الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

«إقْرءوا «يس» عَلى مَوتاكُم». (١)

فما هو الفرق بين الرجل والمرأة ـ من هذه الجهة ـ حتّى تكون زيارة أحدهما جائزة والأُخرى محرّمة ، لو لا المحذورات الخاصّة المذكورة؟!

والآن ... وبعد أن ثبت جواز زيارة القبور ، جاء دور التحدّث عن الآثار الحسنة والنتائج الإيجابية لزيارة مراقد أولياء الله الصالحين ، وذلك في الفصل القادم.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : حديث ١٤٤٨.

١٠١
١٠٢

الفصل الخامس :

النتائج البنّاءة

لزيارة قبور الشخصيّات الدينيّة

إنّ القبور الّتي تحظى باهتمام واحترام المؤمنين بالله في العالم ـ وخاصّة المسلمين ـ هي في الغالب قبور حَمَلة الرسالات الإصلاحية الذين أدّوا مهمَّتهم على الوجه المطلوب.

وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

١. الأنبياء والقادة الدينيّون الذين حملوا على عاتقهم رسالة السماء وضحّوا ـ من أجلها ـ بالنفس والمال والأحباب ، وتحمّلوا أنواع المتاعب والمصاعب من أجل هداية الناس.

٢. العلماء والمفكّرون الذين كانوا كالشمعة تُحرق نفسها لتُضيء للآخرين ، وقد عاش هؤلاء حياة الزهد والحرمان ، وقدّموا للعالم البحوث القيّمة والتحقيقات الرائعة في مجالات العلم والفكر والطبيعة وعلوم الكون والمخلوقات وغير ذلك.

٣. المجاهدون الثائرون الذين ضاقوا ذرعاً ممّا يعيشه المجتمع من الظلم وسحق الحقوق والتمييز العنصري أو القومي ، فثاروا ضدّ الظلم والطغيان وطالبوا بحفظ كرامة الإنسان وأداء حقوقه ، وأقاموا صرح العدالة بدمائهم الغالية.

١٠٣

إنّ أيّة ثورة أو تغيير اجتماعي لا يقدّر له النجاح إلّا بدفع الثمن ، وإنّ ثمن الثورة الّتي تستهدف تدمير قصور الظالمين وخنْق أنفاسهم هو الدماء الزكيّة الّتي يُضحّي بها المقاتلون الأبطال لإعادة الحقّ والحرية إلى الوطن الإسلامي.

إنّ الناس يزورون قبور هؤلاء ويذرفون عندها الدموع ، ويتذكّرون بطولاتهم وتضحياتهم ، ويُسعدون أرواحهم بتلاوة آيات من القرآن الحكيم هدية إليهم ، ويُنشدون قصائد في مدحهم وثنائهم وتقدير مواقفهم المشرِّفة.

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيّات هي نوع من الشكر والتقدير على تضحياتهم ، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحقّ والهدى والفضيلة والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

إنّ جزاءهم هو خلود الذكر ، الذكر الحسن والثناء الجميل ، بالرغم من مرور الزمان على رحيلهم.

من هنا نعرف ضرورة إحياء ذكريات الشخصيّات الدينية ، وعلى هذا الأساس ينبغي العمل على إبقاء ذكرياتهم حيّة ساخنة ، والمحافظة على آثارهم ، وإقامة المهرجانات في ذكرى مواليدهم والحداد والحفلات التأبينية في ذكرى وفاتهم ، وعقد المجالس والاجتماعات الكبرى ، وإلقاء الخطب المفيدة ، وتعريف الناس على تلك الشخصيات الراقية وعلى معتقداتهم الّتي ضحّوا من أجلها ، واحترام مراقدهم وتجنُّب كلّ ما يمسّ بكرامتها ، لأنّ احترام قبورهم احترام لرسالاتهم وعقائدهم ، كما أنّ أيّ نوع من الإهانة والتحقير تجاه مراقدهم هو في الحقيقة إهانة لرسالاتهم وتحقير لشخصيّتهم.

