سبحانه بذلك ، ودفعه هذا الاعتقاد إلى الخضوع لهم ، فلا شكّ أنّ خضوعه هذا عبادة ، وأنّ عمله هذا

١٨٧

شرك بالله سبحانه.

وأمّا إذا كان خضوعه عارياً عن هذا الاعتقاد فلا يوصف عمله بالشرك لأنّه لم يعتقد في المخضوع له وانّه مصدر للأفعال الشرعية أو مفوض إليه أفعاله سبحانه وإن أردت التفصيل فنقول :

لو اعتقد بأنّ الله قد فوَّض صلاحيّة تنفيذ هذه الأفعال إلى الملائكة والأولياء وبقي سبحانه مجرّداً من كلّ صلاحية ، والملائكة والأولياء ينفّذون تلك الأفعال بالاستقلال ومن دون إذنه سبحانه ، فيكون هذا الإنسان ـ المعتقد هذا الاعتقاد ـ قد جعل لله مِثلاً وندّاً ، ولا شكّ أنّ هذا الاعتقاد هو الشِّرك بذاته ، وأنّ التوسّل والخضوع ـ النابعين من هذا الاعتقاد ـ هو عبادة ، كما جاء في القرآن الكريم :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ...). (١)

إنّ أيّ كائن وموجود لا يستطيع أن يكون مِثلاً لله وندّاً ، إلّا إذا صار يتصرّف في الكون بإرادته الشخصية ومن دون إرادة الله تعالى ، وليس أحدٌ كذلك ، بل إنّ كلّ كائن خاضعٌ لإرادة الله سبحانه ـ شاء أو أبى ـ وعليه فلا يكون ندّاً لله فحسب بل يكون مطيعاً له يتصرّف وفق إرادته سبحانه.

والجدير بالذكر أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ أصنامهم المعبودة مستقلّة في التصرُّف في هذا الكون والشئون الإلهية ، وقد كان أضعف درجات الشرك ـ في العهد الجاهلي ـ هو الاعتقاد بتفويض التقنين والتشريع إلى الأحبار والرهبان ، كما قال تعالى :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ...). (٢)

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

(٢) التوبة : ٣١ لاحظ في تفسير الآية مجمع البيان : ٥ ـ ٦ / ٣٧ ، دار المعرفة ، بيروت.

١٨٨

وكذلك كانوا يعتقدون بأنّ صلاحية الشفاعة والمغفرة ـ الّتي هي خاصّة بالله وحده ـ قد فُوِّضتْ إلى أصنامهم المعبودة ، فهي تتصرّف بالاستقلال الكامل في تلك الصلاحيّات ، ولهذا ترى الآيات القرآنية ـ الّتي تتحدّث عن الشفاعة ـ تؤكّد بأنّ الشفاعة لا تتحقّق إلّا بإذن الله تعالى ، كما في قوله سبحانه :

(... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...). (١)

ولو كان المشركون يعتقدون بأنّ أصنامهم المعبودة تملك الشفاعة بإذن الله سبحانه ، لما كنت ترى هذا النفي القرآني القاطع للشفاعة بدون إذن الله تعالى.

إنّ بعض حكماء اليونان كانوا قد نحتوا ـ في أفكارهم ـ آلهة متعدّدة لكلّ شأن من شئون العالَم ، فالمطر له إله والزرع له إله والإنسان له إله وهكذا ، وكانوا يزعمون أنّ التصرّف في شئون الكون ـ الّذي هو خاصّ بالله سبحانه ـ قد فُوِّض إلى هذه الآلهة.

وفي العهد الجاهلي كان بعض العرب يعبدون الملائكة والنجوم الثابتة والمتحرّكة ، ظنّاً منهم أنّ تدبير شئون الكون والإنسان قد فُوّض إليها ، فهي تتصرّف بالاستقلال والاختيار الكامل ، وأنّ الله تعالى يعيش معزولاً مجرّداً عن كلّ هذه الصلاحيّات بصورة كاملة ، تعالى الله عن هذا عُلوّاً كَبيراً. (٢)

ولهذا فإنّ كلّ نوع من الخضوع للملائكة والنجوم يُعتبر عبادة ، لكونه نابعاً من هذا الاعتقاد الخاطئ.

