مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

يصلح له من الأدب ، واسع مع أهله في كل عدو وخبب ، يفر (١) لك عرضك ، وتستوطئ (٢) بك أرضك ، ويستحكم لذلك إبرامك ونقضك ، ويستتر عنك مدّعي بغضك.

ولا تحمل الحقد على أترابك ، ولا تحملنك المماحكة (٣) في الأحكام ، على ملادّة (٤) ذوي الأحلام ، فربما أورث المحك الشحنا ، وأبان لك من خليلك ما كان عنك مستكنا(٥).

تم الجزء الثالث من المكنون والحمد لله رب العالمين.

واقبل نصيحة من حباك بنصيحته ، واتعظ لموعظته ، لا تجانب السداد ، واحتمل قوارع (٦) الفؤاد ، واسل عما كنت له آلفا ، حتى تظفر بما صرت (٧) له مستأنفا ، وتصرّف (٨) لك نفسك تصرف الذلول في زمامك ، (٩) وتكون عيوبك أمامك ، ترمقها بعين العيافة،(١٠) حتى تعود إلى ما به أمرت من المؤالفة ، وإياك أن تكون على ما لا تمقه (١١) من غيرك مقيما ، فتكون عند الناس مذموما ، ولا تدع إصلاح ما يذمه منك غيرك ، باجتنابك له ما مدّ لك عمرك.

يا بني : فإن عجزت عن استئصاله ، فحل به بالتحلق عن محالّه (١٢).

__________________

(١) الخبب : المشي السريع. ويفر : يبقى كثيرا لا ينقص. والمعنى لا يشتم.

(٢) تستسهل وتستلين.

(٣) في (أ) و (ج) : تحملك. والمماحكة : اللجاجة.

(٤) خصام وجدل.

(٥) مختفيا.

(٦) النوازل الشديدة.

(٧) في (أ) و (ج) : كنت.

(٨) أي تتصرف. حذفت التاء تخفيفا. كقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا).

(٩) في (ب) و (د) : زمانك. تصحيف.

(١٠) ترمقها : تنظرها شزرا. والعيافة : الكراهة.

(١١) تحبه. من المقة.

(١٢) استئصاله : قلعه من أصله. وحل به : أزله واذهب به. وفي (ب) و (ج) : بالتخلق. والتحلق : الترفع. ـ

٣٢١

[الكبر]

يا بني : واجتنب الكبر فإنه رداء الجبار ، والمعطل للديار ، والمحل لصاحبه دار البوار ، والمغير للانعام ، والمعجل للانتقام ، وعليك بتحصيل الأشياء وفحصها ، وقرع أبواب زيادتها ونقصها ، وتصريفها على جهتها ، وقلة العجلة في التبصر بها ، حتى تتضح لك آثارها ، وتسفر لك أوجهها ، ثم استقبلها في أوان العنفوان ، (١) ولا تنقد بالهوى إلى الوخم (٢) من الأعطان ، فتجرحك الأوهام ، ويصرعك (٣) ما ليس لك عليه قوام ، فقد عاينت جرحى الأيام ، وقلة رأفتها بالكرام ، وكثرة رجوع صرعاها على أنفسهم بالملام.

[شهادة الليل والنهار]

واعلم يا بني : أن الليل والنهار ينقرضان ثم لا يعودان ، وبالحسن والقبيح يمران ، وعلى كل صغير وكبير أفعاله يثبتان.

يا بني فإن قدرت أن تدفع (٤) في كل ساعة تمر بك موبق (٥) السيئات ، بصالح الحسنات ، وتبني مكرمة تحظى (٦) بها يوم القيامة ، وتنجو بها من الندامة ، ويثلج بها في الدنيا صدرك. ويفسح لك بها قبرك ، فافعل وعجّل ثم عجّل ، وأنت في حين (٧) المهل ، ولا تكثر التسويف فيطول عتبك ، وينقضي بخطل (٨) يومك ، فإن في ساعات الليل

__________________

ـ يقال حلق النجم إذا ارتفع. ومحالّه جمع محلّ. أي : مكانه.

(١) عنفوان كل شيء : أوله.

(٢) الوخم : الرديء. والأعطان : جمع عطن وهي مبارك الإبل ومواضعها.

(٣) في (ب) : وتصرعك بما.

(٤) في (ب) : ترفع.

(٥) في (ب) : موثق.

(٦) تخطى : تنال المنزلة والمكانة.

(٧) في (أ) و (ج) : فأنت. وسقط من (ب) : حين.

