مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

الله كثير ، وأصغرها بمنّ الله فكبير ، لا يظفر به إلا بمنّ الله ، ولا يصاب أبدا إلا بالله.

وتأويل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) : فأمر منه سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يصلي صلاته كلها لربه ، وربه : فهو الله تبارك وتعالى الذي أنعم عليه من النعم والكرامة بما أنعم به ؛ لأنه قد يصلي كثير من المصلين لغير الله مما يعبدون ، ويصلي أيضا بعض أهل الملة بالرياء وإن كانوا يقرون ويوحدون.

وأمره سبحانه إذا نحر شيئا من النحائر قربانا لربّه ، ألا ينحره عند نحره له إلا لله وحده ربه ؛ لأنه قد كان ينحر أهل الجاهلية للأصنام والأوثان ، ويشركون في نحائرهم بينها وبين الرحمن ، ويذكرون أسماء آلهتهم عند نحرها ، ويذكرون الله جلّ ثناؤه عند ذكرها ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] ، يعني اسمه خالصا ، وما لم يكن له جلّ ثناؤه من النحائر والذبائح خالصا.

وأخبر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن من شنأه فأبغضه من البشر ، فهو مخذول ذليل أبتر ، ليس له عزّ مع بغضه له وشنأته ولا منتصر ، إكراما من الله جل ثناؤه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله ، وإخزاء لمن شنئه وأبغضه ، ولم يؤد إلى الله في محبته فرضه ، فنحمد الله على ما خص به رسوله من كراماته ، وأوجب على العباد من محبته وولايته ، وقد قيل : إن الكوثر نهر في الجنة خص الله رسوله به ، وجعله جلّ ثناؤه في الجنة له ، وقالوا : إن شانئه الأبتر المذكور في هذه الآية قصده هو عمرو بن العاص السهمي خاصة ، وتأويل ذلك إن شاء الله وتفسيره ، هو كل من شنئه عمرو كان أو غيره (١).

__________________

(١) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) هو نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء ، والكوثر : الخير الكثير.

وقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) معناه : صل بجمع ، وانحر بمنى ، ويقال : وانحر معناه استقبل القبلة ، وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) معناه مبغضك ، وعدوك الذي لا عقب له ، وذلك العاص بن وائل السهمي ، ويقال : كعب الأشرف اليهودي. تفسير الغريب / ٤١٠. ـ

٨١

تفسير سورة الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تأويل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)؟

فقال : تأويل (أَرَأَيْتَ) هو تعريف ، وتبيين من الله وتوقيف ، لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمن آمن بما أنزل من الوحي والكتاب إليه ، لا رؤية مشاهدة وعيان ، ولكن رؤية علم وإيقان ، كما يقول القائل لمن يريد أن يعرفه شيئا إذا لم يكن ذلك الشيء له ظاهرا جليا : أرأيت كذا وكذا يعلم علمه ، يريد بأرأيت توقيفه على أن يعرفه ويعلمه ، على حدود ما فهمه منه وأعلمه ، فأعلم الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن نزل عليه معه وبعده هذا البيان ، أن الذي يكذب بيوم الدين من الناس أجمعين ، ويوم الدين : فهو يوم يجزي الله جلّ ثناؤه العاملين ، بما كان من أعمالهم ، في هداهم وضلالهم ، وهو يوم البعث حين يدان كل امرئ بدينه (١) ، ويرى المحسن والمسيء جزاء العامل منهما يومئذ بعينه (٢) ، وتكذيب المكذب بيوم الدين ، فهو : ارتيابه وإنكاره فيه لليقين ، وذلك ، ومن كان كذلك ، فهو الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، ولارتيابه فيه وتكذيبه ، ولقلة يقينه به ، دعّ اليتيم ودعّه له : هو دفعه ، عن حقه ومنعه ، وتكذيب المكذب بالدين ، لم يحض غيره على إطعام المسكين ، وفيه وفي

__________________

ـ وأخرج الزبير بن بكار ، وابن عساكر عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : توفي القاسم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، فمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو آت من جنازته ، على العاص بن وائل وابنه عمرو فقال حين رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني لأشنؤه. فقال العاص بن وائل : لا جرم لقد أصبح أبتر ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). الدر المنثور ٨ / ٦٥٣.

وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي. الدر المنثور ٨ / ٦٥٢.

(١) في (أ) : بذنبه.

(٢) في (أ) : بعمله.

٨٢

أمثاله ما يقول الرحمن الرحيم : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ، يعني : من غير أبرار المتقين ، وهم الفجرة الظلمة المنافقون ، (الَّذِينَ هُمْ) كما قال الله سبحانه : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، والساهون : فهم الذين هم (١) عن صلاتهم ووقتها لاهون ، ليس لهم عليها إقبال ، ولا لهم بحدود تأديتها اشتغال ، فنفوسهم عن ذكر الله بها ساهية ، وقلوبهم بغير ذكر الله فيها لاهية، (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) وهم : المراءون الذي ترى منهم عيانا الصلاة ، وقلوبهم بالسهو والغفلة عن ذكر الله مملاة.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) هو ما جعل الله فيه العون من المرافق كلها ، التي يجب العون فيها لأهلها ، من غير مفروض واجب الزكوات ، وما ليس فيه كثير مئونة من المعونات ، مثل نار تقتبس ، أو رحى أو دلو يلتمس ، وليس في بذله ، إضرار بأهله ، وكل ذلك وما أشبهه ، فماعون يتعاون به ، ويتباذله بينهم المؤمنون ، ومانعوه بمنعه له من طالبه فمانعون ، وهم كلهم بمنعه لغيرهم فذامون.

