مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

على ما اقترف ، ويندم على ما أسلف ، ويرجع مما عرف ، يندم بالقلب ، على ما قدم من الذنب ، يرجع إلى اليقين ، ويبكي ويستكين ، يكثر الصوم ، ويقل النوم. فهو مشفق من عصيانه ، مطرق بين إخوانه ، ظاهر خشوعه ، متبادر دموعه ، منقطع كلامه ، قليل منامه، دائم كرمه ، مستهام قلبه ، يسير أكله ، كثير شغله ، صحيح قوله ، لا ينقض عهده ، ولا يخلف وعده ، ولا يمنع رفده ، يطلب خلاصه ، ويعرف انتقاصه ، (١) إن طلبته وجدته في فكرته ، وإن سألته خاطبك بعبرته ، لا تسكن حرقته ، ولا تزول رقته ، ولا تكف دمعته. من رآه انتبه من غفلته ، ومن جالسه تاب من زلته ، فهو حقير في نفسه ، غريب في أهل جنسه ، كريم على ربه ، نادم على ذنبه ، ملتمس لما به ، طامع في ثوابه ، رافض لأسبابه ، باكي على شبابه ، كثير الوجع ، عظيم الفزع ، متين الورع ، ظاهر خشوعه ، غزير دموعه ، صادق رجوعه ، معتبر متفكر ، شاكر ذاكر ، خجل ، وجل ، واجد ، ساجد ، (٢) تضيق به البلاد ، ويسأم من صحبته العباد ، ينتظر المعاد ، (٣) ويطلب تحقيق الوداد ، جهده شديد، وعمله كل يوم يزيد ، وحزنه في كل نفس جديد ، يتجرع الغصص ، ولا يطلب الرخص ، دائم الطلب ، ملازم الكرب ، مواظب على التعب ، رافض للطلب ، ظاهر الحزن والنّصب ، ضيق الأوقات ، مغتنم (٤) الساعات ، قليل الالتفات ، حذر من كل الجهات ، ماله هدوء ولا سكون ، (٥) خائف غير أمون ، وجل محزون ، كأنه مقيد مسجون ، لونه أصفر من هيبة الرحمن ، ونفسه ذائبة من (٦) خوف الهجران ، نحيف البدن ، خفيف المؤن ، سقيم الأركان ، سليم الجنان ، مستقيم اللسان ، حريص على طلب الجنان ، لا تصده العوائق ، ولا يبالي بالخلائق ، (٧) منقطع من العلائق ، متمسك بالحقائق ، فهو في الطلب ، إلى أن يصير إلى الطرب ، وينجو من

__________________

(١) سقط من (أ) : ويعرف انتقاصه.

(٢) سقط من (أ) : واجد ساجد.

(٣) في (ب) : الميعاد.

(٤) في (ب) : يغتنم.

(٥) في (أ) : سكان. مصحفة.

(٦) في (ب) : خدمة الرحمن. وسقط من (ب) : من.

(٧) في (أ) : الخلائق.

٤٦١

التعب.

قال الوافد : بئس العبد عبد (١) سها ولها ، (بئس العبد عبد طغى وبغى ، بئس العبد [عبد] جاوز الحد وتعدى) ، (٢) بئس العبد عبد ظلم واعتدى.

أيها العالم الحكيم ، والسيد الحليم ، قد وصفت أهل النجاة ، فأبلغت في (٣) الصفات، وحذرت مما هو آت ، فجزاك الله عني خيرا ، وبوأك سرورا.

[صفات المحب لله]

صف لي المحب لربه؟ النادم على ذنبه؟

قال العالم : أوصاف المحبين : يحبهم الله (كرما ، ويحبونه ألما ، يحبهم إرادة ، ويحبونه عبادة ، يحبهم رحمة ، ويحبونه خدمة ، يحبهم تفضلا ، ويحبونه تذللا) ، (٤) إذا أحبك سترك ، وإذا أحببته قربك وشرفك ، (٥) إذا أحبك أغناك ، وسترك وآواك ، المحب عينه لا تنام ، (٦) همته الصلاة والصيام ، أهل المحبة إذا جنّهم الليل أرقوا ، وإذا أضاءهم الصبح (٧) فرقوا ، وإذا قرئ القرآن صاحوا ، وإذا ذكروا ذنوبهم ناحوا ، (من كان بالله أعرف ، كان من الله أخوف ، (٨) من رجا طلب ، ومن أحب تقرب ، ومن خاف هرب ، ينام الناس ولا ينام ، ويضحك الناس ولا يضحك ، المصاب الذي يدعو ولا يجاب ، الأحزان تهد الأركان ، وتشيد الإيمان) ، (٩) إن الله يحب كل قلب حزين ، الحزن عمارة القلب

