مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

[موعظة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وعلى محمد وعلى أهله أفضل الصلاة والتسليم.

وبعد : يا أخيّ فأعاذني الله وإياك من مهلك غفلة الغافلين ، وسلمني [وإياك] بمنّه ورحمته من مضل جهالة الجاهلين ، الذي حسبوا وظنوا ـ إذ تاهوا وتمنوا ـ قصير آجالهم طويلا ، فأفنوا أيام حياتهم بالغفلى منى وتأميلا ، حتى عاينوا نازل الموت ، بكل حسرة وفوت ، فأيقنوا عند نزوله بباطل المنى ، إذا ذاقوا الموت والفناء ، وعلموا أن قد كان قصيرا ما استطالوا من حالهم ، وغرورا وخداعة ما كانوا فيه من مناهم وآمالهم.

يا أخيّ : واعلم أن الأجل حثيث الفناء ، ليس لأحد معه ـ والله المستعان ـ من بقاء ، لا يقف والحمد لله من أهله على من استوقفه ، ولا يغفل لمحاذرة سرعة انقطاعه من عرفه ، وكيف يغفله عارف به ، أو موقن بمعاده إلى ربه؟! مع ما يرى من مرّه وحثه ، وقلة تعريجه ولبثه ، فهو دائب الحث ، غير ذي إبطاء ولا لبث ، يقطع منه ساعاته الليالي والأيام ، ويقطع أيامه ولياليه منه الشهور التّوام ، وكذلك جعل الله شهوره ، تقطع بمرها سنيه ودهوره ، فدهره قصير ، وعمره يسير ، لا يطرف أحد من أهله طرفا ، إلا اقترب من فناء مدته زلفا ، فأنفاسه ولحظاته تطويه ، وساعاته وأوقاته تفنيه ، يقظان كان أو نائما ، ومقيما كان أو ظاعنا ، تحثه جدا ، وتدعوه بنداء ، ساعات نهاره وليله ، بل أنفاس عمره وتأجيله ، فهو ظاعن سائر ، وإن كان به غير شاعر ، (١) وكأن قد أفضت أسفاره ، فيما يسير به ليله ونهاره ، فورد محلة مثواه ومقامه ، وفنيت مدة أجله وأيامه ، فأقام فيه مخلدا ، وبقي بعد سرمدا ، في حبرة ونعيم ، أو عذاب أليم ، وقد قر في أيهما صار إليه قراره ، وانقطعت فيه عنه ظنونه واغتراره ، لا يزداد من أعماله في حسنة زكية ، ولا يستعتب في حسنة ولا خطية ، قد لزمته سعادته وشقاؤه ، ودام في أيهما كان خلده وبقاؤه.

فوا عجبا لمن كان بهذا موقنا!! بل لمن ظنه وإن لم يوقن به ظنا!! كيف لعب

__________________

(١) في المخطوطة : به لا يشعر. وما أثبت اجتهاد.

٤٨١

ولها؟! وغفل فيها ، ولقد اكتفى الله سبحانه ـ في ذلك لمن لم يوقن بنفسه ، ولم يدن لله فيه بحقيقة دينه ـ بالظن ، فقال سبحانه : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطففين : ٤ ـ ٦]. اكتفاء لهم بالظن لو ظنوا من حقائق اليقين ، وتذكيرا فيه لهم بما يمكن كونه يوم الدين.

وفيما كان به المؤمنون في دنياهم يوقنون ، من لقاء ربهم ويظنون ، ما يقول سبحانه : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) [البقرة : ٤٦]. فذكر الله سبحانه ظنهم بلقائه ، ومرجعهم إليه وإلى جزائه ، فكان عملهم واجتهادهم في دينهم ، على قدر حقيقة ظنونهم ، فكيف يكون مثلهم؟ + من يدعي يقينهم وفضلهم ، وهو غافل لاعب ، وقائل كاذب ، يقول ما لا يفعل ، ويقر بما لا يعمل.

وفي مقت الله سبحانه ، لمن آمن ففكر فذكر الله إيمانه ، وعلمه بالإيمان لله وبالله وإيقانه ، ما يقول تبارك وتعالى اسمه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) [الصف : ٢ ـ ٣]. ويقول سبحانه لمن ادعا الصدق والوفاء ، وإتيان ما يحب الله ويرضى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) [التوبة : ١٠٥].