في هذه الأيّام عند ما يدخل الإنسان مقبرة البقيع لزيارة قبور آل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقبور قادة الإسلام وحماة الدين والصحابة ، يرى تلك القبور في حالة يُرثى

١٠٤

لها من الإهانة والتصغير ، ممّا يهتزّ له الضمير وتأخذه الدهشة من قساوة قلوب الزمرة الوهّابيّة الّتي تدّعي حماية الإسلام وصيانته ، حيث إنّهم ـ من جانب ـ يذكرون الصحابة بالخير والتمجيد ويثنون عليهم على المنابر ، ومن جانب آخر يتركون قبورهم عارية عن كلّ احترام وتكريم. وفي حالة فظيعة من الإهانة والإهمال ، ولا يُبالون حتّى لو أفسدت الحيوانات أطراف قبورهم!!!

أمّا لفظة «الشِّرك» و «المشرك» فهي الهديَّة الوحيدة الّتي يُقدّمها الوهّابيّون إلى الحجاج والزائرين ، يرمونهم بهذه الكلمات ، لأنّ المسلمين يُعظّمون قادة الدين ويُمجّدون أولياء الله الصالحين ، فكأنّ الوهّابيّين يُضمِرون الحقد والبغضاء لأولياء الله وقادة دينه.

والآن جاء دور التحدّث عن زيارة مرقد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على ضوء الأدلّة الإسلامية :

زيارة قبر الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فيما يلي نستعرض بعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الّتي تدعو إلى زيارة قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نرجو من القارئ المزيد من التوجّه والانتباه.

شهادة من القرآن

إنّ القرآن الكريم يأمر المذنبين بأن يحضروا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويسألوه أن يستغفر الله لهم ، لأنّ دعاء النبي يُستجاب فيهم ، فيقول عزوجل :

(... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). (١)

__________________

(١) النساء : ٦٤.

١٠٥

لو كانت هذه الآية هي الوحيدة في هذا المجال ، لذهبنا إلى القول بأنّها خاصّة بحياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وفترة تواجده بين الناس ، ولكنّنا نستخلص حكماً عامّاً شاملاً لا يحدّه بالحياة الدنيوية وذلك من خلال ما يلي :

أوّلاً : إنّ القرآن الكريم يُصرّح بحياة الأنبياء والأولياء ـ وجماعات أُخرى ـ في البرزخ (١) ويعتبرهم مُبصرين وسامعين في ذلك العالم ، وسوف نشير إلى تلك الآيات عند التحدُّث عن التوسّل بالأرواح المقدّسة.

ثانياً : إنّ الأحاديث الشريفة تُصرّح بأنّ الملائكة تبلّغ خاتم الأنبياء ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سلام مَن يُسلّم عليه ، فقد جاء في الصحاح :

«إنّ رسول الله قال : ما مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَليَّ إلّا رَدَّ اللهُ عَليَّ رُوحي حتّى أرُدَّ ـ عليه‌السلام ـ». (٢)

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«صَلُّوا عَليَّ فَإنّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغني حَيْثُ كُنْتُمْ». (٣)

ثالثاً : إنّ المسلمين ـ منذ ذلك اليوم ـ فهموا من هذه الآية معنى مطلقاً لا ينتهي بموت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حتى أنّ بعض الأعراب ـ بوحي من أذهانهم الخالصة من كلّ شائبة ـ كانوا يقصدون قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويزورونه ويتلون آية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ...) عند قبره المقدّس ويطلبون منه الاستغفار لهم.

وقد ذكر تقيّ الدين السبكي في كتاب «شفاء السقام» والسمهودي في كتاب «وفاء الوفا» نماذج من زيارة المسلمين لقبر رسول الله وتلاوة هذه الآية عند

__________________

(١) البرزخ : الحياة بعد الموت إلى يوم القيامة.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، كتاب الحجّ ، باب زيارة القبور.

(٣) التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول بقلم الشيخ منصور علي ناصف : ٢ / ١٨٩.

١٠٦

قبره الشريف ، وفيما يلي نذكر بعض تلك النماذج :

روى سفيان بن عنبر عن العتبي ـ وكلاهما من مشايخ الشافعي وأساتذته ـ أنّه قال : كنتُ جالساً عند قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فجاء أعرابي فقال :

«السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ الله ، سَمِعْتُ الله يَقُولُ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِراً مِنْ ذَنْبي ، مُسْتَشْفِعاً بِكَ إِلى رَبِّي».

