مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

ومن ذلك ما ذكر أبو صالح عن الكلبي (١) عن عمر بن الخطاب ، أنه قال لابن عباس يوما من الأيام : (يا أبا العباس ضربتني البارحة أمواج القرآن في آيتين قرأتهما ، لم أعرف ما تأويلهما؟

فقال ابن عباس : ما هما يا أمير المؤمنين؟

قال : قوله (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٢]. فقلت : سبحان الله أيظن نبي من أنبياء الله أن الله (٢) لا يقدر عليه ، أو أنه يفوته إن أراده ، ما ظن هذا مؤمن؟!

وقوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١٠٤]. فقلت : سبحان الله كيف هذا أيس الرسل من نصر الله ، أو تظن أن قد كذب وعد الله؟!! إن لهاتين الآيتين خبرا من التأويل ما فهمته؟!!

فقال ابن عباس : أما ظن يونس فإنه ظن لن تبلغ به خطيئته أن يقدّر الله بها عليه العذاب ، ولم (٣) يشك أن الله إن أراده قدر عليه ، فهذا قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). وأما قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ). فهو استيئاسهم من إيمان قومهم ، وظنهم : فهو ظنهم لمن أعطاهم الرضى في العلانية ، أنه قد كذّبهم في السر ، وذلك لطول البلاء عليهم ، ولم تستيئس من نصر الله ، ولم يظنوا أن الله قد أخلفهم ما وعدهم.

فقال عمر فرجت عني فرّج الله عنك (٤).

__________________

(١) الكلبي هو : الراوي عن أبي صالح.

(٢) سقط من (أ) : أن الله.

(٣) في (ب) : ولن.

(٤) أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم ، أن معاوية قال له يوما : إني قد ضربتني أمواج القرآن البارحة في آيتين لم أعرف تأويلهما ففزعت إليك.

قال : وما هما؟

قال : قول الله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). وأنه يفوته إن أراده ، وقول الله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا). كيف هذا يظنون أنه قد كذبهم ما وعدهم؟

فقال ابن عباس : أما يونس ، فظن أن لن تبلع خطيئته أن يقدر الله عليه فيها العقاب ، ولم يشك أن الله ـ

٦١

قال ابن عباس : فإن رجلا لقيني آنفا فقرأ علي قول الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢]. هو يقول حتى يطهرن بالماء ، (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، قبلا ودبرا ، فقلت : كفى من ذهب إلى هذا التأويل كفرا!! إنما عنى الله تبارك وتعالى حتى يطهرن من الدم ، فإذا تطهّرن منه بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يعني طاهرات غير حيّض. فقال عمر : إن قريشا لتغبط بك يا بن عباس ، بل جميع العرب ، بل جميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال خريم بن فاتك الأسدي (١) :

ما كان يعلم هذا العلم من أحد

بعد النبي سوى الحبر ابن عباس

من ذا يفرج عنكم كل معظلة

إن صار رسما مقيما بين أرماس

مستنبط العلم غضا من معادنه

هذا اليقين وما بالحق من بأس

وصدق لعمري عمر بن الخطاب إن الأمة لتغبط بأن يكون فيها ومنها ، من يجادل أهل الإلحاد في تنزيل الله والكفر بآيات الله سبحانه عنها.

ولفي مجادلة من ألحد وأبطل ، أو جهل بيان الكتاب فعطّل ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

__________________

ـ إن أراده قدر عليه.

وأما الآية الأخرى ، فإن الرسل استيأسوا من إيمان قومهم ، وظنوا أن من عصاهم لرضى في العلانية قد كذبهم في السر ، وذلك لطول البلاء عليهم ، ولم تستيئس الرسل من نصر الله ، ولم يظنوا أنهم ـ لعلها أنه ـ ما وعدهم.

فقال معاوية : فرجت عني يا ابن عباس فرج الله عنك. الدر المنثور ٥ / ٦٦٦ ٦٦٧.

وأنا استبعد أن يكون السائل هنا معاوية ، وإنما أراد أشياعه أن يصوروه بأنه باحث متدبر في كتاب الله. ويشبعوه بما لم يأكل. وحري أن يكون السائل عمر بن الخطاب الذي كان يجالسه ابن عباس كثيرا فيسأله ويستفتيه.

(١) في المخطوطتين : خزيم بن قائد. مصحفة. وخريم هذا يقال : له صحبة ، ويقال أنه أدرك بدرا.

