مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق فسوى ، وسدد (١) لأمره كله فقوّى ، ولم يكلف من فرائض أمره أحدا من خلقه عسيرا ، ونوّر ما فرض من ذلك كله على عباده تنويرا ، ولم يلبس من ذلك كله عليهم شيئا فيخفى ، رأفة منه تبارك وتعالى ولطفا ، وتسهيلا لسبل طرقه ، وتخفيفا منه على خلقه.

[أول الواجبات العقلية]

وكان أول ما كلفهم به من فرائضه توحيده بالربوبية ، وإخلاصه تبارك وتعالى بالوحدانية ، فأبان لهم ما فرض من إخلاصه بالوحدانية عليهم ، وما حكم به من توحيده بالربوبية فيهم ، بدلائل جمة لا تحصى ، وشواهد كثيرة لا تستقصى ، من سمائه وأرضه وما بينهما ، ومن أنفسهم التي هي أقرب إليهم منهما ، تحقيقا في ذلك لتكليفه ، وتقريبا فيه لسبيل تعريفه ، فقال رحمة منه للعالمين ، (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢٣] ، وقال سبحانه : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) [يونس : ٦] ، والآيات فهن الشواهد والدلالات ، ثم لم يتركهم مع ذلك كله من إرساله رسله فيهم بالرسالات ، رأفة منه بهم ورحمة ، وإحسانا منه إليهم ونعمة ، بعد أن أخبرهم سبحانه أن بيان ما كلفهم في ذلك من حقه ، مثل بيان ما بيّن لأحدهم (٢) إذا نطق من نطقه ، كل ذلك إعذارا منه بالبيان المنير إليهم ، واحتجاجا منه لخلقه بالبرهان المبين عليهم ، (لِيَهْلِكَ) ـ كما قال سبحانه ـ (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢) [الأنفال : ٤٢]. فتبارك رب العالمين.

__________________

(١) في (ب) : وشدد.

(٢) في (ب) : لهم.

٥٢١

[الواجبات الشرعية]

ثم فرض سبحانه عليهم بعد توحيده وما فهم (١) من فرائض حقه ، الصلاة سياسة بما فرض منها بحقه ، وإحياء بها لذكره وتعظيمه ، ولما فيها من خشوع كل مؤمن وتقويمه ، لطاعة الله وأمره وإجلاله ، عند ما يخطر فيها من ذكر الله بباله ، ولما له ما كان فيها وبها من العصمة والبركة ، والنجاة عند قيامه إليها وفيها من كل معصية مهلكة ، من كل فحشاء أو منكر ، أو استكبار متكبر ، ولها وفيها ، ولدعائه إليها ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى وآله : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥]. وأنهى لمن كان لأمر الله منتهيا عن كل فحشاء أو منكر ، ومستكبر من معصية الله أو مستصغر. فصدق الله لا شريك له في خلق ولا أمر ، ولا حكم لخاطرة ذكر أكبر ، وأنهى (٢) لمن آمن به عن كل معصية وجرم ، أزجر (٣) من كل كبير من الأمور أو ناهية ، وأجل وأعلى من كل جليل وعالية ، ازدجر بها مزدجر فانتهى ، ووفّق لها موفّق فاهتدى.

ولما جعل الله له من الصلاة من ذكره ، فيها للرسل ما تقدم من أمره ، فلم تحل رسل الله من أمر الله به فيها ، ولم تزل رسل الله صلوات الله عليها ، تدعو الأمم في سالف الدهور إليها ، فقال تبارك وتعالى في إسماعيل رسوله ، صلى الله عليه وعلى جميع رسله : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥) [مريم : ٥٥].

وقال عيسى صلى الله عليه : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١) [مريم : ٣١].

__________________

(١) في (ب) و (ج) : فيهم. مصحفة.

(٢) في (أ) : وأنها. مصحفة. إلا إذا كتبت الألف المنقلبة عن الياء كالألف المنقلبة عن الواو. فلا تصحيف ، بل هي هي.

(٣) أي : هي أزجر.

٥٢٢

وقال تبارك وتعالى لموسى فيها قبل وصيته لعيسى صلوات الله عليهما ، والحمد لله على ما جعل من الرسالة فيهما : فأخبر سبحانه بما جعل من ذكره بها وفيها ، وإنما الذكر يقول من أجل ما فيها ، من إجلال أمري وما يكون من القيام لها وإليها ، من خواطر ذكري وإجلالي فيها ، كما يقال فعلت ذلك لذلك ، كذلك (١) فرضت الصلاة لما قلنا من هذا ، وكان ما قلنا من علل ما جعلت له الصلاة فرضا ، (٢) ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) [طه : ١٣٢]. فكفى بهذا في تعظيم الصلاة تبيانا ونورا من كل ظلمة وعشوى ، وكانت عند الله قربة من مصلّيها وطاعة ورضى.

وفي الصلاة وأمره بها ما يقول مرارا كثيرة رب العالمين ، لمن استجاب له بالايمان من المؤمنين : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) [النور : ٥٦]. وفيها وفي فرضها وتكريمها ، وما ذكر من أمرها وتعظيمها ، ما يقول سبحانه : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) [التوبة : ١١]. فلم يعقد سبحانه الإخاء والولاء ، إلا بين من زكى وصلى.

ومما يدل من فهم عن الله تبارك وتعالى على تعظيم ، قدر الصلاة ما قال العليم الحكيم : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) [التوبة : ٥]. فلم يزل ـ سبحانه وتعالى حكمه بتقتيلهم ، (٣) ولم يأمر تبارك وتعالى بتخلية سبيلهم ، وإن تابوا ولم يشركوا ـ حتى يصلوا ويزكوا.

وفيما أمر الله به المؤمنين من الصلاة ، وبعد الذي جعل بينهم بها من الإخاء

__________________

(١) سقط من (أ) : كذلك.

(٢) لعل هنا سقطا فالعبارة غير واضحة المعنى.

(٣) سقط من (أ) : حكمه.

