مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

[الاغتسال من الجنابة أو النفاس]

وعلى من تطهر مما أمره الله بالتطهرة منه من الملامسة والاجتناب ، أن يغسل جسده كله جميعا ولا يلتفت فيتخفف إلا فيما تجوز الصلاة فيه من الثياب ، مع ما أوجب الله سبحانه عليه من اغتساله ، بما كان أوجبه الله عليه قبل من الوضوء على حاله ، لأن الله سبحانه قد فرض الوضوء أولا وحكمه ، كما فرض من الغسل في ملامسة النساء عليه فلزمه ، فجعل الله الوضوء عليه للصلاة واجبا ، كما أوجب عليه الغسل من الجنابة إذا كان جنبا. وعليه أن يقدم من الوضوء عند اغتساله وتطهره ، ما قدمه الله عليه وبيّنه له فيه من أمره ، فإن انتقص شيئا مما عددنا من هذا كله ، في طهارة لباسه أو في شيء مما حددناه من وضوءه وغسله ، كان منتقصا لما أمر به ، وعاصيا ـ فيما انتقص ـ الله ربه ، وكان عليه في ذلك كله الإعادة لما ترك ، وإلا كان هالكا عند الله سبحانه بتركه له فيمن هلك ، ومنتقصا بما ترك منه لأمر الله وعهده ، ومتعديا لما حدد الله في الطهارة من حده.

فإن لم يجد المتوضّئ المغتسل ، أو المتوضّئ الذي لا يغتسل ، ماء طهورا يتطهران لصلاتهما به ، تيمما صعيدا طيبا لا يشكان في طهارته وطيبه ، فمسحا إذا لم يشكا في طهارته منه بوجوههما وأيديهما ، فإذا فعلا ذلك فقد أديا فرض الله في الطهارة عليهما ، ولا يطهرهما في التيمم ويجزيهما مسح وجوههما وأيديهما ، حتى يعلق التراب بهما وعليهما ما يبين به أثر التراب فيهما. ومكان ما للوجه من الحد في مسحه من الصعيد ، مكان ماله من الوضوء سواء وفقا من التحديد ، وحد مسح متيمم الصعيد إذا مسح بيديه ، أن يمسح باطنهما وظاهرهما إلى مرفقيه ، ولا يطهر أبدا إلا من أتم طهارته بيقين لا شك فيه ، ولا ينقض وضوءه ولا طهارته بعد يقينه بها إلا يقين بنقضها ثابت ويصير إليه ، وإلا فطهارته أبدا ووضوؤه (١) وتطهيره ، لا يزيل يقينه بها شك منه ولا حيرة ، ولا ينقض ماله بها من حكم التطهر ، إلا ما خرج من قبل أو دبر ، أو حدث من دم سائل يقطر ، أو يسفح من أي جسده خرج فينحدر ، فأما ما خرج منه من البدن

__________________

(١) في المخطوط : ووصوباته. ولعل الصواب ما أثبت.

٥٠١

يعلق ولا يدفع ، أو يسبح من متعلقه في البدن فينقطع ، فليس مما يحتسب به ولا يعد ، ولا مما ينقض الطهارة ولا يفسد. وكل ما يجب على الرجل في التطهرة والوضوء ، فواجب مثله سواء ، على كل مرة حرة كانت أو أمة ، لأنهم كلهم ملة وأمة.

ونفاس المرأة وحيضها فما كان بعد من دمها ، فهو فيما ينقض عليها من طهارتها كالدماء وحكمها ، فإذا انتهى حيضها ووقف ، ونقيت منه حتى تنظف ، فعليها الغسل من ذلك كله ، لا تطهر أبدا إلا بغسله.

فإن خرج بها وقت طمثها أو نفاسها عما تعرف فعليها الغسل من ذلك من عدة أيامه ، خرجت من حكم الطمث والنفاس وكان كغيره من الدم وأحكامه ، يغسل منه غسلا واحدا ، ثم يتوضأ بعد كل صلاة وضوءا فردا ، فإذا عاد وقت طمثها إليها ، عدّت ما كانت تعرف من وقت قرء واحد من أقرائها ، ثم اغتسلت عنده ، ثم عادت للوضوء بعده.

الاعتقاد

وعلى من قام من الرجال أو النساء لصلاة واحدة أو أكثر منها أن يتوضأ لها كلما قام إليها أبدا ، وهي وإن اجتمعت فإنما فرض الله فيها وعند القيام لها وإليها على من يريد أن يصليها وضوءا واحدا ، فإن هو فرق بين قيامه لصلاته بإقبال أو إدبار في شيء من حاجاته ، انتقض عليه بذلك عقد وضوءه لصلاته وطهارته ، ولزمه الوضوء كلما قام إلى شيء مفروق أو مجموع من صلواته ، وإن ثبت بعد الوضوء في مسجد من مساجد الله أو بيت من بيوت ذكره ، فهو ـ ما ثبت فيه وأقام أبدا ـ ثابت على وضوءه وطهره ، لأنه إذا كان كذلك فهو قائم إليها ، منتظر لها بعد ومقبل عليها.

ألا ترى كيف يقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩) [الجمعة : ٩] ، فما أمر الله به من السعي إلى ذكره والجمع فهو قبلها.