(٨) في (ب) و (ج) و (د) : وينقضي بحظك. والخطل : المنطق الفاسد المضطرب.

٣٢٢

والنهار سجلات مطوية ، تؤدي ما استودعت بصدق الرّويّة ، (١) فضمّنها الجميل تؤدّ عنك باقيا ، كنت أو فانيا ، كحسب ما أدت من الودائع ، في الليالي الخوالع ، (٢) من مكارم الكرام ، ومثالب اللئام ، ثم لم ينطمس ذلك مع الرسوم (٣) الطوامس باقيا ما بقيت الدهارير ، (٤) حتى تحيط بالعالمين ملمات المقادير.

وكل من لم يسمك (٥) على ما بنت له الجدود ، بناء يعلو له فيه التشييد ، فالمحامد منه بعيد ، وركن الشرف الذي اعتمد عليه مهدود ، لأن الساكن في غير ما يحوي فهو (٦) منه خارج ، يا بني : ومن لم يشرّفه فعاله فليس في شرف سلفه بوالج ، (٧) إذا لم يزيّن الشرف التليد ، (٨) بالفعال الحميد!! لأن السلف الماضين ، إنما شرفوا في الخلف الباقين ، بالمكارم المعدودة ، والخلائق المحمودة.

[رقابة الناس]

يا بني ومن أسّس له أوّلوه أركانا ، ثم لم يعل عليها بنيانا ، فهو بمعزل مما أسسوا ، خلو عن رباب (٩) ما اغترسوا!! ومن أحيا بعز أيامه أيام الآباء والأجداد ، فاش ذكره كما فاش(١٠) ذكرهم في العباد والبلاد ، فلا تكذب نفسك الخبر ، فإنه سيمحض منك

__________________

(١) الروية : التفكر في الأمر.

(٢) الخوالع : الذاهبة المنقضية. وفي (ب) : الجوامع.

(٣) الرسوم : الآثار.

(٤) الدهارير : تصاريف الدهر أو نوائبه. مشتق من لفظ الدهر ليس له واحد من لفظه.

(٥) يسم : يرفع.

(٦) سقط من (ب) و (د) : هو.

(٧) بوالج : بداخل.

(٨) التليد : المال القديم الأصلي. والمراد هنا الشرف القديم المكتسب من الأجداد.

(٩) الخلو : الفارغ. وفي (ب) : عن أرباب ما أسسوا. والرّباب : دبس كل ثمرة ، أي عصارتها ، بعد الاعتصار أو الطبخ.

(١٠) فاش : انتشر.

٣٢٣

المختبر ، (١) عيون جساسون ، عيّانون بحاثون ، ولخطئك (٢) محصون ، ولما يكون منك حافظون ، فجنب قدمك مواضع الدّحضات ، (٣) ولا تسع بها في مهايع (٤) المنكرات ، فإن الناس ، حفظة على الناس ، ما يأتون وما يذرون ، فربما ذكّروا (٥) المرء في الأحيان ، بسالف ما ذهل عنه بالنسيان ، (٦) وأتاه عنهم ما قد غيب عن فكر (٧) الأذهان ، فليطل منهم حذرك ، وليكثر لهم قهرك ، بتنزيه نفسك عما يتطلعون (٨) إليه من سقطتك ، ويبتغون هدّه من ذروتك ، وليكن التّرقّي (٩) في ذرى الشرف من همتك. ولا تشب الشك باليقين ، ولا المعرفة بسوء الظنون ، فينتقض ما أبرمت ، ويتغير ما عليه عزمت ، ويلحقك الضعف ، فتقف عن العمل وقوف المغلول من (١٠) الكف.

[القناعة]

يا بني : وإياك وكثرة الحرص ، فإن التخلق به يرجع بك إلى النقص ، ويذهب عن صاحبه الهيبة ، وتكثر له من (١١) الناس الغيبة.

__________________

(١) المختبر : المخبر ، وهو خلاف المظهر ، والمعنى سيطلع الناس ويكتشفون خباياك ، وما أنت عليه من الأمور الباطنة.

(٢) في (ج) : ولخطاياك. وفي (أ) : ولخطيأتك.

(٣) الدحضات : المنزلقات.

(٤) مهايع : طرق.

(٥) في (ب) و (د) : ذكر.

(٦) في (ب) : النسيان.

(٧) في (ب) و (د) : فكره.

(٨) في (ب) : يطلعون.

(٩) ذروة كل شيء : أعلاه. وفي (ب) و (د) : الرّقّي.

(١٠) في (أ) و (ج) : عن.