٦٢

الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل : ١٢٥]. وفي مثل ذلك ما يقول رب العالمين ، بعد رسوله عليه‌السلام للمؤمنين : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦] ، ذلك (١) لما جعل الله في المجادلة لمن ظلم بالحجة من الدفاع عنهم.

ولفي ذلك والحمد لله قديما ، وإذا كانت الحجة في الله صراطا مستقيما ، ما يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ـ ف ـ (قالَ) ـ الملك ـ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. يريد الملك بقوله : أميت وأحيي ، أني أقتل من أردت وأحيي (٢) وأخلي ، فلما ـ حاج إبراهيم الملك بحجته في ربه ، ودعاه بدليل الحياة والموت إلا ما دعاه الله إليه من المعرفة به ، فلم يقر الملك بما عرف ، وأنكر وكابر وعسف ـ احتج إبراهيم صلى الله عليه ، من الحجة بما لا دعوى له فيه ، من إتيان الله بالشمس من مشرقها ، فقطعه إبراهيم بحجة الله ووحيها (٣) ، ثم زاد الحجة عليه تأكيدا ، وقول إبراهيم بحجة الله تثبيتا وتسديدا ، قوله : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ). فلما حاجه من الحجة بما يغلب كل مغالب ، كما قال سبحانه : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). وقطعت عليه بحجة الله حجته فيما أنكر ، ولم يجد عندها مقالا ، وكذلك يفعل الله بمن كان عن الهدى ضالا ، كما قال في أمثاله رب العالمين : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨]. ولقد كان في قول إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). وتيقن الملك أنه سيموت ـ ما أغنى كثيرا وكفى ، لو كان الملك بما يعرف مقرا معترفا ، لأن الحياة والموت فعلان موجودان ، وصنعان لا شك في أنهما من الصانع معدودان ، لا ينكر ما قلنا به فيهما من ذلك سامع ، ولا يدعي صنعهما ـ إلا بمكابرة من مدعيهما ـ صانع ، وإذا صحّا وثبتا صنعا وفعلا ، وكان الملك وغيره

__________________

(١) سقط من (ب) : ذلك.

(٢) في (أ) : وأحسن.

(٣) في (أ) : الله وحيها.

٦٣

عليهما مجبورا محتبلا ، (١) ليس لأحد فيهما صنع ، ولا يمتنع منهما ممتنع ، فلا بد باضطرار من صانعهما وفاعلهما ، ومتولي صنعهما واحتبالهما ، إذا ثبتا صنعا وفعلا ، وكان كل واحد مهما بدعا محتبلا (٢). ولكفى بحجة ـ إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموت ، إذ لا يقدر أحد منه على فوت ـ حجة وبرهانا ودليلا ، وللمعرفة بالله منهجا وسبيلا ، فكيف بما مع ذلك من دلائل الله وشواهده؟! وبرهان معرفة الله الذي لا يقدر أحد على معدوده؟!!

وفي محاجة إبراهيم عليه‌السلام لقومه ، ما سمعتموه في كتاب الله عزوجل من قوله ، عند ما رآه من ملكوت السموات والأرض ، وما دلّه الله (٣) به من بعض ذلك على بعض ، إذ يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٥ ـ ٧٦]. فقال مقيما لقومه وموقفا ، ومحتجا عليهم من الله ومعرّفا ، لا معتقدا لآلهتهم ولا ممتريا ، ولا شاكا فيها ولا عميّا ، قال الله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) [الأنعام / ٧٦]. وكذلك قوله عليه‌السلام : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧) [الأنعام : ٧٧]. يقول صلى الله عليه لهم : لئن لم يهدني ربي ويرفعني عنكم ، لأكونن ضالا مثلكم ومنكم ، فلما وقّفهم على الحجة مفاوهة (٤) ، وأثبتها لهم فوقّفهم مواجهة : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) [الأنعام: ٧٨ ـ ٧٩].

وفيه وفيهم ما يقول الله سبحانه : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠]. يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقد أراني من آياته ، ودلائل

__________________

(١) المحتبل : الذي نصبت له الحبالة. أي : المصيدة فوقع فيها.

(٢) في (أ) : مجتبلا.

(٣) في (ب) : دله ربه به.

(٤) رجل مفوّه : قادر على المنطق والكلام. والمعنى هنا حاججهم مشافهة ومواجهة.