ومن القيام إلى الصلاة قعود من قعد لها منتظرا أو عليها مقبلا ، ولم يكن بغيرها من أمور الدنيا عنها مشتغلا ، فهو قائم في ذلك ـ وإن طال ـ إليها ، وكأنه بذكره

٥٠٢

لله في ذلك قد دخل فيها ، فوضوؤه أبدا ما كان كذلك وعلى ذلك غير منتقض ، وهو في ذلك مؤدي لما عليه من الطهارة لها من الفرض ، فهذا فيما به قلنا ، وما به في قولنا استدللنا.

[لباس المصلي]

وأوجبنا اللباس في الصلاة على كل مصلي ، وحرمنا على كل من صلى من المؤمنين كل تعري ، بدت منه عورة مستورة ، أو ظهرت معه فيه منه عورة ، لقول الله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) [الأعراف : ٢٦]. واللباس ما وارى العورات وغطّاها ، والرياش فزيادة اللباس على ما سترها وواراها ، ومما أوجبنا له ذلك أيضا ، ما أوجبه الله تبارك وتعالى منه على بني آدم ففرضه عليهم فرضا ، فقال سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) [الأعراف : ٣١].

فأمر تبارك وتعالى جميع الناس ، بالأخذ عند كل مسجد لزينة اللباس ، وفيما قلنا به من هذا من منزل القرآن ، ما كفى وأغنى كل ذي رشد وإيمان.

ولا يجوز لأحد أن يصلي شيئا من صلاته بشيء سرقه من ماء ولا لباس ، لأن الله سبحانه قد حرم الصلاة عليه به كما حرمها عليه بغيرها من الأنجاس.

[الاحتلام]

ومن اجتنب في منامه ، حتى يمني مما رأى في احتلامه ، وجب عليه من ذلك الغسل في أمنائه ، ما يجب على اليقظان في إنزاله لمائه. ومن كان نائما فلم ينزل ولم يمن ، أجزأه في ذلك كله من الوضوء ما يجزي كل متوضئ ، فإن غشي أهله فأكسل ولم يمن ، لزمه الغسل في ذلك كما يلزمه في الإمناء سواء ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا

٥٠٣

التقى الختانان وجب الغسل) ، (١) وفي ذلك ما يقول الله سبحانه (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣] ، والجنب فإنما هو الممني ، المعرض لإمنائه عن أهله المنتحي ، ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) [النساء: ٣٦] ، والجار الجنب ، فهو القاصي المنتحي بغير ما مرية ولا كذب ، لا يمتّه بقربى وهي في الرحم ماسة ، والإجناب فهو ما ذكره الله سبحانه من الملامسة ، لأن الله سبحانه يقول تبارك وتعالى في هذه الآية ، ما يدل على أنها الإجناب بغير شك ولا مرية : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) [المائدة : ٦]. ولو لم يكن الإجناب هو ملامسة النساء ، لما احتيج في هذه الآية إلى ذكر وجود الماء ، فقال سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة : ٦] ، وطيب الصعيد لا يكون قذرا ولا قشبا(٢).

وسواء احتلم فأمنى في احتلامه. أو لامس النساء فأمنى في غير منامه ، ومن اغتسل في اكساله ، لم يكن مذموما على اغتساله.

باب القول في السرقة

وأوجبنا على من سرق سرقة ألا يتوضأ بها ولا يصلي فيها ، لأنه عندنا في حكم الله ملعون عند الله بها وعليها ، ومنهي منها أشد النهي من الله عن حبسها عن أهلها

__________________

(١) أخرجه أبو داود ١ / ٥٦ (٢١٦) ، والترمذي ١ / ١٨٠ (١٠٨) ، وابن ماجة ١ / ١٩٩ (٦٠٨) ، ومالك ١ / ٤٦ (١٠٣) ، وأحمد ٢ / ١٧٨ (٦٦٧٠) ، وابن حبان ٣ / ٤٥٢ (١١٧٦) ، والنسائي في الكبرى ١ / ١٠٨ (١٩٦) ، والشافعي في المسند / ١٥٩.

(٢) القشب : اليابس الصلب.

٥٠٤

طرفة عين ، ومحكوم عليه فيها بالقطع فيما شرعه الله من أحكام الدين ، وكيف يجوز أن يصلي على سرقة؟! أو في سرقة من سرقاته ، أو يتوضأ بما قد سرقه ، فيكون بما كان من وضوءه من ذلك ، عند الله في أهلك المهالك ، قد أحبط الله به عمله وأجره ، وأبطل بما ركب من ذلك طهره ، فلا وضوء ولا طهارة له ، وكيف يكون طاهرا أو متطهرا وقد أبطل عمله ، بما فارق فيه من التقوى ، وركب فيه بما (١) ركب من كبائر الأسواء ، ولا يقبل الله إلا من المتقين ، ولا يصلح الله عمل المفسدين ، فعمله غواء فاسد ، وهو عن التقوى عاند.

وكيف يصلح الله وضوءه وطهره ، وقد أحبطه الله ودمّره؟! وكيف يطيب ذلك أو يطهر به ، وقد أبطل الله سعيه وعمله ، فلم يتقبله جل ثناؤه عنه ، ولم يصلح له ما عمل منه.

وكذلك ، ومن ذلك ، كل أرض مسجد أو مكان ما كان أخذ من أهله غصبا ، أو مسجد بني بمال سرق أو غلب عليه أهله من المؤمنين أو الذميين غلبا ، فلا يحل لأحد أن يأتيه ، ولا يسع مؤمنا أن يصلي فيه ، لأنه اتّخذ بكفر في دين الله ومعصية ، وأسس بأسباب لله سبحانه غير مرضية.