__________________

(١) سقط من (ب) : عبد.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) سقط من (أ) : في.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٥) في (أ) : وشوقك.

(٦) سقط من (أ) : إذا أحبك أغناك ، وسترك وآواك. وسقط من (أ) : لا تنام.

(٧) في (أ) : أضاء الصباح.

(٨) في (أ) : أعرفهم بالله ، أخوفهم من الله.

(٩) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

٤٦٢

الخراب ، (١) المحزون يفتح له الباب ، كلام المحزون في خلوته يقول : كأني بك وقد تجرعت مرارة المذاق ، وقيل : إلى (٢) ربك المساق ، كأني بالغطاء وقد كشف ، وبالعطاء وقد صرف ، كأني بالوعد وقد اقترب ، وبالوعيد وقد وجب ، كأني بك في اللحود ، مضاجع للدود ، كأني بالمظلوم ، وقد تعلق بالظالم ، كأني بهذا الضياء وقد أظلم ، وبهذا العمر وقد انصرم ، كأني بالمنادي وقد نادى ، وبالليل والنهار وقد بادا ، (كأني بهذا الجسد وقد ذهب عنه النشاط ، وطوي من تحته البساط) (٣).

قال الوافد : صف لي التجربة؟

قال العالم : تصحب (٤) أهل المعرفة ، وتحفظ التجارب حتى تكون معلم (٥) التجربة ، واطلب مرادك بالصدق ، لأن ذلك للصادقين المريدين لله.

قلت : فبأي شيء أجد الإرادة؟

قال : (٦) بالصدق واستماع الحكمة.

قلت : أي حكمة (٧)؟

قال : حكمة الذين يدعونك إلى رب العالمين.

[مدارج الأولياء]

قلت : فإذا وجدت الإرادة أي شيء أفعل؟

قال : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ٢ ـ ٤]

__________________

(١) سقط من (أ) : الخراب.

(٢) في (ب) : عرغرت قرارة الفراق. لعلها مصحفة. وفي (ب) : وقيل لك إلى.

(٣) في (أ) و (ب) : بهذا الجلد. لعلها مصحفة. وسقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٤) في (أ) : أصحب.

(٥) في (ب) : تعلم.

(٦) في (أ) : بأي شيء يأخذوا. وسقط من (ب) : قال.

(٧) في (ب) : الحكمة.

٤٦٣

قلت : بأي شيء أفعل ذلك؟

قال : بقلة الطعام ، وقلة الكلام.

قلت : كيف أصبر على الحق؟

قال : بذكر المقام.

قلت : وما المقام؟

قال : مقامك بين يدي الله سبحانه يوم القيامة.

قلت : وكيف أصبر عن الكلام؟

قال : أكثر ذكر الله حتى تجد حلاوته (١) تلهيك عن كلام الفضول.

قلت : ومن يقدر على ذلك.

قال : الذي يريد أن يصل إلى ربه.

قلت : أو جد (٢) لي ما أيسر علي من ذلك؟

قال : عليك بكثرة الدعاء والتضرع ، حتى تأتيك المعونة من الله سبحانه.

قلت : كيف يصل العبد إلى ربه؟

قال : إذا صبر على ذكره ، وأدمن على شكره ، (وصل إليه بقلبه.

قلت : بأي شيء) يصل إلى ربه؟

قال (٣) : بالجهد الدائم ، والدعاء والتضرع ، ثم عرف وعلم وأيقن أنه لا يصل إلى ربه إلا به.

قلت : بأي شيء ينجو العبد من عذاب ربه؟

قال : بترك الذنوب.

__________________

(١) في (أ) : حلاوة الذكر.

(٢) في (ب) : أدخر.

(٣) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وسقط من (ب) إلى ربه. وسقط من (أ) : قال.

