الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

فلو أقام مراسم خاصّة أشاد فيها بشخصية ذلك العظيم وحياته المتلألئة وفضائله الكريمة وتضحياته السامية ، واستعرض جانباً من آلامه وما جرى عليه من المصاعب والمصائب ... فهل ارتكب حراماً بعمله هذا؟ أم أنّه أحيا ذكر ذلك العظيم وأدّى «المودّة» تجاهه؟!!

ولو أنّ الإنسان ـ لمزيد المودَّة في القربى ـ تفقّد من ينتسب إلى ذوي القربى ، وقام بزيارة قبور ذي القربى وأقام تلك المجالس عند مراقدهم ... ألا يحكم العقلاء وأهل البصيرة والدين بأنّه يؤدّي فريضة «المودّة في القربى»؟!

إلّا أن يقول الوهّابيّون : إنّ الواجب هو كتمان المودّة في النفوس وعدم إبرازها بأيّ وجه ممّا هو ثابت البطلان!!

لقد شهد عصر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وما بعده من العصور الّتي عاشت تغييراً في العقائد وتحوّلاً في الأفكار ـ شهد إقبالاً عظيماً من الشعوب والأُمم المختلفة تجاه الإسلام ، حتّى قال تعالى :

(... وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً). (١)

وكان الإسلام يحتضنهم ويكتفي منهم ـ في البداية ـ بالشهادتين ، مع محافظتهم على ثقافتهم وآدابهم وتقاليدهم ، ولم يعمل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن جاء من بعده ، على فرض الرقابة على عادات الشعوب وتقاليدها ، وصَهْرها في بوتقةٍ واحدة.

إنّ احترام كبار الشخصيّات وإقامة مجالس العزاء في ذكريات وفاتهم ، والاجتماع عند مراقدهم ، وإظهار الحبِّ والمودّة لهم ... كلّ ذلك كان ولا يزال أمراً متداولاً لدى كافة الشعوب في العالَم كلّه ..

وفي عصرنا الحاضر ... ترى الشعوب الشرقية الغربية تقف ساعات طويلة في

__________________

(١) النصر : ٢.

١٦١

الانتظار لزيارة الأجساد المحنَّطة لزعمائها وقبور قادتها القدامى ، ويذرفون دموع الشوق بجوارها ، ويعتبرون ذلك نوعاً من الاحترام والتقدير.

ولم يُعهد من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يجري تحقيقاً عن عقائد الناس وآدابهم المعروفة أوّلاً ثمّ يوافق على دخولهم في الإسلام ، بل كان يكفي تشهّدهم للشهادتين ، ولو كانت هذه العادات محرَّمة وعبادة لتلك الشخصيّات لاشترط عليهم البراءة والتخلّي من كلّ ما لديهم من عادات وتقاليد ، ثمّ الدخول في الإسلام ، ولم يكن الأمر كذلك.

الآية الرابعة :

إنّ النبيّ عيسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربّه أن يُنزل عليه مائدة من السماء ، ويعتبر يوم نزولها عيداً له ولأصحابه.

يقول القرآن الكريم ـ عن لسان عيسى ـ :

(... رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (١)

فهل ـ يا ترى ـ أنّ شخصيّة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أقلّ شأناً من تلك المائدة الّتي اتخذ المسيح يوم نزولها عيداً؟!!

إذا كان اتخاذ ذلك اليوم عيداً لكون المائدة آية إلهية ومعجزة سماوية ... أليس نبيّ الإسلام أكبر آية إلهية ومعجزة القرون والعصور؟!

تبّاً وبُعداً لقوم يوافقون على اتخاذ يوم نزول المائدة السماوية ـ الّتي لم يكن لها شأن سوى إشباع البطون الجائعة ـ عيداً ، ولكنّهم يُهملون يوم نزول القرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويوم مبعثه الشريف ، بل ويعتبرون الاحتفال به بدعة وحراماً!!

__________________

(١) المائدة : ١١٤.

١٦٢

الآية الخامسة :

قال سبحانه : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). (١)

إنّ إقامة المجالس والاحتفالات هي نوع من رفع الذِّكر ، والمسلمون لا يهدفون من الاحتفال بميلاد النبيّ ومبعثه وغير ذلك من المناسبات الدينية سوى رفع ذكره وذكر أهل بيت الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ.

فلما ذا لا نقتدي بالقرآن؟!

أليس القرآن قدوة وأُسوة لنا؟!