وما ذكر الله سبحانه من قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) فقول لمن كان قبله ، من ذكره بمنع الماعون ، موصول في الذم والتقبيح ، وما يعرف في التقبيح فصغيره صغيره ، وكبيره كبيره ، وكله عند الله فمسخوط غير رضي ، وخلق دني من أهله غير زكي (٢) ، تجب مباينته ، ولا تحل مقارنته ، إلا لعذر فيه بيّن ، وأمر فيه نيّر ، والحمد لله مقبح القبائح ، والمنان على جميع خلقه بالنصائح ، الذي أمر بالبيان (٣) والإحسان ، ونهى عن التظالم والعدوان (٤).

__________________

(١) سقط من (ب) : هم.

(٢) في (أ) : علي.

(٣) في (أ) : بالثبات.

(٤) قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) معناه : يدفعه. ويقال : يتركه ، ويقال : يقهره ويظلمه ، وقوله تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) معناه : عن مواقيتها ، وقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) معناه : الزكاة المفروضة ، ويقال : وهو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو ، وما أشبه ذلك ، والماعون : الطاعة ، والماعون : العطية والمنفعة ، والماعون : بلسان قريش : المال ، ويقال : الماعون المهنة. تفسير الغريب / ٤٠٩.

وعن علي عليه‌السلام ، وابن عباس (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يريد المنافقين الذين لا يرجون ـ

٨٣

تفسير سورة قريش

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢)) المعنى : هو إلفهم وإيلافهم فقريش من أنفسهم وحليفهم ، ومن جاورهم في الحرم ولفيفهم ، فكل من كان يسكن في الحرم في مسكنهم ، ويأمن بمكانه معهم في الحرم بأمنهم ، ويرحل معهم إذا أراد أمنا الرحلتين ، وينتقل معهم الطعام والإدام في السنة نقلتين ، لا يعرض لهم أحد من العرب بقطع في الطريق ، وليسوا في شيء مما فيه غيرهم من الخوف والضيق ، والعرب كلهم خائفون جياع ، وهم كلهم آمنون شباع ، لحرمة البيت عند العرب وتعظيمه وإجلاله ، ولإكبارهم القطع على سكان الحرم ونزّاله ، فذكّرهم في ذلك تبارك وتعالى بنعمته ، وبما منّ به تعالى من بركة الحرم وحرمته.

وفي ذلك وذكره ، وما ذكرنا من أمره ، ما يقول الله سبحانه : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)) [القصص : ٥٧] ، وفيه ما يقول الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)) [العنكبوت : ٦٧].

وتأويل (فَلْيَعْبُدُوا) ، هو : فليوحدوا ، ومعنى ليوحدوا : فهو ليخلصوا ، ومعنى ليخلصوا : فهو ليفردوا بعبادتهم ، وليخصوا (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)) الذي بمكانهم منه ، وبما كان من مجاورتهم له ،

__________________

ـ لها ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا ، وهو قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ).

وأيضا عن جعفر الصادق عليه‌السلام سأله يونس بن عمار عن قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أهي وسوسة الشيطان؟ فقال : لا كل أحد يصيبه هذا ، ولكن أن يغفلها ، ويدع أن يصلي في أول وقتها ، وعنه أيضا : هو الترك لها والتواني عنها.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : هي الزكاة ، وعن الإمام الصادق : هو القرض تقرضه ، والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزكاة. مجمع البيان ٦ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٨٤

أطعموا من جوع ، وأومنوا من خوف ، فلم يجوعوا جوع الجائعين ، ولم يخافوا خوف الخائفين، فكلهم يعلم ويقول : إن البيت بيت الله ذي الجلال والإكرام ، لا بيت ما عبدوا دونه من الملائكة والأصنام ، وأن الله سبحانه هو (١) الذي حرّم الحرم ، وجعل له تبارك وتعالى الجلالة والكرم ، لا الملائكة المقربون ، ولا الأصنام التي يعبدون ، فأمرهم جلّ ثناؤه أن يعبدوه وحده ، وأن يوجبوا شكره وحمده ، على ما صنع لهم وأولاهم ، ووهب لهم بحرمة بيته وأعطاهم (٢).

تفسير سورة الفيل

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣)).

معنى (تَرَ) في مخرج التأويل : ليس هو برؤية العين ، ولكنه علم اليقين ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير ذلك بعينه ، ولكنه رآه بعلمه ويقينه ، وبما ذكر الله جلّ ثناؤه عنه ، وبما وصفه الله به منه ، وسواء قيل : ألم تر ، أو قيل : ألم تعلم ، معناهما واحد في اليقين والعلم.

وتأويل (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) هو كيف صنع ، وأصحاب الفيل : فهم من جاء معه ، أو بعث به وإن تخلف عنه ، فكل من كان للفيل صاحبا ، من بعث وإن لم يصحبه ومن كان له مصاحبا.

__________________

(١) سقط من (أ) : هو.

(٢) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) معناه : نعمتي على قريش ، وقوله تعالى : (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) كانت لقريش رحلتان رحلة الشتاء إلى الحبشة ، ورحلة الصيف إلى الشام للتجارة ، وقوله تعالى: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي من الجذام ، ويقال : من أن يعيروا في حرمهم. غريب القرآن / ٤٠٨.

وقال الطبرسي في مجمع البيان ١٠ / ٥٤٥ : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وقال الفراء في معاني القرآن ٣ / ٢٩٤ : رحلة الشتاء إلى الشام ، ورحلة الصيف إلى اليمن.

