مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

٩٣ ـ وسألت : عن قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: ٢٨٢] ، هل ذلك فرض عليهم لا يسعهم أن يتركوه؟

فنعم هو فرض عليهم فيمن لم يأمنوا ، وليس بفرض عليهم فيمن أمنوا ، فاجرا كان المؤتمن أو برا ، أو موسرا كان الغريم أو معسرا.

٩٤ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) [آل عمران : ١٧٨]؟

وقد نهاهم جل جلاله عنه ، فالإملاء منه الإبقاء منه ، وتأخير العذاب والنقم ، فيما ارتكبوا من الجرم ، .... (١) كله وعنه وبما تولى الله منه (٢) ، أتوا من الإثم والإساءة ما أتوا ، وعصوا الله بما عصوا ، فاعلم أن الإملاء نعمة من الله وإحسان ، وازدياد الإثم منهم فإساءة وعصيان ، فمن الله سبحانه الإملاء ، ومنهم الاعتداء ، وتأخيره سبحانه لإنزال العذاب بهم ، إنما هو ليزدادوا إثما بكسبهم ، ليس لما يحبون من سرورهم ، ولا لما يريدون من أمورهم ، ولكن ليزدادوا بالبقاء والإملاء إثما ، ولأنفسهم بما تركوا من البر ظلما ، وإن كان ما تركوا من الهدى ـ وإن لم يفعلوه ـ ممكنا ، كان ما تركوا من الهدى في نفسه حسنا ، ولهم لو صاروا إليه ـ ولن يصيروا ـ منجيا ، وكان كلهم لو أتاه بإتيانه له مهتديا ، فالإملاء والإبقاء هو من فعل الله بهم ، وازدياد الإثم فهو من كسبهم هم وفعلهم ، وما يمكن من الإملاء من الأمور ، فسواء في المكنة من البر والفجور ، فلما آثروا هواهم ، على ما يمكنهم من هداهم ، جاز أن يقال : أملوا ليزدادوا برا وهدى.

ومثل : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ، هو قول الله تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات : ٥٦] ، وهم وإن خلقهم الله ليعبدوه ، فيحملون (٣) لغير العبادة إن أرادوه ، والعبادة لله وخلافها إنما هو فعل منهم ،

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) في المخطوط : عنه. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) كذا في المخطوط.

٥٨١

إذا فعلوه [نسب] (١) إليهم ولم يزل عنهم ، وكل ذلك ففعل لهم وصنع ، والله هو الصانع لهم المبتدع ، ففعل الله بريء من فعلهم ، فيما كان من الإملاء لهم ، فعل الله تأخير وإملاء ، وفعلهم ازدياد واعتداء ، وبين ذلك فرق ، لا يجهله إلا أحمق.

٩٥ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥) [النساء : ٥]؟

فمعنى تؤتوا : هو أن تعطوا السفهاء ، وإن كانوا لكم أبناء وآباء ، يجب عليكم رزقهم وكسوتهم فيها (٢) ، وأمرهم أن ينفقوا عليهم ويكسوهم منها ، ويقولوا لهم من القول معروفه وحسنه ، وهو السهل من القول وليّنه ، ونهاهم أن يعطوا سفهاءهم أموالهم ، التي جعلها الله قياما لهم (٣) ، والقيم هو المعاش واللباس ، الذي به يبقى ويقوم الناس ، فتهبوها لهم أو تأمنوهم فيها ، وتجعلوا لهم سبيلا إليها ، فيفسدوا معاشهم منها عليهم ، إن أعطوهم إياها وسلموها إليهم ، وأمرهم ألا يؤتوا أموالهم التي جعلها الله لهم إلا أن يأنسوا [منهم رشدا] ، ومعنى يأنسوا (٤) : فهو أن يروا منهم رشدا ، فيدفعوها (٥) إليهم ، ويشهدوا بدفعها عليهم ، فكيف يجوز أن يؤتي أحد ماله أحدا ، إذا كان في أرض الله أو لنفسه مفسدا ، وقد نهى الله عن ذلك نظرا من الله للعباد ، وحياطة منه برحمته لأرضه وخلقه من الفساد.

٩٦ ـ وسألت : عن : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦]؟

فهو : ومن كان لليتيم وليا فليستعفف ، معناها : فليعف عن أن يأكل من مال اليتيم شيا ، ومن كان فقيرا يعني معسرا فليأكل من مال اليتيم بالمعروف ، يقول بأمر مقدر

__________________

(١) في المخطوط بياض ، ولعل السقط ما أثبت [نسب].

(٢) في المخطوط : فيهم. ولعلها مصحفة ، وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المخطوط : جعلها الله لهم قياما. ولعل الترتيب الذي فعلت أليق بأسلوب الإمام.

(٤) في المخطوط : يؤنسوا. وما أثبت اجتهاد.

(٥) في المخطوط : فيدفعوه. وما أثبت اجتهاد.

٥٨٢

موظوف (١) ، ليس منه فيه إسراف ، ولا بمال يتيمه إجحاف.

٩٧ ـ وسألت عن : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩]؟

ووراثتهم كرها ، هو : أن يمسكهن الأزواج رغبة في الميراث وشرها ، لا رغبة فيهن ، ولا محافظة عليهن ، وجعل الله ذلك عليهن اعتداء ، وبهن إضرارا. وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة : ٢٣١].