٤٦٤

قلت : أرأيت العبد إذا وصل إلى ربه أيسكن عنه الخوف والوجل أم لا؟

قال : لا.

قال : لم وهو على يقين من ذلك؟

قال : نعم. (١) من اليقين أن يكون خوفه ووجله.

قلت : أو يكون (٢) طالبا لرزقه.

قال : نعم يكون شديد الطلب لرزق الآخرة.

قلت : أعني رزق الدنيا.

قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) [الشورى : ٢٠].

قلت : كيف يكون واثقا برزقه موقنا؟

قال : كما يكون موقنا بالموت واثقا مصدقا أنه لا بد أن (٣) ينزل به.

قلت : ما علامة المحب؟

قال : يقرأ القرآن ويكون قرة عينه ولا يشبع من قراءته.

قلت : كيف يخافه ويحبه من قلب واحد؟

قال : لأنه محب لواحد ، فالخوف (٤) منه في حبه له ، والحب له في خوفه منه ، مثل النار والنور ، (٥) فالخوف نار ، والحب نور ، فلا يكون أبدا نور بلا نار.

ألا ترى إذا علت النار بنور يقع عليه اسم النور ، كالسراج في البيت ، فيقال في البيت نور ، ولا يقال فيه نار ، فالنور (٦) نار السراج إذا غلب الخوف على العبد يقال له

__________________

(١) سقط من (ب) : نعم.

(٢) في (أ) : أيكون.

(٣) سقط من (أ) : أن.

(٤) في (ب) : يجب الواحد. وفي (ب) : والخوف.

(٥) سقط من (ب) : النور.

(٦) في (ب) : والنور.

٤٦٥

خائف ، والمحبة معه ، وإذا غلبت المحبة على العبد سمي (١) محبا والخوف معه ، فإذا كمل الخائف على ما وصفت لك (٢) غلب بنوره ناره ، فوقدت منه المصابيح ، فنور البيوتات كلها والظلمات كذلك ، فكذلك (٣) المحب إذا كمل في الخوف كما وصفت لك (٤) ونجا من نجاسة نفسه فهو كالمصابيح ، كلامه نور وصمته نور ، وعمله نور (٥) ومدخله نور ، فهو نور من رأسه إلى قدمه (٦) كالمصابيح ، فكل تحركه (أبدا نور ، متصل بنور الملكوت الأعلى ، قلبه مع الله بحلاوة حبه ، وأحواله (٧) نور إلى الله في ذكره ، فطوبى له وحسن مآب) ، (٨) وطوبى لمن رزقه الله ذلك.

(قال الوافد : صف لي المتقلب في جوعه؟) (٩).

قال : العالم : مثل (١٠) المتقلب في جوعه كالمتشحط في دمه (١١) في سبيل الله ، وثوابه الجنة.

قلت : ما علامة العارف؟

قال : أن لا يفتر من ذكر ربه ، (١٢) ولا يستأنس بغيره.

__________________

(١) سقط من (أ) : له. وفي (أ) : إذا غلبت. وفي (أ) : يقال محبا.

(٢) سقط من (أ) : لك.

(٣) في (أ) : والظلمات كذلك المحب. وفي (ب) : والظلمات فكذلك المحب. ولعل ما أثبت هو الصواب.

وإنما ظنه النساخ تكريرا فحذفوه.

(٤) سقط من (أ) : لك.

(٥) في (ب) : وعلمه.

(٦) سقط من (أ) : نور من رأسه إلى قدمه.

(٧) هذه الجملة قلقلة وغير مستقيمة. ولعل هنا سقطا.

(٨) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٩) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وقد ظنن الناسخ على السؤال ، وكأنه إنما استوحاه من الجواب.

(١٠) سقط من (ب) : مثل.

(١١) سقط من (ب) : في دمه.

(١٢) سقط من (أ) : أن. وفي (أ) : الله.

٤٦٦

قلت : ما أنفع الخوف لي (١)؟

قال : ما لم يجرّيك على المعصية وأطال منك الحزن على ما فاتك ، وألزمك التفكر فيما تصير إليه في الآخرة.

قلت : ما أنفع الصدق لي؟

قال : أن تقر لله بعيوب نفسك ، ومساوئ عملك ، وتتقي الكذب في مواطن الصدق.