٨٥

وتأويل (كَيْدَهُمْ) ، فهو إرادة مريدهم ، والإكادة : فهي الإرادة ، كما قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو لا الوشاة بأن نكون جميعا

وذلك أن أصحاب الفيل كادوا ، ومعنى ذلك : هو أرادوا ، أن يخربوا الكعبة ، ويجعلوها متهدمة خربة ، لأن العرب خربت كنيسة كانت يومئذ للحبشة ، وكان يومئذ فيهم وملك عليهم رجل من العرب من أهل اليمن يقال له : أبرهة بن الصباح ، وكان يدين دينهم ، فهو الذي بعثهم ، فأرسل الله سبحانه على أصحاب الفيل كما قال تبارك وتعالى : (طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)) ، لا يصيب حجر منهم أحدا إلا قتله وأهلكه (١) ، ولم يكن له بقاء معه ولا بعده ، والطير الأبابيل فهي الطير الكبير الأراعيل (٢) ، التي تأتي من كل جهة ، ولا تأتي من ناحية واحدة ، والسجيل : فهو فيما يقال : الطين ، المستحجر الصلب الذي ليس فيه لين ، فهو لا يقع على شيء إلا حطمه ، وفتّه وهشمه ، وجعله كما قال الله سبحانه كالعصف المأكول ، والعصف : فهو عاصفة قصب الزرع البالي المدخول (٣) ، الذي قد دخل وأكل ، وتناثر وتهلهل ، والمأكول منه فهو الذي لا جوف له ، والذي قد أنهت جوفه كله (٤).

__________________

(١) في (ب) : قتلته وأهلكته.

(٢) الرعيل : هو اسم كل قطعة متقدمة من خيل وجراد ورجال وطير وإبل وغير ذلك ، والجمع أرعال ، وأراعيل ، فإما أن يكون أراعيل جمع الجمع ، وإما أن يكون جمع رعيل كقطيع وأقاطيع. انظر لسان العرب ١١ / ٢٨٧ ط دار صادر.

(٣) في المعجم الوسيط : دخل دخلا ، ودخلا : فسد داخله وأصابه فساد أو عيب (دخل) مثل دخل ، والحب : سوس ، والدّخل : الفساد والعيب ، والداء ، والريبة.

(٤) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) والطير جماعة ، وأبابيل جماعات ، قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : لها خراطيم مثل خراطيم الطير وأكف مثل أكف الكلاب.

وقوله تعالى : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) معناه من حجر وطين ، ويقال : السجيل : الشديد وكانت تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها ، أكبرها مثل الحمّصة ، وأصغرها مثل العدسة ، فترسل ذلك ـ

٨٦

تفسير سورة الهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))؟

فتأويل ما ذكر الله من الويل : ما يعرف من الحرقة والعويل ، والخزي الكبير العظيم الجليل ، والهمزة من الناس : فهو من يغتاب صاحبه ويغمزه ، والهمزة واللّمزة : فهو الذي يعيب حقا أو محقا ويهمزه ، والهمزة : فهو الباخس المغتاب ، واللمزة : هو الهامز العياب. وجمعه للمال : فهو اكتنازه له واجتهاده ، وتعديده له : فهو إرصاده له وإعداده ، بما في يده من ماله ، لما يخشى من نوائب حاله.

وتأويل (يَحْسَبُ) هو أيحسب استفهاما وتوقيفا ، وتبيانا له وتعريفا ، على أن ما جمع وأعد من مال ، لنوائب مكروهه بحال ، لن يخلده فينقذه ، ولن يدفع عنه ، ويقيه (١) ما يخشى ويتقي من مكروه النوائب ، كيف وهو لا يدفع عنه من الموت أكبر المصائب؟! لا ينتفع عند الموت به ، ولا بكده فيه وكسبه ، وكذلك كلما أراده الله به من ضر سوى الموت ، فليس يقدر له بجمع ماله وإعداده على خلاص ولا فوت ، في عاجل دنياه ، وكذلك هو في مثواه ، يوم القيامة ، إذا نبذ في الحطمة ، ونبذه فيها ، إلقاؤه إليها ، والحطمة : فهي الأكول لأهلها باستعارها وحرها ، وهي النار التي جعل الله وقودها كما قال سبحانه بما جعل من حجارتها وأهلها في قرارها ، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى للمنذرين : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢٤] ، فنار الآخرة جعلت نارا ، فطرها الله يومئذ افتطارا ، من

__________________

ـ عليهم فتصير أجوافهم كالعصف المأكول ، وهو ورق الزرع الذي يسقط عليه الدود فتأكله ، ويقال : دقاق التبن ، ويقال : ورق كل نابت. غريب القرآن / ٤٠٧.

(١) سقط من (أ) : ويقيه.

٨٧

غير حديد ولا حجر ولا شجر ، ولا أصل لها قبلها مفتطر ، كما نراه من هذه النار ، التي جعل أصلها من الحجر والأشجار ، كما قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)) [الواقعة : ٧١ ـ ٧٢].