٩٨ ـ وسألته : عن : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢]؟

يقول سبحانه : أن يقتله إلا زلة وغلطا ، فإما وهو يثبته مؤمنا ، ويعرفه بالله موقنا ، فليس له أن يقتله وإن قتله أيضا مخطيا ، وكان في إيمانه بالله ممتريا ، إذ كان من قوم عدو للمؤمنين ، ولم يكن عند من قتله من المعاهدين ، كان عليه فيه تحرير رقبة مؤمنة ، ولم يكن عليه ما كان عليه في الأول من الدية ، وإن كان من قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق والميثاق هو الذمة والموادعة (٢) والهدنة ، كان على قاتله فيه تحرير رقبة مؤمنة ، وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فأي ذلك فعل فهو من الله عليه توبة ، ومعنى توبة الله عليه من الله عائدة ورحمة ، ولا يقتل ـ رحمك الله ـ ملّي ، بمعاهد ولا ذمي ، وإن كان الملي قتله عمدا ، إلا أن يكون بقتله في أرضه مفسدا (٣) ، فيقتل إن رأى ذلك الإمام بفساده ، وتمرده في أرض الله وعناده ، لقول الله سبحانه : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) [المائدة : ٣٢] ، فأحل الله سبحانه من قتل الأنفس بالفساد، ما أحل من قتلها بالقصاص بين العباد.

__________________

(١) قال في مختار الصحاح : الوظيفة : ما يقدر للإنسان في كل يوم من طعام أو رزق.

(٢) في المخطوط : الذمة والهدنة والموادعة. ولعل ما أثبت أوفق لأسلوب الإمام لموافقة الهدنة ل (مؤمنة) في السجع ، والله أعلم.

(٣) أخرجه النسائي في المجتبى ٨ / ٢٠ (٤٧٣٥) بلفظ : (لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده). وأحمد ١ / ١٢٢ (٩٩١) ، والنسائي في الكبرى ٤ / ٢١٨ (٦٩٣٧) ، وأبو يعلى ١ / ٤٢٤ (٥٦٢) ، والطبراني في الكبير ٢٠ / ٢٠٦ (٤٧١).

٥٨٣

٩٩ ـ وسألته : عن المحاربة لله ولرسوله والسعي بالفساد في الأرض؟

ومعنى ما ذكر الله في الآية (١) من المحاربة والفساد ، وما أمر به فيه من التقتيل والصلب والقطع أو النفي من البلاد ، فهو الإجلاب والجيئة (٢) والذهاب ، والاستدعاء على الحق والمحقين ، والمخالفة على الارباب (٣) المتقين ، والتحيل والحشد (٤) للمبطلين إليهم ، والقول بالزور والبهتان عليهم ، في سفك دمائهم ، والتماس ضرائهم ، ومجاهدة أولياء الله فيهم بالمحاربة ، وإجماعهم عليهم بالأذى والمناصبة ، فمن بلغ هذا من المبطلين وصار إليه ، كان حكم الله جل ثناؤه عليه ، وجزاؤه على ما هو من ذلك فيه ، أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى من الأرض والبلاد ، التي سعى فيها على الله ورسوله والمحقين بما ذكره الله من الفساد.

وليس ما في أيدي هذه العامة من تفسير هذه الآية المحكمة عن ابن شهاب الزهري(٥) وأضرابه ، ولا من كان من لفيفه وأصحابه ، الذين كانوا لا يعدلون بطاعة بني أمية ، وما أشركوهم فيه من دنياهم الدنية ، فلم ينالوا مع ما سلم لهم منها ، ما حاطوا به ودفعوا به عنها ، من تلبيس لتنزيل ، أو تحريف لتأويل ، وابن شهاب لما كان كثرة وفادته إليهم معروف (٦) ، وبما كان له من كثرة الضياع وكثرة الغلة بهم

__________________

(١) الآية التي أشار إليها الإمام هي قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة / ٣٣].

(٢) في المخطوط : والجثة. مصحفة ، والصواب ما أثبت.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) في المخطوط : الكلمتان التنحيل والحشد مهملتان ، ولعلهما كما أثبت ، والله أعلم.

(٥) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري ، ولد سنة (٨٥ ه‍) نزل الشام واستقر بها ، كان من خدم وشرطة الدولة الأموية رغم علمه ومعرفته ، وكان من النواصب نصر الأمويين بالأحاديث الموضوعة ضد علي عليه‌السلام وأهل بيته ، للسيد العلامة بدر الدين الحوثي كتاب (اتهام الزهري) جمع فيه الروايات المتهم فيها الزهري ضد آل أبي طالب ، أعمل في تحقيقه. توفي سنة (١٢٤ ه‍).

(٦) خبر المبتدأ (وابن شهاب) لا خبر كان ، وكذلك (موصوف) بعدها.

٥٨٤

موصوف (١).

وقلت : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) [المائدة : ٤٤] ما تأويلها؟

وتأويلها ـ استمتع الله بك وبنعمته عندك ـ هو تنزيلها (٢) ، وذلك أن من حكم بأحكام التنزيل بخلاف حكمه ، فهو غير شك من الكافرين به ، لأن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله بعد الإحاطة بعلمه ، فهو من الكافرين بالله في حكمه ، لأنه منكر من حكم الله فيه لما أنكر ، ومن أنكر من أحكام الله [و] تنزيله حكما فقد كفر ، ولله أحكام هي ليس في تنزيل ، في تحريم من الله وتحليل ، ولكنها من أحكام التأويل ، حكم بتنفيذها والحكم بها ، فمن لم ينفذها ويقم إذا أمكنه تنفيذها ، فهو من الظالمين ، وفي تعطيلها من الفاسقين.

١٠٠ ـ وسألته عن : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨]؟

وكانوا يقولون لو لا أنزل عليه فيكون معه (٣) فيشهد له من رسالته بما ينكرون ، فقال الله سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ـ فيهم بأخذهم ـ (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) (٤) [الأنعام : ٨] ، يقول تبارك وتعالى : ثم لا يتركون ساعة ولا يؤخرون ، فما ينفعهم إذا أخذوا إيمانهم ، بعد رؤيتهم للعذاب وعيانهم.