٥٢٣

والموالاة ، ما يقول سبحانه : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) ـ وهو أمنتم وأقمتم ـ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) [النساء : ١٠٣]. والموقوت فهو المؤقت بالمواقيت والحدود ، وبما لا يجهله المؤمنون من عددها المعدود ، وما فيها من القيام والقعود ، والسجود والركوع ، (١) والقراءة والتسبيح والخشوع. فمن دلائل من أراد علم معدودها ، وما قلنا به من قيامها وقعودها ، وركوعها وسجودها ، فقول الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨) [البقرة : ٢٣٨]. فحكم عليهم سبحانه فيها بالقيام إذا كانوا آمنين ، فإن خافوا صلوها رجالا وركبانا ، وبيّن ذلك كله لهم تبيانا ، والرجال الذين ذكروا في هذه الآية ، فهم الرجالة ، والركبان : فركب (٢) الإبل والخيالة ، فإن أمكنهم القيام في الخوف للصلاة قاموا ، وإن لم يمكنهم إلا الإيماء برءوسهم أوموا.

ودل على أن مفروض الصلاة خمس ، ليس فيها زيادة ولا نقص ، بقول سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). فكان (٣) أول ما يقع عليه اسم صلوات ثلاث وقفا ، وكانت الوسطى التي أمرهم الله بالمحافظة عليها مع ما (٤) أمر سبحانه من المحافظة على الصلوات رابعة سواها ، فلما كملت الصلاة أربع طلبنا إذ علمنا أنها أربع وسطاها ، فلم نجد لأربع صلوات وسطى ، فطلبنا أقل ما نجد بعد أربعا (٥) متوسطا ، فلم نجده ـ والحمد لله ـ إلا خمسا ، فكان (٦) ذلك لعلم عدد الصلوات بيانا وتبيانا ، فعلمنا أن الصلوات التي أمروا بالمحافظة عليها أربع عددا ، وأن الوسطى التي

__________________

(١) في المخطوط : والركوع والسجود. وما أثبت اجتهاد.

(٢) في جميع المخطوطات : فهم الرجال. وما أثبت اجتهاد وهو الصواب ، لأن الإمام لا يمكن أن يفسر الرجال بالرجال. وأيضا توافقها مع الخيالة شاهد جلي. والرّكب : ركاب الإبل. كما قال تعالى (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).

(٣) في (ب) : وكان.

(٤) سقط من (أ) : ما.

(٥) في جميع المخطوطات : أربع.

(٦) في (ب) : وكان.

٥٢٤

أمروا بالمحافظة عليها معها (١) خامسة فردا ، لأن الخامسة لا تكون وسطى لثلاث أبدا ، وإنما هي واسطة لأربع ، فدل على عدد الصلوات أجمع ، وكانت فيما بان من هذا حجة على البدعية (٢) ، وغيرها من الرافضة وغوالي (٣) الجهلة والحشوية ، لأن البدعية قالت إنما يجب في اليوم والليلة صلاتان على المصلين ، وقالت الرافضة فيها بواحدة وخمسين ، (٤) وقال من فيها جهل وغلا ، يجزي كل مصل ما صلى.

ثم جعل الله تبارك وتعالى لما فرض من هذه الصلوات ، ما جعل من الطهور والمقادير والأوقات ، فتنوزع أيضا واختلف فيه ، وكان ما قلنا به من ذلك وذهبنا إليه ، ما أخذنا وقلنا فيه عن قبول (٥) الكتاب ، وما لا يأبى ـ إن شاء الله ـ علينا قبوله أولو الألباب.

فقلنا وبالله نستعين على الهدى ، ونعوذ به من الضلالة والردى : وقت كل صلاة قبلها ، وكذلك ما فرض الله من الطهور لها ، وكل وقت كان للفريضة اللازمة ، فهو وقت للنافلة المتطوعة. وكل وقت لا يصلى فيه الفرائض ، فلا يصلح أن يصلى فيه النوافل ، وخير المقادير والأوقات ، ما جعل وقتا للصلوات ، كما خير الشهور والأزمان ، ما دلنا الله عليه من شهر رمضان ، وخير ليالي الشهر ، ما ذكره الله من ليلة القدر ، وخير الأيام السبعة ، ما دلنا عليه من يوم الجمعة.

وبلغنا كثيرا لا نحصيه أن عليا ، رأى رجلا يصلي ضحى أو ضحيا ، فقال له : نحر الصلاة نحره الله (٦).

__________________

(١) سقط من (أ) : معها.

(٢) البدعية : نسبة إلى البدعة. وقد عدها كتّاب الملل والنمل في عداد الفرق غير المشهورة ، منهم الإمام المرتضى في المنية والأمل / ٢٨.

(٣) غوالي : جمع غالية.

(٤) المقصود بالرافضة هنا : الإسماعيلية ، لأنهم هم الذين يقولون بفرضية صلاة الخمسين. كما أخبرنا عن المعاصرين منهم.

(٥) في (ب) : متول.

(٦) ذكر الإمام الهادي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه نظر إلى رجل يصلي ـ

٥٢٥

وبلغنا أن أبا جعفر بن علي بن الحسين كان يقول (والله ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده الضحى قط) (١).

وبلغنا أن عليا صلى عليه ، (٢) كان يقول كثيرا لبنيه ، (يا بنيّ لا أنهاكم عن الصلاة لما فيها من ذكر الله ، ولكني أسخط لكم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣).

[أوقات الصلوات]

وقال الله لا شريك له ، في الوقت وما حد للصلوات منه ، فيما نزل من الكتاب لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨) [الإسراء : ٧٨]. فجعل الله هذا وقتا للصلوات من الفرائض والنوافل محدودا. وقال له ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء : ٧٩]. وما أمره الله سبحانه ـ في صدر نهاره ، ولا في شيء مما وصل إلينا عن الرسول من أخباره ـ بنافلة من النوافل ، وما كان بفضيلة من الفضائل بجاهل ، فأمره بالصلاة من دلوك الشمس وهو الميل والزوال ، وغسق الليل فهو السواد والاظلام ، وهو الطرف الآخر ، والطرف الأول فهو الفجر. وفي هذين الوقتين ، وما فرض فيهما من الصلاتين ، ما يقول سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤]. فجعل سبحانه طرف النهار الأول كله وقتا للفجر ، وجعل الطرف الآخر كله وقتا للظهر والعصر ، وجعل زلف الليل كله

__________________

ـ الضحى فقال : ما له ينحر الصلاة نحره الله. المنتخب / ٦٣. ولم أقف على الرواية عن علي عليه‌السلام.

