مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

الناسخ والمنسوخ

٤١
٤٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحسن الكلم كلامه ، وأعدل الحكم في الأمور كلها أحكامه ، فحكمه أفضل الفضول ، وقوله فأنور القول ، وعلى قدر بعده من الخلق في التعالي والجلال ، بعد منهم فيما حكم به وقاله من المقال ، فكان قوله نورا وهدى وروحا ، وحكمه كله مصلحا مشروحا ، فلن يدخل قوله عوج ولا أود ، ولن يلم به جور ولا ظلم مفند ، كله رشد ونور وحياة ، وهدى وبر ومصلحة ونجاة ، فمن حيي بروحه في الدنيا لم يمت فيها بضلاله أبدا ، ومن قارنه في دنياه قارنه في آخرته فوزا مخلدا.

نزل الله لرحمته به كتابا وفرقانا ، وبيّن تنزيله كل شيء تبيانا ، كما قال سبحانه لرسوله، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] ، فليس بعد قوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى) فاقة ولا حاجة في شيء منهن للمؤمنين. وكل ما نزل الله سبحانه من ذلك في القرآن ، وفصّل به وفيه من التبيان ، فقول منه ـ لا إله إلا هو ـ لا كالأقوال ، ذو بهجة ونور وحياة وبهاء وجلال ، وكلام بان عنه سبحانه بصوت لا كالأصوات ، صوت كريم لا يحله مصنوع اللهوات ، ولم يقطعه عواجز الأفواه ، ولم يخرج من بين جوانح وشفاه ، ولو أنه من تلك كان ، وعنها من الله بان ، لكان لما كان من مثل ذلك مثلا وكفيا ، ولما كان كما جعله الله نورا وحيا ، (١) حتى يهدى بنوره من ظلم الضلالة ، ويحيى بروحه من مات من أهل الجهالة ، حتى يرى بعد موته ـ لإحيائه له ـ حيا ، وحتى يمشي به من هداه مبصرا بعد أن كان عميا ، قال الله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) [الأنعام : ١٢٢] ، وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي

__________________

(١) في (أ) و (ب) : وروحا. ولعل ما أثبت هو الصواب.

٤٣

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) [الشورى : ٥٢ ـ ٥٣]. فنور كتاب الله زاهر مضيء يتلألأ ، وما جعل الله به من الحياة فحياة لا تبيد أبدا ولا تبلى.

فتبارك الله الذي نزل الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ، بل جعله كما قال سبحانه كتابا مضيا مفصلا مكتملا : (لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) [فصلت : ٤١ ـ ٤٢] ، فكان في إحكامه لآياته وتكريمه له وإجادته فوق كل محكم ومجيد ، كما قال سبحانه : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] ، فهو خير ما وعظ به واعظ واتعظ به موعوظ.

والحفظ في هذه الآية واللوح ، فهو الأمر المثبت اليقين المشروح ، والمجيد فقد يكون المتقن المحكم ، ويكون العزيز العظيم المكرم ، كما (١) قال الله سبحانه لرسوله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) [الحجر : ٨٧] ، فهو كما قال الله جل ثناؤه العظيم.

وفي تكريم الله له ما يقول تبارك وتعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : ٧٧] ، وفي حكمة كتاب الله ما يقول سبحانه : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) [يونس : ١] ، وفيه ما يقول جل جلاله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) [النمل : ٦].

فكتاب الله بمنّ الله بيّن يلوح ، مبين باهر مشروح ، عند من وهبه الله علمه ، وفهّمه آياته وحكمه ، لما وصل به من نوره ، وفصّل فيه من أموره ، مقدّما ومؤخّرا ، وأمرا ومزدجرا ، وناسخا ومنسوخا مبدلا ، نعمة ورحمة وفضلا ، تصريفا فيه كما قال سبحانه للآيات والأمثال ، وزيادة به في المن والنعمة والإفضال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) [الكهف : ٥٤] ، وقال سبحانه ضاربا ومصرفا وممثلا : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ

__________________

(١) في (ب) : وكما قال سبحانه.

٤٤

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) [الزمر : ٢٧ ـ ٢٨]. وقال سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦) [البقرة : ١٠٦] ، فتبديل الآيات ونسخها وإنشاؤها فهو تفهيم من الله للسامعين وتذكير ، (١) عن غير نقض ولا تبديل ، سخط بحكم من أحكامه في التنزيل ، لأنه لا معقب ـ كما قال ـ لحكمه وفصله ، (٢) ولا مبدل لشيء من كلماته وقوله.

وفي ذلك ما يقول جل جلاله ، عن أن يتناقض في شيء من حكمه [وقوله] ، (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٣٥] ، ويقول تبارك وتعالى في أهل الكتاب : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥) [الأنعام : ١١٤ ـ ١١٥]. وبما بدل من الآيات في القول لا في المغنى ولا في حكم الله المحكم [الحكيم] ، وفيما نسخ بالقول المبدل ، في كتاب الله المنزل ، تثبيتا من الله له وتصريفا ، ورحمة منه وتعريفا ، ما هلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، (٣) إذ لم يبن له ما قلنا به من ذلك ولم يصح ، أيام (١) كان يكتب

__________________

(١) في (أ) : وتذكر.