قلت : فما أنفع الإخلاص لي (٢)؟

قال : ما نفى عنك الرياء والتزين في الجماعات.

قلت : فما أنفع الحياء لي (٣)؟

قال : أن تستحيي من الله أن تسأله ما تحب وأنت تأتي ما يكره.

قلت : فما أنفع الأعمال لي؟

قال : ما سلمت من آفاتها وكانت مقبولة.

قلت : فما أنفع العلم لي (٤)؟

قال : ما نفى عنك الجهل ، وازددت به ورعا وكنت به عاملا.

قلت : ما أنفع التواضع لي؟

قال : ما نفى عنك الكبر ، وأمات منك (٥) الطمع والغضب.

قلت : فأي الجهاد أفضل؟

قال : جهاد النفس الأمارة بالسوء حتى تردها إلى قبول الحق.

__________________

(١) سقط من (أ) : لي.

(٢) في (ب) : وتنفي. وفي (أ) : من. وسقط من (أ) : لي.

(٣) سقط من (أ) : لي.

(٤) في (ب) : ما أنفع. وسقط من (أ) : لي.

(٥) في (ب) : عنك.

٤٦٧

قلت : فأي المعاصي أضر علي (١)؟

قال : عملك الطاعات بالجهل.

قلت : فهو أضر علي من أعمال المعاصي بالجهل؟

قال : نعم.

قلت : وكيف يكون (٢) ذلك؟

قال : ألست تعلم أن أعمالك بالمعاصي لا ترجو بها من الله (٣) ثوابا ، وتخاف عليها من الله عقابا؟

قلت : بلى.

(قال : أليس تعلم أن أعمالك بالجهل فاسدة ، وأنت تلتمس بها من الله ثوابا ، وقد استوجبت عليها من الله عقابا؟

قلت : بلى).

قال : فكم (٤) بين ذنب تخاف فيه العقوبة ـ والخوف طاعة ـ وبين ذنب تأمن (٥) فيه العقوبة ـ والأمن معصية.

قلت : فما ترى في الاستئناس بالناس؟

قال : إذا وجدت عاقلا مؤمنا (٦) قد زهد في الدنيا ورفضها ، فاستأنس به ، واهرب من سائرهم كهربك من السباع.

قلت : فأي المواضع أخفى لشخصي؟

__________________

(١) سقط من (أ) : علي.

(٢) سقط من (أ) : يكون.

(٣) في (أ) : لها. وسقط من (ب) : من الله.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وفي (أ) : فكيف. مصحفة.

(٥) في (ب) : فيه عقوبة. وفي (ب) : تخاف.

(٦) سقط من (ب) : مؤمنا.

٤٦٨

قال : صومعتك وداخل بيتك ، وكل موضع لا يلحقك (١) فيه شهرة ، ولا تحيط بك فيه فتنة.

قلت : دلني على عمل أسلم به (٢) من شر الخلق ويسلمون من شري؟

قال : إذا لم يكن في قلبك غل لأحد ، وأحببت لهم ما تحب لنفسك ، وكرهت لهم ما تكره لها ، سلموا شرك ، (٣) ولحق بهم خيرك.

قلت : ما علامة مؤثر الدنيا على الآخرة؟

قال : هو (٤) الذي لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت له دنياه.

قلت : ما علامة الكذب في العبد؟

قال : كثرة (٥) كلامه فيما لا يعنيه.

قلت : فما علامة قلة الكذب.

قال : كراهته لكثرة الحديث (٦).

قلت : أخبرني ما حياة العبد؟

قال : الإيمان واليقين حياته ، والخوف والتوكل نجاته ، وإذا ثبت الإيمان في قلبه ، فمنه يهيج (٧) ما سألت عنه من الصدق والخوف والتوكل وحسن الظن ، وهي أعمال سرائر (٨) القلوب. فإذا صح ذلك في القلب ظهر على اللسان والجوارح ، وبان منه (٩) الصلاح.

__________________

(١) في (ب) : لا يجيك.

(٢) في (أ) : فيه.

(٣) في (ب) : من شرك.

(٤) سقط من (ب) : هو.

(٥) في (ب) : إذا كثر.