ثم قال سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ما أيقنوه ، إلا أن يروه رؤية ويعاينوه ، وما كانوا ليروه عيانا ، إلا أن يجعله الله مثلهم إنسانا ، في الصورة والحلية ، وما للرجال

__________________

(١) لعل الزهري فسر الآية بالخارجين على سلاطين الجور من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وليس هذا ببعيد فقد كان الزهري كما ذكر التاريخ من شرطة بني أمية الذين يحرسون الإمام زيد بن علي وهو مصلوب لئلا تدفنه الزيدية. ووجدت رواية عن الزهري في تفسير (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ، قال : نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب. الدر المنثور ٣ / ٦٩. عند تفسير الآية ، ولمزيد من التوسع ارجع إلى اتهام الزهري للعلامة بدر الدين الحوثي بتحقيقنا.

(٢) يعني معناها واضح على ظاهرها.

(٣) في المخطوط : معه مشهد فيشهد. ولعلها زيادة.

(٤) في المخطوط : لا ينظرهم.

٥٨٥

من الهيئة ، لا في جميع حدود البشرية ، ولكنه في المنظر والرؤية (١) ، فقال سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٩] ، يقول سبحانه ولو فعلنا ذلك به فجعلناه رجلا كما يعرفون ، لزادهم ذلك لبسا إلى لبسهم ، ولما أيقنوا أنه ملك في أنفسهم ، ولو نزلنا عليه الملك على حاله ملكا ، لما كان أحد منهم معاينا له ولا مدركا ، إلا أن يأتيهم من الصورة وهيئتها في مثل لباسهم منها ، فيرونه ويدركونه بمثل دركهم [و] رؤيتهم لها (٢) ، وإلا لم يروه ولم يعاينوه أبدا ، وكيف يرون من كان من الملائكة ولم يروا قط من الجن أحدا ، والجن في احتجابها عنهم أقرب إليهم قربا ، والملائكة أبعد عنهم مكانا ومحتجبا.

وليس يعاين أبدا من الملائكة الحضرة ، إلا عند الموت الذي ليس بعده تأخير ولا نظرة ، حين يكشف عن المحظور الغطاء ، ويزول عنه الأخذ والإعطاء ، فيرى من الحضرة ما لم ير ، ويحدث الله له عند المعاينة لهم بصرا ، فيعاينهم عند الموت وفي غمراته ، وعند ما وقع فيه من غصصه وسكراته ، كما قال الله سبحانه : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) [ق : ١٩] ، وقد قال في الموت وما بعده من البعث : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) [ق : ٢٢] ، وكما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] ، فالملائكة هم الذين يبسطون أيديهم ويقولون : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣) [الأنعام : ٩٣].

وقلت : أرأيت لو جعل الله الملك رجلا ، ومن كانت الرسل تراه من الملائكة قبلا ، أهم في تلك الحال والهيئة والصورة ملائكة أم رجال؟ بل هم في تلك ملائكة وإن انصرفت بهم الهيئة والأحوال ، ألا ترى أن الذهب والنحاس ، وإن لم يكونا هم الناس

__________________

(١) في المخطوط : في الرؤية والمنظر. ولعل الترتيب الذي فعلت أوفق لأسلوب الإمام.

(٢) في المخطوط : بها. ولعل الصواب ما أثبت.

٥٨٦

(١) ، فقد يصنع منهما صور وهيئات ، ويحدث فيها تماثيل مختلفات ، والذهب وإن اختلفت هيئاته ذهب على حاله ، وكذلك النحاس وإن كثرت فيه الصور فهو نحاس على حاله ، لم ينقل واحد منهما عن خليقته وذاته ، ما نقل عنه من متقدم صورته وهيئاته ، وإنما تبدو الملائكة إذا بدت بأمر الله وإرادته إلى البشر ، بما جعل الله لها وأحدث فيها من الهيئات والصور ، لا البشر بما لا يدركون ولا يرون ، من الصور والهيئات إلا ما يبصرون ، فجعل الله من الملائكة رسلا ، وجعل من شاء منهم كما شاء إن شاء رجلا.

وقال في ذلك [تبارك] وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١] ، فالتبديل للخلق والزيادة ، ليست إبادة ، وكذلك من مسخه الله تبارك وتعالى قردا أو خنزيرا ، فإنما أحدث له عن هيئته وصورته تبديلا وتغييرا ، فبدّل هيئته وصورته ، وأقر نفسه وذاته ، ولو كان المسخ للممسوخ إبادة وافناء ، لكان ذلك فطرة وإنشاء وابتداء ، ولم يقل تغيير ولا مسخ ولا تبديل ، ولم يصح بذلك ـ إذا لم تكن الذات موجودة ـ خبر ولا قيل.

١٠١ ـ وسألته [عن] : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠) [الأنعام : ١١٠]؟

فتقليب (٢) أفئدتهم وأبصارهم تضليله إياهم فيما يعملون ، وتركه تبارك وتعالى فيما هم فيه من ضلالهم يعمهون ، والتضليل من الله لهم ، فإنما هو بعملهم ، وسواء في المعنى أضلهم وضللهم ، كما سواء أكفرهم وكفّرهم ، ألا ترى أن من أضللت فقد ضللته ، ومن أكفرت فقد كفرته.

١٠٢ ـ وسألته عن معنى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١]؟

__________________

(١) هكذا في المخطوط ، ولم يتضح لي معنى العبارة.

(٢) في المخطوط : وتقلب. ولعل الصواب ما أثبت.

٥٨٧

ومعنى إيحاء الشياطين ، هو إلقاء الشياطين للمجادلة للمؤمنين ، (١) والشياطين كما قال الله سبحانه فقد تكون (٢) من الجن والإنس ، وما يلقون إلى أوليائهم من المجادلة من زخرف القول واللبس ، كما قال الله سبحانه : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢) [الأنعام : ١١٢] ، يريد سبحانه بقوله : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢] من الخزي (٣) بزخرف القول وغروره وما يقولون ، فسيعلمون من بعد ما هم فيه من دنياهم إلى أي منقلب ينقلبون.