(١) ستأتي الرواية وتخريجها.

(٢) في المخطوطات : عليه‌السلام. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٣) عن علي عليه‌السلام قال : يا بني إني لا أنهاكم عن الصلاة ، إن لا يعذب على الحسن ، ولكن يعذب على السيئ. أخرجه في أمالي أحمد بن عيسى ، رأب الصدع ١ / ٤٨٦ (٧٧٨).

٥٢٦

جميعا ، وقتا للمغرب والعشاء معا ، فبيّن أوقات الصلوات لمن فرضت عليه ، بيانا لا شبهة ولا لبسة فيه.

فوقت الظهر والعصر جميعا ، لمن أراد أن يفردهما أو يجمعهما معا ، من دلوك الشمس إلى غروبها ، إلى أن يظلم أفق السماء ويظهر أحد نجومها ، لذهاب ضوء الشمس وشعاعها ، لا يعتد في ذلك كله بظهور الكواكب الدرية ولا اطلاعها ، فإنه ربما طلع أحدها والشمس ظاهرة لم تغب ، فلا يعمل من تلك الكواكب كلها على ظهور كوكب.

[و] وقت المغرب والعشاء الليل كله ، وزلف الليل فأول الليل وآخره ، كل ذلك وقت لهما جميعا ، من شاء أفردهما ومن شاء جمعهما معا.

ووقت الفجر أجمع ، حتى يظهر قرن الشمس ويطلع ، فهذه أوقات الصلوات ، وما بيّن لها من الأوقات ، لا ما قال به فيها ـ من لم ينصف ، ضعفة الرجال والنساء من كل مكلف ، ـ [و] لها (١) من عسير المقاييس ، وما في ذلك على ضعفة الرجال والنساء من عسير المشقة والتلابيس ، التي لو كلفوا عملها دون الصلاة لفرحوا ، أو مى بهم إليها وفيها لتاهوا وتطرحوا ، منها في عسر عسير ، وحيرة وضيق وحرج كبير ، فقال سبحانه رحمة منه بالمؤمنين : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج : ٧٣]. والحرج في كل أمر من الأمور فهو الضيق ، والعسر في الأمور فهو التلبيس والأعاويق.

وزوال الشمس فهو ميلها ، إذا ما استوى ظلها ، فزالت وأنت مستقبل القبلة عن وسط السماء ، فزاد ظلها شرقا قليلا أو كثيرا على مقدار الاستواء. وغسق الليل فهو ما لا يخفى ، على مكفوف بصره أعمى ، وهو سواد الليل وظلمته ، أوّليته في ذلك سواء وآخريّته ، والفجر أوله وآخره فقد يعاين [ويرى] ، فهو بيّن لا يشك فيه ولا يمترى ، وهو ما بين إدبار النجوم ، إلى طلوع الشمس المعلوم ، وكل وقت بين هذه الأوقات ،

__________________

(١) الواو زيادة مني ، ويكون ذلك عطفا على قوله : فيها. والله أعلم بالصواب.

٥٢٧

فأبين ما بيّن من البينات ، لا يحتاج فيه إلى مقياس ، (١) ضعيف ولا قوي من الناس ، والحمد لله في ذلك وغيره ، على تخفيفه فيه وتيسيره.

ولكل صلاة من صلاة النهار والليل وقت ، (٢) والصبح فلها الفجر كله ، قلنا وقت موقوت ، وآخر كل وقت كأوله ، وبعضه في أنه وقت ككله ، (٣) لا تفاوت بينه في رضى الله وطاعته ، ولا في ضعف أحد واستطاعته ، وكذلك بلغنا أن بعض آل محمد كان يقول : ما آخر الوقت عندي إلا كأوله. وما القول في الأوقات ـ والله أعلم ـ عندي في الأداء في الفريضة إلا مثل قوله. فأما ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله إن كان صدق عليه فيه (إن أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله) ، (٤) فليس على ما يتوهمه من جهل ، أنه عفو عن ذنب عمل ، فكيف وكلهم يزعم أن جبريل ومحمدا صلوات الله عليهما صليا فيه ، وصارا منه ومن فعله إلى ما صارا إليه ، مع أنه لو كان ذنبا لمن فعله ، لمنع المؤمن (٥) منه أهله ، وإنما تأويل العفو منه فيما أمر الله من الوقت تخفيف الله ورحمته ، وذلك فهو أيضا رضى الله ومحبته ، وكل والحمد لله إذ فعله جبريل ورسول الله صلى الله عليهما فرشد ، لا يلام عليه ولا يذم فيه ممن فعله أحد. وهذه الأوقات فإنما هي لمن صلى وحده ، أو كانت عليه أو شغلته من الأمور والأمراض مشغله ، وأما أوقات المساجد لعمارتها ، واجتماع أهلها فيها فآخره ، فما ذكر للظهر من أن يكون ظل كل شيء مثله وما ذكر للعصر من أن يكون الظل مثليه ، وما قبلنا به من هذا فأمر الله محمود بيّن فيه ، (٦) وعلى قدر اختلاف الوقتين والفعلين ، لأن أحدهما عمارة للمساجد ، وذلك فليس كصلاة الواحد ، والفرق في ذلك فبيّن عند من أنصف ولم يحف ، ولم يعتسف ولم ينحرف.

__________________

(١) في المخطوطة : مقاييس. ولعلها تصحفت. وما أثبت اجتهاد.

(٢) لعل هنا سقطا.

(٣) في المخطوطات : كله. وما أثبت اجتهاد.

(٤) أخرجه الترمذي برقم (١٥٧). وانفرد به.