هذا ... وليس لأحد أن يقول : «إنّ رفع ذكره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خاصّ بالله سبحانه ولا يشمل غيره» لأنّ ذلك يشبه أن يقول : إنّ نصر النبيّ خاصّ بالله سبحانه ولا يجوز لأحدٍ من المسلمين أن ينصره وقد قال تعالى :

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً). (٢)

ولعلّ الهدف من هذه الآيات هو دعوة المسلمين إلى نصر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وتخليد ذكراه وإحياء اسمه ورسمه.

التناقض بين قول الوهّابيّة وعملها

والعجب من هؤلاء الوهّابيّين ... كيف يُحرّمون الاحتفال بمولد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذلك النبيّ الّذي أسدى إلى البشرية عامّة أعظم العطاء الزاخر الدائم ، ويعدُّون الاحتفاء به والاحتفال بميلاده شركاً ، ولكنّهم يقيمون الاحتفالات الضخمة تشييداً لرجالهم وأُمرائهم ، ويُنفقون ـ في هذا السبيل ـ ملايين الريالات ، تقديراً لخدماتهم كما يزعمون.

__________________

(١) الانشراح : ٤.

(٢) الفتح : ٣.

١٦٣

انظر إلى العدد ١٠٢ من مجلة الفيصل ـ الّتي تصدر في طباعة أنيقة جدّاً في السعودية ـ فهو يحتوي على تقرير مفصَّل عن الاحتفالات الكبرى الّتي أقامتها السلطات السعودية بمناسبة عودة «الأمير سلطان» من الرحلة الفضائية في مركبة «ديسكفري».

ويحتوي هذا العدد على صُوَر كثيرة تُنبئ عن حجم المبالغ الطائلة الّتي صُرفت في تلك الاحتفالات ، وقد نُشرت الكلمات والقصائد الّتي أُلقيت في تلك الاحتفالات ، وتقرأ فيها المدح المفرط والثناء المسرف لآل سعود عامّة وللأمير خاصّة!!

بالله عليك ـ أيّها القارئ ـ هل يستحقّ أمير ـ لم يفعل شيئاً سوى أنّه رافق مجموعة من الأجانب الغربيّين في رحلة فضائية أعدّها الأمريكيّون ـ هل يستحقّ هذا الاحتفاء والتكريم وصرف الأموال الطائلة ، وهدر الطاقات والنشاط فيما لا فائدة فيه ... ولا يستحقّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وحلّق بهم في سماء الكمالات المعنوية والفضائل النفسية والصفات العالية وأنقذهم من كلّ سوء وانحطاط وضلال وضياع وانحراف.

ألا يستحقّ رسول الإسلام أن تُخلَّد ذكرى مولده الشريف ، وتُشرَح مناقبه وفضائله وإنجازاته العظيمة وعطاؤه الزاخر وخدماته الجليلة وجهاده وجهوده وغير ذلك.

حتّى تعرف الأجيال ـ على امتدادها ـ ما أسداه هذا النبيّ العظيم من خدمة ، وما قدّمه من عطاء وما تحمّل من عناء وعذاب في سبيل هداية البشرية؟!

وهل التكريم إلّا الاحتفاء والاحتفال به ونشر قِيَمِهِ الفاضلة والحثّ على الاقتداء به والأخذ بهديه والمحافظة على آثاره؟!

١٦٤

وكيف لا يجوز مدح النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإلقاء القصائد في فضله وعظمته ، ويجوز مدح آل سعود وأُمرائهم؟!

ما هذا التناقض بين القول والعمل الّذي يقع فيه الوهّابيّون دائماً؟!

لما ذا يمنعون إقامة الاحتفالات بمولد النبيّ الأكرم ، بحجّة أنّه لم يَرِد في الشرع الإسلامي ، ولكنّهم يقيمون أعظم الاحتفالات والمهرجانات لرجالهم السياسيّين؟!

قال تعالى :

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). (١)

إنّ المسلمين درجوا من قديم الأيّام على الاحتفال بميلاد النبي ، يقول «الديار بكري» :

«... ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ـ عليه‌السلام ـ ويعملون الولائم ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم». (٢)

__________________

(١) البقرة : ١٤ ـ ١٥.

(٢) تاريخ الخميس : ١ / ٢٢٣.