يا أخيّ فلا تغفل عن الموت والبعث غفلة من يرى من أشباه الحمير ، فإن بغفلتهم عن الموت والبعث بعدوا كما رأيت من النجاة والفوز والحبور ، فعموا عما كان ممكنا في حياتهم من الهدى والرشاد ، وشقوا بعمايتهم في المرجع إلى الله والمعاد ، فدام شقاؤهم وتبارهم ، وأقام ندمهم وخسارهم ، ثم بكوا فلم يرحموا بالبكاء ، ودعوا فلم يجابوا في الدعاء ، (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ـ و ـ (قالَ) ـ مالك : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧].

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢) [السجدة : ١٢]. وعند تلك وفيها ، وعند ما صاروا إليها ، قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧) [المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧] ، فما كان جوابهم عند قولهم وطلبهم ،

٤٨٢

وعند ما أحل من سخط الله المخلد بهم ، إلا أن قال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨].

يا أخيّ فاسمع ما تسمع سماع متبع ، ولا تسمعه سماع مستمع ، فرب مستمع غير سميع ، وسامع مطيع ، كما قال الله سبحانه : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) ـ تأويل ذلك : لم يطيعوا ولم يعوا ـ (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨]. وتأويل ذلك : لا يبصرون من الهدى ما تبصرون. وفيمن سمع بالسمع ، ولم يسمع ولم يطع ، ما يقول الله تبارك وتعالى في التنزيل ، للعصاة من بني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩٣]. فنسأل الله أن يمن بالسماع النافع عليك وعلينا ، فإنا من الصمم والحيرة والظلم في البحر الزاخر ، واللج الغامر ، فلا ينجو من غمره إلا من نجاه الله ، ولا يلجأ من غرقه إلا من أنجاه ، والله المستعان ، وعليه التكلان.

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد : فاعلم يا أخيّ ، أنا وإياك في بحر من بحور العمى عميق ، لا يصل معه أحد إلى هدى إلا أن يرشده الله ويهديه إلى ملجأ وثيق ، فكر أهله سقيمة مدخولة ، وعبر من فيه فعظيمة مجهولة ، لا يعتبر بها منهم معتبر ، ولا يفكر فيها منهم مفكر ، فقلوب من يسمعها منهم ويراها ، مقفلة والله المستعان على هداها ، فهدانا الله يا أخيّ وهداك ، بما أرانا الله منها وأراك ، ونفعنا ونفعك ، بما أسمعنا وأسمعك ، فكم رأينا وسمعنا من عبر لا نحصيها ولو جهدنا كل جهد ، وفي الاعتبار بأقلها أهدى الهدى وأرشد الرشد ، (١) فمنهم ما نرى بالعيان ، ونسمعه في كل حين بالآذان ، من موت وفناء ، يذهب دائبا بالأحياء ، تراه عيانا كل عين ، وتسمع به في كل حين ، وكم رأينا عيانا من جار ومعارف ، وقرين محالّ مؤالف ، قد دهاه من حمام الموت وفاته ما دهاه ، واغتره ما كان فيه من حياة دنياه ، ولحق بدار الموت والبلاء ، وصار إلى محلة الموت والفناء ، فمات

__________________

(١) في المخطوطة : الرشاد. وما أثبت اجتهاد.

٤٨٣

بموته أمره وشأنه ، ونسيه إذ مات أوداده وأخدانه ، ولها عنه أهله ، وهجر بعده محله ، فلم ير منهم واقف عليه ، ولم يلتفت منهم ملتفت إليه ، وكم عاينت من أولئك؟! ورأيت من ذلك!!

بل كيف رأيت يا أخيّ رحمك الله من مختطف ، بسقم ممضّ (١) أو موت متلف ، قطع به دون مناه وآماله ، وما أنعم الله عليه من نظرته وإمهاله ، فتلهف على ما فاته من طاعة ربه حين لا ينفع التلهف ، وتأسف عند ما لا يغني عنه ولو كثر التأسف ، على ما فرط فيها من إمكان نجاته ، وما خسره من أيام حياته ، فذهب بندمه وحسرته ، وآل بهما إلى معاده وآخرته ، فبقي في الحسرة مخلدا ، وفي الندامة مقيما أبدا ، وكان عند تلك وفيها ومعها من مقاله ، نحو ما ذكر الله عند مجيء الساعة من مقال أمثاله ، إذ يقول سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) [الأنعام : ٣١ ـ ٣٢]. وقال تعالى ذكره : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٥] (٢). فأنكص النكوص عن الآيات ، ترك ما أمر الله به من الحسنات ، وارتكاب ما نهى الله عنه من السيئات.