١٠٣ ـ وسألته : عن تأويل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) [الأنعام : ١٢٥]؟

فتأويلها رحمك الله من يرد الله أن يرشده فيزيده هدى على هدى ، لأنه لا يعطي الهداية إلا من اهتدى ، كما قال تبارك وتعالى في زيادته لهم هدى إلى هداهم : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٧] ، والتقوى فمن الهدى ، وآتا ، فمعناها : وأعطا ، فهو آتاهم التقوى بتبصرته وتقويته لهم على ما عملوا منها ، وبمنعه لهم تبارك وتعالى من الضلالة ونهيه لهم عنها ، وليس بين الضلال والهدى منزلة ، هادية لأهلها ولا مضلة ، فمن يرد الله أن يهديه بعد الهدى ، يشرح يريد : يفتح صدره للتقوى ، ومن يرد أن يضله الضلالة والعمى ، يجعل صدره بما اتبع من الضلالة والهوى ، ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ، كذلك يفعل الله بأهل الضلالة والاعتداء.

١٠٤ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] ما هذه الفتنة؟

وهي الابتلاء من الله والاختبار والمحنة ، وإضلاله وهداه بها ، فهو عنها وبسببها ، و (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨] ، هو إضلاله إن ضل

__________________

(١) في المخطوط : للمؤمنين عليهم. لعلها زيادة.

(٢) في المخطوط : يكون.

(٣) كذا في المخطوط. كلمة مهملة ولم أهتد فيها إلى معنى.

٥٨٨

وهدايته لمن اهتدى ، ومن ضلّ ضلّله ، ومن اهتدى كان مهتديا عنده ، وزاده تبارك وتعالى في هداه ، وآتاه كما قال سبحانه تقواه.

١٠٥ ـ وسألت : عن قول نوح صلى الله عليه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤]؟

فإنما أخبر صلى الله عليه عن نفاذ قدرة الله فيهم ولم يخبر أنه يريد ، ولا أنه لإغوائهم مريد ، وإنما قال : إن كان ، ولم يقل : أن قد كان ، فقد أوضح وأبان ، لكل من يعقل اللسان ، أنه إنما أراد بقوله صلى الله عليه الخبر عما لله من الاقتدار ، لا ما يذهب إليه من لم يهتد للرشد من أهل الإجبار ، فأخبر أنه غير نافع لهم نصحه وإن أراد نصيحتهم ، إن كان الله يريد هلكتهم ، فصدق صلى الله عليه لأنه إن أراد شيئا وأراد (١) الله أن يفعل سواه ، ليكونن ما أراد الله صنعا وخلقا وشاه ، ولا يكون من ذلك وفيه ، ما أراد نوح صلى الله عليه ، وكيف يريد الله إضلالهم وإغواءهم؟! وهو يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما إلى هداهم ، ما يزعم هذا أو يقول به ، إلا من جهل أمر ربه ، في الرأفة والرحمة ، والعلم والحكمة ، وكيف تدعو رسله العباد ، إلى خلاف ما شاء وأراد ، الله أحكم أمرا وأجلّ قدرا ، من أن يكون في ذلك كما قال من خاب وافترى.

وكذلك ما قال شعيب صلوات الله عليه : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأعراف : ٨٩] ، فقال إلا أن يشاء ، ولم يقل أن قد شاء ، بل وكّد بقوله فيه ومعناه ، أن لن يريده الله أبدا ولن يشاء ، ولكنه أخبر عن قدرته ، على كل ما شاء في بريته.

ومثل هذا من التنزيل سوى قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦ ، ٤٨] ، ولن يشاء أن يغفر لمن وعده من أهل الكبائر بالنار ، لما (٢) فيه من إخلاف الوعد وإكذاب الأخبار ، التي منها (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧] ، و (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) [ق : ٢٠] ، ومنها قوله : (ما

__________________

(١) في المخطوط : وإن أراد. ولعلها زيادة سهو.

(٢) في المخطوط : ولما. والصواب حذف الواو ، لأن لما تعليل لما قبله.

٥٨٩

يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) [ق : ٢٩] ، وقوله جل ثناؤه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزل الكتاب : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) [غافر : ١٧].

ومثل ذلك قول عيسى صلوات الله عليه : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨) [المائدة : ١١٨].

وقول إبراهيم صلى الله عليه : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) [إبراهيم : ٣٦] ، وكل ذلك منهم فإنما هو خبر عما لله من القدرة ، على ما يشاء من العذاب والمغفرة.

١٠٦ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [الأعراف : ١٩٠]؟

فهو ما وهب لهما من ولدهما وأعطاهما ، جعلا [له] فيما أحسب بين الله وبينهما ، يعبد (١) الله ويحرث الحرث ، وقد يذكر في التوراة أنهما سمياه عبد الحارث ، وقالوا إن الحارث هو إبليس ، فيما أحسب وهم وهمته اليهود في التفسير فقالت فيه بالتلبيس ، وأدخلوا مكان ما جعلاه له من الحرث عبد الحارث ، فجعلوه عبدا لما جعلاه ولم يفرقوا فيه بين الحرث والحارث ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) [الأعراف : ١٩٠] يعني : ولدا ذكرا (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) [الأعراف : ١٩٠] منه فيما آتاهما ، يريد تبارك وتعالى : نصيبا فيما أعطاهما ، من صالح الولد ، فجعلاه بينهما وبين التعبد ، ألا ترى لقوله سبحانه فيه ، إذا يسلماه كله إليه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) [الأعراف : ١٩٠] ، يقول فتعالى الله أن يكون (٢) هو وهم في شيء من الأشياء مشتركون ، كما قال في أهل الجاهلية : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ

__________________

(١) في المخطوط : فعبد الله. ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت والله أعلم.