٦٤

معرفته ، ما أراني من أرضه وسمائه (١) ، وفطرته لهما وإنشائه ، فنجاني من هلكتكم بجهله (٢) والاشراك به ، وخصّني مع النجاة من هداه لي [باليقين] ، ولو لا هداه لي لعبدتّ كما عبدتم الآفلين ، وكيف يكون [إلها] من أفل ، وزال عن معهود حاله وتبدل (٣)؟!! وفي تبدل الذات والصفات والأحوال ، ما لا يدفع عن المتبدل من الافناء والابطال ، وما بطل وفني ، فخلاف ما دام وبقي ، وما اختلف وتفاوت من الأشياء ، فليس يحكم له ـ إلا من ظلم ـ بالاستواء! فكيف سويتم في معنى ، بين ما يدوم وبين ما يفنى؟! إلا أن تساووا في مقال واحد بين كاذب وصادق ، وكما سويتم فيما تحبون من العبادة وغيرها بين مخلوق وخالق.

وفي ذلك من جور الحكم في العقل والمقال ، ما لا يجهل جوره أجهل الجهال ، بل فيه عن الله أحوال المحال ، وما لا يمكن اجتماعه في حال ، فلما قطعهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجته في مقالته ، خسئوا صاغرين عن منازعته ومجادلته ، فلما صموا عن إجابته بعد الهدى ، هاجر إلى الله سبحانه عنهم مجاهدا ، وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ) (٤) إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) [الصافات : ٩٩]. يريد : سيهدين يزيدني بمهاجرتي إليه من هداه فيقويني ، فهداه في هجرته سبيله ، وجعله بهداه له خليله ، فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهتديا ، حتى قبضه الله على هداه ورشده رضيا ، فأجزل له في الهدى والهجرة الثواب والرحمة ، وجعل في ذريته من بعده النبوة والبيان والحكمة ، وأعطاه برحمته وفضله الله رب العالمين ، ما سأله أن يجعله له من لسان صدق في الآخرين ، فبقي في الغابرين بالصالحات ذكره ، وآتاه بذلك في الدنيا أجره ، كما قال أرحم الراحمين : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) [العنكبوت : ٢٧]. فنسأل الله الذي

__________________

(١) في (ب) : وسماواته.

(٢) أي : بجهلكم لله.

(٣) في المخطوطتين : وكيف يكون من أفل وزال وتبدل ، عن معهود حاله ولم يتبدل؟ ولعلها مصحفة ، فاجتهدت في إصلاح النص ، والله أعلم بالصواب.

(٤) في المخطوطتين (مُهاجِرٌ) وهي من آية أخرى (مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت / ٢٦].

٦٥

أجزل له في الدنيا والآخرة من الخير أن يجعلنا ، له برحمته من صالح الأبناء ، وأن يهبنا بطاعته له وعبادته ، شكر ما أنعم به علينا من ولادته.

تم الكتاب بحمد الله العزيز الوهاب فله الحمد كثيرا ، وله الشكر بكرة وأصيلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* * *

٦٦

تفسير القرآن

٦٧
٦٨

تفسير سورة الحمد

قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، تأويل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فهو الشكر لله (على نعمه وإحسانه ، والتحميد لله والثناء عليه) (١) ، ومن الحمد قيل : محمود وحميد (٢) ، كما يقال من الجود : جواد ومجيد.

والله لا شريك له ، فهو الذي تأله إليه القلوب ، ويستغيث به في كل كرباته المكروب ، وإليه يجأر الخلق كلهم جميعا ويألهون ، وإياه سبحانه يعبد البررة الأزكياء ويتألهون ، دون كل إله ورب ومعبود ، وإياه يحمدون في كل نعمة قبل كل محمود.

وتأويل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) فهو : السيد المليك ، الذي ليس معه فيما ملك مالك ولا شريك.

وتأويل قوله سبحانه : (الْعالَمِينَ) فيراد به (٣) الخلق أجمعون ، الباقون منهم والفانون ، والأولون منهم والآخرون.

وتأويل : (الرَّحْمنِ) ، فهو : ذو الغفران والمن والإحسان.

وتأويل : (الرَّحِيمِ) (٣) ، فهو : العفوّ عن الذنب العظيم ، والناهي عن الظلم والفساد ، لما في ذلك من رحمته للعباد ، ضعيفهم وقويهم ، وفاجرهم وبرّهم.

وتأويل (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) فهو : مالك أمر يوم الدين ، الذي لا ينفذ أمر في ذلك اليوم غير أمره ، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه ، والملك (٤) : من الملك ، والمالك: من الملك ، وهما يقرءان جميعا ، وكلاهما معا (فلله ، فهو يوم الجزاء والثواب

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : محمود وموجود ، كما يقال من الجود : جواد جيد.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) في (أ) : فالملك.

