الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

الأنبياء ، وأنّ تلك البقعة إنّما اكتسبت القدسيّة والشرف بسبب ذلك النبيّ.

٤. لقد بلغت «هاجر» أُمّ إسماعيل بن الخليل مرتبة عالية عند الله تعالى بسبب صبرها وتحمّلها المتاعب في سبيله سبحانه ، ممّا أدّى إلى أن جعل الله موضع أقدامها محلاً للعبادة وأوجب على حجّاج بيته الحرام أن يسعوا كما سعت هاجر بين جَبلَي الصفا والمروة. وهذا ما يعترف به ابن القيم تلميذ ابن تيميّة. (١)

ونتساءل : إذا كان صبر «هاجر» على المكاره وتحمّلها المتاعب في سبيل الله تعالى قد مَنَحَ الكرامة لموضع أقدامها ، وأوجب الله على المسلمين أن يعبدوه سبحانه في ذلك المكان بالسعي بين الصفا والمروة ، فلما ذا لا يكون مدفن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مباركاً ومقدّساً ، في حين أنّه تحمّل أنواع المصاعب والمصائب والمكاره من أجل إصلاح المجتمع وإرشاده؟!

٥. إذا كانت الصلاة عند القبر محرّمة في الشريعة الإسلامية ، فلما ذا قضت عائشة عُمرها وحياتها بالصلاة في البيت الخاصّ بها عند قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟!

إنّ معنى قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على فرض صحّة الحديث : «لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٢) هو أنّهم كانوا يعبدون أنبياءهم ويسجدون على قبورهم ، أو يجعلون قبورهم قبلة لهم. وكلا الأمرين مخالفان للشريعة المقدّسة وقد مضى تفسير الحديث وتوضيحه.

ولكنّ الوهّابيّين يستدلّون بهذا الحديث على حرمة الصلاة عند قبور أولياء الله سبحانه ، وقد عرفت أنّ السيدة عائشة ـ راوية هذا الحديث ـ قضت ما يقرب

__________________

(١) كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام : ٢٢٨.

(٢) السنن للنسائي : ٤ / ٩٦ ، طبع بيروت.

١٢١

من خمسين عاماً من عمرها بالصلاة والعبادة في البيت الّذي دُفن فيه الرسول؟!

٦. لو لم تكن لقبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ القدسيّة والشرف ، فلما ذا أصرّ أبو بكر ومن بعده عُمر على أن يُدفنا بجوار قبره الشريف؟!

ولما ذا أوصى الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام بأن يُدفن عند قبر جدّه المصطفى فإن حال الأعداء دون ذلك فليدفن في البقيع؟!

وأيّة علاقة بين هذا الحديث وسيرة المسلمين القائمة على الصلاة لله باتّجاه القبلة بجوار قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لدرك المزيد من الثواب والفضيلة؟!

٧. إنّ السيّدة فاطمة الزهراء ـ عليها‌السلام ـ الّتي رُوي عن النبي في أحاديث صحيحة أنّ رضاها هو رضى الله ورسوله وأنّ غضبها هو غضب الله ورسوله (١) ـ كانت تزور قبر عمّها حمزة في كلّ جمعة ـ أو في الاسبوع مرّتين ـ وكانت تبكي وتصلّي عند قبره. يقول البيهقي :

«كانَتْ فاطمة ـ رضي الله عنها ـ تَزُور قَبْرَ عَمِّها حَمْزَة كُلَّ جُمُعَةٍ فَتُصَلّي وتَبْكي عِنْدَهُ». (٢)

أيّها القارئ الكريم : إنّ هذه الأدلّة ـ بمجموعها وبالإضافة إلى سيرة المسلمين الجارية على الصلاة والدعاء في الأماكن الّتي دُفن فيها أولياء الله وأحبّاؤه ـ تؤكّد أنّ الصلاة والدعاء عند هذه المراقد تمتاز بفضيلة أكثر وثواب أكبر ، وأنّ الهدف إنّما هو التبرّك بذلك المكان المبارك وأداء الفريضة فيها لرجاء القبول من الله سبحانه.

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري : ٥ / ٢١ ، باب مناقب قرابة رسول الله.

(٢) سنن البيهقي : ٤ / ٧٨ ، مستدرك الصحيحين للحاكم : ١ / ٣٧٧.

١٢٢

ولو فرضنا عدم وجود دليل ـ من القرآن والأحاديث ـ على شرافة هذه الأمكنة وفضيلة الصلاة والدعاء فيها ، فلما ذا تكون الصلاة محرّمة فيها؟!