١٦٥
١٦٦

الفصل العاشر :

التبرُّك والاستشفاء بآثار أولياء الله

تعتقد الوهّابيّة بأنّ التبرّك بآثار أولياء الله شرك بالله ، وتعتبر الّذي يُقبّل محراب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومنبره مشركاً وإن لم يأت بذلك بنيّة العبادة ، بل كانت المحبّة والمودّة تجاه النبيّ الكريم هي الدافع له إلى تقبيل آثاره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

إنّ المنع من التبرّك بآثار الرسول الأكرم وتقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف هو من أشدّ الإجراءات الّتي يتّخذها الوهّابيّون ضدّ المسلمين ، وقد استخدموا مجموعة من الشرطة باسم «الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر!!» وزّعوهم في مسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للحيلولة دون تقبيل ضريحه المقدّس ومنبره الشريف ومحراب مسجده المبارك ، وهؤلاء الوهّابيّون يواجهون المسلمين الحُجّاج بكلّ خشونة وصلافة ويمنعوهم عن التبرّك والتقبيل ، وطالما أمسكوا بأيديهم العصا أو الأسلاك الغليظة ، وطالما أراقوا ـ في هذا السبيل ـ دماء الأبرياء وهتكوا الأعراض والنواميس في حرم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ زعماً منهم أنّ التبرّك والتقبيل عبادة لصاحب القبر.

إنّ هؤلاء الغرباء عن الإسلام أخطئوا في فهم معنى العبادة ومفهومها ، ولهذا تاهوا في متاهات الضلال والباطل ، فاعتبروا كلّ احترام للميّت عبادة له ، مع العلم أنّ تقبيل الضريح المقدّس والتبرّك بالآثار النبوية إنّما هو في سبيل الله

١٦٧

سبحانه ، لأنّ المسلمين لا يكرّمون النبيّ الأكرم ولا يتبرّكون به وبآثاره إلّا لأنّه رسول الله ونبيُّه الحبيب المصطفى ، الّذي شرّفه الله على كلّ الأنبياء والمرسلين وفضَّله على الخلق أجمعين ، فكلّ تكريم وتعظيم لأولياء الله إنّما هو تعظيم لله سبحانه ، وليست حقيقة التوحيد إلّا أن يكون كلّ شيء لله ومن أجله وفي سبيله ، وعند ذلك يكون الله هو المبدأ كما يكون هو المنتهى.

وسوف نتحدّث ـ في الفصل القادم ـ عن العبادة ومفهومها بالضبط والتحقيق.

أمّا الآن فالبحث عن التبرّك بآثار الأولياء ، فيجب أن نعرض المسألة على كتاب الله وسنّة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كي يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهره.

القرآن والتبرُّك

نكتفي من القرآن الكريم بآية واحدة ، وهي عن لسان النبيّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ...). (١)

إنّ النبيّ يوسف أرسل قميصه إلى أبيه ، وقال لإخوانه : اذهبوا بقميصي هذا وألقوه على وجهه حتّى يعود إليه بصره.

يقول تعالى :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ...). (٢)

فهذه الآية صريحة بجواز التبرّك بآثار الأنبياء والأولياء حتّى لنبيٍّ آخر ، فهذا النبيّ يعقوب يتبرّك بقميص النبيّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ ومن الواضح أنّ الشفاء من الله

__________________

(١) يوسف : ٩٣.

(٢) يوسف : ٩٦.

١٦٨

سبحانه ، فهو المؤثّر في الأشياء ، إلّا أنّ التبرّك بالقميص صار وسيلة للشفاء كما يكون الدواء كذلك بإذن الله تعالى.

يا تُرى ... إذا كان تبرّك النبيّ يعقوب بقميص ابنه يوسف يقع أمام النجديّين وأتباع محمّد بن عبد الوهّاب ما ذا كان يحكمون عليه؟ بالكفر؟! بالشرك؟! بالذنب؟! وهو النبيّ المعصوم عن الخطأ والاشتباه!!

إنّ تبرّك المسلمين بضريح رسول الله وآله الطاهرين وبآثارهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم أجمعين ـ لا يختلف عن تبرّك النبيّ يعقوب بقميص ابنه يوسف عليهما‌السلام.

التبرُّك وسيرة المسلمين

إنّ نظرة خاطفة في سيرة المسلمين ـ بدءاً من الصحابة وإلى هذا اليوم ـ تكشف لنا عن السُّنَّة المتَّبعة لديهم تجاه التبرّك بالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وآثاره الشريفة طوال التاريخ ، وفيما يلي نذكر نماذج من ذلك ، مع مراعاة الاختصار.