ألا تسمع لقول الله سبحانه ، ما أنور بيانه : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨) [التوبة : ١٠٧ ـ ١٠٨]. فنهاه صلى الله عليه إذ بني لمعصية وبمعصية عن أن يقوم فيه أبدا ، وجعل تركه للقيام فيه وإن كان مسجدا من المساجد طاعة وهدى ، وكيف تجوز فيه صلاة ، أو يكون له طهر أو زكاة؟! ولم يأذن الله سبحانه في بنائه لمن بناه قط ، بل بناؤه له معصية لله كبيرة وسخط ، ودخوله على من بناه محرّم لا يحل ، فكيف تحل فيه صلاة أو تقبل.

__________________

(١) هكذا في المخطوط. ولعلها : ما.

٥٠٥

ألا تسمع لقول الله جل ثناؤه ، فيما رفع من البيوت بإذنه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) [النور : ٣٦ ـ ٣٧]. فدل سبحانه عليها وعلى زكاتها ، بما ذكر من أذنه في رفعها وبنائها ، فلو كان ما أذن الله في رفعها منها كما لم يأذن فيه ، لكان ذكر الأذن منها فضلا (١) لا يحتاج إليه ، وكان سواء فيها أذن أو لم يأذن ، وكان ما بيّن من ذلك كما لم يبيّن ، فلما لم يأذن سبحانه لأحد في رفع المسجد الحرام ، كان محرما فيها ـ فضلا عن الصلاة ـ كل دخول أو قيام.

ومن ذلك ما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يقوم في مسجد الضرار إذ بني مخالفة لله سبحانه وعصيانا. (٢) ولقد كان ما ذكرنا من هذا الباب ، قبل ما نزل من وحي الكتاب ، وأن في الجاهلية منه لرسما ، أصابوه فكرة أو تعلما ، فقالوا (٣) قريش عند ما أرادوا من بناء الكعبة : لا تخرجوا فيما أردتم (٤) من بناء بيت ربكم ، إلا نفقة طيبة ، فاجمعوا فيما تريدون من بنائه من كل مال زكيّ ، ونقّوه من كل ظلم ومن أجر كل بغيّ.

الكلام في الدم

وأوجبنا في الدم إذا سال أو قطر ، أن يتوضأ منه من أصابه ذلك ويتطهر ، لمشابهته في تحريمه وخروجه من الأبدان المتطهرة ، لما يجب به الوضوء إذا خرج من مخرج البول والعذرة ، وكذلك كل ما حرم من هذه الأشياء كلها على كل آكل أو شارب شربه أو أكله ، وجب على كل متطهر لله في صلاة أو موقف طهارته وغسله.

فإن قال قائل : فما بالكم لم توجبوا الوضوء في قليله ، كما أوجبتموه في قليل

__________________

(١) في المخطوط : فضل.

(٢) في المخطوط : وعصيان. ولعل هنا عبارة ساقطة.

(٣) كذا في المخطوط ، فإذا كانت كذلك فلها وجه في العربية.

(٤) في المخطوط : أرادوا. وما أثبت اجتهاد.

٥٠٦

البول وكثيره؟ قلنا : للتبيين بحمد الله المنير ، ولأوضح بيان قيل : بمثله في تفسير ، لأن الله سبحانه حرم قليل البول وكثيره ، فألزمنا كل من توضأ غسله وتطهيره ، وأنه لم يحرم من الدم إلا ما كان مسفوحا ، فكفى في هذا فيما فرقنا بينه وضوحا. والمسفوح من الدماء ، من كل ما سال أو قطر ، أو جرى فتحدر ، فلولا أن المحرم من الدماء هو المسفوح بعينه ، وأن الله سبحانه بيّن ذلك وشرحه بحكمته وتبيينه ، لما جد الرسول عليه‌السلام ولا غيره ممن أكل لحما ، أن يكون في أكله له معه دما ، لأنه ليس من لحم قليل ولا كثير ، لا من الأنعام ولا من الطير ، إلا وبين أضعافه لا محالة دم ، فسبحان من حكم فيه حكم من يعلم.

فلم يحرمه تبارك وتعالى منها تحريما مبهما ، فيكون بذلك لما أحل من بهيمة الأنعام محرما ، فيتناقض أمره فيه وحكمه ، ولا يفهم عنه محلّله أو محرّمه ، ولكنه فرق بينه سبحانه ففصله ، ونزل كل حرام منه وحلال منزله ، وليس في شيء منه تقصير ولا فرط ، ولا يعرض لأحد مع حسن نظر فيه حيرة ولا غلط. فقال سبحانه : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥] ، فبين تحريمه فيه بيانا مشروحا ، فهذا ما به فرقنا بين قليل العذرة والبول ، وله ومن أجله صرنا فيه إلى ما صرنا إليه من القول ، وكل شيء من الدماء كلها وإن قل كان في عضو من أعضاء الوضوء ، غسل ذلك كله أو مسح حتى ينقى منه جميع ذلك العضو ، فلا يرى منه فيه أثر ، ولا يبقى فيه منه دنس ولا قذر ، لأن الله سبحانه أمر بغسله ، فأوجب الغسل الذي هو الانقاء على كله.

القول في النفاس

وأوجبنا الغسل في النفاس كما أوجبنا في الحيض سوءا ، لأن النفاس محيض وإن اختلف به وفيه الأسماء.