ولما ذا لا تدخل هذه الأماكن ضمن إطار القانون الإسلامي العام الّذي يعتبر الأرض كلّها محلاً لعبادة الله ، حيث

يقول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»؟ (١)

الإضاءة عند القبور

إنّ مسألة الإضاءة عند قبور أولياء الله ـ والّتي يدّعي الوهّابيّون حرمتها ـ ليست ذات أهميّة كبرى ، لأنّ الدليل الوحيد الّذي يستدلّون به هو ما ذكره النسائي عن ابن عبّاس أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج. (٢)

وهذا الحديث ـ وأمثاله ـ يختصّ بما إذا كانت الإضاءة تضييعاً وتبذيراً للمال أو تشبُّهاً ببعض الأُمم والشعوب والأديان الباطلة ، كما أشار إليه العلّامة السندي في شرحه على هذا الحديث ـ حيث قال :

والنهيُ عنه لأنّه تضييعُ مالٍ بلا نفع. (٣)

وأمّا إذا كان الهدف من الإضاءة والإنارة هو تلاوة القرآن والدعاء والتضرّع إلى الله وإقامة الصلاة وغيرها من المستحبّات والواجبات والمنافع المشروعة فهذا

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٩١ ، مسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٢٢٢ وغيرهما.

(٢) السنن للنسائي : ٣ / ٧٧.

(٣) السنن للنسائي : ٣ / ٧٧ طبعة مصر ، و ٤ / ٩٥ طبعة بيروت ؛ شرح الجامع الصغير : ٢ / ١٩٨.

١٢٣

ممّا لا إشكال فيه قطعاً ، بل أنّ الإضاءة في هذه الأماكن ولهذه الأهداف مصداق لقوله تعالى :

(... وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ...). (١)

فكيف تكون حراماً؟!

بل لا شكّ أنّ الإضاءة عندئذٍ مستحبّة شرعاً ومحبوبة عقلاً.

__________________

(١) المائدة : ٢.

١٢٤

الفصل السابع :

التوسُّل بأولياء الله

يُعتبر التوسّل بأولياء الله وأحبّائه من المسائل المعروفة بين المسلمين في كافة أنحاء العالم، وقد وردت أحاديث كثيرة في جوازه واستحبابه ، فهو ليس ظاهرة غريبة ، بل هو أمر ديني تعارف عليه المسلمون منذ فجر الإسلام حتّى هذا اليوم ، ولا تجد مسلماً ينكره.

ولم ينكره أحد طوال أربعة عشر قرناً سوى ابن تيميّة وتلميذه ـ ابن القيم ـ في القرن الثامن الهجري ، وجاء بعده محمّد بن عبد الوهّاب فاعتبر التوسل بأولياء الله بدعة ـ تارة ـ وعبادة للأولياء ـ تارةً أُخرى ـ.

لا شكّ أنّ عبادة غير الله شركٌ وحرام ، وليس البحث الآن عن العبادة ومعناها وحقيقتها ، لأنّه بحثٌ هامّ وحسّاس ، وسوف نتحدّث عنه بالتفصيل في فصل خاصّ ، إنّما البحث في التوسّل بأولياء الله فنقول :

اعلم أنّ التوسّل بأولياء الله تعالى على صورتين :

١. التوسّل بالأولياء أنفسهم ، كأن نقول :

«اللهمّ إنّي أتوسّل إليكَ بنبيّك محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن تَقْضِيَ حاجَتي».

٢. التوسّل بمنزلة الأولياء وجاههم عند الله تعالى ، كأن نقول :

«اللهمّ إني أتوسّلُ إليكَ بجاهِ محمّد وحرمتِهِ وحَقِّهِ أنْ تَقْضِيَ حاجَتي».

١٢٥

أمّا الوهّابيّون فإنّهم يحرّمون الصورتين معاً ، في حين أنّ الأحاديث الشريفة وسيرة المسلمين تشهدان بخلاف ما يدّعيه الوهّابيّون ، وتؤكّدان على جواز الصورتين معاً.

والآن ... نذكر بعض تلك الروايات ، واحدة تلو الأُخرى ثمّ نتناول الحديث عن سيرة المسلمين ، وعند ذلك تتضح قيمة قول القائل بحرمة التوسّل وأنّه بدعة.

الأحاديث الشريفة الدالّة على جوازه

إنّ الأحاديث الّتي تدلّ على جواز التوسّل بأولياء الله كثيرة جدّاً ، وهي متواجدة في كتب التاريخ والحديث ، وفيما يلي نذكر نموذجاً منها :

الحديث الأوّل :

عن عثمان بن حنيف أنّه قال :

«إنّ رجلاً ضَريراً أتى إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : ادعُ الله أن يُعافيَني.