والبعض الآخر من عرب الجاهلية لم يعتبروا الأصنام الخشبية والمعدنية آلهة وخالقة لهم ولا مدبّرة لشئون الكون والإنسان ، بل كانوا يعتبرونها أو ما يحكي صور هذه الأصنام عنه مالكة للشفاعة ، وكانوا يقولون : هؤلاء ـ أي الأصنام ـ

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) راجع الملل والنحل للشهرستاني : ٢ / ٢٤٤ ـ ٢٤٧ ، طبعة مصر.

١٨٩

شفعاؤنا عند الله. (١)

وعلى أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدون هذه الأصنام ، تقرّباً إلى الله تعالى وكانوا يقولون :

(... ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ...). (٢)

وخلاصة القول : إنّ أيّ عمل ينبثق من هذا الاعتقاد ويدلّ على الانقياد والخشوع ، فهو عبادة ، وفي المقابل : إنّ أيّ فعل لا يستند إلى اعتقاد كهذا ، لا يُعتبر عبادة ولا شركاً ، فلو خضع إنسان أمام موجود وكرّمه وعظّمه ، دون أن يعتقد بهذا الاعتقاد ، فلا يُعتبر عمله شركاً ولا عبادة ، حتّى لو فُرض عمله ذلك حراماً.

مثلاً : لا يُعتبر سجود العاشق لمعشوقه ، والمأمور لآمره ، والمرأة لزوجها ... عبادة ، بالرغم من أنّه حرام شرعاً ، لأنّ السجود خاصّ بالله تعالى ، ولا يجوز لأحد أن يأتي به ـ حتّى بصورته الظاهرية المجرّدة عن العقيدة ـ إلّا بأمره سبحانه.

نتيجة البحث

إلى هنا استطعنا ـ نوعاً ما ـ أن نوضّح حقيقة «العبادة» والآن يجب أن نستخلص النتيجة من هذا البحث ... فنقول : لو أنّ إنساناً خضع وتواضَع لآخرين ، دون أن يعتبر أحدهم «إلهاً» أو «ربّاً» أو «مصدراً» مستقلاً لأفعال الله تعالى ، بل يحترمهم لأنّهم :

(... عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (٣)

__________________

(١) قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس : ١٨).

(٢) الزمر : ٣.

(٣) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

١٩٠

فإنّ عمله هذا ليس إلّا تعظيماً وتكريماً لهم ، ولا علاقة له بالعبادة أبداً.

إنّ الله تعالى قد ذكر بعض عباده ذكراً حسناً ، ووصفهم بشكل يثير رغبة كلّ إنسان في تعظيمهم وتكريمهم ... فمن ذلك قوله سبحانه :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ). (١)

كما يُصرِّح القرآن الكريم بأنّ الله تعالى قد اصطفى إبراهيم للإمامة فيقول :

(... قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ...). (٢)

وقد ذكر الله سبحانه في القرآن كلاً من النبيّ نوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمّد ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ذكرهم أحسن الذِّكر ، ووصفهم بأسمى الصفات ، بحيث إنّ كلّ صفة ـ بوحدها ـ تكفي لجذب القلوب واكتساب المحبّة في النفوس.

وترى القرآن الكريم يهتف بفضل آل محمّد في آيات عديدة منه فيقول :

(... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٣)

ويقول فيهم :

(... قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ...). (٤)

ويقول فيهم :

(... وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً* إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً* فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً* وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ...) (٥). وغيرها من الآيات.

__________________

(١) آل عمران : ٣٣.

(٢) البقرة : ١٢٤.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) الشورى : ٢٣.

(٥) سورة الإنسان.

١٩١

فلو قام الناس ـ تجاه هؤلاء الأولياء المقرَّبين ـ بما ينبغي من التعظيم والتجليل والتكريم والاحترام ـ سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم ـ دون أن يعتبروهم آلهة أو أرباباً أو مصدراً مستقلاً لأفعال الله ، فليس هناك من يعتبر هذا العمل عبادة ، ولا القائم به مشركاً ، بل بالعكس يعتبرهم ذوي حضارة تقدميّة يقدّرون أولياء الله ويخلّدون ذكرياتهم ويتّخذونهم قدوة وأُسوة لهم.

إنّ تعظيم أولياء الله تعظيمٌ لشعائر الله ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ وإنّ الإسلام يزخر بالشعائر الإلهية.

لقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقف عند الحجر الأسود ويستلمه ويُقبّله ، مع العلم أنّه ليس إلّا حجراً.