(٦) في (أ) : كراهيته. وفي (ب) : لكثرة الكلام.

(٧) في (ب) : فإذا ثبت. وفي (ب) : باطن قلبه. وفي (أ) : ما يهيج.

(٨) في (ب) : سائر.

(٩) في (ب) : عليه.

٤٦٩

قلت : فما الذي ترجو به (١) صلاح قلبي إذا أنا عملت به؟

قال : التيقظ وخوف انقطاع العمر ، (٢) ومراقبة الموت ، والتفكر فيما تصير إليه من بعد الموت ، واحذروا (٣) الغفلة وطول الأمل ، ونسيان المعاد.

قلت : ما علامة الإخلاص؟

قال : الندم والاستقامة على طاعة الله.

قلت : فما (٤) علامة الورع؟

قال : ترك الشهوات ، ورفض الشبهات (٥).

قلت : ما علامة أهل (٦) التقوى؟

قال : ترك ما فيه بأس ظاهر أو باطن ، وسوء (٧) الظن بنفسك أنه ليس مأخوذ غيرك.

قلت : من أي شيء أكثر ذكره؟

قال : قراءة القرآن ، فهو حصن المؤمن (٨) وترسه.

قلت : صف لي مخ الزهد؟

قال : قطع الطمع عن القلب ، وامتناع السؤال للخلق ، (٩) وترك مخالطة أبناء الدنيا ، والفرار منهم ، وصدق الإرادة ، وحسن النية ، وصحة العزيمة.

__________________

(١) في (ب) : فما أرجو ...

(٢) في (ب) : الانقطاع للعمر.

(٣) سقط من (ب) : من. وسقط من (ب) : واحذروا. ولعلها : واحذر.

(٤) في (ب) : ما.

(٥) في (ب) : ترك الشبهات ورفض الشهوات.

(٦) في (أ) : أصل.

(٧) في (ب) : ظاهرا أو باطنا وتسيء.

(٨) في (ب) : الموت.

(٩) سقط من (أ) : السؤال.

٤٧٠

قلت : متى أعلم أني مطيع لربي حق الطاعة (١)؟

قال : إذا لم يجدك حيث نهاك ، ولم يفقدك حيث (٢) أمرك ، أطاعك لما سألته ، لأنه مطيع من أطاعه (٣).

قلت : فما طاعته لي؟

قال : يجيب دعوتك (٤) ولا يمل من برك.

قلت : كيف أجاهد نفسي؟

قال : تجوعها عن طعام الدنيا وتقمعها (٥) بالصوم ، وتلزمها قيام الليل ، وتحرسها عن الرياء والعجب ، وتستقل عملها بعد ذلك.

قلت : أي شيء أقرب إلى الله من أفعال (٦) القلوب؟

قال : اليقين وبعده العلم ، وبعده الشكر لله (٧).

قلت : ما عمارة القلب؟

قال : الخوف.

قلت : ما طهارته؟

قال : الحزن.

قلت : ما حياته؟

قال : الذكر والتفكر.

__________________

(١) في (ب) : طاعته.

(٢) في (أ) : ولا. وفي (أ) : من حيث.

(٣) في (أ) : أعطاك ما سألته لأنه قريب ممن أطاعه.

(٤) في (ب) : يجب دعاك.

(٥) في (ب) : وتقطعها.

(٦) في (ب) : عمل.

(٧) في (ب) : اليقين هو أقرب إلى الله تعالى ، وبعده العلم بالله والشكر له.

٤٧١

قلت : فما فساده (١)؟

قال : الغفلة وطلب الدنيا.

قلت : فما موته؟

قال : حب الشهوات ، وأكل الشبهات.

قلت : (٢) ما دواؤه؟

قال : الجوع سرا عن الناس ، وقراءة القرآن مع التفكر في الخلوة ، والتضرع إلى الله في أوقات الغفلة ، والرغبة في مجالس الذكر ، (٣) والتجرد عن أشغال الدنيا ، (٤) والحزن الدائم في القلب مع طول الصمت ، وذكر الموت في كل ساعة ، وكثرة ذكر الله ، والتواضع لله ، والنظر في الأموات والاعتبار بهم.