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئتَ صَبَرتَ وَهُوَ خَير؟

قال : فادعُهُ ، فأمره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يتوضّأ فَيُحْسِنَ وُضوءهُ ويُصَلّي رَكْعَتين وَيَدْعُو بِهذا الدُّعاء : «اللهمَّ إنّي أسألُكَ وَأَتوجّهُ إليكَ بِنَبيّكَ نَبيّ الرَّحمَةِ ، يا مُحَمَّد إنّي أتوجّهُ بِكَ إلى رَبّي في حاجَتي لِتُقْضى ، اللهمّ شَفِّعْهُ فِيَّ».

قال ابن حنيف :

«فَوَ الله ما تفَرَّقْنا وطالَ بِنا الحديث حتّى دَخَلَ عَلَيْنا كَأَن لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرّ».

كلمة حول سند الحديث

لا كلام في صحّة سند هذا الحديث ، حتّى أنّ إمام الوهّابيّين ـ ابن تيميّة ـ

١٢٦

اعتبر هذا الحديث صحيحاً وقال بأنّ المقصود من «أبي جعفر» الموجود في سند الحديث هو أبو جعفر الخطمي وهو ثقة. (١)

يقول الرفاعي ـ الكاتب الوهّابيّ المعاصر الّذي يسعى دوماً إلى تضعيف الأحاديث الخاصّة بالتوسّل ـ حول هذا الحديث :

«لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور ، وقد ثبت فيه ـ بلا شكّ ولا ريب ـ ارتداد بصر الأعمى بدعاء رسول الله». (٢)

ويقول :

«لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ، ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة «اللهمّ شفّعه فيه» بدل جملة «شفّعه في». (٣)

يقول زيني دحلان ـ مفتي مكّة ـ :

«ذكر هذا الحديث ـ مع أسانيد صحيحة ـ البخاري وابن ماجة والحاكم في مستدركه ، وجلال الدين السيوطي في جامعه».

ونحن نذكر هذا الحديث من المصادر التالية :

١. سنن ابن ماجة ، المجلّد الأوّل ص ٤٤١ رقم الحديث ١٣٨٥ ، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي ، نشر دار إحياء الكتب العربية.

وقد ذكر ابن ماجة عن أبي إسحاق أنّه قال :

«هذا حديث صحيح».

__________________

(١) جاء في مسند أحمد : «أبو جعفر الخطمي» أمّا في سنن ابن ماجة ففيه «أبو جعفر» فقط.

(٢) التوصّل إلى حقيقة التوسّل : ١٥٨.

(٣) المصدر السابق.

١٢٧

ثمّ قال : «وقد رواه الترمذي في كتاب أبواب الأدعية وقال : هذا حديث حقّ صحيح غريب».

٢. مسند أحمد بن حنبل ، المجلّد الرابع ص ١٣٨ ، عن مسند عثمان بن حنيف ، طبع المكتب الإسلامي ، مؤسّسة دار صادر ، بيروت ، وقد روى هذا الحديث عن ثلاثة طرق.

٣. مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري ، المجلّد الأوّل ، ص ٣١٣ ، طبعة حيدرآباد الهند. قال بعد ذكر الحديث :

«هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه».

٤. الجامع الصغير للسيوطي ، ص ٥٩ ، عن الترمذي والحاكم.

٥. تلخيص المستدرك للذهبي (المتوفّى ٧٤٨ ه‍) ، المطبوع بهامش المستدرك.

٦. التاج الجامع ، المجلّد الأوّل ص ٢٨٦ ، وهو كتاب جمع أحاديث الصحاح الخمسة باستثناء صحيح ابن ماجة.

بعد هذا كلّه ... لا مجال للمناقشة في سند الحديث أو الطعن فيه.

وأمّا دلالته ، فلو قدّمت هذا الحديث إلى من يُحسن اللُّغة العربية جيّداً ويتمتّع بصفاء فكر ، بعيد عن مجادلات الوهّابيّين وشُبهاتهم حول مسألة التوسّل ، ثمّ سألته : بما ذا أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذلك الأعمى عند ما علّمه ذلك الدعاء؟

فسيكون جوابه ـ فوراً ـ : لقد علّمه النبي أن يتوسّل إلى الله بنبيّه نبيّ الرحمة ، ويطلب من الله أن يشفِّعه فيه.

وهذا المعنى هو بالضبط ما يُفهم من كلمات الحديث المذكور ، وفيما يلي نُقسّم الحديث إلى جمل لمزيد التوضيح :

أ : «اللهمّ إنّي أسْألُكَ وَأتَوَجَّهُ إليكَ بِنَبيّكَ».

١٢٨

إنّ كلمة «نبيّك» تتعلّق بما قبلها ، أي «أسألُك» و «أتوجّه إليك» ، وبعبارة أوضح : إنّه يسأل الله تعالى بواسطة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أنّه يتوجّه إلى الله بجاه النبيّ ووسيلته أيضاً ، والمقصود من «النبيّ» نفسه المقدّسة لا دعاؤه.