(٢) في (أ) و (ب) : وفضله. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٣) كان قد أسلم فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم يكتب له شيئا ، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ .....). أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ...). عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا أنزلت علي. فشك عبد الله حينئذ! وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. وارتد عن الاسلام. فنزل فيه قول الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام / ٩٣]. أي : نزل فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) عند ما قال : لقد قلت كما قال.

وقيل : كان إذا أملى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سَمِيعاً عَلِيماً) كتب (عَلِيماً حَكِيماً) ، أو (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كتب (غَفُورٌ رَحِيمٌ). وأنا استبعد هذه الرواية الأخيرة ، إن لم أقطع بكذبها لأنها تشكك في القرآن الكريم.

ولحق بمكة فأهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه يوم فتح مكة ، وكان أخا لعثمان من ـ

٤٥

الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاختلف عنده بعضه في القول والمعنى فيما اختلف منه واحد لا يختلف ، وإن كان القول به قد يتسع وينصرف ، فلما عسف فيه النظر ، ارتد عن الاسلام وكفر.

فعلم الناسخ والمنسوخ والمبدل ، عصمة لأهله فيه من الهلكة والجهل ، ونسخ الآية ـ هداكم الله ـ وتبديلها ، فقد يكون تصريفها بالإيضاح والتبيين وتنقيلها ، لتبين في عينها ، بإيضاحها وتبيينها ، لا نسخ بقصر ولا وهم ولا اختلاف ، ولا تبديل بدا ولا تعقب ولا اعتساف ، وكيف والله يقول سبحانه : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ٣٤ ، ١١٥ ، الكهف : ٢٧] (٢). ويقول تبارك وتعالى : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد / ٤١]. ويقول : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، فكفى بهذا فيما قلنا به هداية ودلالة وتعريفا والحمد لله وتبصيرا.

ولو كان التبديل للآية والنسخ لها هو غيرها ، لكانت إذا الآيات منسوخة مبدلة كلها ، فالنسخ للآية والابدال ، ليس هو الافناء للآية (٣) والابطال ، لأن الآية لو أفنيت وأبطلت ، إذا نسخت وبدّلت ، لما قيل : بدلت ونسخت ، ولقيل أبطلت الآية وأفنيت ، وأبدلت آية أخرى غيرها وأنشئت!! ألا ترى أن الآية لا تكون مبدلة ولا منسوخة ، إلا وعينها قائمة بعد موجودة ، لم تفن وإن بدلت ولم تبطل ، وإن بطل وفني بعض صفات المبدل ، أولا ترى أنك لو نسخت شيا ، لم يكن نسخك له مفنيا ، ولم تكن له ناسخا أبدا ، إلا بأن ترده بعينه ردا ، فإن جئت بضده وغيره ، لم تكن ناسخا له بعينه ، فالآيات كلها أمثال وأخبار ، وأمر من الله جل ثناؤه وازدجار ، وذلك كله من الله في أنه حق

__________________

ـ الرضاعة ، ففر إلى عثمان فجاء به عثمان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يزل به حتى أمّنه.

القصة في الدر المنثور ٣ / ٣١٧ ، وأسباب النزول / ١٥٦ ، والمصابيح للشرفي ٤ / ٧٠ ، والكشاف ٢ / ٣٥ ، والمعارف لابن قتيبة / ٣٠٠ في ترجمة عبد الله.

(١) في (ب) : أيام ما كان.

(٢) في (أ) و (ب) : «لا مبدل لقوله». ولا توجد في القرآن بهذه الصيغة ، وإنما الموجود : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ). الأنعام / ٣٤ ، ١١٥ ، والكهف / ٢٧.

(٣) سقط من (ب) : للآية.

٤٦

وصدق واحد غير مختلف ، ولا متفاوت وإن نسخ وبدّل وصرّف ، بالنسخ له ، والتبديل ونقل كله ، أمر من الله ونهي ، وتنزيل من الله ووحي.

وقد ينسخ الله إلقاء الشيطان ، فيما ينزله الله من وحي وقرآن ، بذكره له عنه ، وتبيين ما كان فيه منه ، فإذا ذكر الله ذلك كله ، وعرّفه جل ثناؤه من جهله ، نفاه من وحيه فأبطله ، فنقي (١) تنزيل الله من ذلك بإحكام الله له وتبرّا ، من كل وهن وتناقض عند من يبصر بعين فكره ويرى ، كقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) [الحج : ٥٢]. وتأويل ألقى في أمنيته : إنما هو إلقاء في قراءته وتلاوته ، وليس ذلك كما يقول من جهله من العامة إنه يلقيه ـ على اللسان ، فينطق به من رسول أو نبي ـ شيطان ، ولم يجعل الله سبحانه على رسول ولا نبي للشيطان ، مثل ذلك التمكن والقدرة والسلطان ، كيف والله تبارك وتعالى يقول : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠) [النحل : ٩٨ ـ ١٠٠]. وفي مثل ما قلنا ما يقول رب العالمين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) [الحجر : ٤٢].