ولو كانت نار الآخرة كهذه النار ، لكان وقودها بما توقد هذه النار من أشجار ، ولكن الله عزوجل جعل أصلها ، حجارتها التي فيها وأهلها ، فتوقدت واستعرت لذلك بهم ، كما يوقد أهل هذه النار نارهم بحطبهم ، فأهلها حطبها ، كما هم حصبها ، كما قال الله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)) [الأنبياء : ٩٨] ، فأهل جهنم بخلودها ، ودوام وقودها ، فيها خالدون ، لا يفنون أبدا ولا يبيدون ، كما يعود الحطب رمادا خامدا ، ورفاتا جامدا ، كذلك تعود جلود أهل النار ـ نار الآخرة ـ رفاتا ، وشيئا هامدا باليا مائتا ، فيجدد الله ذلك بعد بلائه وتهافته تجديدا ؛ ليخلد الله بالتجديد له أهل النار فيها تخليدا ، كما قال سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)) [النساء : ٥٢] ، فنار الآخرة أبدا بحجارتها وأهلها موقدة ، وحجارتها وجلود أهلها كلما بليت فمعادة ، تقدير من عزيز حكيم ، لبقاء عذاب الجحيم.

وتأويل قوله : (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) ، فهو : ما يصل إلى قلوب أهلها من الكرب والشدة ، وتأويل (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) ، فهو : مطبقة مغلقة ، وإغلاق جهنم فهو ما ذكر الله عزوجل من أبوابها ، والإيصاد للأبواب الذي هو التغليق عليهم فهو من شدة عذابها ، وما ذكر الله من الإطباق والغلق : فهو أكبر الغمّ والألم والحرق ، كما قال سبحانه : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)) [السجدة : ٢٠].

وتأويل (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) ، بعد ذكره تبارك وتعالى المؤصدة ، فهو : ما يغلق به أبواب جهنم المؤصدة المطبقة ، في عمد معروضة على أبوابها ممددة ، كالمهاج والأوصاد التي تجعل على الأبواب المغلقة ، ونحو ذلك من الأغلاق ، والغلق : فأوثق ما يغلق به كل مغلق أراد إغلاق الباب ، وذلك أنه يأخذ ما في طرفي المغلق كله ، وليس يأخذ ذلك من الإغلاق كلها غلق ، وإنما يغلق كل غلق من الأبواب ما يغلق ، إن كان قفلا ، فإنما يغلق

٨٨

واسطة الأبواب ، وإن كان غير ذلك فإنما يغلق جانبه من كل باب ، فأما المهج والرصد فيغلق الباب كله ، ويستقصى في الغلق آخره وأوله ، ولا سيما إذا كان ممتدا ثابتا ، مهجا كان أو رصدا ، فأبواب جهنم وأغلاقها كلها ، كالمقامع التي ذكر الله من الحديد لا تبيد ، كما مقامع أهلها فيها إذا أرادوا أن يخرجوا منها حديد ، كما قال سبحانه : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)) [الحج : ٢١] (١) ، ألا فسبحان من جمع في جهنم ما جمع من أنواع الخزي والضيق للظلمة الملحدين!! فقيل في يوم البعث لهم جميعا : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ) [غافر : ٧٦].

تفسير سورة العصر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢))؟

فالعصر : قد يكون من آخر النهار ، ويكون الدهر ، فأشبه ذلك ـ والله أعلم بالتأويل ، وما يصح فيه من الأقاويل ـ أن يكون العصر الذي بعد الظهر ، لا العصر الذي من الدهر ، وإن كان كل ذلك وقتا ، وكان ذلك لكلا الوقتين نعتا ، كان أفضل الأوقات ، ما كان لصلاة من الصلوات ، وكان تأويل القسم به أشبه ، وأفضل وأوجه (٢) ، والله أعلم وأحكم.

وكان تأويل أنه قسم كما أقسم بالفجر ، والليالي العشر ، لفضلهما وقدرهما ، وما ذكر الله من أمرهما.

والعصر والأعصار من النهار ، فهو بعد الظهر والإظهار ، وإذا كان الدهر وقتا

__________________

(١) وقال الإمام زيد عليه‌السلام قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الويل واد في جهنم ، والهمزة : الطعان ، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس ، وقوله تعالى : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) معناه : ليرمين به في نار الله الموقدة ، وقوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) معناه مطبقة ، وقوله تعالى : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) وهو جمع عماد ، يقال: قيود طويلة. غريب القرآن / ٤٠٧.

(٢) في (أ) : أشبه والقدوة وفضله واحد والله أعلم وأحكم.

٨٩

كله ، كان ما كان منه للصلوات هو أفضله ، والأفضل هو الأولى بالتقدم ، في القسم وغير القسم.

وأما تأويل الخسر ، فهو النقص في الخير والبر ، ولم يكن من الناس في خير ولا بر ، فهو كما قال الله عزوجل : (لَفِي خُسْرٍ) ، وكل الناس فغير مفلح ولا رابح ، إلا من عمل لله بعمل صالح ، كما قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)).

وتأويل الإيمان ، فترك كبائر العصيان.

وتأويل : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) فهو : عملهم لله صالحات ، وهي أولى الأعمال بهم ، لما فيها من رضى ربهم ، وصلاحهم وصلاح غيرهم.

وتواصيهم بالحق : فهو تآمرهم بطاعة الحق. وتواصيهم بما ذكر من الصبر : هو تآمرهم بالمقام على البر ، وعلى ما يعارضهم في المقام عليه من اليسر والعسر ، وما يقاسون فيه من منابذة المبطلين ، ومن ليس بمراقب ولا متق لرب العالمين ، من الفجرة المستهزئين ، والجورة المتغلبين المتمردين.