(٥) في المخطوطات : المؤمنين. ولعل الصواب ما أثبت.

(٦) لعل هنا سقطا. فالعبارة غير واضحة المعنى.

٥٢٨

وفي عمارة المساجد ما يقول الله سبحانه : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩]. وغيرنا ـ والله المستعان ـ فقد يقول في الأوقات بغير ما قلنا ، ولا يقبل في ذلك وبيانه عن كتاب الله وتبيانه ما قلنا ، (١) غير أنهم جميعا ، كلهم معا ، إلا من جهل ففحش جهله ، وقلّ عند علمائهم علمه ، يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (جمع في الحضر وهو مقيم من غير سفر ، ولغير علة من مرض أو خوف أو مطر ، بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء) ، (٢) فكفى بهذا في الأوقات من نور وضياء.

وقالوا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) قال : (من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر) ، (٤) مع إجماعهم على : (الجمع بين الظهر والعصر عند زوال الشمس بعرفة) ، (٥) وإجماعهم على الجمع بين المغرب والعشاء متى شاءوا بالمزدلفة ، (٦) مع أن قول أكثرهم أن من طهر من النساء من طمث أو نفاس قبل غروب الشمس بقدر

__________________

(١) في المخطوطات : ما قلنا. والصواب ما أثبت. أولا لأن الإمام لا يكرر اللفظ الواحد في السجعة ، ثانيا أن سياق كلامه هنا عن القبول.

(٢) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني؟ فقال اراد أن لا يحرج أحدا من أمته. أخرجه مسلم برقم (١١٤٧) ، والترمذي (١٧٢) ، والنسائي (٥٩٧) ، وأبو داود (١٠٢٤) ، وأحمد (١٨٥٢) ، ومالك (٣٠٠).

وأخرج البخاري برقم (٥١٠) و (٥٢٩) و (١١٣) ، عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وأخرجه النسائي برقم (٥٨٥).

(٣) سقط من (أ) : وسلم.

(٤) أخرجه البخاري برقم (٥٤٥) ، ومسلم (٩٥٨) ، والترمذي (١٧١) ن والنسائي (٥١١) ، وأبو داود (٣٤٩) ، وابن ماجة (٦٩١) ، وأحمد (٧٢٢٤) ، ومالك (٤) ، والدارمي (١١٩٤).

(٥) أنظر كتاب الإجماع لأبي بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري / ٣٨ ، ٦٤.

(٦) المصدر السابق / ٣٨ ، ٦٥.

٥٢٩

صلاة خمس ركعات ، صلت الظهر والعصر فلم أمروها بذلك إن لم يكن ذلك وقتا من الأوقات ، إلا أن يلزموها لو طهرت بعد سنة ما فاتها من الصلوات ، وكذلك يقولون فيما يلزمونها إن طهرت قبل الفجر ، من صلاة المغرب والعشاء ما ألزموها من صلاة الظهر والعصر ، مع ما ذكر عن ابن عباس ، وغيره من علماء الناس ، من أنهم كانوا يقولون : النهار كله وقت لصلاة النهار والليل كله وقت لصلاة الليل ، وفي هذا على بيان ما قلنا ما لا يجهل من عقل من البرهان والدليل ، مع ما ذكروا أيضا عن الرسول صلى الله عليه ، فيما قلنا به من الأوقات وذهبنا إليه ، من أنه : (أخر عليه‌السلام ليلة من الليالي العتمة حتى ذهب من الليل نصفه أو أكثر ، ثم خرج وقد ذهب أكثر الليل وأدبر ، فقال ما أحد ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم ، فصلاها في تلك الساعة بهم) (١). (وأن الشمس غربت وهو بسرف من طريق مكة فأخر صلاة المغرب والعتمة حتى صلاها ببطن الأبطح) (٢). وبين سرف وبين الأبطح أميال عشرة. فكفى بهذا وغيره ، وما ذكر بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي أنه كان عنده يوما فزالت الشمس فقام من ساعته فصلى الظهر والعصر ، ثم رآه في يوم من الأيام آخر ، أخرها حتى قيل قد غابت الشمس عن سافل أحد (٣) وهو جبل مطل على المدينة ، إذا غابت الشمس عن أعلاه غابت منها عن كل ناحية عالية أو باطنة ، مع أن (٤) هذا ومثله فما لا نحصيه ، ولا نأتي ـ وإن جهدنا بإحصاء ـ عليه ، فنحمد الله كثيرا على ما منّ به من هذا ، لمن قبل الهدى عنه وآتاه ، ونستغفره لذنوبنا ، ونستتره لعيوبنا ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وغيرنا ، ونسأله لهداه حسن تيسيرنا ، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.

__________________

(١) أخرج الحديث أحمد برقم (١٤٢١٦).

(٢) قال في جامع الأحكام للقرطبي عند تفسير قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ...). من سورة الإسراء : أخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى رف ، وذلك تسعة أميال.

(٣) لم أقف على هذه الرواية فيما لدي من مصادر الحديث. والفقه.

(٤) في المخطوطات : مع من هذا. ولعلها مصحفة والصواب ما أثبت.

٥٣٠

ومن دلائل ما قلنا به في وقت صلاة الليل ، ما دلنا الله سبحانه في سورة المزمل على ذلك من الدليل ، قال تبارك وتعالى لرسوله ، صلى الله عليه و [على] أهله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) [المزمل : ١ ـ ٨].

فدل (١) سبحانه فيما نزل من هذه الآيات ، على ما قلنا به من الأوقات ، فيما فرض في الليل من الصلوات.

ودل على ما يجب في الصلاة ، من الذكر والتسبيح والقراءة ، فلا يكون أبدا المزمل إلا مضطجعا أو نائما ، ولا يصلح أن يكون أبدا قاعدا ولا قائما.