٦٩

والعقاب ، وإنما سمي الدين لما يدان أي يجازى) (١) قال : معنى يوم الدين فهو يوم يدان العاملون أعمالهم ، ويجزون يومئذ (٢) بهداهم وضلالهم.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فهو : نوحد ونفرد.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) نسأل العون على أمرنا ، وتوفيقنا لما يرضيك عنا.

(اهْدِنَا) وفقنا وأرشدنا.

(الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) والصراط : هو السبيل ، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل ، قال جرير :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم

و (الْمُسْتَقِيمَ) فهو الطريق الواضح الذي افترضه الله إلى الطاعة ، المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل ، فهو لا يجور بأهله عن قصده ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) [الأعراف : ٨٢].

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يقول : طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين ، الذين وفقتهم وهديتهم لرشدهم.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) تأويل ذلك غير المغضوب عليهم منك.

(وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) يقول : ولا صراط الضالين بالهوى والعمى عنك ، لأنه قد ينعم جل ثناؤه في هذه الدنيا على من يضل عنه ومن لا يقبل ما جاء من الهدى والأمر والنهي ، ولمن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين ، يقول : اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم ، والمغضوب عليهم في هذا الموضع : فهم اليهود (وَلَا الضَّالِّينَ) يقول : ولا صراط الضالين ، والضالون : فهم في هذا الموضع النصارى (٣).

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) سقط من (أ) : يومئذ.

(٣) في (أ) : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فهو : نوحد ونفرد ، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) تأويل ذلك : المغضوب عليهم ولا الضالين بالهوى والعمى عنك ، لأنه قد ينعم جل ثناؤه على من يضل عنه ، ومن لا يقبل ما جاءه من الهدى في الأمر والنهي ، ـ

٧٠

تفسير سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عزوجل : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) (هذا أمر من الله لنبيه أن يتعوذ ، وأن يقول هذا القول ، ومعناه : أستجير وألوذ برب الناس) (١) ، فالرب : هو السيد المليك (مالكهم وفاطرهم ، والقادر عليهم والرازق لهم) (٢).

(مَلِكِ النَّاسِ) (٢) والملك : فهو الذي ليس له في ملكه شريك (٣) معارض.

(إِلهِ النَّاسِ) (٣) والإله : فهو الذي تأله إليه ضمائر القلوب ، وهو الرب الذي ليس بصنع ولا مربوب.

وتأويل (مِنْ شَرِّ) ، فهو : من كل مفسد مضر. وتأويل (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٥) فهو : ما وسوس في الصدور (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) ، والموسوس فقد يوسوس ، بحضوره في الصدور ويخنس ، وقد تكون الوسوسة من الموسوس في الصدر (٤) ، ما يكون فيه من الذكر والخطر. وخنوس الوسواس مفارقته وغيبته عن الصدور ، ووسوسته فما ذكرنا من الخطر والحضور ، وما ذكر الله عزوجل في ذلك من الوسواس ، فقد يكون كما قال الله سبحانه : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) ، والناس (فهم الآدميون فأمر الله نبيه أن يتعوذ من شر شياطين الجن والأنس ، وشر شياطين الجن والإنس فهم المغوون المردة الملاعين من جني أو إنسي.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى

__________________

ـ ممن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين ، ما قالوا غير المغضوب عليهم. والصراط : هو السبيل ، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل. والمستقيم : فهو المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل ، فهو لا يجور بأهله عن قصد سبيله.

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) سقط من (ب) : له. وسقط من (أ) : شريك.

(٤) في المخطوطتين : الصدور. ولعل الصواب ما أثبت.

٧١

بَعْضٍ) [الأنعام : ١١٢] ، وشياطين الإنس أقوى على الإنسان وأشد عليه من شياطين الجن.

وتأويل (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) فهو : الشيطان الخانس ، فهو يخنس عن أعين الناس فلا يرونه ، ومعنى يخنس : فهو يغبى فلا يرى ، فهو الشيطان ـ عليه لعنة الله ـ يوسوس بحضوره في الصدور من الذكر والخطرة ، بالوسوسة والإغواء والفسق والردى ، حتى يدخل بحب (١) المعاصي في الصدور) (٢) ، وقد تكون الوسوسة من الفريقين بالمشاهدة والمحاضرة ، وقد تكون منهما الوسوسة بالذكر والخطرات الخاطرة ، وأي ذلك كان في الصدور بخاطرة تخطر ، أو حضور ـ فهي وسوسة (٣) ، من شيطان أو إنسان ، بما يجول منهما في الصدور والجنان (٤).