يا أخيّ فحتى متى وإلى متى؟! دوام الغفلة والحيرة والعمى! ألسنا بربنا

__________________

(١) في المخطوطة : مض. وما أثبت اجتهاد.

(٢) أكمل الإمام الآية بكمال آية أخرى من نفس السورة آية (٦٦) في (آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ). وهو سهو. فمطلع الآية (قَدْ كانَتْ آياتِي ......) وما أثبت هو الصواب. ويؤكد سهوه قوله بعدها : فأنكص النكوص عن الآيات.

٤٨٤

مؤمنين؟! وبيوم البعث موقنين؟! فما لنا يا سبحان الله من أمر الله معرضين؟! ولانتقام الله بالخلاف عليه في أمره متعرضين؟ من بعد الإيمان واليقين ، والعلم بشرائع الدين.

فرحم الله من عباده عبدا ، أيقن أن له إلى الله معادا ، فجد وشمر في طلب نجاته ، قبل نزول الموت ومفاجأته ، فكم رأينا من مفاجأ مبغوت ، بما لم يتوقعه من وفاة وموت ، أخذ في غمرته ، وعلى حين غرته ، فتبرأ منه قبيله وأحباؤه ، وأسلمه للموت أهله وأقرباؤه ، فلم ينصره أهل ولا عشير ، ولم يكن له منهم نصير ، بكاه من بكاه منهم قليلا ، ثم هجره وجفاه طويلا ، فكأنّ ـ لم يره قط ـ حيا ، ولم يكن له في حياته صفيا!

فأبصر يا أخيّ وبادر ، واعتبر بما ترى وحاذر ، فرب مبصر لا يبصر ، ومعتبر بما ترى لا يعتبر ، يستر بالأشجان والأحزان ، ويغر بالرجاء والأماني ، وهو دائب في قطع عمره وأجله ، مغتر بمناه ورجاه وأمله ، لا يتنفس نفسا ، ولا يطرف طرفا ، إلا قطع به من أجله ناحية وطرفا ، لا يغفل عنه وإن غفل ، ولا يؤخر لما رجاء وأمّل ، قد جد به المسير ، واختدعه الأمل والتسويف والتأخير ، فأمله خدعة وغرور ، وأجله متعة وبور.

يا أخيّ فالعجل العجل ، فقد ترى المسير إلى الموت والترحل ، لا يقلع زاحله وسائره ، ولا يريع (١) على أوائله أواخره ، يلحق المتأخر بالسائر الأول ، والمقيم من أهله بالظاعن الراحل ، لا يخلّف من العباد جميعا متخلفا ، بل يختطف نفوسهم خطفا ، يأخذ الصغير أخذه للكبير ، ويلحق بعضهم بعضا في الموت والمصير. فنسأل الله أن يبارك لنا في حلوله وموافاته ، وأن يجعلنا ممن أسعده في يوم مماته ، ونستغفر الله خير الغافرين ، ونضرع إليه في عصمتنا من هلكات الجائرين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.

[موعظة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا دائما مقيما ، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما ، نستهدي

__________________

(١) يريع : يعود ويرجع.

٤٨٥

الله للهدى ، ونعوذ به من الضلالة والردى ، فكم من ضال مغتر؟! ورد (١) مدمر ، قد غر حياته بالأمل والمنى ، وهو يرى في كل حين الموت والفناء ، يتمنى من بقائه كثيرا ، وقد رأى من أخذ غريرا ، مما لا يحصيه بعدّ ، ولو جهد كل جهد ، فكم رأى في غرته من مأخوذ! وميت بالعراء منبوذ!! يتخالس الطير لحمه تخالسا ، وتتناهشه سباع الوحش تناهشا ، وكم سمع به من ملقى في بحر من البحور للموت؟ يأكل لحمه من ملقى من البحر ما قاربه من حوت ، وكم رأى في الثراء من ملحود؟ متناثرة أوصاله وعظامه بالدود ، وقد نسيه بعد الذكر أهلوه!! وقطعه بعد مودته مواصلوه ، فأغفلوا ذكره فلا يذكرونه إلا قليلا ، وكلهم فقد كان له أهلا وخليلا ، فكأن لم يروه قط حيا في الأحياء معهم!! ولم ينالوا منه ومن كدّه عليهم ما نفعهم!!