[خرافة الغرانيق]

وجهلة العامة يزعمون أن الشيطان ألقى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتمنى ويقرأ : أذكر آلهة قريش من اللات والعزى ، فقرأ في ذكرها : (وإن تلك لهي الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها (٢) عند الله لترتجى) (٣) ، هذا لا يجوز على رسول الله صلى

__________________

(١) في المخطوطتين : فبقا. مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) الغرنيق : الشاب الأبيض الناعم. وطائر أبيض. وفي (أ) : العليا. وفي (ب) : شفاعتهم.

(٣) رواه في مجمع الزوائد ٧ / ١١٥. ـ

٤٧

__________________

وأخرجه عبد بن حميد ، من طريق السدي ، عن أبي صالح.

وأخرجه البزار ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير.

وأخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح. ومن طريق أبي بكر الهذلي ، وأيوب ، عن عكرمة. ومن طريق سليمان التيمي ، عمن حدثه ، كلهم عن ابن عباس.

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، من طريق يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث : أن رسول الله إلخ ... مرسل صحيح الإسناد.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب.

وأخرجه البيهقي في الدلائل ، عن موسى بن عقبة ، ولم يذكر ابن شهاب.

وأخرجه الطبراني ، عن عروة مثله.

وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم بسند صحيح ، عن أبي العالية.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، بتفاوت يسير مع الذي قبله.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، وعن السدي.

وأخرجه عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وعكرمة.

كانت تلك هي أسانيد هذا الحديث جمعها السيوطي في تفسيره وخلاصته : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرأ : (أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه ، وفي بعضها فألقى في أمنيته (تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى) ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد ، وسجدوا ، ثم جاءه جبرائيل بعد ذلك فقال : اعرض علي ما جئتك به ، فلما بلغ : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى. قال جبرئيل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ، إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج / ٥٢]. وزيد في بعضها ما خلاصته : قال المشركون يذكر آلهتنا بالشتم والشر ، وإن ذكرها بالخير نذكر إلهه بالخير ، وأقررناه وأصحابه ، فتكلم الرسول بها ، فانتشر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تلك الغرانيق ..) ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه. الدر المنثور ٦ / ٦٥ ٦٩.

وهذه خرافة لا أصل لها ، وسخف من القول وزور ، كيف وقد أقسم الله أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كذب عليه باختلاق كلام ، لقطع عنقه (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ ـ

٤٨

الله عليه وآله وسلم ظنة ولا توهمة ، فضلا أن يثبت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله أو ظنه ، وهذا ومثله ، وما كان نظيرا له ، فإذا ألقي في تنزيل الله ووحيه ، أو أمر الله ونهيه ، نسخه الله فنفاه ، وأبطله ونحّاه ، والله سبحانه لا يبطل ولا ينفي وحيه بنسخه وتبديله ، وإن صرفه فزاد أو نقض من الفرض في تنزيله ، كقوله سبحانه : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢) [النحل : ١٠١ ـ ١٠٢]. فكل أمر الله ونهيه هدى ورحمة ، ومنّ من الله على خلقه ونعمة ، فكذلك أمر النسخ والتبديل ، وما ذكر منهما جميعا في التنزيل.

[أقسام النسخ]

ومن الناسخ والمنسوخ فاعلموه ما كان يزاد (١) به في الفرض تكليفا ، أو ينقص به منه رحمة من الله فيه وتخفيفا ، وفي ذلك كله ، بمنّ الله وفضله ، من البركة والرفق ، ومن الرحمة بحسن السياسة والتدبير للخلق ، ما لا يستتر ولا يخفى ، إلا على من جهل وجفا ، كالوصية التي أمر بها من ترك خيرا عند الموت للوالدين والأقربين بالمعروف ، (٢) ثم زيد

__________________

ـ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة / ٤٤ ٤٧]. بيد أن كتب التاريخ والتفسير التي تركت للوراقين والزنادقة يشحنونها بالمفتريات ، اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح ، ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم ، إلا أنه ما كان يجوز أن يدون مثله. وقد شكك المستشرقون وأعداء الاسلام في القرآن الكريم بهذه الخرافة وأمثالها ، وفق ما تمليه عليهم نفوسهم المريضة ، وقلوبهم الحاقدة.

ولو جاز ذلك على الأنبياء عليهم‌السلام ، لما وثقنا في شيء مما جاءوا به ولا أمنّا وقوعه في كل الشرائع.

(١) في (ب) : يراد به. وفي (أ) : يزا به. مصحفتان. والصواب ما أثبت.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة / ١٨٠].

٤٩

فيما أمر به من ذلك ما هو أكثر التوارث بحد مسمى موصوف ، من سدس وثلث وربع ، في مفترق من المواريث ومجتمع ، كرجل ترك ابنه وأبويه ، فلكل واحد من الأبوين السدس لا يزاد عليه ، فإن تركهما وزوجة ، كان لها الربع فريضة ، وللأم ثلث ما يبقى وهو الربع من جميع المال ، وكذلك ما سمى من مواريث الأقربين في مختلفات الأحوال.