تفسير سورة التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قوله سبحانه : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢))؟

ف [قال :] تأويل (أَلْهاكُمُ) : هو أغفلكم عما عليكم في المعاد ، ولكم بما أنتم فيه من تكاثركم بالولد والمال والعشائر ، وتفاخركم بما في ذلك عندكم من الخيلاء والمفاخر ، ولذلك وبه شغلوا ، وألهوا فغفلوا ، بكدهم فيه ، وكدحهم وتكالبهم عليه ، وشحهم عن رشادهم ، وتيقن معادهم ، ولما في التكاثر بالأموال ، وما في التشاغل بالتكاثر من الاشتغال، طهر الله منه خيرته من الرسل والأبرار ، فلم يكونوا بأهل مكاثرة ولا بتجّار.

٩٠

وتأويل (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) هو مصيرهم إليها ، واتصالهم بالآخرة وإشرافهم عليها.

وتأويل (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)) ، هو تكرير من الله تبارك وتعالى في ذلك كله عليهم للتعريف والتبيين ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)) ، يقول جل ثناؤه : لترون ما وعدتم منها رأي العين عين يقين.

وتأويل (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)) هو : لتوقفن حينئذ على ما كنتم فيه قبل متوفاكم ، وفي حياتكم ودنياكم ، من النعيم ، والمن العظيم ، الذي كانوا يتنعمون به في الحياة الدنيا وبقائها ، وقبل ما صاروا إليه من الآخرة وشقائها. وليس مما نزل الله عزوجل من آياته في هذه السورة ، ولا غيرها طويلة ولا قصيرة ، إلا وفيها بمن الله دلالات خفية باطنة وظاهرة منيرة ، ففي أقل ظاهرها ما كفى وأغنى ، وفي خفيّها من الحكمة والبركة ما لا يفنى.

تفسير القارعة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))؟

فالقارعة : ما هال من الأمور وقرع ، وهجم على أهله بغتة بأهواله فأفزع.

وأما تأويل ما أدراه ، فهو : تعظيم منها لمرآه ، وما سيعاينه فيها ويراه ، من الأهوال والأمور الفادحة ، وجزاء الأعمال الصالحة والطالحة ، حين تقوم القيامة ، وتدوم الحسرة والندامة ، على كل خائب وخاسر ، وظالم معتد فاجر ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه عند بعثه فيها لخلقه المبعوث : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)) ، وتأويل (يَكُونُ) فهو يصير ، والفراش فطير صغير خفيف عند من يراه حقير ، من همج الأرض والطير ، تمثّل به العرب في الكثير ، لأنه كثير ضعيف ، وطير محتقر خفيف ، فتقول إذا استكثرت شيئا أو استضعفته ، واستقلت وزنه فاستخفته : ما هذا إلا

٩١

كالفراش في الخفة والقلة ، وللقوم إذا استكثروهم كالفراش في الكثرة والجمّة.

وانبثاثه : فهو انبعاثه متحيرا وطائرا في كل وجهة من الجهات ، يموج ويصدم بعضه بعضا في تلك الوجوه المختلفات ، فمثّل الله سبحانه الناس في يوم البعث ، بما وصفنا من الفراش المنبث ، الذي يموج بعضه في بعض ، ويسقط تهافتا على الأرض ، لما ذكرنا من كثرته ، وموجه وحيرته ، واختلاف جهاته ، ويومئذ يدعوهم من تلك النواحي المختلفات الداع (١) ، فيستجيبون لدعوته كلهم جميعا باستماع ، كما قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) [طه : ١٠٨] ، تأويلها : لا اختلاف لهم بعد معه ، كما كانوا يختلفون في المذاهب قبل دعائه ، وما سمعوا وهم في حيرتهم من ندائه ، كما قال سبحانه : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١)) [ق : ٤١] ، وهو يوم الإصاخة بالأسماع ، لتسمع صوت المنادي الداعي ، وفي ما ذكرنا من هذه الإصاخة ، ما قيل في يوم الصاخة : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)) [عبس : ٣٣ ـ ٣٧].

وتأويل : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)) فالعهن : هو الصوف الناعم اللين الذي ليس يقرد ، وذلك من الصوف فما يلين للنفش في اليد ، وينتفش ويتجافى ، ويعود خفيفا أجوفا ، وقد تفرقت أجزاؤه ، وبان جفاؤه ، فعاد قليله كثيرا ، وصغيره كبيرا ، لتحلله وتمزقه ، وتزايله وتفرقه ، كذلك تبلى الجبال إذا بليت ، وتفنى يوم القيامة إذا فنيت ، فتكون كالسراب الرقراق ، في الفناء والتهيؤ والامتحاق ، وفي جزاء الأعمال ، بعد تلك الأهوال ، يقول الله سبحانه : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦)) ، تأويلها : من ثقل في الوزن بره وإحسانه ، فسعد بثقله ، وثقل بعمله.

وتأويل (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧)) ، فهو في عيشة مرضية زاكية ، وإنما يعرف أمر الخفة يومئذ واليوم والثقل ، بما يعرف منها اليوم في الحال والقدر والعمل ، وليس نعلم الخفة والثقل يومئذ في المقادير والأوزان ، بمثاقيل يوزن بها من خف وثقل وجرمان (٢)

__________________

(١) في المخطوطتين (أ) و (ب) : الداعي. ولعل ما أثبت أوفق لسجع الإمام.

(٢) في (أ) : وجريان. (مصحفة). وفي (ب) : جرمان : بمعنى الجرم بكسر الجيم. الحجم والجسم.