فيا ويل من سقط هذا عن ضمير قلبه! وأصر مقيما على الخطيئة بعد علمه به! كيف خسر دينه ودنياه؟! وآثر ضلالته في الحياة على هداه؟! فهلك هلاك الأبد وقد رأى في حياته منجاه ، ودل فيها على نجاته ورداه.

فنعوذ بالله لنا ولك من العماية عن الهدى ، ونعتصم بالله لنا ولك من الهلكة والردى ، فما يردى بعد هداية الله ويهلك بما حذّره الله من المهالك ، إلا كل شقي من الخلق هالك!! فنستجير بالله من الهلكة والشقاء ، بعد منّ الله علينا بالهداية والتقى!

فكم من مهدي لقصده ورشده؟! قد ضل بعد هدايته عن قصده!

وكم من مستمع ومبصر لا يسمع ولا يرى؟! كما قال الله تبارك وتعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨]. وقال سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : ١٨].

يا أخيّ فانظر فيما ذكرت واستمع ، تسعد وتنج بإذن الله وتنتفع ، ولا تك كالذين هلكوا وهم يرون ، أولئك فهم المعترفون بالله المقرّون ، الذين رضوا من حياتهم ، بالتمني في المعاد لنجاتهم ، بما تمنوا غرورا مهلكا ، فقالوا إذ اقترفوا كذبا وإفكا ، وإن كانوا قد

__________________

(١) اسم فاعل من : ردى.

٤٨٦

أقروا ، لا كما فعل من نحن وأنت فيه من العذاب (١) من كبائر العصيان ، ثم ادّعوا النجاة بعد الإقرار بالعذاب دعوى بغير ما حجة ولا برهان.

ولفي ذلك ، وأولئك ، وهم بنوا إسرائيل عليه‌السلام ، وذرية إبراهيم خليل الرحمن ، ما يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) [آل عمران : ٢٣ ـ ٢٥]. وقال سبحانه : لهذه (٢) الأمة ، فيما نزل من آياته المحكمة : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣] ، فكفى يا أخيّ بما يسمع السامعون من هذا ومثله بيانا وتبصيرا! نفعنا الله ونفعك بتبصيره ، وما منّ به علينا وعليك من تذكيره.

[رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم.

متّعك الله من نعمه وحوطها ، ومنعك من مذموم الأمور ومسخوطها ، بما أمتع به أهل رحمته ونعمته ، ومنع به من المكاره أهل توفيقه وعصمته ، ومنّ عليك من تقوى الله وإيثارها ، ورفض الدنيا واحتقارها ، بما منّ به على من آثره ، وأجلّ أمره فوقّره ، فإن ما أمر الله به من رفض الدنيا واستقصارها ، دليل ممن فعله على إيثار الآخرة وإكبارها ، وإنّ رفض الدنيا والإعراض عنها ، دليل ممن فعله على الإقبال على الآخرة والاستكثار

__________________

(١) لعل هنا سقطا ، فالكلام غير واضح.

(٢) في المخطوطة : ولهذه. ولعل الواو واو عطف ، هكذا : سبحانه وتعالى. ثم سقط تعالى. والله أعلم.

٤٨٧

منها.

وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومقتها ، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها ، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظّم من أمر الآخرة وأمورها ، زهدوا في الدنيا فاستقلوا ـ جهدهم ـ من متاع غرورها ، فتبلغوا إلى الله بالعلق (١) ، واكتفوا من نعيمها باللعق (٢) ، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط ، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط ، ولما (٣) رأوا الباطل يسمو علوّا ، وحق الله فيها معطلا مجفوا ، صحبوا أيام حياتهم بالحرق (٤) والزفرات ، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات ، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم ، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم ، ولم يجعله حلالا (٥) فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم ، وأيقن فيها بالله يقينهم ، ودانه في إيثار الحق دينهم ، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام ، أولا تعلم ـ أغناك الله ـ أن من أسخط لنفسه (٦) الآدميين ليشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام ، لما هو فيه من الشغل بحرقه وأسفه وسخطه ، حتى ربما ذهب سخط بعضهم في ذلك بعقله لفرطه ، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضبه؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه؟ بلى إنه لأولى بذلك ، وأحق ممن كان كذلك ، ولذلك أزكى عند الله وأرضى ، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا ، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم ، ورأفته بهم وتحننه (٧) عليهم ، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة ، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة ، فقال جل ثناؤه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

__________________

(١) العلق : جمع علقة. وهي : ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء. وقال اللحياني : ما يأكل فلان إلا علقة. أي : ما يمسك نفسه من الطعام.