وقد ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المحيض واختلاف أسمائه ، أنه قال لمرة كانت معه من نسائه ، فطمثت ، فوثبت فقال لها صلى الله عليه : (مالك أنفست) (١)

__________________

(١) أخرجه البخاري ١ / ١١٥ (٢٩٤) ، ومسلم ١ / ٢٤٣ (٢٩٦) ، والنسائي في المجتبى ١ / ١٤٩ (٢٨٣) ، ـ

٥٠٧

وفصحاء العرب والناس ، يدعون المحيض باسم النفاس ، والنفاس وإن دعي محيضا ، فقد يدعا طمثا أيضا. وقد فسر الله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]. فأوجب من ذلك كله التطهر ، (١) وأمر فيه كله من الغسل بما أمر ، فأوجبنا اتباعا فيه لأمر الله وتنزيله ، واستدلالا بما دل الله به عليه من دليله.

فإن سأل سائل عن الكدرة والصفرة ، وما يعرص من ذلك في بعض الأحوال للمرة؟

قيل : أما ما كان من ذلك بين فترات دفق الدم ، وكان وقت محيضها فيه لم تقطع بعد عنها ولم تنصرم ، فهو من المحيض ودمه ، والحكم فيه عليها كحكمه ، فإذا انقطع عنها المحيض وهو خالص الدم ومحضه ، وجب عليها عند انقطاعه عنها الغسل ولزمها فرضه ، لأن المحيض والدم إنما هو ما كان خالصا محضا ، كما أن المحيض منه ما كان مشوبا بغيره متمحضا ، (٢) من دلائل ذلك أيضا ، قول بعض العرب إنا لنشرب اللبن محيضا ومحضا ، يريد بالمحض الخالص منه المحض؟ ، والمحيض فما قد خلط بالماء ومحض.

القول في الحبلى

ومن سأل عما ترى من ذلك الحبلى ، فقال : أمحيض هو عندكم أم لا؟

قيل : لا ليس بمحيض منها ولا طمث ، والحكم عليها فيه كالحكم عليها في كل حدث حدث ، عليها أن تتوضأ من ذلك إذا رأته وضوءا ، أو تغسل أعضاء الوضوء له عضوا عضوا ، وإنما دعانا إلى تصحيح اسم المحيض ، (٣) وما بيّنا به منه بذكر المحض

__________________

ـ وابن ماجة ١ / ٢٠٩ (٦٣٧) ، ومالك ١ / ٥٨ (١٢٥) ، والدارمي ١ / ٢٦٠ (١٠٤٥) ، وأحمد ٦ / ١٨٤ (٢٥٥٥٤) ، وغيرهم.

(١) في المخطوط : التطهير. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : مشوب بغيره متمحضا بغيره. وهي زيادة.

(٣) كذا في المخطوط ، ولعلها : الحيض.

٥٠٨

والمحيض ، ما أردنا من تصحيح ما حكم الله سبحانه به منه للمرة وفيها ، لكي لا يزول ما أثبته الله سبحانه إذا انقطع المحيض من فرض الصلاة عليها ، فلو لم يبن ذلك بما قلنا ـ وأبنّا ، ولم يقبله من وصل إليه عنا ـ لكان الاحتياط للمرة فيه ، وإن التبست معانيه ، أولى لمن التبس عليه ما قلنا به فيها وأرضى ، وأجدر لأن لا يبطل لله عليها فرضا.

القول في الحجامة والرعاف

إن سأل سائل فقال : هل يجب عندكم الوضوء من الحجامة والرعاف؟

قيل : نعم ، أوليس قد فرغنا من هذا فيما قدمناه لك (١) من الذكر والأوصاف.

فإن قال : ما تقولون فيمن قاء دما أو قلسه (٢)؟

قيل : هذا أيضا قد بيناه نفسه ، فيه وفي الرعاف والحجامة ، (٣) ما أوجبنا في الدم المسفوح من الطهارة الواجبة اللازمة ، لأن هذا كله مسفوح متحدر ، جميعه يقطر.

فإن قال : فما تقولون فيمن بصق بصاقا مختلطا بدم فهنا لا يسفح (٤) ولا يقطر؟

قيل : ليس عليه في هذا وما أشبهه من الدم وضوء ولا تطهّر ، وليس الوضوء والتطهر ، من الدم إلا فيما ينحدر ، فأما ما ثبت من الدم في مكانه فلم يزل فليس ينقض عندنا وضوءا ولا طهرا ، لأنا لم نسمع لذلك في كتاب الله سبحانه ذكرا ، ولكنا نرى له أن يمضمض منه فاه ، ففي ذلك إذا فعله به ما كفاه ، كما لو أصاب عضوا من أعضائه ، أمرناه بتنظيف العضو وحده منه وإنقائه.

فإن قال : فما تقولون فيمن كان على شيء من بدنه دم فمسحه بخرقة حتى ينقيه ، هل يجزيه ذلك من غسله ويكفيه؟

__________________

(١) في المخطوط : لله. لعلها تصحفت.

(٢) من القلس.

(٣) في المخطوط : وفي الحجامة والرعاف. وما أثبت اجتهاد.

(٤) في المخطوط : لا يسبح. مصحفة.