٩٢

ولكنه يعرف ـ والله محمود ـ بما ذكرنا من العبرة والبيان ، وما تعرفه العرب العاربة في اللغة واللسان.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)) ، فتأويله : من خف به فسقه وعدوانه (١). (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)) ، تأويل أمه : فهو من مصيره ومهواه (٢) ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)) ، فكانت النار الحامية التي صار إليها ، أمه التي نسبه الله إليها ؛ إذ كانت له مقرا ومأوى ، وقرّ به فيها المصير والمثوى ، والنار الحامية : فهي التي لا يطفيها مطفيه ، ما كانت باقية أبدا ، والتي من دخلها كان فيها مخلدا.

تفسير سورة العاديات

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣)) فالعاديات : من كل ذات ظلف ، أو حافر صلب أو خف : من كل بهيمة جنّية ، وحشية أو إنسية.

وتأويل قوله : (صُبْحاً) ، فهو : عدوا ومرحا ، و (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فهو : ما يورين ويقدحن ، إذا عدون وضبحن ، بصلابة الأظلاف ، والحوافر والأخفاف ، من نار الحجارة والحصى ، والأرض الصلبة الخشنى ، فيورين النار من ذلك كله بإيقاد ، كما تورى وتقدح النار بالزناد.

و (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) فيما أرى ـ والله أعلم ـ خاصة الخيل ، بينهن وبين غيرهن من ذوات الحافر في العدو والقدر واليمن من الفرق النّيّر الجليل ، ولخاص ما فيهن من النعمة والبركة والخير ، قدّمن ـ إن شاء الله ـ في الذكر على البغال والحمير ، فقال الله سبحانه : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا

__________________

(١) في المخطوطتين : وعداوته. ولعل الأوفق لكلام الإمام ما أثبت.

(٢) في المخطوطتين : ومهواه وما أمه ألا ... لعلها زيادة.

٩٣

تَعْلَمُونَ (٨)) [النحل : ٨].

وتأويل (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)) والنقع : هو الغبار المثار (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥)) هو : توسطهن بغبارهن للجمع الذي عليه كان المغار.

وتأويل (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)) ، هو الكافر لنعم الله بكبائر عصيانه الفاجر العنود.

وتأويل : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)) : من حاله وعدوانه ، (لَشَهِيدٌ) لربه بنعمته وإحسانه ، ما يرى عليه من النعمة والإحسان ، وما بيّن فيه من حسن الصنع والإتقان ، وتأويل (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)) ، فهو : أنه لمحب للخير مريد ، لا يضعف فيه ضعفه في غيره ، من طاعة الله ودينه وأمره (١) ، وكفى بذلك فيه شرا ، ومنه لربه فيه كفرا ، (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)) من عظام الموتى ، (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠)) مما يبطن اليوم من غير الله ويخفى ، وما سيظهر حين يحاسب كل امرئ ويجزى ، (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)) يومئذ يوم البعثرة والتحصيل (لَخَبِيرٌ) ، لا يخفى عليه منهم يومئذ خيّر ولا شرّير ، وكما لا يخفى عليه اليوم من أعمالهم صغير ولا كبير.

تفسير سورة الزلزلة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي صلوات الله عليه عن قول الله سبحانه : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)) : فهو ما ينزل بها وبأهلها ، من أمر الساعة وأهوالها ، وفي ذلك ما قلنا به من بيانه ، ما يقول الله سبحانه ، في يوم الساعة وأهواله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

__________________

(١) في المخطوطتين : طاعة الله وأمره ودينه. ولعل ما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

٩٤

[الحج : ١] ، ومن بيان ما قلنا به في الزلزلة من القول ، وإنه من الشدائد والهول ، قول رب العالمين ، عند نزول الشدة والهول في يوم الأحزاب بالمؤمنين : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)) [الأحزاب : ١٠ ـ ١١].

تأويل إخراج الأرض لأثقالها ، فهو طرحها لما كان عليها من أحمالها ، والأثقال ، هي : الأحمال ، وأحمال الأرض : فما جعل الله عليها ، وكان من الثقل الذي هو الإنس ساكنا فيها ، من ميت وحي ، وفاجر وتقي ، وكيف لا تكون مخرجة لهم منها؟! وكلهم فمنتقل إلى دار القرار عنها ، وأرض الحياة الدنيا فأرض بائدة فانية ، وأرض دار القرار خالدة باقية ، ومن أثقال الأرض من في قبورها ، ومن كان من الموتى على ظهورها ، فمن كل ذلك طائعة تتخلى ، من قبل أن تبيد وتبلى.

وفي تخليها من ذلك كله ، وإخراجها عنها له ، ما يقول الله جلّ جلاله ، من أن يحويه قول أو يناله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)) [الانشقاق : ٣ ـ ٤] ، تأويل ذلك : أوحشت الأرض من أهلها وأخلت ، فنشر موتاها نشرا ، وحشر الموتى إلى الموقف حشرا ، وعند ذلك من حالها ، وما يخرج من أثقالها ، يقول الإنسان والإنسان : فهو الناس كلهم عند ما يرون من زلزالها ، وإخراجها لما كان فيها من أثقالها : ما للأرض وما شأنها؟! فتحدث الأرض حينئذ بخبرها أعيانها ، بأن الله سبحانه قد أوحى لها ، فقطع مدتها وأجلها ، فحان فناؤها ، وانقطع بقاؤها ، ف (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) ، كما قال الله سبحانه : (أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) وتأويل أشتاتا ، هو يصدرون عن موردهم في حشرهم صدرا أشتاتا متفاوتا ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، خالدا كل فريق منهم فيما صار إليه من مصير ، فيرى كل من عمل مثقال ذرة من خير وشر ، ما قدم لنفسه من عمل في فجور أوبر ، كما قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) فتأويل يراه : فهو يجزاه.