والتزمل هو الاستغشاء والتدثر ، (٢) والاضطجاع والنوم ، وقد يكون في أحدهما المتدثر الذي يتزمل ويتدثر ، ولا يكون أبدا إلا أول الليل وآخره ، فجعل ذلك سبحانه كله وقتا لقيامه ولتأخره ، فيه بصلاته واستيفائه إلا الأقل (٣) وهو ما اشتبه منه ، فلم يتبينه من يريد أن يتبينه ، فندري أفي الفجر هو أو في الليل ، فليس لأحد أن يؤخر صلاة ليله إلى مثل ذلك الوقت من التأخير ، لأنه ليس له أن يصلي إلا في وقت بيقين ، وهو ما وضع الله في الوقت من التبيين ، وليس يوجد أبدا وإن جهد وقت صلاة الليل ويبين ، حتى يدركه العلم البتّ واليقين ، إلا سواد الليل وظلمته ، ولذلك ما جعله الله وقتا لهما برحمته. وقال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، : قمه كله ، إلا أقله. فنهاه عن القيام في قليله ، وهو ما قلنا فيه بتفصيله ، عندنا مما الله به أعلم ، وما فهمنا فيه (٤) الفهم ،

__________________

(١) في (ب) : مذكر. مصحفة.

(٢) في (ب) : الذي هو. مصحفة. وفي (ب) : والتدثرة.

(٣) في (أ) واستيفائه الأقل. وفي (ب) : إلا أقل. ولعل الصواب ما لفقت من النسختين. والسياق يدل عليه لأن الله أمره باستيفاء الليل كله إلا الأقل منه. وكلام الإمام بعده يؤكد هذا.

(٤) في المخطوطات : عندنا ما الله أعلم. ولعل ما أثبت هو الصواب والله أعلم. وفي (ب) : فهمنا علمه الفهم.

٥٣١

لا يفهم فيه غيره ، ولا نجد تفسيرا إلا تفسيره.

ثم فصّل ذلك سبحانه بأمره ، فيما قلنا به من مفسّره ، بقوله : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) (٣). يريد سبحانه قبله ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). يريد سبحانه بعده ، فبيّن سبحانه بقوله : (اللَّيْلَ) ما بين نصفه إلى أوله.

وبقوله : (نِصْفَهُ) (١) بعده ما بين نصفه إلى أقله ، وتأويل : (قُمِ اللَّيْلَ) إنما هو : في أي الليل شيت ، فإنك لم تنه عن الصلاة إلا في أقله كما نهيت ، (٢) كما يقول القائل : قم ظهرا ، وإنما يريد عند الظهر ، وقم لحاجتنا فجرا ، وإنما يريد عند الفجر ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). يقول سبحانه: نصفه أو انقص منه ، وهو ما قبل النصف ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). وهو ما بعد النصف ، فبيّن هذا الأوقات كلها ، وكذلك قال في تبيينها ، لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل : ٢٠]. وإنما أدنى من ثلثي الليل عند نصفه (٣) وعند ثلثه. كما [لو] قال قائل ـ سوى الله لا شريك له ـ لمن يريد أن يأمره ويستعمله : قم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. كان إنما يريد قم عند ما أمرتك بالقيام عنده في وقته ، ولا يريد أن يقوم ثلثه قائما على رجليه. وكما [لو] يقول قائل العامل من العمال ، أو أمره في نهاره بعمل من الأعمال : اعمل كذا وكذا نهارا. فعمل ذلك في أي وقت شاء من نهاره ، لكان قد أدى إلى من أمره ما يجب عليه من ائتماره ، غير مقصر فيما [أمر] به من العمل ولا مفرط ، ولا مستوجب في تقديم ولا تأخير فيما أمر به لسخط ، بل هو مؤتمر بما أمر وألزم ، محافظ فيما أمر به على ما قيل وأعلم. فهذا عندنا وجه التأويل ، وفيما فهّمنا عن الكتاب في التنزيل ، لا ما يقول به ـ والحمد لله ـ من لم يفهم فيه ما فهمنا عن الله ، من الاختلاف الكثيرة فأنتبه القليلة ، (٤) والله المستعان بنوره وتبيينه ، من

__________________

(١) في المخطوطات : وبقوله بعده ... وظنن في (أ) ب (نصفه) ، ولعله الصواب.

(٢) سقط من (أ) : كما نهيت.

(٣) في المخطوطات : وعند نصفه ، والصواب حذف الواو. لأن عند نصفه خبر المبتدأ ، لا معطوف عليه.

(٤) العبارة غير واضحة المعنى. ولسوء الحظ أن كلمة فانتبه مهملة في النسخة (أ). والكمبيوتر لا يكتب ـ

٥٣٢

أن رب العالمين ، فرض مثل الصلاة الخمس على المؤمنين ، أن يصلوا الليل كله ، إلا ـ زعموا ـ أقله. فمنهم من زعم : أنه إنما فرض عليهم ثلثه ، ومنهم من قال : نصفه ، ومنهم من قال : ثلثيه ، جهلا بحق الله ومخالفة للعلم وادعاء عليه.

و (ناشِئَةَ اللَّيْلِ). فهي : الليل كله ، وهي آخر الليل وأوله ، فكان هذا على ما قلنا أيضا دليلا ، لقول الله سبحانه : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦).

ودل أن صلاة الليل قراءة مجهور بها ، يقول : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً). والترتيل ، فهو : الجهر والتنفيل ، فأما هذّ القرآن فيها ونثره ، فإنا لا نأمر به ولا نستحسنه ، لما ذكرنا من قول الله سبحانه. وقول رسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (لا تنثروا القراءة نثر الدقل). (١) فنحن لا نأمره بذلك في فريضة ولا تنفل.

والدليل على ما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن هذه الصلوات في الليل فرض لا نافلة ، وأنها فريضة من الله واجبة لازمة ، قوله سبحانه : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المزمل : ٢٠]. فدل قوله سبحانه أقيموا الصلاة ، وتوكيده فيها ـ جل ثناؤه ـ القراة ، على أن ذلك فرض لا نافلة ، وأن ما أمر الله فيها فريضة لازمة ، إذ لم يذكرها عن رسوله تنفلا ، ولا منه صلوات الله عليه تطوعا ، ولا زيادة على ما يجب

__________________

ـ الكلمة مهملة بغير نقط. ومن سوء الحظ أيضا أنها مقطوعة هي وكلمة (القليلة) من نسخة (ب). ولعلها (من الاختلاف في كثيره وقليله وتعيينه). والله أعلم بالصواب.