ونحن كذلك نقتدي بهذا النبيّ العظيم فنقبّل الحجر الأسود ، ونطوف حول بيت الله ـ الّذي ليس إلّا مجموعة من الطين والحجر ـ ونسعى بين الصفا والمروة ـ وليسا إلّا جَبَلين ـ أي أنّنا نفعل نفس ما كان يفعله عَبَدة الأصنام اتجاه أصنامهم ، ولكن لم يخطر ببال أحد ـ حتّى الآن ـ بأنّنا نعبد الطين والأحجار ... لما ذا؟ لأنّ الأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، أمّا لو أدّينا هذه المناسك مع الاعتقاد بأنّ هذه الأحجار والجبال هي الإله ومصدر آثاره ، لأصبحنا ـ عند ذلك ـ في عداد عَبَدة الأصنام.

وعلى هذا الأساس : فإنّ تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلّم أو الوالدين ، وكذلك تقبيل القرآن الكريم والكتب الدينية وتقبيل الضريح وكلّ ما يتعلّق بعباد الله الأزكياء ليس إلّا تعظيماً وتكريماً لهم لا غير ، وتعظيمهم ليس إلّا تعظيماً لله سبحانه.

لقد ورد في القرآن الكريم سجود الملائكة لآدم ـ عليه‌السلام ـ وسجود إخوة يوسف

١٩٢

ليوسف ـ عليه‌السلام ـ ولم يخطر ببال أحدٍ بأنّ هذا السجود كان عبادة لآدم أو ليوسف ، والسبب في ذلك هو أنّ الذين سجدوا لآدم وليوسف لم يعتقدوا لهما بالألوهيّة والربوبيّة ، ولم يعتبروهما مصدراً لأفعال الله تعالى ، بل كان ذلك من باب التعظيم والتكريم لا العبادة ، كما هو واضح.

إنّ الوهّابيّين عند ما يواجهون هذه الآيات القرآنية لا يُقرّون ولا يخضعون لها ، بل تراهم يبحثون ـ هنا وهناك ـ عن تبرير وذريعة لها ، فيقولون : إنّ سجود أُولئك لا يُعتبر عبادة ، لأنّه كان بأمر الله تعالى.

والجواب : صحيح أنّ كلّ ذلك ـ حتّى سجود إخوة يوسف ـ كان بأمر الله أو رضاه ، ولكن الشيء الّذي يتغافل عنه الوهّابيّون ويتجاهلونه هو أنّ حقيقة العمل أيضاً لم تكن عبادة ، ولهذا أمر الله به ، ولو كان سجودهم عبادة للمسجود له لما أمر الله بذلك أبداً ، لأنّ الأمر لا يُخرج العبادة عن حقيقتها ولا يجعل الشرك توحيداً. قال تعالى :

(... قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (١)

والخلاصة : أنّ حقيقة العمل يجب أن تكون غير عباديّة قبل صدور الأمر بها من الله تعالى ، حتّى يتعلّق الأمر بها ، ولا يُتصوّر ـ بأيّ وجه ـ أن يكون العمل عبادة فيتعلّق الأمر فيخرج عن العباديّة.

إنّ هذا التبرير الّذي يلجأ إليه الوهّابيّون ـ والّذي طالما سمعناه من مشايخهم في مكّة والمدينة ـ إنّما يدلّ على الجمود الّذي يعيشونه تجاه المعارف القرآنية ، وعدم معرفتهم بأنّ العبادة لها حقيقة مستقلّة ، يطرأ عليها الأمر تارةً ، والنهي تارةً أُخرى ، أي أنّ الشيء ـ بذاته ـ عبادة ، فيأمر الله تعالى به أو ينهى عنه ،

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

١٩٣

كالصلاة والصوم ، حيث أمر الله المكلّفين بأدائهما ، ونهى المرأة الحائض عنهما ، أو كصوم عيد الفطر والأضحى حيث نهى الله عنه فيهما جميع الناس.

فإذا كان سجود الملائكة لآدم وسجود إخوة يوسف ووالديه له عبادة لهما ، فإنّ الأمر به لا يُخرجه عن حقيقة العبادة ، فلا بدّ من القول بأنّ سجود هؤلاء لم يكن عبادة قبل أمره سبحانه ، وذلك لأنّ الاعتقاد بالألوهيّة أو الربوبيّة هو الّذي يجعل الفعل عبادة ، أو الاعتقاد بكون المخضوع له مصدراً لأفعاله سبحانه يصيّر الخضوع عبادة ولم تكن ببال هؤلاء الساجدين تلك العقيدة.