(٢) يكون هذه هي التامة وإلا لقال في خبرها (مشتركين).

٥٩٠

شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦) [الأنعام : ١٣٦]. وكذلك قال الله تبارك وتعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) ـ يعني شريكا ـ (مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (٥٦) [النحل : ٥٦]. وليس يتوهم الشرك عليهما بالله ، إلا من لا علم له فيهما بأمر الله.

١٠٧ ـ وسألته عن : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢]؟

وذكرت ما قالت به العامة في ذلك من قولهم ، وليس ما قالوا به فيه ، بشيء مما يلفت إليه ، لأنهم قالوا أخذ من ظهر آدم (١) ، وقالوا [أخذ] (٢) من بني آدم (٣) ، وآدم غير

__________________

(١) عن هشام بن حكيم أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار.

أخرجه الطبراني في الكبير ٢٢ / ١٦٩ (٤٣٥) ، وفي مسند الشاميين ٣ / ٩١ (١٨٥٤) ، والبزار ٣ / ٢٠ (٢١٤٠) كشف الأستار ، وابن جرير الطبري في جامع البيان (١٥٣٧٩).

وأخرجه الطبراني في الكبير ٢٢ / ١٦٨ (٤٣٤) ، وفي مسند الشاميين ٣ / ٩١ (١٨٥٥) ، وابن جرير في جامع البيان (١٥٣٨٠) ، والآجري في الشريعة (١٧٢) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٣٢٦).

من طريق راشد بن سعد ، عن عبد الرحمن بن قتادة عن هشام ، به. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٨٦ ، وقال : رواه البزار والطبراني ، وعزاه إليه ابن كثير في تفسيره ٢ / ٢٧٤.

(٢) في المخطوط : بياض مكان الكلمة التي أثبت.

(٣) قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال : إن الله خلق آدم عليه‌السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار.

أخرجه أحمد ١ / ٤٤ (٤٥) ، وأبو داود (٤٧٠٣) ، والنسائي في التفسير (٢١٠) ، والترمذي ٥ / ٢٢٦ (٣٠٧٥) ، وقال : هذا حديث حسن ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور ٣ / ١٤٢ ، وابن جرير ـ

٥٩١

بنيه وظهره غير ظهورهم ، وذريته غير ذراريهم ، والذراري تكون صغارا وكبارا ، وأطفالا ورجالا ، وكل أهل الجاهلية من رجال العرب الذين كانوا يشركون ، قد أخذوا ومعنى أخذوا : أخرجوا ذرية من ظهور آبائهم من بني آدم لا يشكون ، وكلهم كان شهد وأقر (١) بأن الله ربه ، وأن ما يرى من السماوات والأرض خلقه ، فاستشهدهم الله على ربو بيته بما يشهدون ، وبما كانوا يقرون به كلهم فلا ينكرون ، وفي ذلك يقول سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦١) [العنكبوت : ٦١] ، ولم يقل سبحانه إنه استشهد على ربوبيته أحدا من الأطفال ، ولا يكون الاستشهاد والشهادة إلا للرجال.

والله أعلم ما يكون وغيره وما كان ، ونسأل الله أن يفهّمنا ويفهّمك عنه البيان.

١٠٨ ـ وسألته عن : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤]؟

فتأويل (لِيَقْضِيَ) ليتم أمره فيكم وفيهم (٢) ، ونصره لكم عليهم. والتقليل من الله في أعينهم للمؤمنين ، فإنه تبيينه من الله للمستبينين ، والتقليل فقد يكون أنواعا ، إن كان لأنواعه كله جماعا ، ليس ينكرها ممن أنكر منكر ، لأن الله على كلها ـ لا شريك له ـ مقتدر.

١٠٩ ـ وسألته : عن : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا

__________________

ـ (١٥٣٥٧) ، وابن حبار في الموارد (١٨٠٤).

وأخرجه مالك ٢ / ٨٩٨ (٨٩٩) ، والآجري في الشريعة (١٧٠) ، واللالكائي (٩٩٠) ، والبغوي في شرح السنة (٧٧) ، وابن منده في الرد على الجهمية ٢ / ٢٨ (٥٦) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٣٢٥) ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٢٤ ٣٢٥ ، ٥٤٤ ، وابن أبي عاصم في السنة (١٩٦ ، ٢٠١) ، والبخاري في تاريخه ٤ / ٢ / ٩٦ ٩٧ ، من طرق عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي عن مسلم بن يسار الجهني به.

(١) في المخطوط : وكلهم كانوا شهد ويقر. ولعل العبارة تصحفت.

(٢) في المخطوط : فيهم وفيكم. وما أثبت اجتهاد لتوافق السجعة التي تليها.

٥٩٢

يَعْقِلُونَ) (٢٢) [الأنفال : ٢٢]؟

فهم رحمك الله أهل الكفر بالله الذين لا يؤمنون ، والذين علم الله لو أسمعهم بزيادة في التبيين لما كانوا يسمعون ، يريد تبارك وتعالى لما كانوا يطيعون ، وفيهم ما يقول الله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥) [الأنفال : ٥٥]. وفي أن السمع هو الطاعة ، ما يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) [النساء : ٤٦].

١١٠ ـ وسألته : عن قول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]؟

فقد يمكن أن يكون عنى بذلك ماضيهم ، وأن يكون أيضا اليوم من يقول من باقيهم ، وليس كلهم لقيت ، وإنما لقيت منهم من شاهدت ورأيت.