١. إنّ فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين بنت رسول الله حضرت عند قبر أبيها ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي وتقول :

ما ذا على من شمَّ تربةَ أحمدٍ

ألّا يشمَّ مدى الزمان غَواليا

صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنّها

صُبَّت على الأيام صِرنَ لياليا (١)

__________________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من المؤرّخين ، منهم السمهودي في وفاء الوفا : ج ٢ ، ص ٤٤٤ ، والخالدي في صلح الإخوان : ص ٥٧ وغيرهما

١٦٩

إنّ عمل السيدة الزهراء المعصومة هذا لا يدلّ إلّا على جواز التبرّك بقبر رسول الله وتربته الطاهرة.

٢. إنّ بلال ـ مؤذّن رسول الله ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطّاب فرأى في منامه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو يقول له :

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فجعل يبكي عنده ويُمرِّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما ... إلى آخر الخبر. (١)

٣. قال ابن حجر :

«كل مولودٍ وُلد في حياة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يُحكم بأنّه رآه ، وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للتحنيك والتبرّك ، حتّى قيل : لمّا افتُتحت مكّة جعل أهل مكّة يأتون إلى النبيّ بصبيانهم ليمسح على رءوسهم ويدعو لهم بالبركة». (٢)

وفي ذلك يقول مؤلّف كتاب «تبرّك الصحابة» :

«لا شكّ أنّ آثار رسول الله ـ صفوة خلق الله وأفضل النبيّين ـ أثبتُ وجوداً وأشهر ذكراً ، فهي أولى بذلك «التبرّك» وأحرى ، وقد شهده الجمّ الغفير من الصحابة وأجمعوا على التبرّك بها ، والاهتمام بجمعها ، وهم الهداة المهديّون والقدوة الصالحون ، فتبرّكوا بشَعراته وبفضل وضوئه ، وبعَرَقه وبثيابه ، وبمسّ جسده الشريف ، وبغير ذلك ممّا عُرف من آثاره الشريفة الّتي صحّت به الأخبار عن الأخيار». (٣)

__________________

(١) أُسد الغابة : ١ / ٢٨.

(٢) الإصابة : ٣ / ٦٣١.

(٣) تبرّك الصحابة : ٥.

١٧٠

ويكفي في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده :

«إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يؤتى إليه بالصبيان فيُبرّك عليهم ويُحنّكهم». (١)

٤. وقد كان الصحابة يتبرّكون بفضل وضوئه وغسله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقد روى البخاري:

«خرج علينا رسول الله بالهاجرة ، فأُتي بوضوء فتوضّأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه ويتمسّحون به». (٢)

وقد وردت في ذلك روايات ملأت الصحاح والمسانيد.

٥. وكان الصحابة يتبرّكون بشعره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقد روى أنس :

«أنّ رسول الله لمّا حلق رأسه كان أبو طلحة أوّل من أخذ شَعره». (٣)

إنّ قوله : «كان أبو طلحة أوّل من أخذ شعره» يدلّ على أنّ الصحابة تسابقوا إلى التبرّك بشَعره المبارك ، وكان أبو طلحة أوّل من أخذ من شعره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وروي أيضاً : «أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثمّ أتى منزله بمنى ، ثمّ قال للحلّاق : خُذ ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جعل يُعطيه الناس». (٤)

٦. كما كانوا يتبرّكون بالإناء الّذي شرب منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«قال أبو بردة : قال لي عبد الله بن سلام : ألا أسقيك في قَدَحٍ شرب النبيّ فيه؟».(٥)

ويُفهم من الرواية أنّ عبد الله بن سلام كان يحتفظ بذلك القدَح ، لكونه اكتسب البركة بشُرب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيه.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢١٢.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٥٩ ؛ فتح الباري : ١ / ٢٥٦.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٥٤.

(٤) صحيح مسلم : ٣ / ٩٤٧.

(٥) صحيح البخاري : ٧ / ١٤٧ ؛ فتح الباري : ١٠ / ٨٥.

١٧١

٧. وكانوا يتبرّكون بيديه الشريفتين :

«عن أبي جحيفة قال : خرج رسول الله بالهاجرة إلى البطحاء ، فتوضّأ ثمّ صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ...

إلى أن قال : وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه ، فيمسحون بها وجوهَهم.