(١١) في (ب) و (د) : وتكثر من الناس له.

٣٢٤

يا بني : ألزم نفسك التجمل بترك السؤال ، ما وجدت البلغة (١) بما قل من المال ، فإن رزقك في كل يوم ، يمر بك مقسوم ، والالحاف (٢) في السؤال أمر مذموم ، وبهجة (٣) البهاء معه لا تستقيم ، ولا مروءة لمن لم يكن الصبر له غالبا ، والاحتساب (٤) له صاحبا ، فادخر لنفسك القنوع بما يبلغك المحل وإن قل ، فإن ذلك من شمائل أهل الفضل ، حتى تنغلق عنك أبواب العسرة ، وتنفتح لك بما تحب أبواب الميسرة ، فإن ذا القناعة قد يمنح من الله النصرة ، في الدنيا والآخرة. وأخلق (٥) بذي التأني أن يظفر بحاجته ، وأن يعطيه الله أفضل أمنيته ، مع ما يتطول به عليه (٦) من عونه وكفايته!! ولربّ ملهوف عجّل له غواثه ، (٧) وقل عليه ارتياثه (٨). ولربما أدّب الله عبده بالفقر وابتلاه بالعسر اختبارا ، ليجعل له في عاقبة ذلك خيارا ، يعلي له به ذكرا في الحظ من لدنه ، وهو في ذلك راض عنه! فلا تقطف ثمرة لم يبد لك صلاحها ، ولا تطلب حاجة لم يأن لك نجاحها ، فإنك تذوق معسول الثمرة في إبانها (٩) ، وتظفر بحاجتك عند بلوغ أوانها ، والمنفرد لخليقته (١٠) بالتدبير ، أعلم بالمدة التي يصلح فيه التقدير ، (١١) فاستخر اللطيف الخبير ، يخر لك في جميع الأمور.

يا بني ولا تجعل الدهر يوما واحدا ، فإن مع اليوم غدا ، واطلب حوائجك بددا ، (١٢)

__________________

(١) البلعة : الكفاية.

(٢) في (ب) و (د) : الإلحاح.

(٣) البهجة : الحسن. والبهاء : المنظر الحسن الرائع المالئ للعين.

(٤) الاحتساب : طلب الأجر بالصبر على المصيبة.

(٥) سقط من (ب) و (د) : في الدنيا والآخرة. وأخلق : أي : هو جدير قمين :

(٦) في (ب) و (د) : عليه به.

(٧) غواثه : ما يغاث به.

(٨) ارتياثه : إبطاؤه.

(٩) إبانها : وقتها وحينها.

(١٠) في (ب) و (د) : بخليقته.

(١١) في (أ) : يصلح فيها التقدير.

(١٢) بداد : متفرقة على الأيام.

٣٢٥

ولا تطلب جميع حوائج عمرك في يومك ، فيكثر قنطك ويتغلغل (١) صدرك.

يا بني : خاش الجديدين ، (٢) في كلتا الحالتين ، تظفر بإحدى الحسنيين ، اصحبهما بأجمل ما به يصحبان ، وامرر معهما كما يمران ، ولا تصاعبهما فيصاعباك ، ولا تكاشفهما (٣) فيكاشفاك ، بمكروههما ، (٤) وأقلل من معاتبتهما ، وأكثر موادعتهما ، وأطل بالرضى مسالمتهما ، يثلج (٥) من الهموم صدرك ، ويصف لك بلذيذ العيش عصرك ، واحذر عسفهما فإنهما إن عسفاك عجزت ولم تنتصر ، ولم يدافعهما عنك أحد من البشر.

يا بني : ومن كثرت مراقبته ، طالت نعمته ، والنعم أسرع شيء زوالا عن البطر ، (٦) وليس لها عنده مستقر ، وليس يدركها ذو الفظاظة والغلظة إلا بالمحتوم من المقادير.

يا بني : وربما حبي (٧) القاسي الذي ليست من شكله منها بالسرور ، وقد يكون استدراجا للنحرير ، (٨) وسببا للحسرة والوبال ، على المهذب (٩) من الرجال ، فاحجب بينك وبين المحبوب بستر لا تنهتك أطنابه ، (١٠) ولا تنبتك (١١) أسبابه ، وعليك بالصبر عند نفاره ، لكيلا تفجعك فرقته عند إدباره ، لحادث يصرفه عنك ، ويستنزعه (١٢) منك ، فإنّ

__________________

(١) قنطك : يأسك. ويتغلغل : يدخله الغلّ.