١١١ ـ وسألته عن : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [التوبة : ١١٤] فيما ذكر عنه رب العالمين ، (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦]؟

فلما تبين له أنه من أصحاب النار بالإصرار ، تبرأ منه وما كان عليه من الاستغفار.

١١٢ ـ وسألته عن : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٥]؟

يقول سبحانه [ما كان] ليتركهم ضلالا بعد تبيينه لهم لما بيّن حتى يبيّن لهم كل ما يحذرون.

١١٣ ـ وسألته : عن قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣]؟

فقد يكون أن يكشف عنها عماها ، ويريها من آياته ودلائله عيانا ، ما يحدث لها معرفة وإيقانا ، لا يكون معه لها أجر ، ولا يجب به لها ذخر ، ويكون منها درك اضطرار ، لا درك نظر ولا فكرة ولا اعتبار ، وفي ذلك وبه الجزاء والثواب ، وعلى ترك ذلك وفي إغفاله ما (١) يجب العقاب ، وهو وإن كان كذلك ، فعلى ما وصفنا من ذلك ، فهدى

__________________

(١) في (ما) زائدة لتحسين الكلام وكثيرا ما ترد في كلام الإمام.

٥٩٣

وبصيرة وغير حيرة ولا ضلال ، وفيه إذا كان ما أخرج أهله من الجهل بالهدى ومن الضلال.

وهذا رحمك الله فوجه من الهدى ، لا ينكره ولا يجهله من أبصر واهتدى ، وما كان لهذه الآية مشابها ونظيرا ، فكفى بهذا الجواب فيه حجة وبرهانا منيرا.

١١٤ ـ وسألته : عن يونس صلى الله عليه ، وقول الله سبحانه فيه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧]؟

اعلم رحمك الله أن قوله : (فَظَنَ) أنه ، ليس يخبر عن يونس بظن ظنّه ، لأنه لو كان كذلك منه ، لزال اسم الإيمان عنه ، ولا يزول اسم الإيمان في حال ، عن من خصه الله بالإرسال ، وفي ذلك لو كان تجهيل للمرسل ، فيمن يصطفي ويختص من الرسل ، ولكن (فَظَنَ) قول (١) من الله في يونس قاله ، يبين للسامعين زلة يونس وإغفاله ، يقول سبحانه فظن يونس أن لن نقدر عليه ، في إباقته من الفلك إلى من أبق إليه ، فهو ليس يظن ، ولكنه مقر موقن ، بقدرتنا عليه ، ونفاذ أمرنا فيه ، فما (٢) أبق إلى الفلك فارا هاربا ، وذهب مع يقينه بقدرتنا عليه مغاضبا ، إلا لإغفاله وزلته ، التي نجاه الله منها بتوبته ، فهذا وجه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، الذي لا يجوز غيره من الوجوه ، وهو كلام صحيح لا تنكره فيه العقول.

١١٥ ـ وسألته : عن : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) [طه : ٦٧]؟

فلم يوجس صلى الله عليه أن يغلب أو يقهر ، ولكنه أوجس ألا يبصر ـ من حضره من السحرة ومن الناس ـ حقيقة الحق كما (٣) أبصر ، فيظنون أن ما جاء به من الحق كسحر السحرة ، وأن موسى صلى الله عليه من الكفرة ، وقد كان خاف قولا منهم واعتسافا (٤) فقالوا : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ

__________________

(١) في المخطوط : قولا. ولعلها سهو من النساخ.

(٢) في المخطوط : فلم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) في المخطوط : من حضره والسحرة من الناس حقيقة الحق ما أبصر. ولعل ما أثبت هو الصواب ، والله أعلم.

(٤) لعل هنا سقطا.

٥٩٤

بِسِحْرِهِما) [طه : ٦٣] ، وقالوا فيه : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠) [الأعراف : ١١٠، الشعراء : ٣٥] ، وقال موسى صلى الله عليه فيما قالوا به من ذلك : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧) [يونس : ٧٧].

١١٦ ـ وسألته : عن قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) [الحج : ٥٢]؟

فتأويل تمنى : هو قرأ ، وألقى الشيطان في أمنيته ، تأويله : ألقى الشيطان في قراءته ، وقراءته عليه‌السلام فهو ما ألقى من القرآن إلى أمته ، وألقى الشيطان فيما كانوا يقرءون من القرآن وآياته ، هو إلقاء من الشيطان في أمنيته وقراءته ، والإلقاء في القراءة من الشيطان ، ليس إلقاء في قلب الرسول ولا فيما جعل الله له من اللسان ، ولكنه إلقاء من الشيطان في القراءة بزيادة منه في القراءة أو نقصان ، وقد رأينا في دهرنا هذا بين من يقرأ آيات القرآن ، اختلافا كثيرا في الزيادة والنقصان ، فما كان من ذلك صدقا وحقا فمن القرآن ، وما كان منه كذبا وباطلا فهو من الشيطان ، في أيدي الروافض من ذلك والغلاة ، ما قد سمعت وسمعنا والله المستعان من القراة (١).

فأما (تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها ترتجى) (٢) ، فقد فهمنا منه ما ذكرت ، وسمعنا منه بعض ما سمعت ، وهو كلام مغور فاسد لا يتكلم بمثله حكيم ، ولا ماجد كريم ، لا يشتبه بفساده في تأليفه ، وقبحه في نفسه وضعفه ، أن يكون من بليغ من بلغاء العرب ، فكيف من الرسول أو الرب ، الذي لا تدركه بتحديد العقول ، ولا يشبه قوله في الحكمة قول.

١١٧ ـ وسألته : عن قول إبراهيم صلى الله عليه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٧٧) [الصافات : ٧٧]؟

__________________

(١) إشارة إلى قول طائفة من الروافض الغلاة القائلين بتحريف القرآن.