تفسير سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١)؟

تأويل (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) (٥) أعوذ : هو أستجير ، وتأويل الرب : فهو

__________________

(١) أي : بسبب حب المعاصي يدخل الشيطان في الصدور بالتزيين ونحوه.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (ب) : وسوسة كما قال سبحانه من ....

(٤) في (ب) : قال الشاعر :

وكم أخطر في بال

ولا أخطر في بالى

قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : ما من مولود إلا وعلى قلبه الوسواس الخناس ، فإذا عقل فذكر الله تعالى خرج ذلك من قلبه. تفسير الغريب / ٤١٥.

(٥) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) معناه رب الصبح ، ويقال : الفلق وادي جهنم ، والفلق : الطريق بين الضدين ، ويقال : الفلق الخلق ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتعوذ من شر ذلك.

وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) فالغاسق الليل ، وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي ـ

٧٢

السيد المليك الكبير ، وتأويل الفلق : فهو الفجر إذا انفلق ، وكذلك يقول الناس : انفلق الفجر وبدا ، إذا تبين وظهر وأضاء ، وفي ذلك وبيانه أشعار كثيرة لا تحصى ، لشعراء الجاهلية الأولى.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥) ، فأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ به من شر خلقه في النهار كله ، وأن يستعيذ به من شر جميع خلقه في ليله ، ولا يكون شر إلا في ليل أو نهار ، وإلا بعد غسق أو انفجار.

والفلق : فأول الفجر وفلوقه ، قال لبيد :

الفارج الهم مسودا عساكره

كما يفرج جنح الظلمة الفلق(١)

والغسق : فأول الليل. وغسوقه : ظلمته ، كما قال ابن عباس : غسق الليل أول الليل

__________________

ـ الْعُقَدِ) معناه السواحر ينفثن في الظلم ، وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) معناه من نفس الحاسد وعينه. تفسير الغريب / ٤١٥.

عن أبي حاتم عن زيد بن علي عن آبائه قال : الفلق جب في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح منه جهنم من شدة حر ما يخرج منه) الدر المنثور ٦ / ٤١٨.

روى أبو عبد الله العلوي مؤلف الجامع الكافي رحمه‌الله في كتابه أسماء الرواة التابعين عن الإمام زيد بن عليعليهما‌السلام فقال : حدثنا محمد بن الحسين بن غزال الحارثي الخزاز ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو الجهني قال : حدثنا محمد بن منصور المقري ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن مروان ، قال : حدثنا الحسن بن فرقد ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أمير المؤمنين أبي الحسين زيد بن علي عليهما‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين الوصي علي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تبارك اسمه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال عليه‌السلام : الفلق : جب في قعر جهنم عليه غطاء إذا كشف ذلك الغطاء خرجت منه نار تصيح جهنم من شدة حر ما يخرج منه).

أخبرنا أبو جعفر بن محمد الجعفري قراءة ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة ، قال : حدثنا الحسن بن العباس بن أبي مهران الرازي ، قال : حدثنا سهل بن عثمان الرازي ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي عن الإمام الأعظم أبي الحسين زيد بن علي عليهما‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، أنهم قالوا : الفلق : جب في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح جهنم من شدة حر ما يخرج منه). (مخطوط).

(١) سقط البيت من (أ). ولم أقف عليه.

٧٣

وظهوره وظلمته ، فقد أتى على ذلك كله استجارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعاذته ، وغسق الليل ووقوبه : فهو وجوبه.

وأمر الله سبحانه رسوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع استعاذته به من شر الليل والنهار ، أن يستعيذ به ـ لا شريك له ـ من شر السواحر والسحار ، والسواحر : هن النفاثات في العقد (وأمره أن يستعيذ به من شر الحاسد عن الحسد إذا حسد) (٢) ، والنفث : فهو التفل على العقدة إذا عقدت ، والعقد : فهي عقد (٣) يعقدها السواحر في خيط أو سير ، وسواء كان العقد كبيرا أو غير كبير ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستعاذة من شر الحاسد عند حسده ، من مباينته بجسده (٤).