ثمّ بكى وأنشأ يقول :

يا خيرَ من دُفنت في القاع أعظمُهُ

فطاب من طيبهنّ القاع والأكُمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنُه

فيه العفافُ وفيه الجودُ والكَرمُ

ثمّ استغفر وانصرف. (١)

ويروي أبو سعيد السمعاني عن الإمام عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ أنّ أعرابياً جاء بعد ثلاثة أيام من دفن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فرمى بنفسه على القبر الشريف وحثا من ترابه على رأسه وقال : «يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، ووعيتَ عن الله ما وعينا عنك ، وكان فيما أنزله عليك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) وقد ظلمتُ نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربّي». (٢)

إنّ كلّ هذا يدلّ على أنّ المنزلة الرفيعة الّتي منحها الله تعالى لحبيبه

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٦١ ؛ الدر السّنيّة لأحمد دحلان : ٢١.

(٢) الجوهر المنظَّم : لابن حجر ، وذكره السمهودي في وفاء الوفا : ٢ / ٦١٢ ، وزيني دحلان في الدرر السّنيّة : ٢١.

١٠٧

المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما صرّحت بها هذه الآية ليست خاصّة بحياته ، بل تؤكّد على أنّها ثابتة له بعد وفاته أيضاً.

وبصورة عامّة ... يعتبر المسلمون كلّ الآيات النازلة في تعظيم رسول الله واحترامه ، عامّة لحياته وبعد مماته ، وليس هناك من يُخصِّصها بحياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وقد جاء في التاريخ : لمّا استُشهد الإمام الحسن بن علي ـ عليه‌السلام ـ وجيء بجثمانه الطاهر إلى مسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ظن بنو أُميّة أنّ بني هاشم يريدون دفن الإمام بجوار قبر جدّه المصطفى ، فأثاروا الفتنة والضجّة للحيلولة دون ذلك ، فتلا الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...). (١)

ولم يردَّ عليه أحد ـ حتّى من الأُمويّين ـ بأنّ هذه الآية خاصةً بحياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

واليوم ترى الوهّابيّين قد نصبوها على الجدار المقابل لقبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وهم يقصدون بذلك المنع من رفع الأصوات هناك.

من هذا المنطلق يمكننا أن نستنتج من هذه الآية معنى واسعاً عامّاً ، وهو أنّ للمسلمين اليوم أن يَقِفوا أمام قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويسألوه أن يستغفر الله لهم.

وليس لزيارة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ معنى سوى ما تضمّنته هذه الآية وأمثالها. إنّ هذه الآية تدلّ على موضوعين هما :

١. إنّ للإنسان أن يقف عند قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد وفاته ويسأله أن يستغفر الله له. وسندرس هذا الموضوع مفصّلاً في فصلٍ قادم حول «التوسّل بأولياء الله» إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الحجرات : ٢.

١٠٨

٢. إنّ هذه الآية تشهد على جواز زيارة قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، لأنّ حقيقة الزيارة لا تعني سوى «حضور الزائر عند المزور» فإذا كان الوقوف عند قبر النبي وسؤاله أن يستغفر الله لنا جائزاً فقد تحقّق أمران :

١. سألناه أن يستغفر الله لنا.

٢. حضرنا عنده وتحدّثنا إليه ، والزيارة ليست إلّا هذا.

استدلالٌ آخر

إنّ إجماع المسلمين على حكم من الأحكام الشرعية في العصور المختلفة يُعتبر أوضح دليل على صحّة ذلك الحكم وثباته ، وزيارة قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هي من مصاديق هذه القاعدة ، وتظهر لنا حقيقة الأمر لو راجعنا كتب الحديث والفقه والأخلاق والتاريخ ، وخاصّة «مناسك الحجّ» فيها.