(٢) خاش : احذر. الجديدين : الليل والنهار.

(٣) المكاشفة : إظهار العيب المكتوم ، والفضيحة أيضا.

(٤) في (ب) : بمكرهما.

(٥) يثلج : يطمئن.

(٦) البطر : الطاغي في النعمة.

(٧) في (أ) و (ب) : حيّ. تصحيف.

(٨) النحرير : الحاذق الماهر العاقل المجرب.

(٩) المهذب : المخلص ، النقي من العيوب.

(١٠) الهتك : أن تجذب سترا فتقطعه من موضعه ، أو تشق منه طائفة. والأطناب : ما يشد به البيت من الحبال.

(١١) تنبتك : تنقطع. والأسباب : الحبال.

(١٢) من الانتزاع. وضّحت هذا لأن الكمبيوتر ينقط النون والزاي إذا اجتمعا بنقطتين ملتصقتين حتى ـ

٣٢٦

من لم تحسن ـ بديهته عند نائبته ، (١) ويغلب جميل عزائه (٢) جليل مصيبته ، قبل أن تدور الدوائر بفجيعته ـ عيل (٣) صبره ، وامتلأ بالرزايا (٤) صدره ، إذا هجم عليه غائبها ، وبرك بكلاكله (٥) على كاهله نائبها.

يا بني : ربّ النعم بالشكر فإن النعم أقسام ، تقسمها الأيام ، ثم تضرب لها أجلا ، وتجعلها بين الخلائق دولا ، تمتّع بها قوما وتعدمها (٦) آخرين ، ثم تسلبها بالكلية من الناس أجمعين ، وليس عليها شرائط للمستفيدين ، يستوجبونها دون الآخرين ، (٧) ما كانوا في الأحياء المرزوقين ، ويستحيل أن يكون ذلك في أمل الآملين ، وإنما هي بلاغ وعارية إلى حين.

[المبادرة إلى الخير]

يا بني : وما كان لأوله ابتداء ، فلآخره انقضاء ، ولا بد أن يجري عليه عند نهايته الفناء ، وإذا أوجبت العطية فأسرع بها البدار ، (٨) وأنجز موعدك لأهل الاضطرار ، قبل أن يذهب نشاطك ، وينقبض انبساطك ، وعجّل بالمعروف ، كي يتجدد لك شكر الملهوف ، وإذا أردت إنعاما وإتحافا فلا ترد بذلك مطلا ، وكن عند نفسك لما دعتك إليه من ذلك أهلا ، ولا تكدّره بالتأخير ، ولا تستدع الذم فيه بضرب المعاذير ، فإن ذلك منقصة لك عند الصغير والكبير.

يا بني : ارع سالف الحرمة وأدّ حقها ، وسدد طرقها ، ولا تنس ذمتها ، ولا تملّ

__________________

ـ يظن أنهما تاء وراء.

(١) نائبته : مصيبته وما ينزل به من حادث.

(٢) في (ب) و (د) : ويغلب عزاؤه جميل. والعزاء : الصبر.

(٣) الدوائر : جمع دائرة وهي : الهزيمة ، والسوء والداهية. عيل : غلب.

(٤) الرزايا : جمع رزية. المصيبة.

(٥) الكلكل : الصدر.

(٦) في (ب) و (د) : ويعدمها آخرون.

(٧) سقط من (ب) و (د) : دون الآخرين.

(٨) البدار : العجلة والاسراع.

٣٢٧

طول صحبتها ، فيعود ذو الثقة بك (١) من وفائك يائسا ، ويظهر لك بعد الاسفار (٢) وجها عابسا ، وأرفد (٣) من أتاك مسترفدا ، وكن له بما يمكنك مستعدا ، (٤) فإن عجزت عن رفده ، فاردد عليه ماء وجهه بما يحسن من ردّه ، مع بشر تبسطه ، وتحلّ من ورطه ، فإن ضربت له عذرا عذر ، (٥) وإن أوليته وأنلته معروفا شكر ، وعد القليل مع الانبساط كثيرا ، والكثير مع الجبروت (٦) حقيرا.

[نصائح سياسية]

يا بني : وإذا وجدت للرخاء موضعا منفسحا ، لم تكثر به إلى الطماح مرحا ، (٧) وإن كنت ممن يصحب الملوك ، فاصحبهم بالجلال والتعظيم يكرموك ، ولا يحملك كثرة الأنس بهم ، على الحرص فيما ينقصك من مودتهم ، وأكثر الهيبة لهم ، فإنهم إنما أطالوا الحجاب ، وصفدوا (٨) دون العوام الأبواب ، لتملأ القلوب هيبتهم ، وترعد الفرائص سلطنتهم ، (٩) فعلى حسب هذا فاصحبهم ، (١٠) وإلا فأقصر عن الاتصال بهم.