(٢) اللّعق : جمع لعقة. وهي : الشيء القليل من الطعام.

(٣) في (د) : فلما.

(٤) الحرق : جمع حرقة. وهي : ما يجده الإنسان من لذعة حب ، أو حزن ، أو طعم شيء فيه حرارة.

(٥) من هذا أخذت المطرفية أن ما أخذه العصاة من الرزق لا يسمى رزقا.

(٦) في (د) : لنفسه من الآدميين.

(٧) في (ب) : ومحبته.

٤٨٨

تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) [المائدة : ٨٧]. وقال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢]. فجعلها لهم في الدنيا وأخلصها لهم في الآخرة ، ولم يجعل معهم فيها حظا للكفرة ولا للفجرة.

وقال سبحانه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣) [المائدة : ٩٣]. فلم يجعلها الله سبحانه إلا لمن اتقى ، وحرّمها على من فجر وتعدّى ، ولم يكن من أهل الإيمان بالله والهدى ، فاستقل أولياء الله منها ، وأعرضوا لسخطهم لله عنها ، كما جاء في أثر عن عثمان بن مظعون ، فيما كان حرّم على نفسه من الأطعمة واللحوم ، (١) جعلنا الله وإياك من أوليائه ، وأسعدنا وأسعدك بطاعته في يوم لقائه.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.

* * *

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢ / ٨١٢ (١١٥٩) ، وأحمد ٥ / ٤٠٩ (٢٣٥٢١) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ٢١١ (٢٣٩٢) ، والطبراني ٨ / ١٧٠ (٧٧١٥) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٧٧ (٣٢٢٧) ، وابن حبان ١ / ١٨٥ (٩) ، وعبد بن حميد في المنتخب ٣٩٢ / ١٣١٨.

٤٨٩
٤٩٠

مفاهيم إسلامية

٤٩١
٤٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

[العلم]

العبادة بالعلم ، أفضل منها بالعمل ، وفي العلم من الهدى والضلال ، مثل الذي منهما في الأعمال ، فلما كان العلم بأحكام الله ، مما يكون هدى عند الله ، والجهل بأحكام الله مما يكون ضلالا عند الله ، ترك المكلفون من العباد ، بعد أن نزل عليهم من الله ما نزل في ذلك من الرشاد ، ليهتدوا فيها ويجهلوا ، كما تركوا في الأعمال ليعملوا أولا يعملوا ، لكي يهتدوا فيها أو يضلوا ، فأهدى الهدى فيها العلم ، وأضلّ الضلال الجهل ، وهو لكل واحد منهما فيها كسب ، وعمل يثاب على أيهما اكتسب أو يعاقب ، ثوابه أو عقابه على غيره من أعماله ، ويجزى فيه على ما صار فيما بينه وبين الله من هداه أو ضلاله.

والعلم منهما ففرض قدّمه الله قبل فرض الأعمال ، وبه وبما فرض الله منه ما أبان الله به عند المؤمنين فرق بين الحرام والحلال.

[الإسلام والمسلمون]

ما أعز الإسلام ولا أكرمه ، ولا وقّره فيما وقّره الله به ولا عظمه ، من توهم أهل هذا الدهر من أهله ؛ لأن الإسلام هو دين ملائكة الله ورسله ، فمن زعم أن أهل هذا الدهر ممن يستحق اسمه ، فقد أوجب لهم إخاءه وولاءه وحكمه.

فزعم أنهم مع ما هم من حالهم ، وما عليه من سوء أفعالهم ، إخوة الملائكة المقربين ، وأولياء الأنبياء المرسلين ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠].

فآخى منهم بين من في السماء والأرض وقال : (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١]. فوصف المؤمنين بصفة ، فيها لمن أراد معرفتهم أعرف المعرفة.