وقد ذكر المرحوم العلّامة الأميني استحباب زيارة قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من اثنين وأربعين مصدراً من المصادر العلمية الإسلامية ، وقد أورد في كتابه الغدير ـ ج ٥ ، ص ١٠٦ إلى ١٢٩ ـ النصوص والعبارات الخاصّة بهذا الموضوع بدقّة متناهية ، ومن الكتب الّتي اعتمدنا عليها في هذا المجال هي كالآتي :

١. «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» بقلم تقيّ الدين السبكي الشافعي (المتوفّى سنة ٧٠٦ ه‍) وقد ذكر في كتابه هذا جملة من كلمات العلماء في استحباب الزيارة استحباباً مؤكّداً.

٢. «وفاء الوفا» بقلم السمهودي (المتوفّى ٩١١ ه‍) وقد ذكر فيه أيضاً كلمات العلماء في استحباب الزيارة.

٣. «الفقه على المذاهب الأربعة» تأليف أربعة من علماء المذاهب الأربعة ، وقد جمعوا فيه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة المشهورة عند السنّة يقول هؤلاء :

١٠٩

«زيارة قبر النبيّ أفضل المندوبات ، ورد فيها أحاديث». (١)

والآن ... حان الوقت لذكر بعض الأحاديث الّتي رواها المحدّثون حول زيارة قبر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

الأحاديث الشريفة حول زيارة قبر الرسول

إنّ الأحاديث الشريفة ـ الّتي رواها المحدّثون من أهل السنّة ـ حول زيارة الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على حدٍّ تُغنينا عن التحقيق في سندها ورواتها ، بسبب كثرتها وتواترها ، وقد سجّلها الحفّاظ ـ من جميع المذاهب الإسلامية ـ في كتبهم وصحاحهم ، وهي بمجموعها تدلّ على أنّ زيارة قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت من المستحبّات الثابتة لديهم ، ولو أردنا أن نذكر كلّ تلك الأحاديث لطال بنا المقام ، ونكتفي بذكر بعضها فيما يلي :

١. عن عبد الله بن عمر : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال :

«مَنْ زارَ قَبْري وَجَبَتْ لَهُ شَفاعَتي».

جاء هذا الحديث في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٥٩٠ ، وقد أفتى علماء المذاهب الأربعة وفقاً لهذا الحديث ، وللاطّلاع على مصادره راجع كتاب وفاء الوفا ، ج ٤ ، ص ١٣٣٦.

وممّا لا شكّ فيه أنّ حديثاً يرويه الحفّاظ والعلماء منذ منتصف القرن الثاني الهجري حتّى هذا اليوم لا يمكن أن يكون مُزوَّراً لا أساس له.

وقد تناول الشيخ تقيّ الدين السبكي البحث عن هذا الحديث وأسناده

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٥٩٠.

١١٠

ورواته في كتابه القيّم : شفاء السقام (١) وأثبت صحّة هذا الحديث وصوابه.

٢. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«مَنْ جاءَني زائراً (لا تَحْمِلُهُ) إلّا زيارَتي ، كانَ حقّاً عَلَيَّ أنْ أكُونَ شَفيعاً لَهُ يَوْمَ الْقِيامَة».

وقد ذكر هذا الحديث ستة عشر حافظاً ومحدِّثاً في كتبهم ، وقد تحدَّث تقي الدين السبكي ـ في كتابه المشار إليه ـ حول أسناده ورواته ، وكذلك ذكره السمهودي في كتابه : وفاء الوفا ، ج ٤ ، ص ١٣٤٠.

٣. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْني فَقَدْ جَفاني».

وقد روى هذا الحديث تسعة من كبار الشيوخ وحفّاظ الحديث ، وذكرهم بالتفصيل السمهودي في كتابه وفاء الوفا ، ج ٤ ، ص ١٣٤٢.

٤. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«مَنْ حَجَّ فَزارَ قَبْري بَعْدَ وَفاتي كانَ كَمَنْ زارَني في حَياتي».

وقد روى هذا الحديث خمسة وعشرون شخصاً من أشهر المحدّثين والحفّاظ في كُتبهم ومؤلّفاتهم ، وقد تحدّث تقيّ الدين السبكي في كتابه المذكور حول سند هذا الحديث ، كما ذكره السمهودي في كتابه ، ج ٤ ، ص ١٣٤٠.