وكما أمر به من صلاة ركعتين في الحضر والسفر ، ثم زيد في فرضها فجعلت أربعا في الحضر ، وكقوله في التخفيف ، والوضع لرحمته من التكليف : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦]. فنقص ووضع من ذلك عنهم فرضا كان موظّفا ، وأشياء كثيرة لما تسمع وترى ، في أمور جمة لا يحصيها كتابنا أخرى.

فهذه وجوه من الزيادة والتخفيف في الفرض ، لا يشك من يعقل في أن بعضها من بعض ، ليس في شيء منها اختلاف ولا تناقض ولا بداء ، كما زعم (١) من كان في كتاب الله وأحكامه ملحدا ، بل كلها بمنّ الله مؤتلف متقن ، وجميعها فمصدّق بعضه لبعض محقّق (٢) ، ليس فيها ـ والحمد لله ـ لأحد مقال ، يلحد به فيه إلا مفتر بطّال.

ومن ذلك ما يذكر عن الإنجيل وفيه ، من قول عيس صلى الله عليه : (إني لم آتكم بخلع التوراة ولا بخلافها ، ولم أبعث إليكم لنقض شيء مما جاءت به الرسل من وظائفها ، ولكني جئت لذلك كله مثبتا ، ولما أماته ذلك كله مميتا ، وبحق أقول لكم : إنه لن يبيد الله وصيته حتى تبيد وتنتقض ، السماوات والأرض ، وقد قيل لكم في التوراة : لا تقتلوا النفس المحرمة ، ومن قتلها فإن الله يدخله جهنم المحرقة ، وأنا أقول لكم : إن من قال لأخيه شتما يا أرغل ـ والأرغل (٣) هو الذي لم يختتن ـ فإن له في الآخرة بشتم أخيه نار جهنم) (٤) وهذا فمن زيادة الفرض وتوكيده ، ومن رحمة الله للعباد في حكمه

__________________

(١) فى المخطوطتين : كمن من كان .... ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) لعلها : متحقق. والله أعلم.

(٣) في المخطوطتين : الأرغرل. والصواب ما أثبت ، سيما وقد ذكر ذلك الإمام بنفسه في الرد على النصارى.

(٤) نص الإنجيل هكذا : (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني ـ

٥٠

وتسديده ، وكل ذلك فهدى من الله للعباد ورشد ، وكل ذلك فقد يجب به لله على عباده الشكر والحمد.

ومن ذلك قول عيسى صلى الله عليه في التنزيل ، لمن بعثه الله إليه من بني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٤٦]. وقول الله سبحانه لأهل الكتاب : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧].

ومن ذلك وبيانه ، قوله سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٥٥] ، فجعل تحريمه عليهم بعض ما حرم بعد الإحلال ، من العقاب لهم بظلمهم وعداوتهم والنكال ، فهذا ومثله ، وما كان مشبها له ، فمن زيادة فرضه تأكيدا وتثقيلا ، وعقابا به لمن ظلم من عباده وتنكيلا ، وليس في شيء من هذا كله ، ولا من تخفيف الفرض فيه ولا من تثقيله ، تناقض بحمد الله ، في حكم من أحكام الله ، ولا بداء ولا تعقيب ولا اختلاف ، عند من له بحكمه وفضله اعتراف.

ومن لم يكن بالحكمة مقرا معترفا ، لم يكن إلا عميا معتسفا ، ومن كان معتسفا عميا ، لم يكن في حقائق الأمور مهتديا ، ومن عمى وفارق الهدى ، كان للبهائم (١) مثلا وندا ، كما قال الله سبحانه : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

__________________

ـ الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعا أصغر في ملكوت السماوات ، وأما من عمل وعلم فهذا يدعا عظيما في ملكوت السماوات.

فإني أقول لكم إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم). إنجيل متى الإصحاح الثامن ١٣١٢. لوقا ١٣ / ٣٠٢٧.

(١) في (أ) : للباهيم.

٥١

[الفرقان : ٤٤] ، وصدق الله لا شريك له فيما قال به فيهم تشبيها وتمثيلا ، لهم من البهائم ضلالا ، وأقل في الهدى دركا ومثالا ، لأن الأنعام وإن ضلت عن الهدى في الدين ، ولم تدرك شيئا إلا بحاسة من عين أو غير عين ، فهي مدركة لما ينفعها وما يضرها من المرعى ، وليس كذلك الضالّون من أهل العمى ، لأن من عمي في الدين كان أخذه لما يضره فيه أكثر من أخذه لما ينفعه ، وكان ما رآه منه وسمعه كما لم يره ولم يسمعه ، كما قال الله سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨] ، فكفى بهذا فيهم دليلا على ما مثّلهم به سبحانه لقوم يفقهون.

ألا ترون أن البهيمة تجانب ضرها في معاشها وتأخذ نفعها ، وتحسن لصالح مرتعها من المراتع الصالحة تتبعها ، فمن ضل في الدين فهو أعظم ضلالا منها ، وهو فمقصر صاغر في العلم عنها ، فكتاب الله بريء كله من الوهن والتداحض ، نقي في الألباب من كل اختلاف وتناقض ، واضح عند أهله مضيء الايضاح ، بأضوإ في أنفسهم من وضح الايضاح.