فكيف يأمر بالمعروف من يميل عليه ، وينهى عن المنكر من يدعو إليه ، ومن هو مقيم ليله ونهاره فيه؟!

٤٩٣

وكيف يقيم الصلاة بحدودها؟ في قيامها وركوعها وسجودها؟ من شغله بأصغر دنياه أشغل له منها! ومن هو بأقل هواه معرض به عنها!

وكيف يؤتي الزكاة ـ من (١) جعلها الله له ـ من (٢) يغتصب كل مسكين نفسه وماله.

وكيف يطيع من هو مخالف ، إلا في أقل القليل لله لا كيف ، إلا عند (٣) عميّ جاهل ، لا يفرق بين حق وباطل. والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد وعترته الطاهرين وسلامه.

[واجب المؤمن مدة الجبارين]

بسم الله الرحمن الرحيم

وإنه ليجب على المؤمن في مدة الجبارين ، أن يكون حجة لله قوية ، وساحته من معاونتهم على ظلمهم برية ، وأن يكون الرزق أقرب متقربه ، وأسرعه إلى الفراغ به ، ليقبل قبل شغله ، وما وكله الله به من عدله ، ولكن لن يفلح أيام دنياه ، ويبلغ المفروض عليه من تقواه ، إلا من اتخذ الجوع أنسا ، واستشعر العري لباسا ، ووضع الصبر على البلوى أساسا ، فأما من شأنه النّقلة (٤) والرحيل ، والطلب في كل مسلك وسبيل ، ومن شغله اجتلاب أنواع الطّرف ، ومقامه مقام الجبار المترف ، فهيهات ، هيهات من النجاة ، غرق الشقي في بحر شقائه ، فهو مضطرب بين أكناف أرجائه ، فإقباله إلى الخير إدبار ، ومقاربته عن الحق نفار.

* * *

__________________

(١) من : مفعول به.

(٢) من : فاعل.

(٣) في (أ) : عبد.

(٤) في (أ) و (ج) : التفكه. مصحفة.

٤٩٤

الطهارة

٤٩٥
٤٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحجة ما كفى فكيف قلتم في طهارة هذه الأشياء ، بخلاف ما قلتم به في طهارة الأعضاء ، وأمر الله في الأعضاء وتطهيرها ، أوكد من أمره في تطهير غيرها. هذا والله المستعان مما يناقض عليكم به أصولكم ، وتأباه عليكم ـ إن أنصفتم أقل النصف ـ عقولكم.

[الوضوء]

فعلى المتوضي إذا ابتدأ في الوضوء ، وأخذ في غسل ما أمره الله به من كل عضو ، أن يصب ـ إن شاء الله ـ على يده اليمنى من الماء ، قبل أن يدخل يده فيما يريد أن يتوضأ منه من الإناء ، فيغسلها بالماء حتى تنقى ، من كل ما كان فيها من نجس أو أذى ، ثم يغرف بها ويفرغها على يده اليسرى ، فيغسل بها كل ما يحتاج إلى غسل ، من كل ما أمر بغسله من دبر أو قبل ، حتى يطهر ذلك كله وينقيه ، من كل نجس أو أذى كان فيه ، ثم يغسل فرجه الأعلى ، غسلا نظيفا طيبا ، ثم انحدر فغسل فرجه الأسفل حتى يميط ما عليه من الأدران والأذى ، ثم يتمضمض ـ إن شاء الله ـ ثم يستنثر بغرفة من الماء ـ يفرغها بيمنى يديه ـ واحدة ، ولا يفرد ـ إن شاء ـ بغرفة الماء استنثارا ولا مضمضة على حدة ، ثم يغسل بعد وجهه كله ، اعلاه وجوانبه وأسفله ، يبدأ في غسله لوجهه من أعلى جبهته ، وأطراف ما طلع عليها من شعر رأسه وصدغيه إلى ما ظهر من لحيته ، كلها على ذقنه وأطراف لحيته ، ويجمع لحيته عند ذلك في بطون كفيه ، فإذا أتى على ذلك كله بما حددنا من غسله غسل ما أمر بغسله من يديه ، إلى آخر مناهي ما حدد له من مرفقيه ، ثم يمسح برأسه وأذنيه ، مقبلا في ذلك ومدبرا ببطون يديه ، حتى ينقى الرأس والأذنان ، مما عليهما من الأدران ، فإذا فرغ من مسح الرأس والأذنين ، غسل ما أمر الله سبحانه بغسله من الرجلين ، فأفرغ عليهما بيديه أو بإنائه أو غيره إفراغا ، وغسلهما بيسرى يديه غسلا منقيا سابغا ، يأتي به على حدود مناهي الكعبين ، ومسح باطن الرجلين ، وظاهرهما بيسرى يديه ، وخلل بالماء في إفراغه له ما بين أصابع رجليه ، فإنهما أولى أعضائه كلها بالغسل والوضوء والتطهير ، لمباشرته بهما الأماكن الدنس والأقاذير ، يبدأ في غسله لرجليه بيمناهما ، قبل غسله ليسراهما ، فإذا فعل ذلك