(١) أخرجه الآجري في حملة القرآن عن ابن مسعود : لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة. الإتقان / ١٠٨.

وعن ابن مسعود قال : إن قوما يقرءونه ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم. أخرجه الترمذي برقم ٥٤٧ ، وأحمد برقم ٣٨ ، ٥٦ ، ٣٧٧١ ، ٣٧٦٢.

وعنه أيضا وقد قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال : أهذّا كهذ الشعر ، ونثرا كنثر الدقل.

أخرجه أبو داود ١١٨٨ ، والنسائي ٩٩٥ ، والبخاري ٧٣٣ ، ٤٦٥٥ ، بلفظ أهذّا كهذ الشعر فقط.

والدقل : التمر الرديء اليابس.

٥٣٣

ويحق فرضا من الصلاة عليه ، كما ذكر النافلة وما جعل له بها وفيها من القربة إليه ، فقال سبحانه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء : ٧٩]. فجعل تبارك وتعالى بين أمره بالفريضة والنافلة والإباحة فصولا بينة وحدودا.

فإن قال قائل فأين الأمر بالإباحة ، التي قلتم والفصل بين الأمور الثلاثة؟

قيل له : قول الله تبارك وتعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢]. فهذا هو الإباحة والتوسعة ، لا من الفرائض والنوافل المتطوعة.

[الطهارات]

وبعد الذي قلنا به من الأوقات ، القول ـ ولا قوة إلا بالله ـ في الطهارات ، فبيان ذلك والحمد لله عن كتاب الله بيان ليس فيه التباس ولا أفانين كما فننوها كثيرة ، (١) لا يعرض فيها ـ لمن أنصف من نفسه ـ غلط ، ولا تجور بقسط ما حكم الله منها فرط ، بل قصدها قريب منير ، وأمرها كلها خفيف يسير ، لا يعسر شيء منها على مكلف ، ولا يدخلها شيء من التقصير ولا السرف.

فهي خمس طهارات : أصول النفاس والطمث والاجتناب ، فواحدة وهي الغسل بالماء أو التيمم بطيب التراب ، فأي ذلك الماء اغتسل به المغتسل كله ، فقد طهّره ـ من نفاس كان أو طمث أو اجتناب ـ غسله.

[حد الماء المطهّر]

كثر ما تطهّر به من الماء أو قل ، إن (٢) وقع عليه اسم تطهّر أو اغتسل ، فلا نجد في

__________________

(١) لعل هنا سقطا

(٢) في (ب) : إذا.

٥٣٤

ذلك من الماء حدا محدودا ، ولا نوجب عليه عددا معدودا ، لأن الله جل ثناؤه لم يحد في ذلك حدا فنحده ، ولم يوجب عليه من العدد عددا معلوما فنعده ، ولم (١) يجعل لمن اغتسل أنه يقصر عنه ، وأن ينقص في طهارته شيئا منه ، وإنما جعلناه كذلك لأن الله سبحانه قال : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣]. وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] ، ولم يقل قولا وأكثروا ، فاقتصرنا من ذلك على ما اقتصر ، وقلنا لمن وجب عليه الغسل اغتسل وتطهّر ، وكذلك قلنا لمن طمث من النساء ، وقلنا من بعدهن للنفساء. لأن أقل حكمها ، فيما تريق من دمها ، أن الحيض منها والطمث ، لا يقول بخلاف ذلك إلا جاهل عبث ، لأن الله سبحانه قال فيهن ، وفيما حكم من الغسل عليهن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) [البقرة : ٢٢٢].

والاجتناب فهو ما لا يجهل ـ والحمد لله ـ من الانزال والامناء ، فمتى صار إلى ذلك صائر فهو جنب باحتلام كان ذلك أو بمداناة النساء.

وعلى كل مغتسل من هؤلاء يغتسل ، من الوضوء معه مثل الذي كان قبل الاغتسال يفعل ، لا يزيل عنه فرض الوضوء كما فرض الغسل ، فهما (٢) واجبان على كل من اغتسل.

[التيمم]

فمن لم يجد ممن سمينا ماء يطهره ، تيمم صعيدا طيبا لا يستقذره ، فيمسح بوجهه ، ويديه منه ، وكان مجزيا من ذلك أن يضرب بباطن يديه على الصعيد حتى يلصقا بترابه لصقا ، ثم ينفضهما مصفوفتين نفضا رقيقا ، ثم يمسح بهما وجهه ولحيته وعنفقته وشاربه معا ، ويتبع بالمسح من وجهه أماكن الوضوء أولا ، ثم يضرب بيديه على الصعيد ضربة أخرى ، ثم يعمل في بعضهما مثل ما كان عمل بهما ، ثم يمسح بيسرى يديه على يمناهما ،

__________________

(١) في (ب) : ولا.

(٢) في (أ) و (ج) : فيهما. مصحفة.

٥٣٥

ويمسح بيمنى يديه على يسراهما ، ويمسح كل واحدة من يديه إلى المرافق ، فهو أحب إليّ لقول الله في غسلهما : (إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، وإنما جعل التراب لهما ، بدلا من غسلهما ، فيستحب أن ينتهي إلى منتهى الماء منهما ، ولا يقصر بالتراب كما لا يقصر بالماء (١) عنهما ، وإن اقتصر مقتصر على المسح على اليدين إلى الرسغين ، أجزأه إن شاء الله لأن الله جل ثناؤه لم يحدد التيمم للذراعين ، كما حدد ـ تنزيلا ـ الغسل إلى المرفقين ، إلا أن مسحهما كما قلنا عندنا أحوط ، وأبعد أن يكون فيه لمحتفظ متنعم (٢) أو مسخط.