ونسخ ما نسخ منه وإبداله ، (١) فمن آيات الله فيه جل جلاله ، لا يأبى ذلك فيه ولا يدفعه ، إلا من لا يفهم الكتاب ولا يسمعه ، إلا بإذنه لا بنفسه ، فأما من سمعه بيقين قلبه ولبه ، فهو مؤمن بأنه من آيات ربه ، لما بيّنا من ذلك وذكرنا ، وأوضحنا فيه ونوّرنا ، والحمد لله على ما فصّل من الآيات ، وبين برحمته من الرشد والهدايات.

فمن عرف بآي وصل الكتاب من فصله ، ومنشأه ومقرّه من منسوخه ومبدله ، سلم بإذن الله من الهلكات ، (٢) واعتصم بمعرفته من الشبه والمضلات ، ومن عمي وتحيّر عن ذلك ، وقع في بحور المهالك ، لا ينجيه من أمواج لجج غورها ، إلا من وهبه الله فهم آياته ونورها ، وعرف بإذن الله المتصل من المنفصل ، والمقرّ المنشأ من المنسوخ والمبدل ، وعلم أن المنسوخ المبدل فيه من الله رحمة لخلقه ، وحكمة منه سبحانه زاد بها في مبين حقه ، إذ صرّف بالتبديل فيه لهم الأقوال ، وضرب به لهم في التفصيل الأمثال ، فقال

__________________

(١) سقط من (ب) : وإبداله.

(٢) في المخطوطتين : الهلكة. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

٥٢

سبحانه : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد / ٣ ، الروم / ٢١ ، الزمر / ٤٢، الجاثية / ١٣]. فمن لم يكن له نظر ولا فكرة ، لم تنفعه آية ولا تذكرة ، وطبع على قلبه ، ورين عليه بكسبه ، كما قال الله سبحانه : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة: ٨٧]. و (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) [المطففين : ٧]. وما ذكر من الران والطبع ، فهو بما كان لهم من الخطيئة في الصنع ، فليس بحمد الله علينا لمبطل ـ في المنسوخ من كتاب الله والمبدل ، عليه ـ من توهين ، ولا لبسة في دين.

[المكرر في القرآن]

ومن علل الملحدين وأهل الأضاليل ، وما يعارضون به في الكتاب والتنزيل ، بما فيه من ترديد للكلام في تبيينه ، وما ذكر الله من التبيان فيه رحمة منه لأهل دينه ، وفي ذلك بمن الله وإحسانه من الرحمة والنعمة ، ومن البيان المكرم عما جعل بذلك وفيه من العلم والحكمة ، وما لم يزل يعرف أهل النهى والعلم أنه من أرحم الرحمة ، وأحكم ما يعقلون من مفهوم أهل الحكمة ، لم يزل (١) عليه بعض حكماء الأولين ، وقدماء من يعرف بالحكمة من الخالين ، وهو يردد الكلام ويكرره ، ليفهم خليله عنه : أكثر عليك من التكرير في قولي ، يا من هو صفوتي وخليلي ، (٢) لما في الترديد والتكرير للكلام ، من العون والقوة على الإفهام.

وفي ذلك ما يقول آخر من الحكماء ، وفي أوائل ما خلا من القدماء ، ربما (٣) احتيج إلى القول الكثير الطويل ، في الإبانة عن المعنى اليسير. مع من لا نحصيه منهم في عدده ،

__________________

(١) في المخطوطتين : من مفهوم لم يزل أهل الحكمة والرحمة عليه بعض. ولعله تقديم وتأخير في الكلام من النساخ. وما أثبت اجتهاد ، والله أعلم بالصواب.

(٢) في المخطوطتين ليفهم خليل له عنه أكثر عليك من التكرير في قلبي بأسون صفوتي وخليلي. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٣) في (أ) : رما.

٥٣

ممن كان يعرف فضل تكرير القول وتردده ، في ملتمس الحكمة ، ومبتغى الرحمة.

ونحن بعد فنقول : مما لا تنكره العقول : إنه إذا كان القليل من البيان بيانا وإحسانا في غيره ، فالإكثار منه والتكرير أوضح في إحسان المحسن وتثنيته ، (١) لا يأبى ذلك ولا ينكره، من صح فيه فكره ونظره.

وفي تبيينه البيان ، وتكريره في القرآن ، وما هو في ذلك من المن والاحسان ، والحجة لله والبرهان ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) [الحجر : ٨٧]. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣] فكفى بما ذكرنا في هذا كله على ما في التكرير والتثنية والترديد من الهدى والرشاد. فبالله نستعين على شكره ، في ترديده وتثنيته (٢) لبيانه ، وما منّ به علينا في ذلك من إحسانه ، فلو لا رحمته لخلقه ، وحكمته في تبيين حقه ، لما ذكر فيه ولا ردد ، ولا وكد في تبيينه بما وكد ، ولاكتفى فيه بقليل القول من كثيره ، وبجملة التنزيل من تنويره ، ولكنه أبى سبحانه لرحمته ، ولما أراد من آياته وحكمته ، إلا ترديده وتكريره ، وإبانته بذلك وتنويره ، فنوّر منه برحمته أنور النور ، وأوضح أمره فيه بأوضح الأمور.