قلت : كيف تكون مراتب التوبة؟

قال : رجل تاب من الذنوب ولزم الطاعات ، ورجل تاب من الذنوب وترك الدنيا وأقبل على الآخرة ، ورجل تاب من الذنوب واختار الله سبحانه على الدنيا والآخرة ، وعلى جميع الخلق ، (٥) فالأول تائب ورع ، والثاني تائب زاهد ، والثالث تائب صدّيق عارف متقرب (٦).

قلت : أخبرني عن شر الأشياء؟

قال : الكفر بالله.

__________________

(١) في (أ) : الذكر لله و. وفي (ب) : ما قساوته.

(٢) في (ب) : طلب الدنيا وأكل الشبهة. وفي (أ) : قال.

(٣) في (أ) : الذاكرين.

(٤) في (أ) : والهجرة عن الأشغال. ولعل الهجرة. مصحفة عن التجرد ، فهما متشابهان في الرسم.

(٥) في (أ) : ورجل تاب واختار الله على جميع الخلق. ويبدو أنها زيادة ، لأن الإمام لم يعد بعد إلا ثلاثة رجال. والله أعلم.

(٦) في (أ) : مقرب.

٤٧٢

قلت : أله زوجة (١)؟

قال : نعم. البخل.

قلت : ما بعده أشر منه؟

قال : النفاق (٢).

قلت : أخبرني ما أفضل ما أعطي العبد؟

قال : العقل.

قلت : فما أنفع العقل؟

قال : ما عرّفك نعمة الله ، وأعانك على شكرها ، وقام بخلاف الهوى.

قلت : فما علامة العقل في العبد؟

قال : أن يعرف الحق من الباطل ، والضارّ من النافع ، والحسن من القبيح.

قلت : فما أنفع النعم معرفة بعد نعمة العقل؟

قال : الإيمان بالله.

قلت : فما حقيقة ذلك؟

قال : أداء ما افترض الله عليك. ثم سكت العالم بعد ذلك وافترقا رحمة الله عليهما.

* * *

__________________

(١) في (أ) : أهل ضد.

(٢) انتهت نسخة (أ) هنا وفيها : النفاق النفاق النفاق. ثم سكت العالم بعد ذلك وافترقا ، رحمة الله عليهما.

٤٧٣
٤٧٤

عظات بالغة

٤٧٥
٤٧٦

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وبه أستعين

أما بعد : فإن الدنيا دار غرور ، لا يدوم فيها سرور ، ولا يؤمن فيها محذور ، جديدها يبلى ، وخيرها يفنى ، من وثق بها خدعته ، ومن اطمأن إليها صرعته ، ومن أكرمها أهانته ، أفراحها تعقب أحزانا ، ولذاتها تورث أشجانا.

أما بعد : فإن أعمار الدنيا قصيرة ، ورحاها مديرة ، وسهامها قاصدة ، وحتوفها راصدة ، والمغرور من اغتر بها ، والمخدوع من ركن إليها ، من زهد فيها كفيها ، ومن رغب عنها وطيها ، قد غرت القرون الماضية ، وهي على الباقين آتية ، فيا بؤسا للباقين ، لا يعتبرون بالماضين ، يجمعون للوارثين ، ويقيمون في محلة المتجبرين.

أما بعد : فاقنع باليسير ، وبادر بالتشمير ، وإياك والتغرير ، وانظر إلى ما تصير ، فليس الأمر بصغير ، وهيئ زادك للمسير ، فقد أتاك النذير.

أما بعد : فقد وضح لك الطريق ، فلا تحيدن عن إطاره إلى المضيق ، فقد مضت الأيام ، وذهبت الأعوام ، وفنيت الأعمار ، وأحصيت الآثار ، وعن قليل تدعى فتجيب ، وتصعق فتغيب ، فعجبا (١) لقلبك كيف لا يتصدع؟! وعجبا لركنك كيف لا يتضعضع؟! وعجبا لجسمك كيف لا يتزعزع؟!

أما بعد : فإنه ليس لحي في الدنيا من مقام ، وعما قليل يأتيك الحمام ، وكل خلق تفنيه الأيام ، فلا تكن كالغافل النوام ، فإنما الدنيا إلى انصرام ، ولن يرى فيها دوام.