(٢) أخرج القصة الحاكم ٢ / ٦٨٠ (٤٢٤٦) ، والبيهقي في الكبرى ٢ / ٣٦١ (٣٧٣٦) ، والطبراني في الكبير ١ / ٩٠ (١٤٣) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ١ / ١٢٣ (١٢٣).

٥٩٥

فالله خلقكم وحجارة الأصنام التي كانوا يعبدون ، وكما قال صلى الله عليه : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥) [الصافات : ٩٥] ، وسواء قوله : (ما تَنْحِتُونَ) وقوله : (وَما تَعْمَلُونَ).

١١٨ ـ وسألته عن : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩]؟

فهو عضهم على الأيدي بأسنانهم ، وهو شيء يفعله المغتاظ ، إذا غضب أو اغتاظ ، ويفعله أيضا المتحير المتفكر ، إذا التبس عليه ما يفكر فيه وينظر.

١١٩ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢) [الفرقان : ٧٢]؟

فالشهادة هي الحضور ، والزور من الأشياء فهو البور (١) ، وهو الباطل والكذب ، واللغو فهو الغفلة واللغب ، فذلك كله وما كان منه فلا يشهدونه ، وإذا مروا به أعرضوا عنه(٢).

١٢٠ ـ وسألته : عن قول الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩]؟

فذلك فلن يزالوا كما قال الله سبحانه مختلفين ، لأن الاختلاف لا يزال أبدا بين المحقين والمبطلين ، وهو خبر من الله عما يكون ، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون ، فالاختلاف منهم وفيهم ، ولذلك نسبه الله إليهم ، وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يريد من المؤمنين ، فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين. وقوله تبارك وتعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] يقول سبحانه للمكنة ، مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة ، ولو لا خلقه لهم كذلك ، وعلى ما فطرهم عليه من ذلك ، لما اختلفوا في شيء ، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي ، ولا كان فيهم مسيء ولا محسن ، ولا منهم كافر ولا مؤمن ، ولكانوا كالموات الذي لا يحسن ولا يسيء ، ولا يفجر عند الله ولا يتقي.

١٢١ ـ وسألته عن : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) [النحل : ٦٨]؟

__________________

(١) البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. مختار الصحاح.

(٢) في المخطوط : أعرضوا. وما زدته ضرورة لاتساق الكلام.

٥٩٦

فقد يكون الإيحاء إلهاما ، ويكون الإيحاء من الوحي كلاما ، ويكون الإلهام تعريفا وفطرة ، ويكون الكلام تعليما وتذكرة ، وأي ذلك كان ، فعلم وبيان ، لا ينكره ولا يدفعه بالله مقر ، ولا يأباه إلا ملحد في الله متكبر ، لا ينكر صاغرا وإن كابر بالانكار في أن للنحل وأشباهه احتيالا ، وأن لها صنعا محكما وأعمالا ، فيما يرى من شهدها ، وعجيب ما فيه من عقدها.

١٢٢ ـ وسألته : عن قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) [النساء : ١٠٢]؟

فتأويلها (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) يريد : في سفر وخوف معهم ، فأقمت الصلاة لهم ، (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) ، يقول سبحانه من جميعهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم كلهم ، من قام معك في الصلاة ومن لم يقم معك منهم ، (فَإِذا سَجَدُوا) [النساء : ١٠٢] يعني الذين معه في صلاتهم آخر سجدة منها فأتموا ، وفرغوا من صلاتهم كلها وسلموا ، (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢] كلهم ، من صلى معك ومن لم يصل منهم ، ولا يقال للطائفة الآخرة لم يصلوا ، إلا والطائفة الأولى قد صلوا.

ولا تصلى صلاة الخوف إلا في سفر ، ولا يصلى شيء منها في حضر ، لأن أهل الحضر في بيوتهم وحصونهم مستترون ، وأهل السفر لعدوهم بارزون مصحرون (١). وصلاة الخوف أن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة واحدة ثم يقومون ، فيتمون الركعة الثانية ثم يسلمون ، والطائفة الأخرى الواقفة للعدو في سلاحهم مستلمون ، وليس لهم شغل من صلاة ولا غيرها سوى المواقفة ، والحراسة لأنفسهم وإخوانهم من عدوهم بالمصافة ، فإذا رجعوا إليهم من صلاتهم ، وقعدوا للعدو موقفهم ، ولم يزايلوا أبدا مواضعهم ، حتى يتم إخوانهم من آخر الصلاة ما أتموا ، ويسلموا من صلاتهم كما سلموا ، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد حرست كما حرست ، وأخذت منهما من الحراسة ما أخذت ، وأعطت من الحراسة ما أعطت ، وصلى بها من الصلاة مع الإمام ما

__________________

(١) مصحرون : مقيمون في الصحراء.

٥٩٧

صلت ، فهذا عندنا أحسن ما سقط إلينا في صلاة الخوف.

وكذلك صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بلغنا صلاة الخوف في غزوة له (١) غزاها يقال لها : ذات الرقاع (٢).

وفقنا الله وإياك للتقوى ، في كل محنة نزلت بنا أو بلوى ، وصلى الله على محمد وآله الأبرار ، الطيبين الأخيار.