فتعلموه ـ يا بني ـ وعلّموه ، وفقكم الله لرشد ما وهبكم الله ومنّ به عليكم من أهل أو ولد ومن رأيتموه ، وإن كان في النسب قاصيا بعيدا ، (٣) ولله مريدا ، فإن في تعليمه وعلمه ، ودرك فهمه وحكمه ، النجاة المنجية والفوز ، وهو فكنز الله المكنوز ، الذي كنزه وأخفاه ، لمن رضيه واصطفاه ، وطواه فواراه ، عمن هجره وجفاه ، فلن يفهمه عن الله إلا مجد في علمه مجتهد ، ولن يصيب علمه (٤) إلا طالب له مسترشد.

__________________

(١) في (أ) : وتبيينه.

(٢) في (ب) : وتبينه.

(٣) في المخطوطتين : النسب بعيدا قاصيا ولله مريدا. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) في (أ) : علمه أهله. وفي (ب) : علم أهله. ولعلها زيادة أو أن تكون هكذا ولن يصيب علمه من أهله ...

٥٤

[التدبر في القرآن]

واعلموا يا بني علّمكم الله الكتاب والحكمة ، ونفى عنكم ـ بما يعلمكم منها ـ العمى والظلمة ، أن أول علم الكتاب وتعليمه ، العلم بقدره عند الله وعظمه (١) وإن كان من لم يعلم قدره وغرضه ، أعرض عنه وهجره ورفضه ، فقلّ به هداه واتباعه ، ولم ينفعه مع الجهل استماعه ، بل خسر به ورجس ، كما قال من جل وتقدس : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٨٢) [الإسراء : ٨٢]. فجعله كما تسمعون للمؤمنين شفاء ورحمة ، وللظالمين عمى وخسارا ونقمة ، كما قال تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤].

وفيما زيدوا به من الرجس ، مع ما فيه من الحكمة والقدس ، ما يقول الله سبحانه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ...) [التوبة : ١٢٤]. قال الله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

ففرض كتاب الله يا بني وقصده ، فهو هداية الله به ورشده ، والرشد من الله والهدى ، فهو الفوز بالخير والنجاة من الردى ، ومن ظفر برشده وهداه ، فقد أصلح الله دينه ودنياه.

وليس يا بني بعد فوت الدين والدنيا ، حياة لأحد من الخلق ولا بقيا ، فليكن أول ما تخطرون في الكتاب ببالكم ، وترمون إليه فيه ـ إن شاء الله ـ بأوهامكم ، ما ذكرت من غرضه ووصفت ، ووقّفت عليه من قصده وعرّفت ، فمن لم يعرف غرض ما يريد وقصده ، لم يبذل في الطلب له جهده ، ولم يعلم منه أبدا ، (٢) هداية ولا رشدا ، فخرج من علمه كله صفرا ، (٣) ولم يصب بشيء منه ظفرا ، وكان كمن سلك طريقا لا يعرف

__________________

(١) في المخطوطتين : وعظمته. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في (أ) : آية. مصحفة.

(٣) صفرا : خاليا. يقال : رجع فلان صفر اليدين. أي : خالي اليدين.

٥٥

وجهته ولا قصده ، فتبع فيه ضلالته وخسرته وتلدده ، (١) فلم يزدد من الهدى ، إلا نقصا وبعدا ، فهلك وأهلك فضل وأضل عن سواء السبيل ، وخيّم وأقام هالكا متحيرا بين هلكات الأضاليل ، لا يبصر رشده فيه ولا هداه ، مهلكا لمن أطاعه مطيعا لمن أراده ، لا يرى فيه للهدى علما ، ولا يطأ به من رسومه رسما.

فاعرفوا يا بني هديتم لرشدكم ، ما قد حددته لكم ، في كتاب الله من القصد والغرض ، فإن بعض ذلك يدعو إلى بعض ، فمتى تعرفوا يا بني غرض كتاب الله وقصده ، يبذل كل امرئ منكم في طلبه جهده ، ويفز منه بالحظ الأوفر ، متى يظفر منه بالفوز الأكبر ، فيستأنس به من الوحشات ، ويكتفي بعلمه من القماشات ، (٢) التي قمشها في الدين ، فضلّ بها عن اليقين.

من رغب عنه إلى غيره ، ولم يستنر منه بمنيره ، فعمه في ضلالات المضلين غرقا متسكعا ، (٣) إذا لم يكن بكتاب الله مكتفيا ولا عنه مستمعا ، يستفيد الباطل من المبطلين ويفيده ، (٤) معرضا عن حق المحقين لا يطلبه ولا يريده ، راضيا لنفسه بالهلكة من النجاة ، وبالموت الموصول بنكال الآخرة من الحياة ، يعدّ غيّه وعماه بعد رشدا ، وضلالته عن الرشد هدى ، قد زاد غيّه وعماه ، ما أسعده من دنياه ، لما أسلمه الله لجريه (٥) إليه ، بما أمده من ماله وبنيه ، فاستدرجه به من الملأ ، بالعافية من نوازل البلاء ، كما قال تبارك وتعالى فيهم : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) [آل عمران : ١٧٨]. فغرض كتاب الله المبين ، فإنما هو البيان واليقين.