قال : فأخذتُ بيده فوضعتُها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك». (١)

٨. وكانوا يتبرّكون بمنبره الشريف :

«عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنّه نظر إلى ابن عمر وقد وضع يده على مقعد المنبر حيث كان النبيّ يجلس عليه ، ثمّ وضعها على وجهه». (٢)

٩. كما كانوا يستشفون بقبره الشريف.

«روي عن أمير المؤمنين عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : إنّ أعرابياً قَدِم علينا بعد ما دفنّا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بثلاثة أيّام فرمى بنفسه على قبر النبيّ ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله قلتَ فسمعنا قولك ، ووعيتَ عن الله سبحانه فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ...) وقد ظلمتُ وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر : قد غُفر لك». (٣)

والخلاصة : أنّ من يراجع كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتواريخ ، يرى أنّ الصحابة والتابعين كانوا يتبرّكون بكلّ ما يرتبط بالنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويستشفعون بقبره ، وبوضع الخدِّ عليه ، وشمّ تربته ، والبكاء عنده ، بل والتبرّك بعصاه وملابسه ، والصلاة في الأماكن الّتي صلّى فيها النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو مشى فيها.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ١٨٨.

(٢) الطبقات الكبرى : ١ / ١٣ ، القسم الثاني.

(٣) كنز العمال : ٢ / ٢٤٨ ؛ وفاء الوفا : ٤ / ١٣٦١.

١٧٢

وهذه الروايات على حدٍّ من الكثرة والتواتر بحيث يستحيل عند العقل أن تكون موضوعة ومجعولة ، وكيف تكون كذلك وقد رواها الشيخان : البخاري ومسلم ، وغيرهما من أعلام الحديث؟!!

وقد قام بجمع هذه الروايات وتوضيحها مع ذكر مصادرها الفاضلان المحقّقان :

الأُستاذ الشيخ محمّد طاهر مكّي في كتابه «تبرّك الصحابة بآثار رسول الله».

والأُستاذ الفذّ الشيخ علي الأحمدي في كتابه القيّم «التبرُّك» وقد استقصى فيه المؤلّف كلّ ما ورد حول التبرُّك ، والكتاب يُعتبر من حسنات العصر.

فما ذا تقول الوهّابيّة تجاه هذه الأحاديث المتواترة لفظاً ومعنى؟!

وما هو موقفهم من هذه الحقيقة الساطعة؟!

ولما ذا هذه الضجّة العمياء الّتي تثيرها حول التبرّك بضريح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والّذي جرت عليه سيرة السّلف من الصحابة والتابعين ، دون أن يَرَوا أيّ استنكار أو استقباح أو منع أو تحريم من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو من حوله من الصحابة؟!

ولما ذا لا يتركون المسلمين ليُقبّلوا ضريح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويتبرّكوا به ، ويُعبّروا عن مشاعرهم وعواطفهم تجاه نبيّ الله؟!

أفلا يعلمون أنّ النهي عن التبرّك بالضريح النبويّ الطاهر وآثار رسول الله كان من دأب الأُمويّين لا سيّما مروان الّذي لعنه رسول الله؟!

١٠. هلم معي نقرأ ما يرويه الحاكم في المستدرك عن داود بن صالح ، قال : «أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته ثمّ قال : هل تدري ما تصنع؟

فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري فقال : نَعم إنّي لم آت الحَجَر ، إنّما

١٧٣

جئتُ رسول الله ولم آت الحجَر ، سمعتُ رسول الله يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليَه أهلُه، ولكن أبكوا على الدين إذا وليَه غيرُ أهله». (١)

قال المرحوم الشيخ الأميني :

«إنّ هذا الحديث يُعطينا خُبراً بأنّ المنع عن التوسّل بالقبور الطاهرة إنّما هو من بدع الأُمويين وضلالاتهم ، منذ عهد الصحابة ، ولم تسمع أُذن الدنيا قطّ صحابيّاً يُنكر ذلك ، غير ـ وليدُ بيت أُميّة ـ مروان الغاشم!!