٥. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«مَنْ زَار قَبري (أو : من زارني) كُنتُ لَهُ شَفيعاً».

وقد روى هذا الحديث ثلاثة عشر من المحدثين والحفّاظ ، وذكرهم السمهودي في كتابه ، ج ٤ ، ص ١٣٤٧.

__________________

(١) ص ٣ ـ ١١ ، وهذا الكتاب هو خير ما كُتب من أهل السُّنة ضدّ ابن تيميّة حول تحريمه السفر لزيارة قبر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

١١١

٦. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

«مَنْ زَارَني بَعْدَ مَوْتي فَكَأَنَّما زارَني في حَياتي».

كانت هذه نماذج من الأحاديث الكثيرة الّتي رويت عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في دعوة الناس إلى زيارة قبره الشريف والتحريض عليها ، وقد أحصى المرحوم الشيخ الأميني ـ في كتاب الغدير ـ اثنين وعشرين حديثاً حول هذا الموضوع ، وذكر السمهودي ـ في كتابه ، ج ٤ ، ص ١٣٣٦ ـ سبعة عشر حديثاً وتحدّث عن أسنادها ورواتها بما لا مزيد عليه.

فإذا كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد دعا الناس إلى زيارة قبره الشريف ، فإنّما هو لما فيها من النتائج والآثار والفوائد المادّية والمعنويّة المقرونة بزيارته وزيارة سائر الشخصيات الدينية.

إنّ المسلمين بسبب زيارة قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يتعرّفون على مركز الإسلام وعلى الحوادث الّتي حدثت وتحدث فيه ، ومن هناك يكتسبون العلوم والمعارف الإسلامية ويحملونها معهم إلى أطراف الكرة الأرضية.

أدلّة الوهّابيّين على حرمة السفر لزيارة القبور

إنّ الوهّابيّين ـ على ما يبدو ـ يُجوّزون أصل الزيارة ، ولكنّهم يحرّمون السَّفر بهدف الزيارة.

يقول محمّد بن عبد الوهاب ـ في الرسالة الثانية من رسائل الهديّة السنيّة ـ :

«تُسنُّ زيارة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلّا أنّه لا يُشدّ الرحال إلّا لزيارة المسجد والصلاة فيه».

والدليل الّذي يتمسّكون به في تحريم الزيارة هو الحديث المرويّ عن أبي هريرة!! أنّه قال : قال رسول الله :

١١٢

«لا تُشَدُّ الرحال إلّا إلى ثَلاثة مَساجِدَ : مَسْجِدي هذا وَمَسْجِدِ الْحَرامِ وَمَسْجد الأقصى».

وروي هذا الحديث بصورة أُخرى ، وهي :

«إنّما يُسافَرُ إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ : مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدي وَمَسْجِدِ إيليا».

وروي أيضاً بصورة ثالثة ، وهي :

«تُشَدُّ الرِّحال إلى ثَلاثةِ مَساجِدَ ...». (١)

لا شكّ في وجود هذا الحديث في الصحاح ، ولسنا الآن في مقام مناقشة الحديث ، لكون أبي هريرة في طريقه ، بل مقصودنا هو مفاد الحديث.

ولنفرض أنّ نصّ الحديث هو : «لا تُشَدُّ الرحال إِلّا إِلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ ...» فمن الثابت أنّ «إلّا» هي أداة استثناء ولا بدّ من وجود المستثنى منه ، ويجب تحديده ، وبما أنّه مفقود في النصّ فلا بدّ من تقديره في الكلام ، وقبل الإشارة إلى القرائن الموجودة يمكن تقدير المستثنى منه في صورتين :

١. لا تُشَدُّ إِلى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَساجِد إِلّا ثَلاثة مَساجِد ...

٢. لا تُشَدُّ إِلى مَكان من الأمكنَةِ إِلّا ثَلاثَة مَساجد ...

إنّ فهم الحديث والوقوف على معناه يتوقّف على ثبوت أحد هذين التقديرين ، فإن اخترنا التقدير الأوّل كان معنى الحديث عدم شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم جواز شدّ الرحال إلى أيّ مكان حتّى لو لم يكن مسجداً.