٥٠٩

قيل : نعم إذا مسحه حتى ينقا منه أثره ، فقد أجزأه ذلك فيه وطهّره ، وكذلك دم لو خرج من أنفه ، فأخذه بإصبعه أو إصبعين من كفه ، ثم عركه حتى يذهب ريحه وأثره ، كان في ذلك أيضا ما أجزأه وطهره.

وكذلك ما أصاب الثوب من غير مسفوح الدماء ، اكتفى فيه بالعرك والإنقاء ، وإذا ذهب بالعرك أثره ، فهو نقاه (١) وطهره.

فإن قال قائل : فلم لو توجبوا في قليل المني من طهّره بالعرك ما أوجبتم في قليل الدم(٢)؟

قيل : لأن الله سبحانه لم يفرق بين قليل المني وكثيره فيما أوجب من نجاسته في الحكم ، وقد فرق بين قليل الدم وكثيره في حكمه ، بما خص به مسفوح الدم من تحريمه ، فلذلك فرقنا فيه بين الكثير القليل ، (٣) وقلنا فيه بما دلنا الله سبحانه عليه من التنزيل.

ومن سأل عن دماء الخنافس وما يشبهها من الجعلان ، وعن دم الثعابين (٤) والجراد والذبان؟

قيل : هذا كله قل أو كثر ، ليس مما يسفح ولا يسيل وإن هو عصر ، ولا ينجس من كل دم كما قلنا إلا ما سال أو قطر ، ويستحب منه كله ما يستحب من قليل الدم أن يغسل ويطهر ، ولا نوجب منه إن لم يغسل إعادة لوضوء ولا صلاة ، كما نوجب ذلك على من تركه من الأنجاس المسماة ، لأن الله سبحانه لم يسمه كما سماها نجسا ، وإنما استحببنا غسله لأنا نراه وسخا ودرنا ودنسا ، وهذا كله أجمع فلا ذكاة عليه ، وذلك مما يدل على حقيقة قولنا فيه ، لأنه إذا كانت ميتته للطهارة مستحقّة ، كانت أخلاطه كلها كذلك وإن كانت متفرقة ، وكذلك ما قل من الدم حتى يكون في القلة

__________________

(١) عادة الإمام تسهيل الهمزة وهي لغة الحجازيين. فقوله : نقاه ، أصلها : نقاؤه. وكذلك قوله فيما سبق :

لمرة ، أصلها : لمرأة.

(٢) في المخطوط : الدماء. وما أثبت اجتهاد لتوافق السجعة التي تليها.

(٣) في المخطوط : بين القليل والكثير. ولعله سهو من النساخ وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٤) في المخطوط : البعاسير ، ولعلها مصحفة. وما أثبت اجتهاد.

٥١٠

والصغر ، شبيها بالخردلة أو بما زاد قليلا عليها من القذر ، (١) ولا تجب على من صلى به إعادة ـ إذ لا يسفح ـ لصلاته ، ولا ينتقض عليه وإن لم يغسله [شيء] من طهارته ، وما كان من الدم لا يسفح من خروجه ، ولا يقطر عن رأسه ، فلا إعادة فيه ، فإن كان في بدن المصلي أو ثوبه دم يكثر ، حتى لا يشك في أنه مما كان يسيل أو يقطر ، فنسيه حتى صلى ، (٢) عاد لصلاته فصلى ، لأن نسيانه لما يجب عليه منه ، لا يزيل فريضة الله في الصلاة عنه ، ولم نوجب إلا ما أوجبه غيرنا.

القول في التيمم

وإن سأل سائل عن من لم يجد ماء وكان في مكان لا يقدر فيه أن يجد طيب الصعدان كيف يصنع في صلاته ، وما الذي يجب عليه من طهارته؟

قيل : يصلي ولا يتيمم بشيء وإن حضره وكثر عنده فلم يعدمه ، إلا أن يجد الصعيد الطيب الذي أمره الله سبحانه أن يتيممه فليتيممه ، فإن لم يجده لم يمسح يديه ولا وجهه بغيره ، وكان قد زال عنه فرض ما أمره الله فيه بتطهيره ، لأن الله سبحانه لم يذكر أن طهرا يكون إلا به أو بالماء ، وقد علم الله جل ثناؤه مكان غيرهما من الأشياء ، فلم يأمر المؤمنين به ولم يذكر لهم سبحانه فيما ذكر من تطهير الصعيد لهم ، وغناه في الطهارة عنهم ، (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦].

وقد قال غيرنا : إن من وجد برذعة حمار ، أو كان في بيت مبلط بزجاج أو رخام ، تيمم أيّ ذلك وجده فمسح بوجهه ويديه ، وكان ذلك مؤديا عنه لفرض الله في الطهارة عليه ، وهذا خلاف لما أمر الله به من تيمم الصعيد لا يخفى ، وقول لا يقول به إلا من جهل وجفا ، ولو جاز أن يتيمم بما هو غير الصعيد لا يشك فيه من هذه

__________________

(١) في المخطوط : من القذر من الدم. وهي زيادة من سهو النساخ.

(٢) في المخطوط : حتى صلى ثم عاد. فحذفت (ثم) لأنها زايدة لأن جملة (عاد لصلاته فصلى) جواب الشرط ، وما بعدها تعليل.

٥١١

الأشياء ، لجازت الطهارة بخلاف ما أمر الله به من الوضوء بالماء ، لأن خلاف ما بين الماء ، وغيره من الأشياء ، ليس بأكبر (١) في المخالفة من خلاف الصعيد ، للرخام والحديد ، فإن جاز أن يتيمم بخلاف الصعيد جاز أن يتوضأ بما هو مخالف للماء من كل ما كان له مخالفا من لبن أو غيره ، ثم يكون بذلك مؤديا لما عليه من كل عضو وضّاه به من تطهيره.