نعم ... لبني أُميّة ـ عامّة ـ ولمروان ـ خاصّة ـ ضغينة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منذ يوم لم يُبقِ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للأُسرة الأُمويّة حرمة إلّا هتكها ، ولا ناموساً إلّا مزَّقه ، ولا ركناً إلّا أباده ، وذلك بوقيعته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيهم وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى علّمه شديد القوى ، فقد صحّ عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قوله : «إذا بلغتْ بنو أُميّة أربعين ، اتّخذوا عبادَ الله خولا ، ومالَ الله نحلا ، وكتاب الله دَغَلا». (٢)

وترى أنّ أبا أيّوب الأنصاري يردّ على مروان ـ لمّا قال له : هل تدري ما تصنع؟ بقوله : نعم إنّي لم آتِ الحجر ، إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر ...

أيّ أنّ الهدف من التوسّل والتبرّك هو رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي نعتقد بعدم الفرق بين حياته ومماته ـ من هذه الجهة ـ وإلّا فالتراب والحجر لا قيمة لهما ، إلّا أنّ الحجر والتراب حول قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد اكتسبا القيمة والشرف بذلك.

أيّها القارئ الكريم : إنّ البخاري قد عقد في صحيحه ـ الّذي يُعتبر أصحّ الكتب عند أهل السنّة ـ باباً سمّاه : باب ما ذكر من درع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعصاه وسيفه وقدَحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك ـ ممّا لم يُذكر قِسْمَتُه ـ ومن

__________________

(١) مستدرك الصحيحين : ٤ / ٥١٥.

(٢) الغدير : ٥ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

١٧٤

شَعره ونعله وآنيته ممّا يتبرّك أصحابه وغيرهم بعد وفاته. (١)

فإذا وقف الوهّابيّ على هذه الأحاديث الهائلة ـ الّتي تجاوزت المائة ـ فلا مناص له من قبول الحقّ والاعتراف به إن كان ممّن يستمع القول فيتّبع أحسنه ، وإلّا فإنّ يوم الفصل كان ميقاتاً.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٨٢ ، المطبوع سنة ١٣١٤ ه‍.

١٧٥
١٧٦

الفصل الحادي عشر :

التوحيد في العبادة

لقد كانت عبادة الله وحده ـ لا عبادة غيره منفرداً أو مشتركاً ـ أساس دعوة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، وكان توحيد الله وكسر قيود الشرك أساس الأحكام السماوية وفي طليعة رسالات الأنبياء جميعاً ، فكأنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو الدعوة إلى عبادة الله وحده ومكافحة الشرك بصورة عامّة وفي العبادة بصورة خاصّة.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بصراحة فيقول :

١. (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ...). (١)

٢. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (٢)

وقد اعتبر القرآن الكريم عبادة الله جامعاً مشتركاً بين كافّة الشرائع السماوية فقال :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً). (٣)

إنّ التوحيد في العبادة هو أصلٌ ثابت لدى المسلمين كافّة ، ولا يعارضه أحد ولا تختلف فيه أيّة فرقة من الفرق الإسلامية.

__________________

(١) النحل : ٣٦.

(٢) الأنبياء : ٢٥.

(٣) آل عمران : ٦٤.

١٧٧

وإذا كانت المعتزلة تختلف وجهة نظرها حول «توحيد الأفعال» وكذلك الأشاعرة تختلف حول «توحيد الصفات» فإنّ جميع المذاهب والطوائف الإسلامية تتفق حول «توحيد العبادة» ولا مجال لإنكاره ، وإن كان هناك اختلافٌ فإنّما هو في المصاديق لا في الأصل ، أي أنّ البعض كالوهّابيّين يعتبرون بعض الأفعال (كالتبرّك) عبادة ، في حين يعتبره سائر المسلمين تكريماً وتعظيماً لا غير.

وبالاصطلاح المنطقي : إنّ الاختلاف إنّما هو في «الصغرى» ـ وهو : هل أنّ هذا الفعل عبادة أو لا؟ ـ ولا اختلاف في «الكبرى» ـ وهو : لا تجوز عبادة غير الله قطُّ؟ فهذا متَّفق على عدم جوازه ـ.

وبعبارة أُخرى : إنّ الاختلافات إنّما هو في سلسلة أعمال يعتبرها الوهّابيّون عبادة ، ولكن غيرهم من المسلمين ـ في العالم كلّه ـ لا يعتبرونها عبادة أصلاً.

فالمفروض أن نوضّح معنى «العبادة» على ضوء القرآن الكريم أيضاً ، وعند ذلك ستتّضح المصاديق ـ المختلف فيها ـ بنفسها تلقائياً ، ويظهر لنا ـ بالتحديد والتحقيق ـ معنى «العبادة».