يا بني : ولا يكثر من دهرك يأسك ، ولا عند تثبطه بأملك إبلاسك ، (١١) فإن جميع من يحسد على ما أفضى (١٢) إليه ، لم يدركه إلا بعد تأبّيه وتعذّره عليه.

__________________

(١) سقط من (ب) : بك.

(٢) الاسفار : الإشراق والإضاءة.

(٣) أرفد : أعط وأعن.

(٤) مستعدا : معينا.

(٥) سقط من (ب) : عذر.

(٦) الجبروت : العتو والقهر.

(٧) الطماح : الكبر والفخر. والمرح : التبختر والاختيال.

(٨) في (ب) : وصدوا. وصفدوا أي : أغلقوا.

(٩) الفرائص : جمع فريصة : اللحم الذي بين الصدر والكتف يرتعدان عند الفزع. والسلطنة : قدرة الملك.

(١٠) سقط من (ب) : فعلى حسب هذا فاصحبهم.

(١١) التثبيط : التأخر والتعويق. والابلاس : الحيرة والدهشة والقنوط.

(١٢) أفضى : وصل.

٣٢٨

[التأمل]

يا بني : وأكثر التأمل فيما يشخص إليه طرفك ، وتمنّاه (١) نفسك ، مما أوتيه من هو أجلّ منك قدرا ، وأكثر منك يسرا ، إلى ما تؤول إليه العواقب ، وما ذا تديره عليه النوائب ، فربما كان ذو الاقلال ، أنعم بالا وأحسن حالا من صاحب الأموال ، ومن سقته الدنيا من صفو لذاتها (٢) كأسا ملأ ، جرّعته من كريه مرارتها ما يعود عليه وبالا ، لأن صفوها ممزوج بالكدر ، وأملها متنكد بالغير ، وعلى كل رائق (٣) منها للناظرين ، رقباء غير غافلين ، يستلبون المهج ، ويدرسون بهجة المنهج ، (٤) مع كثرة الإعراض ، وسرعة الإنعاض ، وتضييق الغلاصم ، (٥) بخفي العظائم ، والحفظ بعيد عمن غلظ طبعه ، وضاق خلقه.

واعلم يا بني : أن العاقبة ، نعمة كاملة ، وإن أعطي الانسان (٦) من دهره المنى ، وأتحف منه بالرضى. ومن كثرت دعته ، (٧) وحسن خلقه ومروءته ، فقد استكمل الفضل ، وحاز بفوزه الخصل (٨).

يا بني : ولو شري الخلق الحسن بجميع الدنيا لكان رخيصا ، وكان شاريه وإن بقي فقيرا بالظفر مخصوصا.

[حوادث الأيام]

واعلم يا بني : أن الأيام نبل مسمومة ، والخلق أهداف مرمية ، والزمان لهم مرشق يرميهم في كل يوم بنافرة ، وتدور على الكواهل بأدمع دائرة ، حتى يدع اللحم عريضنا ،

__________________

(١) أي : تتمناه. حذفت التاء تخفيفا.

(٢) في (ب) و (د) : لذاتها. واللذة واللذاذة بمعنى واحد. أي : الأكل والشرب بنعمة وكفاية.

(٣) الرائق : الجميل.

(٤) المهج : دم القلب ، والروح ، وخالص كل شيء. ويدرسون : يطمسون. والمنهج : الطريق والسبيل.

(٥) الإنعاض : الحركة والاضطراب. والغلاصم : جمع غلصمة ، وهي : رأس الحلقوم.

(٦) سقط من (ب) و (د) : الانسان.

(٧) دعته : وقاره وسكونه.

(٨) في (أ) و (ج) : بفوره. والخصل : الغلب ، والسبق.

٣٢٩

والعظم مهيضا ، (١) ويستغرق كل يوم من أجزاء الانسان جزوا ، يصيّره به نضوا ، (٢) فما ذا يبقي من الأجسام ممر الليالي والأيام ، وكم ذا يكون صبرها على نوافر (٣) السهام ، فيا أيها ذا الذي دلاه (٤) الغرور بالغرور ، وزيّن له ما يستقبح في عواقب الأمور ، لو هتكت لك مسدلات الأستار ، عما يخترم (٥) منك الليل والنهار ، وما يكرّ به لينجز (٦) ما بقي منك العشيّ والإبكار ، لأمضّك (٧) الجزع وقل منك الاصطبار ، ولأوحشك من الساعات التكرار ، ولكن تدبير من بيده الأقدار ، يعزب عن أن يعلم كنهه بالاعتبار (٨).