أمّا من يقدِّر كلمة «دعاء» في قوله : «أسألك بنبيّك» أي بدعاء نبيّك فهو يتحكّم بلا دليل ويدّعي خلاف الظاهر ، والسبب في هذا الادّعاء هو أنّه لا يعتقد بالتوسّل بنفس النبيّ ، فيلجأ إلى تقدير «دعاء» ليقول : إنّ التوسّل بدعاء النبيّ لا إشكال فيه ، وبهذا يُبرِّر باطله.

ب : «محمّد نبيّ الرحمة».

لكي يتّضح أنّ المقصود هو سؤال الله بواسطة النبي وشخصيّته وحُرمته فقد جاءت بعد كلمة «نبيّك» جملة «محمّد نبي الرحمة» لكي يتّضح الهدف أكثر.

ج : إنّ جملة «يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل اتّخذ النبيّ نفسه وسيلة لدعائه ، لا دعاءه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أي : أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه.

د : إنّ قوله : «وشفِّعه في» معناه : يا ربّ اجعل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ شفيعي وتقبَّل شفاعته في حقّي.

أيّها القارئ الكريم : لقد اتّضح لك أنّ النقطة المركزيّة في الدعاء كلّه هو شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وشخصيّته الكريمة ، وليس فيه أي دليل للتوسل بدعائه أصلاً.

وكلّ من يزعم أنّ ذلك الرجل الضرير قد توسّل بدعاء النبيّ لا بشخصه وشخصيّته ، فإنّما تغافل عن نصوص الرواية وتجاهلها.

وأنت لو تأمّلت قوله : «اللهُمَّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة» وقوله : «يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» لظَهر لك ـ بكلّ وضوح ـ أنّ التركيز إنّما هو

١٢٩

على شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولو كان الهدف هو دعاء النبي لكان الصحيح أن يقول : أسألك بدعاء النبي.

وعلى ما ذكرنا لا يبقى أيّ مجال للإشكالات الخمسة الّتي أوردها الكاتب الوهّابي في كتاب «التوصّل إلى حقيقة التوسّل» ، وقد ذكرنا بالتفصيل ـ تلك الإشكالات مع أجوبتها وردودها في كتابنا «التوسّل» من صفحة ١٤٧ إلى ١٥٣ فراجع.

الحديث الثاني : التوسّل بحقّ السائلين

روى عطيّة العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

«مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاةِ فَقالَ : اللهُمَّ إنّي أسألُكَ بِحَقِّ السّائِلينَ عَلَيْكَ ، وأسألُكَ بِحَقِّ مَمْشايَ هذا فَإنّي لَمْ أخْرُجْ أشراً ولا بَطَراً ولا رياءً ولا سُمْعَةً ، وخَرَجْتُ اتّقاء سَخَطِكَ وَابْتِغاء مَرضاتِكَ ، فَأسألُكَ أن تُعيذَني مِنَ النّارِ وأن تَغْفر لي ذُنوبي ، إنّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنتَ ، أقَبلَ الله عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ ألف مَلَك». (١)

إنّ هذا الحديث واضح جداً في معناه ، ويدلّ على أنّ للإنسان أن يتوسّل إلى الله بحرمة أوليائه الصالحين ومنزلتهم ووجاهتهم عنده سبحانه ، فيجعل أُولئك وُسَطاء وشفعاء لقضاء حاجته واستجابة دعائه ، ودلالة الحديث على الموضوع الّذي نتحدّث عنه واضحة.

الحديث الثالث : التوسّل بحقّ النبيّ الكريم

إنّ النّبيّ آدم ـ عليه‌السلام ـ عند ما صدر منه ما كان الأَولى عدم صدوره ، وتاب إلى الله

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٥٦ حديث رقم ٧٧٨.

١٣٠

تعالى ممّا صدر منه (١) تلقّى من ربّه كلمات ، كما أشار القرآن الكريم : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (٢)

إنّ المفسّرين والمحدّثين أعربوا عن آرائهم ووجهات نظرهم تجاه هذه الآية ومعناها ، وذلك استناداً إلى بعض الأحاديث ، وفيما يلي نذكر تلك الأحاديث لنرى النتيجة الّتي نحصل عليها بعد ذلك :

أخرج الطبراني في المعجم الصغير ، والحاكم في مستدركه ، وأبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء ، والبيهقي في دلائل النبوّة ، وابن عساكر الدمشقي في تاريخه ، والسيوطي في تفسير الدرّ المنثور ، والآلوسي في تفسير روح المعاني ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال :

«لَمّا أذْنَبَ آدَمُ الذنب الّذي أذْنَبهُ ، رَفَعَ رَأسَهُ إلى السَّماء فقالَ : أسألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إلّا غَفَرْتَ لي. فأوحى الله إليه : ومَنْ مُحَمَّدٌ؟ فقال : تبارَكَ اسْمُكَ ، لَمّا خُلقْتُ رَفَعْتُ رَأسي إلى عرشكَ فإذا فيهِ مَكْتُوبٌ : لا إلهَ إلّا الله وَمُحَمّدٌ رَسُولُ الله ، فَقُلْتُ : إنّه لَيْسَ أَحَدٌ أعظَمُ عِنْدَكَ قَدْراً مِمّن جَعَلْتَ اسْمَهُ مَعَ اسْمِكَ ،

__________________

(١) لقد ثبت أنّ النهي الوارد في قوله تعالى : «لا تَقْرَبا هذه الشَّجَرة» إنّما هو نهيٌ إرشادي وتنزيهي ، وليس نهياً تحريمياً مولويّاً ، والنهي الإرشادي هو بمثابة النصيحة والموعظة ، ومخالفة هذا النهي لا توجب عقاباً ولا مؤاخذة ، ولا تنافي العصمة بأيّ وجه ، وإنّما توجب تأثير العمل ذاته ، فمثلاً : لو نهى الطبيب المريض المصاب بالزكام عن تناول الحمضيّات ، فخالفه المريض ، فإنّ المخالفة تعكس الأثر الطبيعي لها ـ وهو اشتداد الزكام والمرض ـ وفي القرآن الكريم آيات تدلّ على أنّ نهي آدم عن اقتراب الشجرة كان نهياً إرشادياً ، ولا أثر لمخالفة هذا النهي سوى الخروج من الجنّة ، كنتيجة طبيعيّة لتلك المخالفة. يُرجى مراجعة الآية ١١٨ ـ ١١٩ من سورة طه.

(٢) البقرة : ٣٧.

١٣١

فأوحى إليه إنّهُ آخِرُ النَّبِيّينَ مِنْ ذُرّيَّتِكَ ، ولو لا محمّد لَما خَلَقْتُكَ». (١)

رأيُنا حول هذا الحديث

١. لقد ورد في القرآن الكريم التعبير عن الأشخاص والذوات ب «الكلمات» بعكس ما هو متّبع لدينا ، فمثلاً :

أ : قوله تعالى : (... أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ...). (٢)

ب : قوله سبحانه : (... يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ...). (٣)

ج : قوله عزوجل : (... إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ ...). (٤)

د : قوله جلّ جلاله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ...). (٥)

ه : قوله عزّ من قائل : (... وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). (٦)

فمع الانتباه إلى هذه الآيات يمكن القول بأنّ المقصود من «كلمات» في قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) هي الشخصيّات المقدّسة الوجيهة الّتي توسّل بهم آدم إلى الله تعالى.

__________________

(١) مستدرك الصحيحين : ٢ / ٦١٥ ؛ روح المعاني : ١ / ٢١٧ ؛ الدرّ المنثور : ١ / ٥٩ نقلاً عن الطبراني وأبي نعيم والبيهقي. والمتن موافقٌ لما في الدرّ المنثور.

(٢) آل عمران : ٣٩.

(٣) آل عمران : ٤٥.

(٤) النساء : ١٧١.

(٥) الكهف : ١٠٩.

(٦) لقمان : ٢٧.

١٣٢

وفي الحديث ـ الّذي مرّ عليك ـ ترى اسم محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقط مذكوراً ، أمّا في أحاديث «الشيعة» ترى الحديث مرويّاً بصورة تتطابق مع الآية الكريمة.

والحديث مرويّ بصورتين ، فتارة فُسّرت كلمة «كلمات» بأسماء الخمسة الطيّبة ـ عليهم‌السلام ـ وفُسّرت بأشباحهم النورانية تارة أُخرى ، وإليك الحديث فيما يلي :

«إنّ آدَمَ رأى مكتوباً على العرش أسماءً مُعَظَّمةً مُكَرَّمة ، فسأل عنها؟ فقيل له : هذه أسماء أجلّ الخلقِ منزلة عند الله تعالى ، والأسماء : مُحمّدٌ وعليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ ، فتوسَّل آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى ربّه بهم في قبول توبته ورفع منزلته». (١)

وتدلّ بعض الأحاديث على أنّ آدم رأى الأشباح النورانيّة للخمسة الطيّبة فتوسّل بهم بعد ذلك.

٢. و (٢) عند مراجعة كتب التاريخ والحديث يظهر لنا أنّ قضيّة توسّل النبيّ آدم بالنبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان معروفاً ومشهوراً بين الناس ، ولهذا ترى مالك بن أنس ـ إمام المالكية ـ يقول للمنصور الدوانيقي ـ في مسجد رسول الله :

«هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم». (٣)

وقد أشار شعراء المسلمين إلى هذه الحقيقة في قصائدهم ، فترى أحدهم يقول :

__________________

(١) مجمع البيان : ١ / ٨٩ طبعة لبنان ؛ تفسير البرهان : ١ / ٨٦ ـ ٨٨ حديث رقم ٢ و ٥ و ١١ و ١٢ و ١٤ و ٢٧.