٩٥

تفسير سورة البينة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن قول الله سبحانه : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)؟

فأ (أَهْلِ الْكِتابِ) : هم أهل التوراة ، والتوراة : فهي الكتاب الذي نزل على موسى عليه‌السلام ، وأهله وحملته اليهود والنصارى ، وهم أهل ملل كثيرة شتى ، فاليهود منهم فرق كثيرة مختلفة ، والنصارى أيضا فأصناف كثيرة متصنفة.

فمن اليهود : اليهودية ، ومنهم فرقة يقال لها : السامرية ، ومنهم فرق أخرى ، تعرف وتسمى.

ومن النصارى : الملكية ، ومنهم : اليعقوبية ، ومنهم : النسطورية ، في فرق أخرى ، تعرف أيضا وتسمى ، ولسنا نحتاج في هذا التفسير إلى ذكرها ، ولا تفصيل ما هي عليه من أمرها ، غير أنهم كلهم وإن افترقوا في مذاهبهم أهل الكتاب ، والمشركون فهم أهل الإثبات مع الله للآلهة والأرباب ، وهم مشركوا العرب ، ومن كان يقرّ برب ، ومن الناس من ينكر ويجحد ، أن يكون للأشياء رب يعبد ، ويزعم أن الأشياء لم تزل كما ترى ، ولا يثبت في الأشياء تدبيرا ولا أثرا ، فيكابر في ذلك عماية وجهلا ، ما يدركه بعينه عيانا وقبلا ، من الصنع النير والتأثير ، والبدع المتقن ومحكم التدبير ، الذي لا يخفى على عمي ولا بصير ، وإن لم يقر بمعاد ولا مصير.

وليس أولئك ، ولا من هو كذلك ، من أهل التوراة ، ولا من أهل الكتاب ولا ممن يقر بإله ، ولا برب كالعرب ، ومن كان مشبها للعرب ، ممن يقر بالله ، وإن أشرك مع الله ، فإنما أولئك عند من يعقل كالبهائم السائمة ، وإن لزمتهم الحجة بما جعل الله لهم من الجوارح السالمة ، التي قطع الله بها عذرهم ، وألزمهم بها كفرهم ، وأولئك فليسوا ممن ذكر في سورة لم يكن ، وإنما ذكر فيها من يقر برب وإن لم يؤمن ، من كفرة أهل الكتاب والمشركين ، فقال سبحانه : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) ، والانفكاك والفك ، هو المجانبة لما هم عليه والترك ، وتركهم فهو لإشراكهم ، وانفكاكهم من عقد شركهم ، وفريتهم فيه على الله وإفكهم.

٩٦

وتأويل (كَفَرُوا) ، فهو لم يشكروا ؛ لأن من لم يشكر الله تبارك اسمه بترك عصيانه ، فكافر وإن كان مقرا ومعتقدا لمعرفة الله وإيقانه ، كإبليس الذي ذكر الله سبحانه معرفته به ، وذكر كفره لما ارتكب من الكبائر بربه ، وكذلك كل من ارتكب كبائر تسخط من أحسن إليه فقد كفره ، ومن أتى ما يرضاه وتولى أولياءه وعادى أعداءه فقد شكره ، ولما جمع أهل الكتاب والمشركين من كبائر عصيان رب العالمين دعوا جميعا كفرة ، وإن كانت قلوبهم كلهم وألسنتهم بالله مقرة ، فقال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) ، تأويل ذلك : أنهم لم يكونوا مقصرين ، ولا تاركين لما هم عليه ، وعاصين لله فيه ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)) المنيرة الظاهرة ، فقال : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢)) ، ويتلو : يقرأ ويتبع بعد القراءة ما اقترأ ، والصحف : ما صحف ليقرأ ، والمطهرة : ما جعل منها بركة وتطهرة ، وبينات منيرة مسفرة ، وكل مطهر فمبارك وكل مبارك فمطهر له ، وفيه بالله البركة والتطهرة ، وكذلك يقال في الرسول عليه‌السلام إذا ذكر بما جعل الله من البركة فيه : رسول الله الطيب الطاهر ، وهو قول الكثير عند ذكره الطاهر ، عند ما يذكره بذلكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصادقين كل ذاكر ، وإنما يراد بذلك المبارك المزكّى ، وليس يراد بذلك طهارته بالماء إذا توضأ.

وكذلك يقال في ابنته فاطمة صلوات الله عليها إذا قيل : الطاهرة إنما يراد بذلك ما جعل من البركة فيها ، ومن ذلك ما وهب لها وجعل لبركتها من بقية رسول الله ونسله ، صلوات الله عليه وعلى آله.

فهذا ـ والله محمود ـ من تأويل الطهارة ومطهرة ، ومن وجوهه المعروفة غير المستنكرة ، لا يجهل ذلك ـ إن شاء الله ـ ولا ينكره ، من يعرف لسان العرب ويبصره.

وتأويل (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)) ، هو كتب منيرة بينة محكمة ، لها نور وبرهان واحتجاج ، ليس فيها اختلاف ولا اعوجاج ، ثم ذكر الله (١) سبحانه ما ذكرنا من

__________________

(١) سقط من (أ) : الله.