يا بني : فاسل بكثير غوائل (٩) الدنيا عنها ، وخذ ما صفي منها ، فإن ضجيعها مغبون ، والراكن إليها مفتون ، والوافر الحظ منها فيها (١٠) محزون ، وهي أقل من كل قليل سماه المسمّون ، وقد عجز عن وصف عيوبها الواصفون ، وقصر عن علم عجائبها العالمون.

تم كتاب المكنون بحمد الله ومنّه وتوفيقه ، وحسن إعانته.

والحمد لله كثيرا بكرة وأصيلا.

* * *

__________________

(١) اللحم العريض : المصاب بمرض. يقال : ناقة عارضة أي : مريضة. ومهيضا : كسيرا.

(٢) نضوا : مشويا.

(٣) النوافر : المفرقة أو المفترقة.

(٤) في (ب) و (د) : أيها ذا. ودلاه : أطمعه.

(٥) المسدل : المرسل المرخيّ. ويخترم : يقطع وينقص. وفي (ب) و (د) : يخرم.

(٦) يكر : يرجع ويعود. ولينجز : ليفني.

(٧) أمضك : آلمك وأحرقك.

(٨) يعزب : يبعد. والاعتبار : الاستدلال بالشيء على الشيء.

(٩) الغوائل : الدواهي.

(١٠) سقط من (ب) : فيها.

٣٣٠

[سياسة النفس]

٣٣١
٣٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا أبو محمد ، عبد الله بن أحمد ، قال : أخبرني أبي رحمه‌الله أحمد ، (١) بن محمد ، بن الحسين ، بن سلام قال : أنفذ إلينا أبو محمد ، القاسم بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين ، أول ما أنفذ إلينا من كتبه ، كتابا يقال له : (سياسة النفس).

قال أبي رحمه‌الله : فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه ، ونرحل إلى غيره من أهل البيت عليهم‌السلام ، فأسفنا على ما فاتنا منه ، وقلنا : ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا ، إلا أن نكون جواب كتابه. فرحلنا إليه ، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة ، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات ، ثم سمعنا منه هذا الكتاب ، وأوله :

بسم الله الرحمن الرحيم. بالله أستعين

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما. ونسأل الله ولي نعمة الابتداء ، ومسهّل سبيل قصد الاهتداء ، أن يمنّ علينا وعليكم بشكر نعمه في ابتدائه ، ويحسن إلينا وإليكم بعونه على سلوك سبيل أوليائه ، التي أرجو أن تكون أنفسكم (٢) ـ لها وفيها ، ولما أنتم عليه لله من التمسك بها والقصد إليها ـ من الأنفس التي أذن الله بعمارتها ، ورمى (٣) إليها بأسباب حياتها ، فقد عقد الله لكم لذلك (٤) لدينا عقد الخلة والاخاء ، ووكّد بذلك لكم علينا أخوّة الخاصّة والأولياء ، فأيقنوا أنه لم يوصل سبب من الأسباب بين المتواصلين ، ولم تعقد خلّة من الخلل بين المتخالّين ، من

__________________

(١) أحمد بن محمد ، أحد أعيان الناصر ، ثم الداعي ، وكان عالما ديّنا ورعا ، توفي بعد العشر والثلاث مائة. وأحمد بن محمد بن سلّام الكوفي من ثقاة محدثي الشيعة ، وممن صحب الإمام القاسم وروى عنه ، وعن ابن عيينة ، ومحمد بن راشد ، وعباد بن يعقوب ، والحسن بن عبد الواحد القزويني ، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله ، ومحمد بن منصور ، وعلي بن أبي سليمان ، ومحمد بن بلال.

(٢) في (أ) و (ج) : تكون سلوك أنفسكم.

(٣) في (ب) : وما (مصحفة).

(٤) في (ب) و (د) : بذلك.

٣٣٣

الأولين من خلق الله لا (١) ولا من الآخرين ، بغير ما يرضي الله سبحانه من التقوى ، ويستحقه جل ثناؤه من الطاعة له والرضى ، إلا كانت وصلة حسرة وانقطاع ، وندم غدا واسترجاع ، يدعو أهلها فيها بالويل والعويل ، ويصيرون بها في الآخرة إلى خزي طويل ، ذلك قوله جل ثناؤه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزخرف : ٦٧]. وقوله تعالى عن القائل غدا : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩) [الفرقان : ٢٨ ـ ٢٩].