__________________

(١) أورد مسلم هذه الأحاديث الثلاثة في صحيحه : ٤ / ١٢٦ ، كتاب الحجّ ، باب لا تشدّ الرحال ؛ وذكره أبو داود في سننه : ١ / ٤٦٩ ، كتاب الحجّ ؛ وكذلك النسائي في سننه المطبوع مع شرح السيوطي : ٢ / ٣٧ ـ ٣٨.

١١٣

فلا يشمل النهي من يشدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأئمّة الطاهرين والصالحين ، لأنّ موضوع البحث هو شدّ الرحال إلى المساجد ـ باستثناء المساجد الثلاثة المذكورة ـ وأمّا شدّ الرحال إلى زيارة المشاهد المشرّفة فليس مشمولاً للنهي ولا داخلاً في موضوعه.

هذا على التقدير الأوّل.

وأمّا على التقدير الثاني فلازمه أن تكون كافّة السفرات المعنويّة ـ ما عدا السفر إلى المناطق الثلاث المذكورة ـ محرّمة ، سواء أكان السفر من أجل زيارة المسجد أو زيارة مناطق أُخرى.

ولكن القرائن والدلائل تشير إلى أنّ التقدير الأوّل هو الصحيح ، بناءً على صحّة سند الحديث واعتباره.

أمّا القرائن على صحّة التقدير الأوّل فهي كالآتي :

أوّلاً : لأنّ المساجد الثلاثة هي المستثناة ، والاستثناء هنا متّصل ـ كما هو واضح ـ فلا بدّ أن يكون المستثنى منه هو : المساجد لا المكان. (١)

ثانياً : لو كان الهدف هو منع كافّة السفرات المعنويّة لما صحّ الحصر في هذا المقام ، لأنّ الإنسان يشدّ الرحال في موسم الحجّ للسفر إلى «عرفات» و «المشعر» و «منى» فلو كانت السفرات الدينية ـ لغير المساجد الثلاثة ـ محرّمة ، فلما ذا يُشدّ الرحال إلى هذه المناطق؟!

ثالثاً : لقد أشار القرآن الكريم والأحاديث الشريفة إلى بعض الأسفار الدينية ، وجاء التحريض عليها والترغيب فيها ، كالسفر من أجل الجهاد في سبيل

__________________

(١) لو قال قائل : ما جاء إلّا زيد ، فالمستثنى منه ـ في هذه الجملة ـ هو : الإنسان أو القوم أو ما شابه ذلك ، وليس المستثنى منه كلمة عامّة كالشيء والموجود ، سواء كان إنساناً أو غيره.

١١٤

الله وطلب العلم وصلة الرحم وزيارة الوالدين وما شابه ذلك. فمن ذلك قوله تعالى :

(... فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). (١)

ولهذا فقد فسّر كبار الباحثين والمحقّقين الحديث المذكور بما أشرنا إليه ، فمثلاً يقول الغزالي ـ في كتاب إحياء العلوم ـ :

«القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد ... ويدخل في جملته : زيارة قبور الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكلّ من يُتبرّك بمشاهدته في حياته يُتبرّك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى» لأنّ ذلك في المساجد ، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد ، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله». (٢)

وعلى ضوء هذا فالمنهيّ عنه ـ في هذا الحديث ـ هو شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة ، من المساجد الأُخرى ، ولا علاقة له بالسفر للزيارة أو لأهداف معنويّة أُخرى.

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ما قال : «لا تُشدّ الرحال إلّا

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) كتاب إحياء علوم الدين للغزالي : ٢ / ٢٤٧ ، كتاب آداب السفر ، طبعة دار المعرفة بيروت ؛ الفتاوى الكبرى : ٢ / ٢٤.