تأويل (إِذا) ـ هاهنا ـ عند ، وسواء قيل : عند ، أو إذا ، معنى هذا هو معناه ، (وشر الحاسد ما يكون من ضره ومكره وعداوته وكيده وغير ذلك) (٥) ، وليعلم ـ إن شاء الله ـ من قرأ تفسير هذه السور الثلاث وما بعدها من التفسير ، أن كل ما فسرنا من ذلك كله فقليل من كثير ، وأن كل سبب من كلمات الله فيه فموصول بأسباب ، عند من خصه الله بعلمها من أولي النهى والألباب ، لا ينتهى فيه إلى استقصائه ، ولا يوقف منه على إحصائه ، كما قال سبحانه : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (٤٩) [الكهف : ١٠٩] ، فكلام الله جل ثناؤه في الحكمة والتبيين والهدى ، فما لا يدرك له أحد غير الله منتهى ولا مدى ، وكلام غير الله في الحكمة وإن كثر وطال ، وتكلم منه (٦) قائله بما شاء من الحكمة فأقصر أو أطال ، فقد يدرك غيره من الخلق غايته ومنتهاه ، وكل وجه من وجوه كلامه فلا يفتح وجها سواه ؛ لأن علمه ينفد ، وكله فيحصى

__________________

(١) في (أ) : رسول الله.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (ب) : فهي جمع عقدة.

(٤) سقط من (ب) : مباينته بجسده.

(٥) سقط من (ب) : ما بين القوسين.

(٦) في (ب) : فيه.

٧٤

يعد ، وكلمات الله سبحانه كما قال لا تنفد بإحصاء ، ولا يؤتى على ما فيها من خفايا العلم باستقصاء ، وقليل علمها فكاف ـ بمنّ الله ـ كثير ، وكلها فضياء ونور وهدى وتبصير (وبعد : فإنا بالله نستعين نعلم بأن غيرنا ممن لعله سيقرأ كتابنا هذا وتفسيرنا ، أن لو لا ما رأينا في الناس ، من الغفلة والحيرة والالتباس ، في معرفة ما جعل الله عزوجل لكتابه من سعة من المخارج ، وأبان به وفيه من جوادّ المناهج ، التي قرب لرحمته سبلها ، وخص بعلم قصدها أهلها ، لما تكلفنا إن شاء الله من ذلك ما تكلفنا ، ولا عنينا فيه بوصف ما وصفنا ، لما ينبغي أن يكون عليه اليوم من اهتدى ، فوهبه الله عصمة ورشدا ، من الشغل بخاصة نفسه ، والوحشة من ثقته وأنسه ، ولكنا أحببنا أن يعلم من جهل ما قلنا من سعة فنون الكتاب المكنون ، لما جعل فيه من العلم لأولي الألباب ، سيوقن أن للكتاب ظهورا وبطونا ، وأن فيه بإذن الله لأولي الألباب علما مكنونا ، لا يظفر أبدا به ، إلا من كان مريدا فيه لربه ، والحمد لله رب العالمين لا شريك له) (١).

تفسير سورة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت أبي رحمه‌الله عن قول الله سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١)؟

فقال : الأحد : هو الواحد.

وعن قوله سبحانه : (الصَّمَدُ) (٢)؟

فقال : الصمد : هو النهاية والمعتمد ، الذي ليس وراءه مصمود ، ولا سواه إله معبود، (لَمْ يَلِدْ) تبارك وتعالى ولدا ؛ فيكون لولده أصلا ومحتدا ، (وَلَمْ يُولَدْ) (٣) فيكون حدثا مولودا ، ويكون والده قبله شيئا موجودا ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) ، والكفؤ : فهو المثل والنظير ، والأحد : فهو ما قد تقدم فيه (٢) منّا

__________________

(١) سقط من (ب) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : به.

٧٥

البيان والتفسير ، فهو الله الأحد الواحد الذي ليس كالآحاد ؛ فيكون له ند في وحدانيته من الأنداد ، وأنه هو الأحد الصمد ، والنهاية في الخيرات والمعتمد ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] (١).

تفسير سورة المسد

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١)؟

__________________

(١) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) معناه : واحد. (اللهُ الصَّمَدُ) فالصمد ، هو : السيد الذي ليس فوقه أحد ، ولا يدانيه أحد ، المرغوب إليه عند الرغائب ، المفزوع إليه في النوائب. والصمد : الباقي الدائم ، ويقال : هو الله أحد ليس معه شريك. الصمد : يقال : هو المصمود إليه بالحوائج. تفسير الغريب / ٤٢٣.