وأما الوضوء وما قيل به من تحديده ، فلست أقول به ولا بشيء من تعديده ، لأن الله تبارك وتعالى لم يحد منه عند أمره ما حدوا ، (٣) ولم يجعل له في منزل كتابه من العدد ما عدوا ، بل قرّب فيه سبحانه السبيل البيّن اللائح ، وأقام به لمن كلفه إياه الدليل المنير الواضح ، فلم يلبسه بضروب التفنين ، بل أناره سبحانه بمعلوم من التبيين ، فقال سبحانه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦]. فقال سبحانه اغسلوا ، ولم يقل أكثروا وأقلوا ، وكان فيما قال من ذلك أكفى الكفاية لنا ، ولأولئك ولمن مضى قبلنا ، الغسل مرة أو مرتين ، (٤) اكتفاء منه سبحانه لنا ولهم بالتبيين ، فمتى ما اغتسلنا ، أكثرنا أو أقللنا ، فقد ـ بمنّ الله ـ ورحمته أدينا ، ما أوجب من الغسل علينا.

[مسح الرأس]

ومتى ما مسحنا كل رءوسنا ، فقد أدينا مسحها بيقين من نفوسنا ، ولا يعارضنا

__________________

(١) في (أ) و (ب) : منهم. وأشار في (أ) : إلى نسخة أخرى ب (منهما). وفي (أ) : ولا يقتصر. في الموضعين. وفي (أ) : بالتراب. وهو خطأ واضح.

(٢) هكذا في (أ) و (ب). وقد شكل على الكلمتين في (أ). ولم يتبين لي المراد منهما.

(٣) في (أ) و (ب) : ما حد. والزيادة مني اجتهاد.

(٤) في المخطوط : مرة ولا مرتين. وما أثبت اجتهاد.

٥٣٦

فيه شك ولا مرية ، ولا تدخل علينا فيه شبهة معشية ، ومن مسح مقدم رأسه واحدة ، فقد ثبت بأيقن اليقين عنده ، أنه إنما مسح من رأسه بعضه ، فهو لا يأمن أن يكون لم يؤد لله فيه فرضه ، لأن بعض الرأس ليس بالرأس ، كما بعض الناس ليس بالناس ، وكذلك بعضك ليس بكلك ، وكذلك ليس [كلك] ببعضك ، وإنما قال الله لا شريك له : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، كما قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وإن جاز مسح بعض الرأس ، جاز غسل بعض الوجه للناس ، وكان من غسل بعض وجهه فقد غسل وجهه ، كما كان من مسح بعض رأسه فقد مسحه ، وهذا من القول فقد يستبين فحشه وقبحه من وهبه الله رشده ، وعرف حكمه فعمده.

[حوار مع القائلين بمسح القدمين]

فأما ما قيل به في مسح القدمين ، فردّ لما في كتاب الله المبين ، وكيف نغسل ، عند من يعقل ، الوجه والذراعين للتطهير ، ونترك الرجلين وهما أقرب إلى الوسخ والأقاذير؟! إن في هذا من الضعف والاختلاف ، لأضعف الضعف وأسرف الاسراف!! وما يجهل هذا والحمد لله ، إلا من خزي وبعد من الله.

وقلنا لمن قال من الرافضة بمسح القدمين : من أين قلتم في هذا بخلاف جماعة ولد الحسن والحسين ، صلوات الله عليهما؟

فإن (١) قالوا : لأنه قالت به الأئمة منهم ، وهم الذين يلزم القبول عنهم.

قلنا فأعطتكم الأئمة من ذلك ما لم تعط أبناءها ، وحملتكم من هدى الله فيه ما لم تحمّله أقرباؤها؟ فوصلت بذلك منكم البعيد الغريب ، وقطعت من أرحامها القريب الحبيب ، وقد قال الله لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) [الشعراء : ٢١٤] ، فخصهم بإنذاره منهم دون المؤمنين ، وسماهم جل ثناؤه دونهم الأقربين ، وكان لهم بعد من النذارة ما لغيرهم ، فاشتركوا هم وهم في رسولهم ونذيرهم ،

__________________

(١) سقط من (ب) : فإن.

٥٣٧

ولرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما يقول : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٢٦]. والصلاة فإنما هي صلاة بما جعل الله من الطهور ، وأنتم فإنما قلتم بالمسح وقلتم منه بما قلتم ، سماعا من أئمتكم زعمتم ، فبالسماع علمتم منه ما علمتم ، وما في أيدينا من السماع ، أكثر من أهل الفرقة والاجتماع ، من أسود وأحمر ، ومتطهر وغير متطهر ، عن الرسول صلى الله عليه ، (١) خلاف ما أنتم من المسح فيه ، وأئمتكم فمختلف فيها ، وغير مجتمع آل محمد صلى الله عليه وعليهم (٢) أحد منها ، وممن قبل عنها ، ما يقروا ويبدوا (٣) إن كانوا صادقين فيه ، وبترك (٤) ما اجتمع فيه المختلفون جميعا كلهم عن رسول الله صلى الله عليه ، إنهم إذا أولى بالرسالة منه ، لمن قبل عنهم ولم يقبل عنه (٥).

فإن قالوا أخذنا عن الله وكتابه ، لأنه قال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦]. فألحق الأرجل بالرءوس في المسح لحقا ، وجعلهما لها (٦) في المسح نسقا.

قلنا فبيننا وبينكم ما تلوتم من الآية ، ففيها لنا ولكم من التبيان أكفى الكفاية ، أليس إنما ذكر الله الرءوس بالباء ، فقال : (بِرُؤُسِكُمْ) ، وذكر الأرجل بالواو بالغسل في النسق ، فأنسقوا الأرجل بالوجوه والأيدي في اللحوق ، والأرجل بالوجوه والأيدي في الواو أحق نسوقا ، فيهما وأولى في النسق بهما لحوقا ، ولو كان النسق للأرجل بالرءوس لكان (وَأَرْجُلَكُمْ) كما قيل (بِرُؤُسِكُمْ) (٧).

وكفى بهذا بيانا ـ إن أنصفتم ـ لكم ، ودفعا ـ والحمد لله ـ لقولكم ، وألحقوا

__________________

(١) في (أ) : عليه وآله. وفي (ج) : عليه وسلم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) سقط من (ب) : وعليهم.