ونحن نرجو وليكم (٢) الله أن يكون وصلة ما بيننا ، وما عقد الله ـ فله الحمد ـ عليه خلّتنا ، سببا عقده الله بالإيمان ، وأسّسه منه على رضوان ، فمن أحق بالتعظيم منا لما كانت الأبرار تعظمه ، ومن خير ما قدمناه فيه ما كانت الأتقياء تقدمه ، من كل ما كان لهم على بغيتهم من النجاة دليلا ، وإلى ما يلتمسون من فوز حياة الخلد عند الله سبيلا ، من التذكير من بقاء (٣) الآخرة وفناء الدنيا بما ذكر ، والأمر في عاجل هذه الدنيا من التقوى له بما به أمر.

فافهموا ذلك فهّمنا الله وإياكم سبيل الخير ، ونفعنا ونفعكم فيها بمنافع التذكير ، فإنه يقول سبحانه : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) [الذاريات : ٥٥]. والدنيا وإن كان أمرها قصيرا ، وبقاء أهلها فيها قليلا يسيرا ، فاعلموا رحمكم الله أنها وإن كانت كذلك في البلوى ، فإنها متجر لأرباح فوائد التقوى ، ومكسب غنم لمن كسبها فيها ، ومحل مخصب لمن تزود إليها منها ، ومعبر لمن تبلّغ بها عند ظفره بكسبها ، إلى دار مقام ، ومحل دوام ، ليس عنها لمن نزلها انتقال ، ولا منها بعد طولها زوال (٤) ، والدنيا فإنما خلقها الله سبحانه لعبادته ، وأمر خلقه فيها بطاعته ، ونعاها إليهم

__________________

(١) سقط من (ب) : لا.

(٢) في (أ) و (ج) : نرجو إليكم.

(٣) في (ج) : لقاء.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : زوال.

٣٣٤

قبل فنائها ، وأخبرهم جل ثناؤه بقصر مدتها وبقائها ، فقلّل (١) بأحق الحقائق في أعينهم ما يستكثرونه من كثيرها ، وقصّر في كتابه الناطق عندهم ما يستطيلونه من تعميرها ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) [النساء : ٧٧ ـ ٧٨]. وقال سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦) [النازعات : ٤٥ ـ ٤٦]. وقال تبارك وتعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥) [يونس : ٤٥]. وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) [الأحقاف : ٣٥].

[الدنيا الغرور]

فالدنيا أحق منزل بأن لا تملّ مكاسب غنمه ، ولا يغفل في حث ولا جدّ ولا اجتهاد عن تغنّمه ، (٢) ولا يذم سعي من عمل له ، واغتنم فيه مدته وأجله ، بل المستحق للذم فيها من أوطنها ، على يقين العلم بالنقلة منها ، (٣) وسعى للنيل فيها ، مع يقينه

__________________

(١) في (ب) و (د) : قتال (مصفحة).

(٢) في (ب) و (د) : في بغيته. وفي (ج) : تغبيه. وكلاهما مصحفتان.

(٣) في (ب) و (د) : منها عنها. (زيادة).

٣٣٥

بفنائها ، فأصبح مشغولا بالفراغ مما شغله ، فارغا من الشغل الذي فرّغ له ، مصيخا (١) إلى الغرّة ، موطنا لدار النقلة ، لا جاهلا فيعذر ، ولا ناسيا فيذكّر ، فكأنّ الموصوف المفتون بما يسمع ويرى ، ليس بموقن بزوال الدنيا ، بل كأنه لم يوقن بمواعيد ربه غدا إذ تأخر (٢) ذلك عنه ، ولم يصدق بما حذر (٣) إذ قصر به دنوّه منه ، بل كأنه نسي أن الدنيا جعلت دار بلوى ، ولم تجعل لأحد من ساكنيها دار مثوى ، وجعلت إلى غيرها معبرا ، ولم تجعل لساكنيها مستقرا ، وأنها لأهلها ممر سبيل ، ومنزل نقلة وترحيل ، وأن كل من فيها إلى دار قراره غير لبيث ، (٤) ومن الآخرة في السير حثيث ، فلو كان يصير من فيها بعد موته إلى غير معاد ولا مصير ، لما وسعه إن نظر أو عقل ففكر أن يركن إلى ما يزول ، وينصب لما يفنى فلا يدوم ، (٥) وكيف وهو مبعوث ومحاسب ، وموقوف غدا للحساب فمعاتب ، فيما أفنى من عمره ، بل في كل أمره ، من صغير (٦) محصوله ، وجميع فعله وقوله ، يحضر له كله يوم البعث في الحساب ، ويجد ما كان فيه من خطأ أو صواب.