كيف نَحسم الموقف؟

أيّها القارئ الكريم : يجب أن تعلم بأنّ إزالة الخلافات ـ الموجودة بين المسلمين والوهّابيّين في كثير من المسائل ـ تتوقّف على تحليل مفهوم «العبادة». ومع عدم الوقوف على تعريفٍ منطقي للعبادة وعدم التفاهم والإنصاف بين الطّرفين ، لا فائدة في البحث والمناقشة.

من هنا ... فلا بدّ للإنسان المحقّق أن يقوم بجولةٍ تحقيقية في عمق هذا الموضوع ، وأن لا ينخدع بالتعريفات اللُّغويّة المجملة ـ الناقصة عن التحليل والتوضيح ـ وخيرُ مصدر يُرجع إليه هي الآيات القرآنية ، فهي الدليل المرشد في هذا المجال ـ وكلّ مجال ـ.

ومن المؤسف أنّ كلّ الكُتّاب والمؤلّفين الوهّابيّين ـ وكذلك الذين كتبوا الردود على معتقداتهم ـ قد أطالوا البحث والتحقيق في نقاط أُخرى ، ولم يُركّزوا على هذه النقطة المهمّة بالشرح والتحقيق.

فالوهّابيّون يقولون : إنّ كثيراً من الأعمال الّتي تقومون بها ـ أيّها المسلمون ـ

١٩٤

تجاه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والأئمّة من أهل بيته ـ عليهم‌السلام ـ هي عبادة لهم ، وذلك يستلزم الشرك في عبادة الله تعالى.

فيجب على المسلمين أن يُقدّموا توضيحاً وشرحاً دقيقاً للعبادة حتّى يُجرّدوا الوهّابيّين من هذا السيف الموهوم.

إنّ الوهّابيّة تعتبر كثيراً ممّا يقوم به المسلمون تجاه الميّت عبادة له ، مثلاً :

١. الاستشفاع بالنبيّ والصالحين.

٢. الاستشفاء بأولياء الله.

٣. طلب قضاء الحوائج من قادة الدين.

٤. تكريم صاحب القبر وتعظيمه.

٥. الاستعانة بالنبيّ الأكرم ، وغيره.

فهم يقولون : إنّ الشفاعة من أفعال الله ، وكذلك الشفاء منه سبحانه ، فطلب أحدهما من غيره يؤدّي إلى عبادته.

ما هي «أفعال الله تعالى»؟

نحن ـ في نظرة سريعة ـ نُقدّم بحثاً موجزاً عن أفعال الله ومعناها ، كي يتّضح الموضوع ... فنقول : إذا كان الّذي يقوم بالشفاعة والشفاء يقوم بهما بقدرته الشخصيّة وبإرادته المستقلّة ، من دون أن يكون قد اكتسب حقّ الشفاعة من أحد ، ومن دون اعتماد على قدرةٍ تتفوَّق عليه ، فهذا من أفعال الله الخاصّة به سبحانه ، والاستشفاع بأحد بهذا الاعتقاد معناه الإيمان بربوبيّته وألوهيّته.

أمّا لو كان الاستشفاع والاستشفاء مجرداً وخالياً من هذا الاعتقاد ، بأن يستشفع الإنسان بمن يعتقد بعبوديّته لله ، وأنّه يتصرّف بالاستعانة بقدرة الله تعالى

١٩٥

وإذن منه سبحانه ، فهذا الاستشفاع والاستشفاء لا يلازم الاعتقاد بالألوهيّة والربوبيّة ، ولا هو طلبُ فعل الله من غير الله.

يقول القرآن الكريم عن لسان النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ :

(... وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ...). (١)

ونفس هذا التوضيح يأتي بالنسبة إلى طلب قضاء الحاجة من أحد أولياء الله أو الاستعانة به ، فطلب قضاء الحاجة له صورتان :

١. الطلب من العبد ـ مع الاعتقاد بقدرته المستقلّة ـ فهذا عبادة.

٢. الطلب من العبد ـ مع الاعتقاد بعبوديّته لله واستمداده منه سبحانه ـ فهذا لا يرتبط بالعبادة أبداً.

إنّ هذا التوضيح ليس فقط الحدّ الفاصل بين العبادة وغيرها ، بالنسبة إلى هذه الأفعال ، بل هو قاعدة عامّة تفصل بين التوحيد والشرك في كلّ المؤثّرات والأسباب.