١١٥

إلى ثلاثة مساجد ...» فإنّه لا يعني أنّ شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى حرام ، بل معناه أنّ المساجد الأُخرى لا تستحقّ شدّ الرحال إليها ، وتحمّل مشاق السفر من أجل زيارتها ، لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف ـ من حيث الفضيلة ـ اختلافاً كبيراً. (١)

فالمسجد ـ سواء كان في المدينة أو في القرية أو في المنطقة ـ لا يختلف مع الآخر فثواب إقامة الصلاة في المسجد الجامع في أيّ بلد من البلاد واحد ، فلا ملزم للسفر عندئذٍ لإقامة الصلاة في جامع مثله. وعليه فلا داعي إلى أن يشدّ الإنسان الرحال إليه ، أمّا إذا شدّ الرحال إليه فليس عمله هذا حراماً ولا مخالفاً للسُّنّة الشريفة.

ويدلّ عليه ما رواه أصحاب الصحاح والسُّنن :

«كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يأتي مسجد قُبا راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين».

ولنا أن (٢) نتساءل : كيف يمكن أن يكون شدّ الرحال وقطع المسافات من أجل إقامة الصلاة ـ مخلصاً لله ـ في بيتٍ من بيوته سبحانه حراماً ومنهياً عنه؟!!

__________________

(١) إلّا مسجد الكوفة فقد ورد في فضله أحاديث كثيرة ولا يخفى أنّ المساجد الأُخرى تختلف في الفضيلة ـ كمسجد السوق والقبيلة ـ لكن النهي إنّما هو السفر من مسجد إلى مسجد مثله دون السفر من مسجد القبيلة إلى جامع البلد.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٧. وراجع في هذا المعنى صحيح البخاري : ٢ / ٧٦ ، السنن للنسائي المطبوع مع شرح السيوطي : ٢ / ٣٧.

١١٦

الفصل السادس :

إقامة الصلاة والدعاء

عند قبور الأولياء

من المسائل الّتي يُثيرها الوهّابيّون كثيراً ـ في كتبهم وغيرها هي إقامة الصلاة والدعاء عند قبور أولياء الله الصالحين وإضاءة المصابيح عندها.

يقول مؤسّس الوهّابيّة في رسالة «زيارة القبور» :

لم يذكر أحدٌ من أئمّة السَّلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة ، ولا أنّ الصلاة والدعاء هناك أفضل ، بل اتّفقوا كلّهم على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأولياء والصالحين. (١)

وجاء في الجواب المنسوب إلى علماء المدينة :

«أمّا التوجّه إلى حجرة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند الدعاء فالأولى منعه ، كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ، ولأنّ أفضل الجهات جهة القبلة».

وقد تجاوزت هذه المسألة ـ على مرِّ الزمان ـ مرحلة المنع إلى مرحلة الشّرك حتّى أنّهم اليوم يعتبرون ذلك شركاً ، وكلّ من يفعل ذلك مشركاً!!!

أقول : ممّا لا شكّ فيه أنّ الصلاة لصاحب القبر وعبادته ، أو جعله قبلة في

__________________

(١) زيارة القبور : ١٥٩ ـ ١٦٠.

١١٧

الصلاة يُعتبر شركاً ، ولكن ليس على وجه الأرض مسلم يفعل ذلك عند قبور الأنبياء والأولياء ، فليس هناك ـ في الحقيقة ـ من يعبد صاحب القبر أو يتوجّه إليه في الصلاة ، لهذا فإنّ فكرة الشرك هذه ليست سوى وهماً وخيالاً يتخبّط فيه الوهّابيّون.

إنّ هدف المسلمين من إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء هو التبرُّك بذلك المكان الّذي احتضن حبيباً من أحبّاء الله ، فهم يعتقدون أنّ ذلك المكان يتمتّع بمنزلة سامية لكونه يضمّ جسد عزيز من أعزّاء الله ، ولذلك فالصلاة والدعاء هناك يعود بثواب أكثر على فاعله.

والسؤال الّذي تجب الإجابة عليه هو : هل دفن الأولياء في مكانٍ ما ، يمنح قدسيّة خاصّة لذلك المكان أم لا؟

فإن ثبت ذلك ـ بدليل من القرآن أو الأحاديث ـ كانت إقامة الصلاة والدعاء عند مراقد قادة الإسلام مستحبّة ومقرونة بثواب أكثر ، وحتّى لو لم يثبت ذلك فلا يمكن القول بحرمة الصلاة والدعاء في ذلك المكان ، بل يكون كسائر الأماكن الأُخرى الّتي يجوز فيها إقامة الصلاة والدعاء حتّى لو لم تتمتع بأيّة فضيلة.