__________________

(١) التلدد : التحير. والتلفت يمينا وشمالا.

(٢) القمش : الرديء من كل شيء. والقمش : جمع الشيء من هاهنا وهاهنا.

(٣) الغرق : الرسنوب في الماء ويشبه الذي ركبه الدّين وغمرته البلايا. وسكع وتسكع : مشى متعسفا.

وتسكع في أمره : لم يهتد لوجهته.

(٤) في (أ) : ويقتده. مصحفة.

(٥) في (أ) : لخريه.

٥٦

وقد تعلمون أن كل ذي صناعة ، أو تجارة مما كانت أو بياعة ، قد علم قبل ملابسته لها ودخوله فيها ، ما قصدها وغرضها وما دعا أهلها إليها ، كما قد رأيتم وأيقنتم من حال البنّاء ، الذي قد علم قبل دخوله فيما يريد أن غرض البناء ، رفع السقوف والحيطان ، وعقد العقود والطيقان (١).

وكذلك النجار فيما يريد بعمله من النجارة فقد علم قبل دخوله فيها أن غرضها عمل الكراسي والأبواب وكذلك مثلهما ، في علم غرض (٢) ما يريد غيرهما ، من التجارة والبياع ، فهم في علم غرض التجارة والبيع وما يريدون فيه كالصّنّاع ، قد علم كل تاجر ، من بر أو فاجر ، ما غرض بيعه وتجارته ، علم الصانع بصناعته (٣) ، وعلى قدر علم كل صانع ، وتاجر منهم أو بائع ، يجدّ ويجتهد ، ويسعى ويحتفد ، (٤) فيقل فتوره ، ويجل (٥) سروره.

فلا يكونن أحد منهم فيما يزول عنه ويفنى ، أجد منكم فيما يدوم أبدا ويبقى ، ولا يدخله خسارة ولا نقصان ، ولا وضيعة (٦) ولا خيبة أبدا ولا حرمان ، فإن تقصّروا في ذلك تكونوا أخسر فيما تعدونه من التجارة والصناعة خسرانا منهم ، بعد ما فرق الله في ذلك بينكم وبينهم ، فأعوذ بالله لي ولكم من الخسران المبين ، فإنه عند الله هو الخسران في الدين ، وذلك فهو الخسران والضلال البعيد ، الذي لا يخسره ـ بمنّ الله وإحسانه ـ رشيد.

فمنه يا بني أرشدكم الله فتحرزوا ، وعنه بالله ما بقيتم فتعززوا ، فإنه هو العز الأعز ، والحرز (٧) الحصين الأحرز ، الذي لا يكون معه أبدا ضياع ، ولا يخسر فيه تاجر

__________________

(١) الطيقان : جمع طاق وهو ما عطف من الأبنية فارسي معرب. والطاق أيضا : عقد البناء حيث كان.

(٢) في (ب) : عرض.

(٣) في المخطوطتين : علم الصناع بصناعتهم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) حفد واحتفد : خف في العمل وأسرع.

(٥) في (أ) : ويحل.

(٦) في المخطوطتين : ولا صنيعة. ولعلها تصحفت. والصواب ما أثبت لأن الوضيعة الخسارة.

(٧) في (ب) : هو العزيز. وفي (ب) : والحصن الحصين.

٥٧

ولا صنّاع.

وفي ذلك ، ولأولئك ، ما يقول الله سبحانه : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (١) يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر : ٢٩] ، فافهموا هداكم الله عن الله هذا البيان والنور. واعرفوا قوله ، جل جلاله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٦ ـ ٣٧]. واعلموا أن التجارة مشغلة وملهاة ، لكل من آثر على دينه دنياه ، وبخل عن الله من الدنيا بما أعطاه ، واقتصر لنفسه مما ينجيها ، على رجاء المغفرة وتمنّيها ، مقيما على المعاصي لا يزول عنها ولا يبرح ، ظالما لنفسه لا يشفق عليها ولا ينصح ، ولا يقبل من رشده وهداه ، إلا ما وافق محبته وهواه ، عدوّا لمن نصحه في الله ، معرضا عمن دعاه إلى الله ، لم ينصفه مفتر عليه فيه بهّات ، (٢) له جلبة بجهله وأصوات ، يقول الباطل ، ويتبع الجاهل ، ليس له في نصح الناصحين حظ ولا نصيب ، ولا له مع جهله من الصالحين ولي ولا حبيب ، فهو كما قال صالح نبي الله ورسوله ، صلوات الله عليه ورضوانه ، إذ تولى عن قومه ، عند نزول عذاب الله بهم ونقمه ، (٣) (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)) [الأعراف : ٧٩]. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢) [الشعراء : ١٥٠ ـ ١٥٢]. فأسرف الاسراف وأفسد الفساد ، كل ما صد بأهله عن الهدى والرشاد.