٤٩٧

كله ، فقد أتم بإذن الله طهوره وأكمله. ومن لم يغسل من ذلك كله ، ما أمر الله بغسله ، فهو عندنا في ذلك كمن لم يتوضأ ، ولم ينتفع مع تركه لذلك بما أدى ، ولزمه ـ بتقصيره ـ إعادة ما صلى. ووجب عليه الوضوء لما ترك منه مستقبلا.

وتأويل الوضوء في اللسان فإنما هو الإنقاء ، كما قلنا لكل ما وضي أو توضأ.

باب القول في المشرك

وكذلك إن أصاب شيئا من جسده ، مشرك بثوبه أو يده ، فهو في النجاسة كغيره ، ولن يطهر أبدا إلا بتطهيره ، فإن سقط مكان ما أصاب المشرك بجسده أو ثوبه عنه ، ولم يثبت ذلك المكان بعينة ولم يوقنه ، كان عليه غسل جسده كله ، ولم يطهر أبدا إلا بغسله.

وكذلك كلما أصاب ناحية من جسده من ميتة الأنعام ، أو ذبيحة أهلّ بها لغير الله في حل أو حرام ، والحكم عليه في غسله وتطهيره ، كالحكم عليه فيما ذكرنا من غيره ، يغسله من مكانه إن علمه بعينه ، وإلا غسل له جميع بدنه.

ومن أوكد ما على من لمس كل مشرك أو ثوبه ، أو مجلسه أو مركبه ، وكل من يشاق الله سبحانه بكبائر العصيان أو يعصيه ، فلا يجوز أن يتخذه مؤمن قبلة أو سترة ، لأنه ليس بطاهر وليس ممن له طهارة ، ولو طهر بالماء وتطهر فأكثر ـ ما عتا في أمر الله واستكبر ـ لأن الطهارة عند الله سبحانه طهران ، أحدهما طهر النفس والآخر طهر الأبدان.

فطهر الأنفس قبل أبدانها ، هو براتها من كبائر عصيانها.

وطهر الأبدان هو ما حددنا من الوضوء ، فيما أمر الله سبحانه بغسله من كل عضو ، فمن لم يطهرهما جميعا لم يكن طاهرا ولا مطهرا ، ولم يجز لمؤمن أن يتخذه قبلة ولا سترا ، وكذلك هو أبدا حتى يتوب إلى الله سبحانه ويرجع ، ويقصر عن مشاقته لله سبحانه وينزع.

فهذا ما لله على المصلي إذا صلى ، فرضا كانت صلاته أو تنفلا ، في الطهارة من

٤٩٨

لدن بطن قدميه إلى حاق ذوائب رأسه ، ثم لله عليه بعد هذا كله إذا صلى في لباسه ، ألا يصلي فرضا ولا تنفلا في شيء منه ، حتى تزول عنه كلما ذكرنا من النجاسة كلها عنه ، وأن يكون اللباس مع زوال نجاسته ، غير فاحش المنظر في وسخه ولا دناسته ، فإذا أنقى اللباس كله من كل نجس ، وبري من كل ما ذكرنا من فاحش الوسخ والدنس ، وطهّر ما يتوضأ به من الماء ، وكلما يتطهر فيه من إناء.