أما بعد : فاتقوا الله ، عباد الله ، فيما تقدّم إليكم ، واحتج به عليكم ، من قبل اللهف والندم ، ومن قبل الأخذ بالكظم (٢) ، وانقطاع المدة ، واستكمال العدة ، ومن قبل التلاقي واللزام ، والأخذ بالنواصي والأقدام ، فكأن قد نزلت بكم نازلة الفناء ، وأخرجتكم إلى دار البقاء ، وكشف عنكم الغطاء ، وتجرعتم سكرات الموت ، وخضتم غمرات

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فعجب. وكذلك ما بعدها.

(٢) الكظم : مخرج النّفس من الحلق.

٤٧٧

الآخرة (١) ، وأتاكم ما كنتم توعدون ، وعاينتم ما كنتم تحذرون.

أما بعد : فإنه لا عذر لمن هلك بعد المعرفة والبيان ، ولا حجة لمن ركن إلى دار الفناء والحدثان ، ولا ندم يغني عند وقوع العيان ، ولا حيلة تنفع عند فوت الزمان ، وعند السياق وكلول اللسان ، لا ولد ينفع ، ولا أهل يمنع ، في مصرع هائل ، وشغل شاغل ، يدعا فلا يسمع ، وينادى فلا يجيب ، في غصص الموت وسكراته ، وتجرّع زفراته ، وغمومه وحسراته ، قد علاك الأنين ، وأتاك الأمر اليقين ، فلا عذر فتعتذر ، ولا ردة فتزدجر ، قد عاينت نفسك حقائق الأمور ، وحللت (٢) في مساكن أهل القبور في لحد محدور (٣) ، قد افترشت اللّبن بعد لين الوطاء ، وسكنت بين الموتى ، بعد مساكنة الأحياء ، فالنجاء النجاء ، قبل حضور الفناء.

أما بعد : فإن الدنيا أيام قلائل ، وكل ما فيها ذاهب زائل ، فتعز بالصبر عن الشهوات ، وتناء (٤) بالحذر عن اللذات ، وفكر فيما اقترفت على نفسك من الذنوب ، وفيما قد ستر الله عليك من العيوب ، أما علمت حين عصيته لم يكن بينك وبينه ، ستر يواريك منه.

أما استحييت من مولاك؟! وقد علمت (٥) أنه يراك ، أما خفت العقوبة حين آثرت على تقواه هواك؟!

أما بعد : فيا بؤسا لك من مخالف خاسر ، وخائن غادر!! أما إنك عن قليل ، تهجم على البلاء الطويل ، فتدارك نفسك إذ عرّضتها للمهالك ، واسلك بها طريق الواضح من المسالك ، ولا تطمعها في راحتها ، أيام حياتها ، واستطرف لها النّصب (٦) ، واحملها على التعب ، لما ترجو أن تصير إليه من الراحة غدا ، فكأنك قد دعيت فأجبت ، فاعمل

__________________

(١) في جميع المخطوطات : الآخرة. ولعلها هكذا (غمرات الموت أو الفوت). والله أعلم.

(٢) في (أ) : وحلّت.

(٣) الحدور : الهبوط. وسقط من (ب) و (د) : في لحد محدور.

(٤) في (ب) : وتبأ. مصحفة.

(٥) في (أ) و (ج) : تعلم.

(٦) استطرف : استفد. وفي (ب) و (د) : النصف. مصحفة.

٤٧٨

لنفسك ما دمت في مهلة ، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى (١).

أما بعد : فاحذر على نفسك ختر الدنيا ومكرها ، وخدعها وغدرها ، فإنها متبرجة لطلابها ، فاحذرها ولا تكن لها قتيلا ، والتمس لنفسك للنجاة (٢) منها سبيلا ، فانظر لنفسك أيام مكثك فيها ، واعلم أنها مرحّلة سكانها ، وأن متاعها قليل ، وخطبها جليل ، ونعيمها زائل ، وخيرها مائل.

أما بعد : فكن في سفرك مرتادا ، وهيّئ عدة وزادا ، قد خرجت من روح الدنيا ، إلى ضيق اللحد وخشونة المتكأ (٣) ، فتيقظ من نومة الغافلين ، وانتبه من وسنة (٤) الجاهلين ، وانظر بعينك إلى مصارع المغترين ، ومضاجع المستكبرين ، أليس ديارهم خالية (وأجسادهم بالية ، ومساكنهم مقفرة ، وعظامهم نخرة ، وعروقهم بالية) (٥) وأيامهم فانية؟!