وأرشد الرشاد والهدى ، وأقصده إلى كل خير قصدا ، تنزيل الله ووحيه ، وأمره فيه ونهيه ، وهو يا بني : الذكر الحكيم ، وفيه ما يقول الخبير العليم : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ

__________________

(١) في المخطوطتين : أثبت أول الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ...) الآية وتكملتها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة / ٢٧٤]. ولعل ذلك سهو من الناسخ.

(٢) كثير البهتان.

(٣) في المخطوطتين : ونقمته. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم.

٥٨

مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨) [آل عمران : ٥٨].

[ذكر الله]

وفيما خص الله به ذكره من الكرامة والتعظيم ، ما يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢] ، فكفى بهذا لذكر الله سبحانه تعظيما وتجليلا ، مع ما يكثر من هذا ومثله ، في كتاب الله وتنزيله ، قال الله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) [النور : ٣٦] ، والتسبيح وإن كان من ذكر الله والاجلال ، فأكثر الذكر وأجمله ، وأكرم القول وأفضله ، ذكر الله تعالى بما نزل من الكتاب ، فبه (١) يا بني فاذكروا رب الأرباب ، فإن ذلك هو الذكر المقدم عند ذوي الألباب ، ذكرني الله وإياكم منه بخير ، ونفعكم بكتابه المنير ، فإنه أفضل المنافع ، وخيرها سلكا في المسامع ، لما فيه من ذكر الله وعلمه ، وما دلّ عليه من أمره وحكمه.

فمن أعظم الذكر الله والتذكير به ، ذكره بما ذكر به نفسه من آياته وكتبه ، فبتلاوة الكتاب فاذكروه ، تجلّوا الكتاب وتوقروه ، ولا تكتفوا بتلاوة الكتاب من تدبّره ، ولا ترضوا من قراءته بهذّه ونثره ، فإنه ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لا تنثروا القرآن نثر الدقل) ، (٢) فاقرءوه يا بني إذا قرأتموه بالتنزيل والترتيل وتفهموا بالإطالة له والترتل والترسل ، وعند ما ذكره الله سبحانه من ناشئة الليل ، ففي ذلك ما

__________________

(١) في المخطوطتين : فهي. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) أخرج الآجري في حملة القرآن عن ابن مسعود : لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة. الإتقان / ١٠٨.

وعن ابن مسعود قال : إن قوما يقرءونه ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم. أخرجه الترمذي برقم ٥٤٧ ، وأحمد برقم ٣٨ ، ٥٦ ، ٣٧٧١ ، ٣٧٦٢.

وعنه أيضا وقد قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال : أهذّا كهذّ الشعر ، ونثرا كنثر الدقل. أخرجه أبو داود ١١٨٨ ، والنسائي ٩٩٥ ، والبخاري ٧٣٣ ، ٤٦٥٥ ، بلفظ أهذّا كهذ الشعر فقط. والدقل : التمر الرديء اليابس.

٥٩

يقول تعالى لرسوله ، (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) [المزمل: ٤ ـ ٧] ، يقول سبحانه : إن لك في النهار مهلا وتمهيلا ، فكفى بما وصفت لكم بهذا بيانا ودليلا ، فالحمد لله وليّ المن به وبغيره من الاحسان ، ونسأل الله العون على ما نزل في وحي كتابه من البيان.

واعلموا يا بني : أن في كتاب الله جل جلاله ، حرام الله كله وحلاله ، فليس لأحد تحليل ولا تحريم إلا به ، فمن أبى ذلك فهو من الجاهلين بربه ، لقول الله تبارك وتعالى فيه : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) [الأنعام : ١١٩] ، ولقوله سبحانه في تنزيله ، بعد ما ذكر فيه من تحريمه وتحليله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ، وكفى بهذا على ما قلنا به فيه علما وتبيينا.

[المحكم والمتشابه]

وفيما نزل الله يا بني : من وحيه ، بعد الذي بيّن فيه من أمره ونهيه ، متشابه باطن خفي ، لا يتبين منه أبدا شيء ، جعله الله متشابها كذلك ، ليس يعلمه أحد غير الله لذلك ، وكيف وإن اجتهد أبدا ، وأهدى ما في ذلك من الهدى ، فهو العلم ، بأنه لا يعلم ، وهو للقول فيه ، عند النظر إليه ، ما ذكر الله سبحانه أنه قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١] ، فليس يعلم منه متشابه الآيات ، إلا من علمه إياه رب السماوات ، ومن كتاب ، رب الأرباب ، ما يظن ويتوهم ، متشابها وهو محكم ، إلا أنه قد دخل فيه بعض الوهم ، على بعض من سمعه من أهل العلم ، فإذا ثبت فيه ، ودل عليه ، أسفر له وأنار ، ووضح له وبان.

__________________

(١) سقط من (ب) : من قوله : لرسوله ... إلى قوله : قولا ثقيلا.

٦٠