(٣) في (ج) : ونبدوا. لعلها مصحفة.

(٤) هي مهملة في جميع المخطوطات.

(٥) في هذه العبارات خلل وسقط ، لم يتضح منها المقصود للإمام.

(٦) في المخطوطات : لهما. والصواب ما أثبت. لأن الضمير عائد على الرءوس. والنسق : العطف.

(٧) يعني : بإعادة الخافض وهو الباء.

٥٣٨

ذوات الواو بذوات الواو وأقروا ذات الباء إذا كانت واحدة فردا ، فكفى بهذا لما قلتم ردا إن قبلتم فيه رشدا أو هدى ، وقد وضعنا كتابا كبيرا في الطهارة (١) كلها واستقصينا فيه ، بما يكفيه ، كفانا الله وإياكم بالحق كافية ، وألبسنا وإياكم لباس عافية (٢).

[باب الوضوء]

فإذا زالت الشمس ومالت ، فضربت الظلال شرقا وطالت ، (٣) فقل الحمد لله الذي أزال الشمس بعد استواء واعتدال ، وجعل لها وفيها ما جعل (٤) من مختلف الظلال. ثم توضأ بعد الزوال متى شيت ، وفي أي وقت الصلاة هويت ، ولا تتوضأ أبدا قبلها ، ولكن إذا أردت أن تقوم لها ، فعند ذلك فتوضأ ، وإنما تأويل الوضوء أن يتنقى ، إلا أن يكون متوجها لها وإليها ، ويريد القعود انتظارا أو محافظة (٥) عليها ، أو يريد صلاة نافلة قبلها ، فيجوز الوضوء لديها وبالانتظار لها ، فأما إن تشاغلت بعد الوضوء عنها بشغل من الأشغال ، أو بعمل ما كان ليس لها من الأعمال ، فلسنا نحب ذلك لك ، ولا أن تخلط الشغل بما يشغلك.

وتبدأ ـ إن شاء الله ـ وضوءك بالماء ، بالإفراغ على يدك اليمنى من الإناء ، فإذا غسلت اليمنى ، فأفرغ بها على اليسرى ، فأنق بها ما أقبل وأدبر من دنس ، ثم أنق من كل دنس أو درن يسراك ، واغسل وجهك كله بها مع يمناك ، واغسل بهما لحيتك وعنفقتك وشاربك ، وأبدأ بالمضمضة والاستنشاق ، ولا تلتفت إلى ما في أيديهم فيهما

__________________

(١) حسرة على هذا الكتاب وأمثاله من كتب الإمام المفقودة. فإنا لم نقف من كتابه المذكور إلا على وريقات سبقت ، ولعل الله أن يمن به وبأمثاله. راجين ممن لديه شيء من ذلك أن يوافينا به أو لديه علم بموضعهما ، والله أسأل أن يكتب ثوابه.

(٢) في المخطوط : عافيته. وما أثبت اجتهاد.

(٣) في (ب) و (ج) : فضرب. وفي (ب) و (ج) : أو طالت.

(٤) سقط من (ب) : لها وبها ما جعل.

(٥) في (ب) : ومحافظه.

٥٣٩

من الأخبار ، (١) فإنه زور ، وباطل وغرور ، لأن في ذلك من الأنف والفم والمنخرين ، وغيرهما من اللحية والعنفقة والشاربين ، من الوجه وأقسامه ، فحكمهن كلهن في الغسل كأحكامه ، يلزمهن كلهن من الغسل ما لزمه ، إذ جعلهن الله كلهن منه ، فمن ترك منهن كلهن شيا ، لم يكن وضوءه له في صلاة مجزيا ، وكان عليه الإعادة لكل صلاة صلاها ، كما عليه الإعادة لو ترك ناحية من ذراعه فتعداها.

فإذا فرغت من وجهك كله ، وغسل ما أمرك الله به من غسله ، فاغسل يمنى يديك إلى المرفق بيسراهما ، ثم يسرى يديك بيمناهما ، فإذا فرغت من غسل يديك فامسح بيمنى [ويسرى يديك] ، رأسك كله وأذنيك ، ما أقبل منهما وما أدبر ، كما يحلق في الحج ما عليهما من الشعر ، ولأنهما من الرأس حلق ما عليهما من شعرهما ، وكذلك هما فيما هما عليه من المسح كأحكامه ، يلزمهما من المسح ما لزمه ، ولذلك جعلنا أحكامهما حكمه.

وبعد فإذا فرغت من مسح الرأس والأذنين ، فاغسل بعد ذلك القدمين ، تبدأ بيمناهما قبل يسراهما ، غسلا سابغا يستقصى به انقاؤهما ، فإن الله أمر بذلك فيهما ، وحكم بالغسل عليهما ، لقوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، فاغسلوها ، (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] فاغسلوها ، فألحقهما بالوجه واليدين في النسق ، وتابع بينهن كلهن جميعا في نسقهن باللّحاق ، ليس بين ذلك كله فرق في فهم ولا تفسير ، إلا ما في اللسان العربي من التقديم والتأخير. فتأويل : (إِلَى الْمَرافِقِ) ، و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، فيما جعل الله في اللسان العربي من التبيين ، كقول القائل : وحتى الكعبين ، كما يقول القائل خرجت إلى الكوفة يريد دخلتها ، وصرت إلى مكة ، يعني دخلتها ، فهذه حدود الوضوء ، لكل طرف وعضو ، ليس لأحد من الخلق كلهم أن ينتقصها ، بعد الذي بيّنها الله به من أمرها وخصها ، ومن انتقص من حدودها شيئا ، لم يكن شيئا من وضوءه له في صلاته مجزيا ، ومن قدم منها مؤخرا ، أو أخّر من حدودها مقدما ، لم تجزه طهارته ، ولزمه إذا لم يضع كل شيء منها موضعه إعادته.

__________________

(١) يعني : من أن المضمضة والاستنشاق ليسا بواجبين في الوضوء.

٥٤٠