القول في الماء القليل

ومن سأل عمن كان معه ماء قليل لا يكفيه ، ما الذي يجب لله في ذلك من الطهارة عليه؟

قيل : يجب عليه فيما وجد من الماء ، أن يتوضأ به ما كانت له فيه كفاية من الأعضاء ، يبدأ في ذلك بما قلنا من يمنى كفيه ، ثم بالأول فالأول مما يجب في الطهارة عليه ، فإذا أكمل غسل وجهه ويديه وأتمه ، فليس له أن يتمسح من صعيد ولا أن يتيممه ، وإنما له أن يتيمم الصعيد ما لم يكن الماء عنده ، فإذا حضره الماء ووجده ، فإنه يلزمه بوجوده للماء فرض الطهارة به والوضوء ، (٢) لأن الله سبحانه فرض الطهارة بالماء إذا وجد على كل عضو ، فما وجد لعضو منها كلها ماء ، لم تكن له بغيره طهارة ولا اكتفاء.

ألا ترى أن الماء في الطهارة أنقى وأرضى ، وأوجب وإن وجدا جميعا فرضا ، لقول الله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة : ٦] ، فلما وجد الماء لبعضها كان الوضوء به عليه فيه واجبا. ألا ترى أنه لو لم يجد إلى ما فرض الله عليه من الصلاة كلها سبيلا ، لما كان ذلك لما يطيق أن يصليها عنه واضعا ولا مزيلا.

ومن سأل عمن معه بلغة من المسافرين والمرضى ، وهو لا يأمن إن تطهر بها أن يهلك إن هو فعل تلفا وعطبا؟

__________________

(١) في المخطوط : الكلمة مهملة تحتمل بأكثر وأكبر.

(٢) أصلها : الوضوء. لكن الإمام القاسم حجازي اللغة يسهّل الهمزة ليوافق أيضا السجعة التي بعدها.

٥١٢

قيل له : لا يحل له أن يتوضأ به إذا كان أمره فيه كذلك ، لأن الله سبحانه حرم عليه أن يوصل إلى نفسه هلكة متلفة ما كانت من المهالك ، ووعد عليه النار إن هو فعله عدوانا وظلما ، فحكم به عليه لنفسه حكما حتما ، فقال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) [النساء : ٢٩ ـ ٣٠]. وعليه أن يتيمم كما قال الله سبحانه : (صَعِيداً طَيِّباً) فيمسح منه بوجهه ويديه ، وكذلك من خاف على نفسه دون الماء سلطانا أو لصوصا أو سبعا أو كرارا كان التيمم واجبا عليه ، وكان حراما في ذلك كله من ابتلي به أن يعرّض نفسه في شيء منها تلفا ، أو يجشمها في تعريضه والطلب له هلكة أو حتفا.

ومن وجد مع غيره. شيئا من الماء فطلب شراه فلم يعطه إلا بغلاء وهو لثمنه واجد كان عليه أن يشتريه ، لأنه واجد له بما وجد من الثمن واجبة فريضة الله عليه فيه ، كقول الله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ومن حضرته الأشياء فوجد لها وإن غلت ما يشتريها به من الأثمان ، فهو لها واجد غير شك فيما يعرف من معلوم اللسان ، إلا أن يكون ذلك يحل بماله اجحافا ، أوله في بدي (١) ما معه من طعام أو مثله (٢) إتلافا ، فلا يكون له الاتلاف والاجحاف بنفسه في ذلك ، لأنه يعود في تلك لو فعلها بنفسه إلى ما نهي لها عنه من القتل والمهالك ، وإلى ما لم يرده الله تبارك وتعالى له من الحرج والعسر ، وإلى خلاف ما أراد الله سبحانه بعباده من التخفيف واليسر ، قال الله سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال في آية الوضوء نفسها : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة : ٦].

وقال سبحانه فيما فرض على الأموال من النفقات ، وما حدد من ذلك تحديدا من أحكامه المفصلات : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) [البقرة : ٢١٩]. والعفو من الأموال كلها ، فهو ما لم يكن فيه الإجحاف بها ، وليس قول من قال : لا يشتريه إذا غلا ، قولا يجد له من أنصف أصلا. ألا ترى أنه

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) كذا في المخطوط.

٥١٣

إن زال عنه شراه (١) لغلائه ، لم يكن يجب عليه وإن حضر شيء من شرائه ، وهم يوجبون عليه إذا رخص شراه ويرونه بذلك واجدا للماء ، وهذا فهو الأصل فيما أوجبنا عليه من شرائه في الغلاء ، ولما حددنا من قولنا في الطهارة فروع كثيرة متفرعة ، وهي كلها وإن كثرت ـ والله محمود ـ فيما بيّنا من أصولها مجتمعة.

ومن ذلك إن سأل سائل عن عدد الوضوء فيما يجب عليه ، من غسل كل عضو وبيّنا فيه ، وليس لشيء من ذلك عدد يحصى ، بأكثر من أن يغسل ويوضأ فينقى ، وتحديد ذلك جهالة وعمى ، إذ كان باسم الغسل مسمى ، لأن (٢) الله سبحانه قال : (فَاغْسِلُوا) ، فقد غسلوا أكثروا بعد الغسل أو أقلوا.