(٢) للتفصيل راجع تفسير البرهان : ١ / ٨٧ حديث رقم ١٣ و ١٥ و ١٦.

(٣) ذكر أحمد زيني دحلان ـ في كتابه الدُّرَر السنيّة : ج ١٠ ـ أنّ القاضي عياض ذكر هذا الحوار بسندٍ صحيح. وكذلك ذكره السبكي في شفاء السقام ، والسمهودي في وفاء الوفا ، والقسطلاني في المواهب اللّدنيّة. قال ابن حجر ـ في الجوهر المنظّم ـ : قد روي هذا بسندٍ صحيح. وقال العلّامة الزرقاني ـ في شرح المواهب ـ : إنّ ابن فهد ذكر هذا بسند حسن ، وذكره القاضي عياض بسند صحيح.

١٣٣

بهِ قد أجاب اللهُ آدمَ إذ دعا

ونُجيَ في بطن السفينة نوحُ (١)

ويقول الآخر :

قومٌ بهم غُفِرَتْ خَطيئةُ آدم

وَهُمُ الوَسيلَةُ وَالنُّجُومُ الطُّلَّعُ (٢)

الحديث الرابع : توسّل النبيّ بحقّه وحقّ من سبقه من الأنبياء

«لَما ماتَتْ فاطِمَةُ بِنْت أسَدٍ ، دَخَلَ عَلَيْها رَسُول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِها فقال : رَحِمَكِ الله يا أُمّي بعد أُمّي ثُمَّ دعا رَسُولُ الله أُسامة بن زَيدٍ وَأبا أيُّوبَ الأنصاري وعُمَرَ بن الْخَطّاب وَغُلاماً أسْودَ يَحفِرُونَ ، فَحَفَروا قَبْرَها ، فَلَمّا بَلَغُوا اللَّحْد حَفَرَهُ رَسُولُ الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بِيَدِهِ وَأخْرَجَ تُرابَهُ ، فَلَمّا فَرغَ دَخَلَ رَسُولُ الله فاضطَجَعَ فيهِ ثُمَّ قالَ : اللهُ الّذي يُحيي وَيُميتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ ، اغْفِرْ لأُمّي فاطِمَةَ بِنْتِ أسَد ، ووَسِّع علَيْها مَدْخَلَها ، بِحَقِّ نَبِيّكَ وَالأنْيباء الَّذِينَ مِنْ قَبْلي».

قال مؤلّف : «خلاصة الكلام» :

«رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وابن حبّان والحاكم وصحّحوه». (٣)

وكتب السيّد أحمد زيني دحلان ـ في كتاب الدرر السّنيّة في الردّ على الوهّابيّة ـ :

«روى ابن أبي شيبة عن جابر مثلَ ذلك. وكذا روى مثلَهُ ابن عبد البرّ عن ابن عبّاس ، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن أنس ، ذكر ذلك كلّه الحافظ جلال الدين السيوطي في الجامع الكبير». (٤)

__________________

(١) كشف الارتياب : ٣٠٧ نقله عن المواهب ، والشعر لابن جابر

(٢) المصدر نفسه : ٣٠٨ والشعر للواسطي

(٣) كشف الارتياب : ٣١٢ نقلاً عن خلاصة الكلام.

(٤) الدرر السّنيّة : ٨.

١٣٤

أمّا نحن فقد ذكرنا هذا الحديث ـ المذكور ـ عن مصدَرين يشتمل أحدهما على الدعاء ـ الّذي هو موضوع البحث ـ والآخر لا يشتمل عليه ، والمصدران هما :

١. «حلية الأولياء» لأبي نعيم الاصفهاني ـ المجلّد الثالث ص ١٢١.

٢. «وفاء الوفا» للسمهودي ـ المجلّد الثالث ص ٨٩٩.

الحديث الخامس : التوسّل بالنبيّ نفسه

روى جمع من المحدّثين أنّ أعرابياً دخل على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقال :

«لقد أتيناك وما لَنا بعيرٌ يئطّ (١) ولا صبيٌّ يغطّ (٢)».