وقال زيد بن علي : الصمد الذي إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ، والصمد : الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأصنافا وأشكالا وأزواجا ، وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند). مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٥٦٦.

وقال أيضا (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) معناه ليس بوالد ولا مولود (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) معناه : شبه ، ويقال : لم يلد ولم يتولد منه شيء ، ولم يتولد هو من شيء (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ليس له شبه ولا نظير ، وليس كمثله شيء. تفسير الغريب / ٤٢٣.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الله : معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ، ويؤله إليه ، الله المستور عن إدراك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات ، ومثله عن الباقر أيضا : الأحد : الفرد المتفرد ، والأحد : الواحد بمعنى واحد ، وهو المتفرد الذي لا نظير له ، وفيه أيضا عن الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام أنه قال : الصمد : الذي قد انتهى لسؤدده. والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال ، والصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام. وفيه عن الباقر عليه‌السلام : والصمد : السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه. وعن محمد بن الحنفية : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره. وعن زين العابدين عليه‌السلام : الصمد: الذي لا شريك له ، ولا يؤده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء. وفيه عن عبد خير قال : سأل رجل علياعليه‌السلام عن تفسير هذه السورة؟ فقال : قل هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون إلها مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفؤا أحد. مجمع البيان ٦ / ٢٨٠.

٧٦

فقال : أبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب ، وتأويل (تَبَّتْ) فهو : خابت وخسرت ، فيما رجت وقدّرت. واليدان : فهما اليدان المعروفتان ، وهما مثل قد كان يضرب به لمن خاب وخسر فيما يطلب ، (وَتَبَ) يعني : أبا لهب كله ، فيما عليه من أمره وماله.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢) تأويله : ما أجزأ عنه ماله وكسبه إذ هلك عند الله سبحانه وعطب بضلاله ، وسيئ أعماله.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٣) وذات اللهب من النيران : فهي ذات التوقد الشديد والاستعار ، (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤) ، تأويله : فقد تبت امرأته معه تبابه في الهلكة والعطب ، وتأويل (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (١) ، فقد يكون : حملها للنائم والكذب ، الذي كانت تكذبه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأتي به زوجها وتنقله إليه ، وتنقله إلى غيره ممن كان من الكفر في مثل ما هي وما هو فيه ، لتفسد بكذبها وتغري ، وتكثر نمائمها وتسري ، على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، كما يكثر ويسري الكذوب النمام (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥) وجيدها : فهو عنقها ، والجيداء من النساء : فهي التي قد تم في طول العنق خلقها.

وتأويل (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) ، فهو : الحبل الوثيق المحصد ، وقد يكون حبل من قدّ ، والقدّ : فقد يكون من جلود الإبل ، وهو أوثق ما يكون من الأحبال ، وهو مثل يضرب لمن يحمل كذبا أو زورا ، ليلقي به بين] الناس عداوة وشرورا.

وقد قال بعض من فسر فيما ذكرنا من امرأة أبي لهب وأمرها : إن تفسير حملها للحطب إنما كانت تحمل الشوك فتطرحه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ممره ومسلكه ، وقالوا : إن (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) هو حبل من ليف.

__________________

(١) في (أ) : حملها الحطب.

٧٧

تفسير سورة النصر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته أيضا رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢)؟

فقال : تأويل جاء : هو (١) أتى ، وتأويل النصر : هو ما يفعل من الظهور والقهر ، والفتح من الله فهو : حكم الله بالإمضاء ، فيما حكم به وأوجبه من الجزاء ، لمن أحسن بإحسانه ، ومن عصى بعصيانه ، وهو الذي طلب شعيب عليه‌السلام ومن آمن معه من الله فقالوا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] ، يريدون احكم بيننا وبينهم بالحق يا خير الحاكمين ، فاجزهم جزاءهم ، وعجل إخزاءهم.

وتأويل (وَرَأَيْتَ النَّاسَ) فهو : رؤيتهم يدخلون ، فيما جئت به من الملة والدين. والأفواج من الناس : فهو ما يرى من الجماعات ، التي تأتي من القبائل والنواحي المختلفات ، شبيه بما كان يفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وفود القبائل والبلدان ، من عقيل وتميم وأهل البحرين وعمان ، ومن كل الأمم فقد كان وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدم ، فآمن بالله جل ثناؤه وبرسوله وأسلم.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، تأويل فسبح : فاخشع واشكر لله حامدا له فيما يرى بعينه ، من إظهار الله له ولدينه ، وصدق وعده في إظهاره على من ناواه ، وما أراه من ذلك بنصره له بكل (٢) من والاه ، في أيام حياته ، وقبل حمام وفاته.