فإن سأل سائل عما يجب من الوضوء على كل من كان نائما؟

قيل : قد فرغ من هذا فيما أوجبنا من الوضوء عند كل صلاة على كل مستيقظ قاعدا كان أو قائما.

فإن قال : فإن نام في الصلاة نفسها ساجدا ، أو نام فيها قائما أو قاعدا؟

قيل : وهذا أيضا قد أجبنا عنه وسواء ذلك كله كيف ما كان إذا حق فيه النوم وسمي باسمه ، فهو كله نوم والحكم فيه كحكمه.

ومن سأل عن مسح الرأس يبل من الماء ، على بعض ما قد وضّي من الأعضاء ، هل يجزيه ذلك فيه أم لا؟

قيل : لا يجزيه إذا كان بللا.

ألا ترى أن متوضئا لو وضأ بماء عضوا من أعضائه ، لم يجز له أن يوضي غيره بماء وضاه به من مائه ، وماؤه أكثر وأنقى وأشبه بالكفاية والرضا ، من بلل يكون على عضو من الأعضاء ، فلا يجزيه إلا مسح رأسه بماء جديد ، وأن يأتي في مسحه على القريب منه والبعيد ، مما قبل منه أو دبر ، وكل ما أنبت منه الشعر ، لأن الله سبحانه أمره بمسحه ، كما أمره بغسل يديه ووجهه ، فعليه مسحه كله جميعا ، كما عليه غسل

__________________

(١) أصلها : شراؤه.

(٢) في المخطوط : إن ولعلها كما أثبت.

٥١٤

وجهه ويديه معا.

ولو سأل سائل عمن أمطرت على رأسه السماء ، أو صب على رأسه ماء وهو يتوضأ ، هل في ذلك ما يجزيه من واجب مسح رأسه بيديه أو إحداهما؟

وكذلك أذناه فمعناهما معنى الرأس في مسحه ، وقد فرغنا ـ والله محمود ـ من الجواب في هذا كله ، وفصلناه فيما بيّنا من أصله.

[الاشتغال بغير الصلاة يبطل الوضوء]

وإن سأل سائل عمن مسح رأسه ثم أخذ (١) بعد المسح شعره ، أو غسل يديه ثم قصر بعد غسلهما ظفره ، هل في ذلك لطهارتهما نقض ، أو في تجديد من ذلك عليه فرض؟

قيل : على من قام لصلاته بعد أخذ شعره وظفره ، أن يعود لجميع وضوءه وطهره ، لأن الله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] ، فأوجب عليهم الغسل كلما قاموا إلى الصلاة ليصلوا ، إلا أن يكونوا كما قلنا في مسجد من مساجد الله منتظرين فيه لصلاتهم ، أو مشتغلين فيه بذكر الله فيكونون على وضوءهم وطهارتهم ، ما كانوا فيه لصلاة منتظرين ، أو لله سبحانه فيه ذاكرين ، فإن لم يذكروا فيه وينتظروا ، وخاضوا فيه بباطل فأطالوا فيه أو أقصروا ، كان واجبا عليهم فيها ، الغسل كلما قاموا أبدا إليها.

فإن سأل سائل عن جنب اغتمس اغتماسة في ماء يغمره ، هل في ذلك ما يجزيه ويطهره؟

قيل : نعم ، قد طهر واكتفى ، واغتسل كما أمر وتوضأ ، إلا أن لا يكون أنقى ما أمر بإنقائه ، من دبره وقبله وجميع أعضائه ، فإن ذلك ربما لم ينق ، وإن هو اغتسل وتوضأ ، وقد حددنا ذلك كله وبيّنّاه ، فمن أدى ما عليه فيه فقد طهّره وأجزأه ، ومن لم

__________________

(١) يعني : حلقه أو قص منه.

٥١٥

يؤده كما أمر أن يؤديه ويكمله فلم يؤد إلى الله فيه فرضه ، وكيف يؤديه وقد انتقص بعضه؟

[القيح والصديد والدود]

ومن سأل عما يجب في القيح والصديد ، وما يخرج من الدبر من الدود؟

قيل : أما القيح والصديد فأقل ما فيهما ما في الدم ، وعليهما ما عليه في الحكم ، يغسلان كغسله ، وسبيلهما في النجاسة كسبيله ، لنتنهما وريحهما ، وقذرهما ومنظرهما.

وقد قال الله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]. ويقول سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦]. فمن ترك القيح والأذى له في بدن أو ثوب فقد تقذّر ، ومن لم ينق منها فلم يتطهر ، وقد أمر الله بالتطهر جميع المؤمنين ، وأخبرهم سبحانه أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فأوجبنا التطهر منهما وفيهما ، بما ذكرنا من هذين الوجهين جميعا عليهما.

وأوجبنا الطهارة من الدود فيما أوجبنا من التطهر ، لأنه فيما أوجبنا فيه الطهارة مما يخرج من قبل أو دبر ، من رطوبة أو بلل أو دابة من دود أو غير دود ، أو صفاة (١) أو كسرة صغيرة أو لطيفة كالقذاة من العود ، لأنه لا يخرج من ذلك خارج وإن صغر ويبس ، إلا وقد خرج معه عليه نتن وإن لم ير ويحس ، وفي كل ما خرج من القبل والدبر ، ما قد أوجبناه في الوضوء والتطهر ، (٢) ولذلك ما أوجبنا في الريح وهي ألطف خارج ، يخرج من تلك الموالج ما أوجبنا من الوضوء والتطهرة ، وأوجبنا ذلك فيها لأنها من الأشياء القذرة ، وهي في النتن أشبه شيء بالعذرة فلهذا كله لزمها ما لزمها ، وكان الحكم في هذه الأشياء كلها حكمها ، (٣) وعن الكتاب ما قلنا به فيها ، وبحكم الله في الكتاب حكمنا في ذلك كله عليها.