أما بعد : فإنك لو رأيت يسير ما بقي من عمرك وأجلك ، لزهدت في طول ما ترجو من أملك ، ورغبت في الزيادة من عملك ، فإنك إنما تلقى غدا في حفرتك ، وتخلى في وهدتك (٦) ، ويتبرأ منك القريب ، ويتسلى منك الحبيب ، فلا أنت إلى أهلك راجع ، ولا في عملك زائد شارع ، فاعمل ليوم القيامة ، قبل الحسرة والندامة.

أما بعد : فلا يمل بك الأمل الكاذب ، ولا تكن كالشاهد الغائب ، فإنك والقوم على بساط واحد ، والموت يأتي على كل صادر ووارد ، فلا يذهبن قولي عنك صفحا ، فإني لم آلك حظا ونصحا ، فإن تقبل نصيحتي فأنت بذلك أسعد ، وبها أعلى غنيى (٧) وأرشد ، وعن قليل يأتيك الخبر ، فالحذر الحذر ، فإنه يأتي أسرع من لمح البصر.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يحبه ويرضاه.

(٢) في (ب) و (د) : النجاة.

(٣) في (ب) و (د) : متكأه.

(٤) في (ب) و (د) : سنة.

(٥) سقط ما بين القوسين من (ب) و (د).

(٦) الوهدة : الهوّة تكون في الأرض.

(٧) في (ب) : عينا. وفي (أ) و (ج) : عيبا. مصحفة.

٤٧٩

أما بعد : فإن الدنيا بحر عميق ، ولنيرانها لهب وحريق ، ولطرقها مفاوز (١) ومضيق ، فالحذر إذا لبعد مفاوزها ومضيقها ، فأعدّ عدة سير تزحزح به عن لهبها وحريقها ، واتخذ سفينة تنجو بها من عميقها ، وقرّب عليك الأجل لا تخدعنك بآمالها ومكرها ، وقد عرّفتك نفسها ، وأوضحت لك لبسها (٢) ، فلا تعم وأنت بصير ، ولا تأمن وأنت بتحذير ، فإن الذي بقي من عمرك قليل ، فإما الثواب الجزيل وإما البلاء الطويل ، فكن بعملك منتفعا ، وللموت متوقعا ، فإنك لا تدري على أي حال يأتيك ، وفي أي وقت يفاجيك ، فعجبا لك يا مكنون (٣) الأجل ، كيف تغتر بطول الأمل ، فابك على نفسك إن كنت باكيا ، وتيقظ من غفلتك إن كنت لاهيا.

أما بعد : فكأنك قد أخرجت من روح الدنيا ومساكنها ، وأبدت أهلك لغيرك سكنها ومحاسنها (٤) ، ونسيت ما كان لها من كدك ، وتغيّرت ـ عما كانت لك عليه من بعدك (٥) ، فتنعموا بمالك ، ولم يعبئوا بحالك ـ لمن لا يرثى لك غدا من بعد صرعتك ، ولا يؤنسك (٦) في وحشتك ، فلا تبع يا مسكين بدنياك آخرتك ، ولا تجزع لها فتركبك رقبتك ، عليك بنفسك أكرم الأنفس عليك ، وأحب الأنفس إليك ، واعلم أنك مسئول ، ومحاسب ومعاقب ، فارغب في الثواب ، واهرب من العقاب.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : مغاور.

(٢) في (ب) و (د) : بنفسها. وفي (ب) و (د) : لك عن لبسها.

(٣) في (أ) و (ج) : فعجب. والمكنون : الخفي.

(٤) في (أ) و (ج) : وأبدت لأهلك غيرك سكنها ومحاسنها. وفي (د) : وأبدت أهلك لغير سكنها محاسنها.

(٥) في (أ) و (ج) : بعد.

(٦) في (أ) و (ج) : لا يرى لك. مصحفة. وسقط من (أ) و (ج) و (د) : بعد. وفي (أ) و (ج) : ولا يؤنسك غدا في :

٤٨٠