وتأويل (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣) فأمره بالاستغفار ، إذ تم ما وعده الله من الإظهار ، وتأويل التواب : فهو العوّاد بالرحمة ، وبالنعمة منه بعد النعمة ، وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أنزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ

__________________

(١) في (أ) : هي.

(٢) في (أ) : كل.

٧٨

وَالْفَتْحُ) إليه وأمر فيها بالاستغفار ، ورأى ما رأى من الإظهار ، قال عليه‌السلام : (نعيت إليّ نفسي وأخبرت (١) بعلامات موتي) (٢) ، فصدق في ذلك كله نصر الله من الله الخبر ، حين أتاه من الله الفتح والنصر ، فتوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرا منصورا ، وقبضه إليه بعد أن جعل ذنبه كله له عنده مغفورا ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه فيه ، صلوات الله عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) [الفتح : ١ ـ ٣] ، فنحمد الله على ما خصه في ذلك من نعمائه ، ونسأل الله أن يزيده في الدنيا والآخرة من كراماته (٣).

تفسير سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته أيضا رحمة الله عليه عن تفسير : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)؟

فقال : أمر من الله جلّ ثناؤه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لمن كفر بربه (٤) ، ولم يوقن بما أيقن من توحيد الله به : لست أيها الكافرون بعابد ما تعبدون مع

__________________

(١) في (أ) : وأخبرني.

(٢) أخرجه البخاري ٤ / ١٩٠١ (٤٦٨٥) ، والدارمي ١ / ٥١ (٧٩) ، وأحمد ١ / ٣٤٤ (٣٢٠١) ، وابن حبان ١٤ / ٣٢٤ (٦٤١٢) ، وابن خزيمة ٢ / ٣٠ (٨٤٧) ، والنسائي في الكبرى ٦ / ٥٢٥ (١١٧١٢) ، والبيهقي ٥ / ١٥٢ (٩٤٦٤) ، والطبراني في الأوسط ١ / ٤٨٦ (٨٨٧) ، والكبير ١١ / ٣٢٨ (١١٩٠٣) ، وقال السيوطي في الدر المنثور ٨ / ٦٦٠ ، أخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نعيت إلي نفسي إني مقبوض في تلك السنة).

(٣) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : قوله تعالى : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) يعني جماعات في تفرقة. تفسير الغريب / ٤١١.

(٤) في (أ) : به.

٧٩

الله ، ولستم عابدين من التوحيد بما أنا به عابد الله ، وما أنا على حال بعابد لما تعبدون من الأصنام ، ولا أنتم بعابدين لله بالتوحيد والإسلام ، وكذلك من الله ، الأمر فيمن أشرك بالله ، ما كانت الدنيا والى يوم التناد ، فليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعابد لغير الله ، ولا هم بالتوحيد لله بعابدين ، والصدق بحمد الله ذي المن والطول ، في ما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول به من القول ، لا مرية في ذلك ولا شبهة ، ولا يختلف فيه بمنّ الله وجهة ، ولذلك وكّد فيه من القول ما أكد ، وردد فيه من التنزيل ما ردد (١).

تفسير سورة الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن تأويل : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١)؟

فقال : تأويله : آتيناك ، وآتيناك : هي وهبناك الكوثر ، والكوثر : فهو العطاء الأكبر ، وإنما قيل : كوثر من الكثرة ، كما يقال : غفران من المغفرة ، فعرّف الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من عباده ، بما منّ الله عليه من نعمته ومنّه وإرشاده ، التي أقلّها برحمة

__________________

(١) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) من أصنامكم (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) معناه : إلى دين الإسلام ، وقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : وذلك أن قريشا قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن سرك أن نتبعك فارجع إلى ديننا عاما ، ونرجع إلى دينك عاما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. غريب القرآن / ٤١١.

وفي تفسير فرات الكوفي بسنده إلى جعفر بن محمد عليهما‌السلام قال : لما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٤] قال : تفسيرها قال قومه : تعالى حتى نعبد إلهك سنة ، وتعبد إلهنا سنة ، قال : فأنزل الله عليه (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...) إلى آخر السورة.

وفي المسائل المفردة (مخطوط) للإمام الهادي عليه‌السلام قوله عزوجل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) نزلت في الأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وابن العاص عرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعبدوا ما يعبد ، ويعبد ما يعبدون.

٨٠