٩٧

افتراق أهل الكتاب واختلافهم ، وما هم عليه اليوم وقبل اليوم بتشتيت أصنافهم ، فقال تبارك وتعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)) ، والبينة : فهي الرسل والأمور التي جاءتهم النيرة المبينة ، وهي التي ليس فيها دلسة ، ولا عماية جليلة ولا لبسة ، ولكنها بينة نيّرة مضيّة ، ظاهرة لمن يعقلها جلية ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ، فأمروا ليعبدوه جل ثناؤه وحده ، فعبدت النصارى معه المسيح رسوله وعبده ، وأمروا ليخلصوا له الدين ولا يجعلوا له ولدا ، فجعلوا له ولدا وجعلوه كلهم ثالث ثلاثة عددا ، وفيهم ما يقول سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة : ٧٣] ، فهو الله الأحد الصمد الذي ليس له ولد ولا والد.

وقالت اليهود كما قال الله جلّ جلاله ، عن أن يساويه شيء أو يماثله : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٢٧] ، فلحقوا بالنصارى في الكفر بالله ، وشبهوا الله ببعض حالات خلقه في الهيئة والقوى ، وزعموا أنه جالس على عرش هو سرير وأنه لا يتوهم له قرار في جو ولا هواء ، وأن له مقعدا من العرش والكرسي ومستوى ، وتأوّل من شبّهه من هذه الأمة في ذلك ما يقول الله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] ، وأمروا أن يكونوا حنفاء ، فكانوا جورة حيفا.

والحنيف : هو الطائع ، المستقيم الخاشع ، وأمروا أن يصلوا له ، فصلوا لغيره معه ، فمنهم من صلى لأثرة صنم ، ومنهم من صلى لعيسى بن مريم ، صلى الله عليه [وسلم] ، ومنهم من صلى لمن شبهه بآدم ، صلى الله عليه في الصورة واللحم والدم ، ومنهم من صلى لمن هو عنده نور من الأنوار ، وجسم مسدس المقدار ، له ـ زعم ـ جهات ست ، خلف وأمام ويمين ويسار وفوق وتحت ، فتعالى الله عما قالوا كلهم علوا كبيرا ، وجل وتقدس عن أن يكون لنفسه من خلقه مثلا ونظيرا ، وكيف يكون عابد ذليل كعزيز معبود؟! ومن لم يزل دائما مشبها لما كان طوال (١) الدهر غير موجود.

__________________

(١) في (ب) : طول.

٩٨

ثم قال سبحانه في دينه وصفته : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) ، تأويل ذلك : أن كل ما أمر به فمن الأمور المرشدة الهادية المستقيمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)) ، فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالله ، مع إقرار الفريقين بالربوبية لله ، فهم كما قال الله : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) ، بما كان منهم على الله من الدعوى المبطلة المفترية ، والبرية : فما ذرأ الله وبرأ ، مما يرى من الخلق كله أو لا يرى. ونار جهنم : فهي النار التي لا يعرف في النيران مثلها ، ولا يعلم منها كلها مشبها لها ، فيما عظم الله من نارها ، وحر استعارها.

وتأويل (خالِدِينَ) ، فهو : غير فانين ولا بائدين ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)) [فاطر : ٣٦] ، فنار جهنم : هي النار المستعرة التي ليس لاستعارها أبدا من انكسار ولا فتور ، ولو فترت من استعارها والتهابها ، لكان في ذلك تخفيف عن أهلها من عذابها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)) فمن آمن : فهم المؤمنون من كبائر العصيان ، والذين لا يخافون على ارتكاب زور ولا بهتان ، ما ثبت لهم أبدا اسم الإيمان ، وحكم أهل الهدى والبر والإحسان.

والصالحات من الأعمال ، فهي كل صالح عند الله من قول أو أفعال ، وجزاؤهم ، هو ثوابهم من الله وعطاؤهم.

وتأويل (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، هو : جنات مستقر وأمن ، وتأويل (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ، هو : رضى الله سبحانه لهم ، (وَرَضُوا عَنْهُ) فتأويل رضاهم ، فهو بما أعطاهم وجزاهم ، بأنهم لم يزالوا راضين عنه ـ جلّ ثناؤه ـ في دنياهم ، قبل مصيرهم إلى ما صاروا.

ثم أخبر سبحانه لمن جعل جزاه ، فقال : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) يعني : لمن

٩٩

خافه واتقاه ، فأخبر جلّ جلاله أنه جعل لأهل التقوى الكرامة والرضى ، والارتضاء في المعاد والمثوى.

وتأويل (خالِدِينَ فِيها) ، فهو : بقاؤهم أبدا بعد المصير إليها (١).

تفسير سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ)؟

فقد يكون أنزلنا : جعلنا ، كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] ، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦].

وتأويل أنزل ، في ذلك جعل ، فيمكن أن يكون جعل القرآن كله ، وأحدثه وأتمه وأكمله ، فيما ذكر تبارك وتعالى من ليلة القدر المذكور ، والقدر : فهو وقت وقّته (٢) الله جلّ ثناؤه من أوقات الدهور ، وقد يكون القدر ، هو الجلالة والكبر ، كما يقال : إن لفلان أو لكذا وكذا قدرا ، يراد بذلك أن له لجلالة وكبرا ، فإن كان (٣) وقتا فهو وقت ذكره الله وكرّمه ، بما قدّر فيه من أموره المحكمة ، ومن الأدلة على أن الله جعل القرآن

__________________

(١) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) معناه : زائلون عما هم عليه منتهون عنه.

وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) معناه : دلالة ، وقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) معناه : مسلمون ، ويقال : متبعون ، ويقال : حجاج.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) معناه الخلق الذين برأهم الله تعالى ، معناه : خلقهم ، وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) معناه : خاف ربه. تفسير الغريب / ٣٩٩.

(٢) في (ب) : فهو وقت قدّره الله.

(٣) في (ب) : يكون.

١٠٠