ثمّ أنشأ يقول :

أتيناك والعذراءُ تُدمى لِبانُها

وقد شُغِلتْ أُمّ الصبيّ عن الطفلِ

ولا شيء ممّا يأكل الناسُ عندنا

سوى الحنظل العامي والعِلهز الفَسْلِ

وليس لنا إلّا إليك فرارُنا

وأين فرارُ الناس إلّا إلى الرُّسلِ

فقامَ رَسُولُ الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يَجُرُّ رِداءَه ، حتّى صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَرَفَع يَدَيْهِ وَقالَ : اللهُمَّ اسْقِنا غَيْثاً مُغيثاً ... فَما رَدَّ النَّبيُّ يَدَيه حَتَّى ألْقَتِ السَّماء ... ثُمَّ قالَ : للهِ دَرُّ أبي طالبٍ لَو كانَ حَيّاً لَقَرَّتْ عَيْناهُ. مَنْ يُنْشِدُنا قَوْلَهُ؟

__________________

(١) يئط ـ مشتقّ من الأطيط ـ : وهو صوت البعير. لسان العرب : ٧ / ٢٥٦ مادة ، «أطط».

(٢) يغط ـ مشتقّ من الغطيط ـ : وهو صوت النائم. لسان العرب : ٧ / ٣٦٢ مادة ، «غطط».

١٣٥

فقامَ عليُّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ وقال : كأنّك تُريد ـ يا رسول الله ـ قوله :

وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجهه

ثِمالُ اليَتامى عِصْمةٌ للأرامل

يطوف به الهُلّاك من آلِ هاشمٍ

فَهُمْ عِندَه في نِعْمةٍ وفواضل

فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أجل.

فَأنْشَدَ عَليٌ ـ عليه‌السلام ـ أبياتاً من القصيدة ، والرَّسول يَستغفر لأبي طالب على المنبر ، ثمّ قام رجلٌ من كَنانة وأنشد يقول :

لَكَ الحمدُ والحمد ممّن شكر سُقينا بوجه النبيّ المَطَر

أقول : إنّ المصادر الّتي تذكر هذه القضية كثيرة جداً ، ونحن قد ذكرناها من المصادر التالية :

أ. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري : المجلّد السابع ص ٣١ تأليف بدر الدين محمود بن أحمد العين (المتوفّى عام ٨٥٥ ه‍) طبعة إدارة الطباعة المنيرية.

ب. شرح نهج البلاغة : لابن أبي الحديد ج ١٤ ص ٨٠.

ج. السيرة الحلبيّة : تأليف علي بن برهان الدين الحلبي ، المجلّد الثالث ص ٢٦٣.

د. الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب : تأليف شمس الدين أبي علي فخار بن معد ، (المتوفّى عام ٦٣٠ ه‍) طبعة النجف مطبعة العلوي ص ٧٩.

ه. سيرة زيني دحلان : المطبوعة بهامش السيرة الحلبيّة ، المجلّد الأوّل ، ص ٨١.

١٣٦

الحديث السادس : التوسّل بالنبيّ أيضاً

روي أنّ سواد بن قارب أنشد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قصيدته الّتي يتوسّل فيها بالنبيّ.

وفيها يقول :

وأشهد أنّ اللهَ لا ربَّ غيرُهُ

وأنّك مأمونٌ على كلِّ غائب

وأنّك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطائب

فمُرنا بما يأتيك يا خير مرسل

وإن كان فيما فيه شيبُ الذَّوائب

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شَفاعةٍ

بِمُغْنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب (١)

أيّها القارئ الكريم لقد ذكرنا حتّى الآن ـ مجموعة من الأحاديث المرويّة في التوسّل ، اعتماداً على كتب التاريخ والحديث المعتبرة عند أهل السُّنّة.

أمّا التوسّل بأولياء الله ـ فيما روي عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في كتب الشيعة ـ فهو على حدٍّ من الوضوح والثبوت بحيث جاءت الإشارة إليه في الأدعية أيضاً.

ولنا أن نتساءل : هل يجب أن نأخذ المعارف الإسلامية والأحكام الشرعية

__________________

(١) الدُّرر السنيّة : ٢٧ ، التوصّل إلى حقيقة التوسّل : ٣٠٠

١٣٧

من «ابن تيميّة» و «محمّد بن عبد الوهّاب» ونظرائهما أم من عترة رسول الله الّتي نصّ النبيّ ـ في حديث الثقلين ـ على أنّها الثقل الأصغر وعدل القرآن؟!!

إنّ كلّ مسلمٍ ـ يملك ذرّة من الوعي والإنصاف ـ يحكم بضرورة الأخذ من العترة الطاهرة الّتي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

نماذج من أدعية التوسّل

أمّا الأدعية الّتي ورد فيها التوسّل بأولياء الله تعالى فهي كثيرة وموزَّعة في الصحيفة العلويّة (١) ودعاء عرفة (٢) والصحيفة السجّادية (٣) وغيرها من كتب الدعاء.

وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية.

١. يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في دعاء له :

«... بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْكَ ، وَبِحَقِّكَ الْعَظيمِ عَلَيْهِمْ أنْ تُصَلِّي عَلَيْهِمْ كَما أنْتَ أهْلُهُ وَأنْ تُعْطِيَني أفْضَلَ ما أعْطَيْتَ السّائلين مِنْ عِبادِكَ الْماضِينَ مِنَ المؤمنينَ ، وأفضل ما تُعطي الباقينَ مِنَ المُؤْمنينَ ...». (٤)

٢. ويقول الإمام سيّد الشهداء الحسين ـ عليه‌السلام ـ في دعاء عرفة :

«... اللهُمَّ إنّا نَتَوَجَّهُ إلَيْكَ ـ فِي هذِهِ الْعَشِيَّةِ الَّتي فَرضْتَها وَعظَّمْتَها ـ بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ وَخِيرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ».

٣. ويقول الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان :

__________________

(١) وهي المجموعة التي تضمّ بعض أدعية الإمام عليّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي.

(٢) وهو دعاء الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ في عرفات يوم عرفة.

(٣) وهو بعض أدعية الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ.

(٤) الصحيفة العلوية : ٥١.

١٣٨

«... اللهُمَّ إنّي أسْألُكَ بِحَقِّ هذا الشَّهْرِ وَبِحَقِّ مَنْ تَعَبَّدَ فيهِ ـ من ابتدائه إلى وقت فنائه ـ مِنْ مَلَكٍ قَرَّبْتَهُ أو نَبىٍّ أرسلتَهُ أو عبدٍ صالحٍ اختَصَصْتَهُ ...». (١)

سيرة المسلمين في التوسّل

لقد جرت سيرة المسلمين ـ في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبعد وفاته ـ على التوسّل بأولياء الله والاستشفاع بمنزلتهم وجاههم عند الله تعالى.

وإليك نماذج من تلك السيرة.

١. كتب المؤرّخ الشهير : ابن الأثير (المتوفّى عام ٦٣٠ ه‍) :

«واسْتسقى عُمَرُ بنُ الخَطّاب بالعَبّاسِ ، عامَ الرَّمادة ، لَمّا اشتَدَّ الْقَحْطُ ، فَسقاهُمُ اللهُ تَعالى بِهِ وَأخْصَبَتِ الأرضُ ، فقالَ عُمرُ : هذا ـ والله ـ الْوَسيلَةُ إلى الله والمكانُ منهُ.

وقال حسّان :

سأل الإمامُ وقد تتابعَ جَدْبُنا

فسقى الغمام بغُرّة العَبّاسِ

عَمِّ النبيّ وصنوِ والده الذي

وَرثَ النبيّ بذاك دون الناسِ

أحيا الإلهُ به البلادَ فأصبحتْ

مُخضرَّةَ الأجنابِ بعد الياسِ

__________________

(١) الصحيفة السجّادية : دعاء رقم ٤٤.

١٣٩

ولمّا سُقي النّاسُ طَفِقُوا يَتَمسَّحُون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحَرَمينِ». (١)

إنّ التأمّل في هذه القضية التاريخية ـ والّتي ذكر بعضاً منها البخاري في صحيحه ـ يؤكّد على أنّ من مصاديق «الوسيلة» هو التوسّل بأصحاب الجاه والمنزلة عند الله ، حيث ينتج منه التقرّب إلى الله وتكريم الداعي والمتوسّل.

وأيّ تعبير أوضح من قوله :

«هذا ـ والله ـ الوَسيلَةُ إلى الله وَالمَكانُ منهُ»؟!

٢. يقول القسطلاني (٢) (المتوفّى عام ٩٢٣ ه‍) :

«إنّ عمر ـ لمّا استسقى بِالعبّاس ـ قالَ : «أيّها الناسُ إنّ رسول الله كانَ يرى للعبّاس ما يرى الولَدُ للوالِد ، فاقتَدُوا به في عمّه واتَّخذُوه وسيلةً إلى الله تعالى». ففيه التصريح بالتوسّل ، وبهذا يبطل قول من منع التوسّل ، مطلقاً ، بالأحياء والأموات ، وقول من منع ذلك بغير النبي».

٣. سبق أن ذكرنا بأنّ المنصور العبّاسي «الدوانيقي» سأل مالك بن أنس ـ إمام المالكية ـ عن كيفية زيارة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والتوسّل به ... فقال لمالك :

«يا أبا عبد الله أستقبلُ القِبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله؟ فقال مالك في جوابه : لِمَ تَصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلَة أبيك آدم إلى الله يومَ القِيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفِّعك الله ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...). (٣)

__________________

(١) أُسد الغابة في معرفة الصحابة : ٣ / ١١١ ، طبعة مصر.

(٢) في كتاب المواهب اللدنيّة : طبعة مصر.

(٣) وفاء الوفا : ٢ / ١٣٧٦.

١٤٠