إنّ الاعتقاد بتأثير «الاسپرين» ـ مثلاً ـ في تسكين الآلام ، إذا كان نابعاً من قدرته المستقلة في ذلك ، وأنّه لا يرتبط بقدرة أعلى ـ وهي الله تعالى ـ فهذا معناه الاعتقاد بألوهيّته ، أمّا الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو الّذي جعل هذا الأثر في الاسپرين ، وأنّ هذا الدواء ليس إلّا سبباً لتسكين الآلام ، وأنّه لا يُسكّن الألم إلّا بإذن الله ، فإنّ هذا الاعتقاد نابع من التوحيد ذاته ، لأنّه «لا مؤثّر في الوجود إلّا هو».

ولهذا قلنا : إنّ حسم الخلافات يتوقّف على تحديد معنى «العبادة» وفرز التوحيد من الشرك ، وأفعال الله من غيرها ، والألوهيّة من العبوديّة.

وقد سبقت الإشارة إلى أنّ عرب الجاهليّة كانوا يعتقدون ذلك الاعتقاد الخاطئ ، بأنّ الأصنام هي الّتي تدير بعض شئون الكون إدارة مستقلّة وتملك

__________________

(١) آل عمران : ٤٩.

١٩٦

الشفاعة وغيرها ، وهذا هو الّذي صيّرهم مشركين.

هذا ... ولزيادة في التفصيل راجع الكتب التالية :

١. معالم التوحيد في القرآن الكريم.

٢. التوحيد والشرك في القرآن الكريم.

٣. بحوث قرآنية في التوحيد والشرك.

٤. في ظلّ أُصول الإسلام.

كلامٌ للعلّامة القضاعيّ المصريّ

ثمّ إنّي لمّا حرّرت ذلك وبيّنت حدود العبادة ، وقفت على كلام لأحد المحقّقين من علماء الأزهر الشريف ، أعني به : الأُستاذ الشيخ سلامة القضاعيّ العزاميّ الشافعيّ مؤلّف «فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان» (١) قال أنار الله برهانه :

فلننتقل بك إلى معنى العبادة شرعاً ، وأرجو أن تعطي هذا المقام فضل تنبّه فإنّ الغلط فيه هو المزلقة الكبرى والمزلّة العظمى ، الّتي استحلّت بها دماء لا

__________________

(١) وهو من أنفس الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور الأخيرة ، والمؤلّف وزميله الأُستاذ المحدّث المحقّق محمد زاهد الكوثريّ المصري من الذين قاموا في وجه البدع اليهودية من القول بالتشبيه والتجسيم والجهة والمكان في حقّ الله سبحانه. فقد أخذت هذه البدع تنتعش من أوائل القرن الثامن بيد شيخ البدع والضلال : أحمد بن عبد الحليم بن تيميّة الحرّاني ، وبعده بيد تلميذه ابن القيم ، وبعدهما بيد : الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب. فقام القضاعيّ بتأليف كتابه «فرقان القرآن» فردّ فيه على هذه البدع وغيرها ، من منع التوسّل والاستغاثة وطلب الشفاعة عمّن جعله الله وسيلة ومغيثاً بإذنه وشافعاً بأمره. كما قام الكوثري بنشر كتاب «الأسماء والصفات» للحافظ أبي بكر البيهقي مع تحقيقه والتعليق عليه وتقديم مقدّمة نافعة عليه ، وطبع الكتابان في مصر عام ١٣٥٨ ه‍ في مجلّد واحد. شكر الله سعيهما وسعي ناشري كتب الحقّ ورافعي ألوية الهدى ـ آمين ـ.

١٩٧

تحصى ، وانتهكت بها أعراض لا تعدّ ، وتقاطعت فيها أرحام أمر الله بها أن توصل ، عياذاً بالله من المزالق والفتن ، ولا سيّما فتن الشبهات.