١٢٣ ـ وسألت : وفقنا الله وإياك لمرضاته ، ولعلم ما أوجب الله علينا وعليك علمه من آياته ، عن قول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) [الأحزاب : ٧٢] ما وجه ما أراد الله بذلك من المقال ، ومن أين جاز أن يقال : أبين وأشفقن وجه ما أراد الله تبارك وتعالى بذلك وتنزيله ، ما أبانه الله من تظليم الإنسان بما بناه (٣) الله عليه من تبيينه للخيانة في الأمانات ، والتأدية (٤) ما صغر حليته في الخلقة والتركيب ، من قدر ما ذكر الله من الخلق العجيب ، وأنت رحمك الله فقد تعلم أنك لو عرضت بفكرك ، وفي تقديرك ونظرك ، فضلا عما قد تعلمه يقينا بقلبك ، على ما قد تعرفه من السماوات ، أمانة من الأمانات ، لما حملتها ، ولا شيئا منها ، إذ كن عندك في علمك غير ناطقات ، وهن فإذا كن كذلك فهن لحمل الأمانات غير مطيقات ، فإذا كن من ذلك لنفس خلقهن وما بنين عليه من ضعفهن ممتنعات ، أفضل مما يقول به منها قائل ، أو يتحير من علمائها عالم (٥).

وقد يحتمل أيضا أن يكون إنما أريد السماوات والأرض والجبال : أهلهن ، ومن

__________________

(١) في المخطوط : لها. ولعلها سهو من النساخ.

(٢) أخرجه البخاري ٤ / ١٥١٢ (٣٨٩٨) ، ومسلم ١ / ٥٧٤ (٨٤٠) ، وأبو داود ٢ / ١٧ (١٢٤٨) ، والنسائي في المجتبى ٣ / ١٧١ (١٥٣٩) ، وأحمد ٦ / ٢٧٥ (٢٦٣٩٧) وغيرهم.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) يبدو أن في هذه الجملة سقطا أو تصحيفا. والمعنى غير واضح.

(٥) وفي هذه العبارات خلل ، لعل بها سقطا أو تصحيفا. والله أعلم.

٥٩٨

جعل ساكنا لهن ، مما ينطق (١) ، ويأبى ويشفق ، كما قال إخوة يوسف واسأل العير وليسوا يريدون إبلها ، فهذا وجه من الوجوه ، ليس بسيئ ولا مكروه ، مفهوم معقول ، يجوز بمثله في العرب القول.

١٢٤ ـ وسألت عن : (الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣]؟

فالله هو المؤمن لأوليائه من سخطه ، والمهيمن : الشهيد ، والله هو الشهيد على أعدائه بمعصيته.

١٢٥ ـ [وسألت : عن الحمّى أهي من الضربة أم من الطبيعة]؟

وأما الحمّى عن الضربة الموجعة ، فإن الله جعلها تكون من الطبيعة ، فالضربة من الضارب ، والحمى فمن الطبائع (٢) ، ألا ترى أن الحمى لو كانت من الضارب لزمه فيها القصاص والقود ، وهذا مما ليس يدرك حقيقته أحد ، وقد قال الله سبحانه :

(وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] والجروح من الجارح ، وليس الحمى بعمل شيء (٣) من الجوارح ، فهو علم الله المعلوم (٤).

١٢٦ ـ وسألت عن : (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) [التكاثر : ٢]؟

فهو دخلتم المقابر.

١٢٧ ـ وسألت : عن زرع الأرض المغتصبة؟

فلا يجوز الزرع فيها لغاصبها ولا غير غاصبها ، إلا أن يزرع بإذن صاحبها.

١٢٨ ـ وسألت : عن شراء اللحم من اليهود والنصارى؟

فإنا لا نرى أن يباع منهم ولا يشترى ، فإنهم ليسوا ممن يؤمن عليه ، أن يخلطوا ما لا يحل فيه.

__________________

(١) في المخطوط : يطيق. والصواب ما أثبت.

(٢) يبدو أن المطرفية أخذت القول بالطبع للأجسام للإمام القاسم من هنا. تأمل.

(٣) في المخطوط : شيا. ولعلها مصحفة.

(٤) لعل قبل هذه الجملة جملة ساقطة.

٥٩٩

[مسائل متفرقة في الصلاة والحج]

١٢٩ ـ [وسألت : عن القصر من غير خوف]؟

وأما القصر من غير خوف فيقصر كل من سافر آمن أو خائف ، أو كان فاجرا أو برا(١).

١٣٠ ـ [وسألت : عن التشهد]؟

وأما التشهد فما قيل الذي يذكر عن ابن عباس ، وما يذكر من ذلك عن ابن مسعود ، وأحسن ما سمعنا به في ذلك عن علي وزيد بن علي ، بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها الله ، أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٣١ ـ [وسألت : عن آمين]؟

وقد سمعنا في آمين ما سمعت ، ولم أسمع أحدا من العرب يتكلم [بها] في كلامه ، ولا أحسبها إلا من اللسان العبراني ، وإنا لنمسك عنها ، وعن القول بها (٢).

__________________

(١) لعل في هذه الجملة سقطا أو تصحيفا.

(٢) آمين عبرية كما قال الإمام عليه‌السلام لأدلة الشواهد : منها :

قال في لسان العرب : وآمين وأمين : كلمة تقال في إثر الدعاء ، قال الفارسي : هي جملة مركبة من فعل واسم ، معناه : اللهم استجب لي ، قال : ودليل ذلك أن موسى عليه‌السلام ، لما دعا على فرعون وأتباعه فقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ، قال هارون عليه‌السلام : آمين ، فطبق الجملة بالجملة. وقيل معنى آمين : كذلك يكون. لسان العرب مادة أمن.

وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : كان موسى عليه‌السلام إذا دعا أمّن هارون على دعائه يقول : آمين. وكذلك روى عن ابن عباس.

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة قال : كان موسى عليه‌السلام يدعو ويؤمن هارونعليه‌السلام.

وأخرج أيضا ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي ، وأبي صالح ، وأبي العالية ، والربيع ، وابن زيد مثله. روى جميع ذلك السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٨٥. وأنا أشهد لله أني سألت مراسل إذاعة لندن الذي أجرى معي لقاء في الإذاعة ، سألته عن ديانته فقال إنه يهودي ، ثم سألته عن آمين هل هي ـ

٦٠٠