__________________

(١) في المخطوط : سفاه. ولعلها مصحفة ويحتمل أنها : صفاة.

(٢) في المخطوط : والطهارة. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) في المخطوط : حكما. ولعلها مصحفة.

٥١٦

فإن سأل سائل عما لا ينقطع من بول أو بواسير ، أو عن غير ذلك مما يجب فيه الوضوء والتطهير من جميع الأقاذير؟

قلنا : أي عضو من المؤمن لزمه ، شيء من ذلك فلم ينقطع عنه وداومه ، تركه ـ لما غلب عليه منه ـ على حاله ، ولم يلزمه تطهيره في وضوءه ولا اغتساله ، ونظر إلى كل عضو سواه ، فغسله منه ووضّاه ، لأن الله سبحانه أمره بغسلها كلها ، فلا يزيل عنه مفروض غسلها ، الذي فرضه الله عليه في كلها ، امتناع ذلك عليه في الواحد منها ، ولا يزيل ما زال من ذلك عنها ، وإن كانت العلة من ذلك بدبره أو بإحليله ، كان بذلك واحدا في حكمه وسبيله ، فترك تطهيره ، وطهّر غيره ، مما أمره الله سبحانه بالتطهير له ، وحكم عليه أن يطهره ويغسله ، فترك غسل ذلك وحده إذا لم يمكنه ، ولم تزل العلة عنه. (١) وإنما قلنا بترك غسله إذا غلب أمره ، لأنه لا ينقيه الغسل ولا يطهره ، وإنما أمرنا بالغسل للتطهر ، فربما كان غسله أكثر من الأذى والتقذر ، وادعى إليه وإن كان حرجا لما نهاه الله سبحانه من الإضرار بنفسه ، مع أنه غير مطهّر بذلك للعضو من نجسه. فكل هذا يؤكد فيه ما قلنا ، ويوجب فيه قبول ما قلنا.

[النوم أو السكر يبطل الوضوء]

ومن سأل عمن نام أو هذى أو سكر؟

قيل : عليه أن يتوضأ وأن يتطهر ، لقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣]. فلو صلى صلاة وهو سكران لا يعقل ما يقول فيها ، لكان عليه أن يعود ويصليها ، وكذلك يعود لوضوئه وطهره ، لأنه لا يعلم أثابت أم قد نقضه في سكره ، وكذلك من نام أو هذى ، فإن الفرض عليه هكذا ، لأنه لا يعقل صلاة ولا طهرا ، كما لا يعقل من شرب مسكرا ، فحالهما في ذلك حال السكران ، لما غلب عليهما من النوم والهذيان.

__________________

(١) في المخطوط : فيه. ولعل الصواب ما أثبت.

٥١٧

فإن سأل عمن قدم في الوضوء ، عضوا من الأعضاء كلها قبل عضو؟

قيل : قد فرعنا من هذا كله عليه أن يعود للوضوء ويقدم غسل ما أخر من عضوه ، ولا يؤخر من ذلك عضوا أمر الله سبحانه بتقديمه على غيره من وضوّه ، وإن فعل وصلى كان عليه إعادة صلاته ، لأنه لم يأت بما حدد الله فيها من طهارته.

ألا ترى أنه لو سجد في صلاته كلها قبل أن يركع ، لعاد لصلاته وكان محرّما عليه من ذلك ما صنع ومبتدعا فيه لأخبث البدع ، لأنه عمل منه وفيه ، بخلاف ما حكم الله سبحانه به عليه ، فقدم منه ما أخّره الله فلم يقدمه ، وأخّر منه ما أمره الله بالتقديم له ، فهذا دليل بيّن لما قلنا به فيه ، وشاهد منير فيما استدللنا به عليه ، لا يأبى قبوله منصف ، ولا يخالف فيما قلنا إلا حائر متعسف.

وإن سأل سائل عن ميت وقع في بركة أو بئر ، أو حوض من ماء غير كثير ، هل فيه ما أفسد طهارة الماء؟

قيل : لا ، قد فرغنا من هذا وما كان له مشبها من جميع الأشياء ، فيما حددنا من طهارة الماء ، قل أو كثر ، (١) مما يثبت للماء لونه أو طعمه وريحه فلم يغلب حتى يتغير.

وإن سأل سائل عن بول البعير وغيره من أبوال الحمير الوحشية؟

قيل : كل شيء لم يحرم الله سبحانه من الدواب أكله ، فليس ينجس شيئا أصابه بوله ولا زبله ، وليس شيء مما يحرم من البهائم ينجسه ، إلا ما كان محرما في نفسه ، مثل الخنزير وغيره من المحرمات لحومها (٢).

كمل كتاب الطهارة والحمد لله كثيرا طيبا.

* * *

__________________

(١) في المخطوط : أكثر. ولعلها مصحفة.

(٢) كذا في المخطوط.

٥١٨

صلاة اليوم والليلة

٥١٩
٥٢٠