تحديد معنى العبادة والتعريف الكامل لها

إنّ «العبادة» معناها ومفهومها واضح في اللغة العربية ، ولو لم نتمكّن من تعريفها تعريفاً منطقياً بكلمة واحدة ، فهي كالأرض والسماء اللّتين لهما معنيان واضحان ، بالرغم من أنّ الكثير منّا لا يستطيع تحديدهما بكلمة واحدة تحديداً كاملاً ، ولكن ذلك لا يمنع من تجسّم معنى الأرض والسماء في أذهاننا عند سماع لفظيهما.

ف «العبادة» و «التعظيم» و «الاحترام» و «التكريم» كالسماء والأرض وغيرهما

١٧٨

مفاهيم واضحة وإن لم نقدر على تحديدهما تحديداً بالجنس والفصل شأن أكثر المفاهيم الدارجة في الألسن.

إنّ الّذي يعشق أحداً ويُغرم بحبّه ، تراه يُقبّل جدران بيت معشوقه ويشمّ ملابسه ويلصقها على صدره ، وبعد وفاته يُقبّل قبره ويشمّ تربته ... ومع ذلك كلّه لا يعتبر أحدٌ عمل هذا العاشق عبادة للمعشوق.

كما أنّ مسارعة الناس إلى مشاهدة الأجساد المحنَّطة للزعماء في العالم ، أو مشاهدة آثارهم ومنازلهم الّتي كانوا يعيشون فيها ، والوقوف دقائق حداداً على أرواحهم ، كلّ هذا لا يُعتبر عبادة عند أيّ شعب من شعوب العالَم حتّى لو كان حبّهم وخشوعهم لأُولئك على مستوى خشوع المؤمنين لله سبحانه ، فإنّ أهل المعرفة والتحقيق هم الّذين يستطيعون الفصل بين الاحترام وبين العبادة.

أيّها القارئ الكريم : وإذا حاولنا أن نُقدّم تعريفاً منطقياً ل «العبادة» فإنّ لها ثلاثة تعاريف ، وكلّها تهدف إلى معنىً واحد.

وقد اختار الوهّابيّون تعريفين آخرين واعتمدوا عليهما ، ولكنّهما ناقصان غير كاملين ، ولنقدم الكلام في ذينك التعريفين.

تعريفان ناقصان للعبادة

أ. العبادة خضوع وتذلُّل

لقد ورد في كتب اللّغة تعريف «العبادة» ب : الخضوع والتذلُّل (١) ولكن هذا التعريف لا يعكس معنى العبادة بصورة دقيقة ، وذلك لما يلي :

__________________

(١) وقد جاء هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله سبحانه : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (الشعراء : ٢٢).

١٧٩

١. إذا كانت «العبادة» مرادفة ـ في المعنى للخضوع والتذلُّل ، فلا يمكن أن نعتبر أيّ إنسان موحِّداً لله ، لأنّ البشر ـ بفطرته ـ يخضع لمن يتفوَّق عليه ، معنوياً أو مادّيّاً ، كالتلميذ يخضع لأُستاذه ، والولد يخضع لوالديه ، وكلّ محبٍّ لحبيبه.

٢. إنّ القرآن الكريم يأمر الإنسان بأن يتذلَّل لوالديه فيقول :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً). (١)

فإذا كان الخضوع والتذلُّل معناه عبادة مَن تذلَّلتَ له ، فهذا يستلزم الحكم بكفر مَن يبرّ والديه ، كما أنّه يستلزم الحكم بتوحيد مَن يعقّ والديه.

ب : العبادة : نهاية الخضوع

ولمّا أدركوا نقصان تعريف اللغويّين للعبادة حاولوا ترميم هذا النقص وإصلاحه ، فقالوا في تعريفها :

العبادة : نهاية الخضوع بين يدي مَن تُدرك عظمته وكماله.

وهذا التعريف يشترك مع التعريف الأوّل في النقص والإشكال وذلك :

١. لأنّ الله تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ...). (٢)

إنّ السجود هو نهاية التذلُّل والخضوع لمن سجدت له ، فإذا كان معنى العبادة هو نهاية الخضوع فإنّه يستلزم القول بكفر الملائكة الممتثلين لأمر الله بالسجود ، وإيمان الشيطان المخالف لأمر الله بعدم السجود.

٢. إنّ إخوة النبيّ يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف ، كما يقول تعالى :

__________________

(١) الإسراء : ٢٤.

(٢) البقرة : ٣٤.

١٨٠