فحديثنا الآن يدور حول هذا الموضوع بالذات ، هل أنّ لمشاهد الأولياء ومدفنهم شرفاً وفضيلة خاصّة؟

وهل هناك ما يدلّ عليه في القرآن أو الأحاديث؟

الجواب فيما يلي :

١. في قصّة أصحاب الكهف ، سبق أن ذكرنا بأنّ المؤمنين الموحّدين قالوا في شأن مدفنهم :

١١٨

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

إنّ الهدف الّذي دعاهم إلى اتّخاذ مدفنهم مسجداً إنّما كان من أجل أداء الفرائض الدينية فيه. (١)

إنّ هؤلاء كانوا يتفكّرون : إنّ هذا المكان صار ذا كرامة وشرف بسبب احتضانه لأجساد مجموعة من عباد الله الصالحين ، ولذا لا بدّ من التبرّك به باتّخاذه مسجداً للصلاة والعبادة لله سبحانه ، لنيل الثواب الأكثر.

إنّ القرآن الكريم يذكر هذا الموضوع عن أُولئك الموحّدين من دون أيّ ردٍّ أو نقد ، بل بسكوت تامّ ، ولو كان عملهم هذا خلافاً للشريعة أو نوعاً من الشرك لما سكت القرآن عنهم ، بل ردّ عليهم ، كما هو شأنه في المعتقدات الباطلة.

٢. إنّ القرآن الكريم يأمر حُجّاج بيت الله الحرام بأن يقيموا الصلاة عند مقام إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ وهي الصخرة الّتي وقف عليها إبراهيم لبناء الكعبة فيقول سبحانه :

(... وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...). (٢)

إنّ كلّ من يتلو هذه الآية يفهم منها ـ بوضوح ـ أنّ الصلاة هناك إنّما وجبت بسبب مقام النبيّ إبراهيم ، وأنّ مقام إبراهيم هو الّذي منح الفضيلة والكرامة لذلك المكان ، وترى ملايين المسلمين يتّخذون من مقام إبراهيم مكاناً للصلاة والدعاء.

فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ألا ينبغي أن يكون

__________________

(١) يقول الزمخشري ـ في تفسير الكشاف ، في تفسير الآية : يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم. ويقول النيشابوري أيضاً : يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم.

(٢) البقرة : ١٢٥.

١١٩

كذلك بالنسبة إلى مثوى رجال الله وقادة الإسلام؟!

ألا تكون الصلاة عند مراقدهم أفضل من الأماكن الأُخرى؟!

صحيح أنّ الآية قد نزلت بشأن مقام إبراهيم الخليل ، ولكن ألا يمكن أن نستنتج منها حُكماً عامّاً؟!

لقد سأل المنصور العبّاسي «الدوانيقي» مالك بن أنس ـ إمام المالكية ـ وهما في مسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله؟

فقال مالك : لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفِّعك الله. (١)

يستفاد من هذا الحوار أنّ الدعاء عند قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان خالياً من أي إشكال ، وكانت الغاية حسب السؤال عن الأرجحية وأنّ أيّة منها أرجح فأفتى مالك بن أنس بأنّ التوجّه إلى قبر الرسول كالتوجّه إلى القبلة.

٣. لو راجعنا أحاديث المعراج لانكشفت لنا هذه الحقيقة بصورة أكثر ، حيث جاء فيها أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في رحلة المعراج نزل في «المدينة» و «طور سيناء» و «بيت لحم» وصلّى فيها ، فقال له جبرئيل : يا رسول الله أتعلم أين صلّيت؟ إنّك صلّيت في «طيبة» وإليها مُهاجرتك ، وصلّيت في «طور سيناء» حيث كلّم الله موسى تكليماً ، وصلّيت في «بيت لحم» حيث وُلد عيسى. (٢)

يستفاد من هذا الحديث أنّ الصلاة محبوبة في بقعة لامستْ جسد أحد

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٧٦.

(٢) الخصائص الكبرى لعبد الرحمن السيوطي : ١ / ١٥٤.

١٢٠