[طهارة الماء والمكان]

وطهارة الماء أن لا يتغير ريح ولا لون ولا طعم ، وطهارة الإناء ألا تكون فيه نجاسة تعلم ، (١) فإذا أتم المتوضّئ وضوءه هذا كله ، وقام بما لله عليه فيه فأكمله ، فهو حينئذ الطاهر غير شك ولا مرية ، ثم لله عليه بعد أن لا يصلي من بقاع الأرض إلا في بقعة نقية ، ولا يستتر بسترة من حجر أو مدر ، إلا أن يكون طاهرا من كل نجس أو قذر. فإذا أتم هذا كله من أمره ، فقد أتم ما أمره الله سبحانه به من وضوءه وطهره ، فغسل دبره وقبله ، وأنقى ذلك منه كله ، وطهر منه ما أمره الله سبحانه بتطهيره ، وقدم ما أمره الله بالتقديم له في الطهارة على غيره ، وكان تقديم ما قدم منه على غيره في التطهير ، دليلا على حكمة من حكم بتقديمه في التدبير ، وشاهدا على أن من حكمه متعالي من غفلة المغاليط ، وعالما بفرقة بين المحابّ في الأشياء والمساخيط.

ولتقديمه على غيره ، ما أمر الله به من وضوءه وتطهيره ، ما يقول الله سبحانه ، ما أوضح أمره وبيانه : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) [النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦].

فأوجب سبحانه على كل متغوط من الوضوء إذا وجد الماء ، ما أوجب من الغسل إذا اوجد (٢) في ملامسة النساء ، وقد يعلم أن المجيء للغائط قد يكون للخلاء والأبوال ،

__________________

(١) في المخطوط : (تعلم ولا ترى). ولعلها زائدة.

(٢) هكذا في المخطوط.

٤٩٩

كما قد يعلم أن الملامسة قد تكون للنساء من الرجال.

وكيف لا يرون من لم يغسله عنه من مجرده (١) وهو هنالك نجس (٢) غير متطهر ، وهم يزعمون ألا طهارة لمن كان في جسده أو ثوبه منه أصغر أثر ، أفيتنجس عندهم منه بالقليل الأصغر ، ويطهر في حكمهم منه مع الكثير أكثر ، فأي منكر أنكر؟ عند من يعقل أو يفكر؟! مما قالوا أو ذكروا ، وقبلوا فلم ينكروا!! فلقد كان أهل الجاهلية الأولى ، ومن كان لأكل الميتة مستحلا ، وإنه ليغسل عنه في جاهليته أثر البول والعذرة ، وكيف لا يغسله وهو يغسل تنظفا غيره من الأشياء القذرة ، وهما أقذر الأقاذير قذرا ، وأنتنه ريحا وأقبحه منظرا. وإن كانوا (٣) أهل الجاهلية إذا طافوا ببيت ربهم ، ليلقون ما عليهم من ثيابهم ، تطهرا لله بطرحها في طوافهم ، فأين هذا مما في أيدي الجاهلية من اختلافهم؟ وما يقولون به في البول والقذرة على من مضى من أسلافهم ، ويضللون من أتى وخلف بعد من أخلافهم؟! فنعوذ بالله من الجهالة في دينه والعمى ، ومن العبث بما قالوا لمن كان مسلما ، فلو ما قيل به من ذلك في السلف ، قيل به في مشرك كان مشهورا بأكل الجيف ، لعده عيبا فاحشا كبيرا ، ولو أن ما يأكل معه من الجيف صغيرا! فكيف يقال به أو بمثله في مسلم أو إسلام؟! أو يتوهم حكما أو جائزا عند ذي الجلال والإكرام؟! وهو يحكم لا شريك له ، على كل مسلم في الدم بأن يغسله ، والدم أطيب ريحا وأنقى منظرا ، وأقل ـ عند من يعقل أو لا يعقل ـ نتنا وقذرا.

وكذلك الخمر وما يلزم غسله من الأنجاس كلها ، فليس منه شيء كالعذرة في نتنها وقذرها ، ولربما ظننت أنه ما وضع هذا القول ولا أصّله ، إلا من كان يستحله الإسلام وأهله ، ممن وتره المسلمون والإسلام ، وكانت عبادته في جاهليته الأصنام ، وما أحسبه قيل قط إلا عنهم ، ولا أخذته هذه العامة المتحيرة إلا منهم ، اسعافا لهم وطمعا في الدنيا ، وإيثارا منهم على البصيرة العمياء.

__________________

(١) هكذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : أكثر. ولعلها مصحفة.

(٣) كذا في المخطوط.

٥٠٠