فاعلم أنّهم فسّروا العبادة بالإتيان بأقصى غاية الخضوع ، وأرادوا بذلك المعنى اللغوي ، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع ، فإنّه الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً باعتقاد ربوبية المخضوع له ، أو قالباً (١) مع ذلك الاعتقاد ـ و «أو» فيه للتقسيم ـ فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً في كثير ولا قليل مهما كان المأتيّ به ولو سجوداً. ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع والضرّ ، وكنفوذ المشيئة لا محالة ولو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود. وإنّما كفر المشركون بسجودهم لأوثانهم ودعائهم إيّاهم وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم ، وهو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له ، أو خاصّة من خواصّها كما سيأتيك تفصيله. ولا يصحّ أن يكون السجود لغير الله فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد عبادة شرعاً ، فانّه حينئذٍ يكون كفراً ، وما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع ، ولا يأمر الله عزوجل به (... قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ...) (٢) ، (... وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ...) (٣) وذلك ظاهر إن شاء الله.

وها أنت ذا تسمع الله تعالى قد قال للملائكة : (... اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ ...) (٤) وقال : (... أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ...) (٥). وقال : (... أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ...). (٦) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه

__________________

(١) أي ظاهراً.

(٢) الأعراف : ٢٨.

(٣) الزمر : ٧.

(٤) البقرة : ٣٤.

(٥) الأعراف : ١٢.

(٦) الإسراء : ٦١.

١٩٨

التحقيق ويرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم. فإن قصر فهمك عن هذا فهذا نبيّ الله يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر قال الله فيهم : (... وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ...) (١) أي ليوسف ـ عليه‌السلام ـ. قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها : «أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلاً ، وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلّموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، فحرّم هذا في هذه الملّة ، وجعل السجود مختصّاً بجناب الربّ تعالى. هذا مضمون قول قتادة وغيره. وفي الحديث «أنّ معاذاً قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم فلمّا رجع سجد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : ما هذا يا معاذ؟ فقال : إنّي رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحقّ أن يسجد لك ، قال : لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها».

وفي حديث آخر : «أنّ سلمان لقي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في بعض طرق المدينة ـ وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ـ فسجد للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحيّ الّذي لا يموت» والغرض أنّ هذا كان جائزاً في شريعتهم» انتهى. وقال الإمام أبو جعفر في تفسيرها نحواً من هذا.

وقد علمت أنّ ما هو كفر لا يختلف باختلاف الشرائع ولا يأمر الله به في حين من الأحيان ، فلم يكن سجود الملائكة لآدم ولا السجود ليوسف عليهما‌السلام مع خلوّ الساجدين من اعتقاد خصيصة من خصائص الربوبيّة ، بمن سجدوا له ، كفراً بل هو من الملائكة عبادة لله الّذي أمرهم سبحانه ، وممّن سجد ليوسف تحية جائزة ، ونسخ الجواز في شريعتنا ، وإنّما حكم العلماء بالكفر على من سجد لشمس أو قمر أو وثن من أجل أنّه أمارة على الكفر الّذي هو إنكار ما علم من الدين

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

١٩٩

بالضرورة ، كما حكموا بالإيمان ـ وهو معنى قلبي كما علمت ـ لمن نطق بالشهادتين من أجل أنّه دليل عليه ، لا لأنّ الأوّل بمجرده كفر والثاني بمجرده إيمان.

فإن تعسّر عليك فهم هذا وهو ليس بعسير إن شاء الله تعالى ، فانظر إلى نفسك فإنّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك واحترامك له أن لا تسمح بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه ، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها ، ولا يكون ذلك منك عبادة له ، لما ذا؟ لأنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه. وتقف في الصلاة قدر الفاتحة وتجلس فيها قدر التشهد وهو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيت له ، وسرّ ذلك هو أنّ هذا الخضوع الممثّل في قيامك وقعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعت له عزوجل. وتدعو رئيسك في عمل من الأعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك ، أو يغيثك من أزمة نزلت بك وأنت معتقد فيه أنّه لا يستقلّ بجلب نفع أو دفع ضرّ ، ولكن الله جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه ، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعو وأنت على ما وصفنا.

فإنّ دعوته وأنت تعتقد فيه أنّه مستقلّ بالنفع أو الضرّ أو نافذ المشيئة مع الله ، لا محالة كنت له بذلك الدعاء عابداً ، وبهذه العبادة أشركته مع الله عزوجل ، لأنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية ، فإنّ الاستقلال بالجلب أو الدفع ونفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية ، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لا محالة مع الله تعالى ، ولو على سبيل الشفاعة عنده ، فإنّهم يعتبرونه الربّ الأكبر ولمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيّته ، وبمقتضى ما لهم من الربوبية وجب

٢٠٠