فيا ويله أما سمع قول الله تبارك وتعالى فيه ، وما حكم الله به (٧) من عدل حكمه عليه ، إذ يقول سبحانه : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف : ٤٩].

فبادروا رحمكم الله لعظيم المغنم ، وأجدوا في الهرب من أسف الندم ، واتقوا صفقة الخسار ، فإنها بين الجنة والنار ، ولا تبغوا من الراحة ما يفضي بأهله إلى النصب الدائم ، ولا من النيل إلى ما يؤدي إلى حرمان الغنائم ، وأكثروا ذكر السقم والوفاة ، وما رأيتم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : مصبحا. والمصيخ : المستمع المصغي.

(٢) في (ب) و (د) : إذ أتى خبر.

(٣) في (أ) : عذر إذا قصر به دنوه منه. وفي (ب) و (د) : حذر إذ قصر به دنوه. وفي (ج) : يحذر إذا قصر به دنوه ، وقد لفقت النص من الجميع.

(٤) في (ب) و (د) : قرار. ولبيث : مقيم.

(٥) في (ج) : لمن يفنى. ولعل هنا سقطا ، وذلك فيما قبل من الجمل.

(٦) في (ب) : ضمير (مصفحة).

(٧) سقط من (ب) : به.

٣٣٦

فيهما وبهما من البغتات والفجآت ، فكم قد رأيتم بهما من مبتغت وصريع ، وكم سمعتم عنهما من خبر هائل فضيع ، ولا تؤثروا ما لم تخلقوا له على ماله خلقتم ، ولا تكثروا تشاغلكم بطلب الرزق فقد رزقتم ، قديما في ظلم الأرحام ، وبعد (١) إلى حين أوان الفطام ، ثم مذ كنتم في الناس شيئا مذكورا ، فكفى بذلكم على كفاية الله دليلا ونورا.

فاعرفوا كفايته لكم بما عرّفتم ، وقوموا من ذلك كله بما كلّفتم ، واضربوا عن طلب الدنيا عنكم بفادح الأثقال ، وتكلف ما أنتم فيه لطلبها من الأشغال.

أفلستم بموقنين ، ببتّ يقين ، لستم بمرتابين ، أن الحظ من الدنيا إلى نفاد ، وأنكم من الموت على ميعاد ، فما بالكم لا تنظرون في عاقبة الدنيا ، ولا تتأهبون إن كنتم موقنين (٢) لدار المثوى ، أترون ذلك زلفا (٣) عند ربكم ، وليست لكم أم بوسيلة وليست معكم ، (٤) أم بحسن عمل ولم تقدموه ، أم بعظيم الرجاء ولم تحققوه.

فيا أيها الراكن إلى الدنيا وزخرفها ، والآمن (٥) لنوائب تصرفها ، والمغتر في معاشها ومكالبتها في طلبها ، والمؤثر لها على ربها ، والمشغول بما كفى منها ، والجاهل بخبر الله عنها ، هبك لم توقن بما دعا الله إليه من ثوابه! ولم تخف سطواته فيما حذرك من عقابه! ألم تك ذا عقل فتفهم عن الدنيا خبرها؟! وتسمع منها موعظتها؟! فلعمرها ما قصّرت في موعظة ، ولا تركت لذي عقل فيها من علة ، لقد أخبرتك عن القرون ، بما أحلت به من المنون ، فخربت الديار ، وعفّت الآثار ، هبك أصم في هذا كله عن سماع موعظتها ، وما كشفت لك بذلك عنه من سوآتها ، ألم ترك (٦) عيانا فيمن معك من نوازل مناياها؟! وما أوصلت إليك في فقد الأحبة من رزاياها؟! أو لم تكن في طول ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : ثم بعد إلى حين الفطام.

(٢) في (ب) و (د) : صادقين.

(٣) في (ب) و (د) : بزلفى. وفي (أ) : ترلعى.

(٤) في (ب) : لكم بوسيلة وليست لكم.

(٥) في (أ) و (ج) : الآ من.

(٦) ترك : فعل مضارع مجزوم.

٣٣٧

جربت من أسقامها؟ وما حل بك خاصة في نفسك من آلامها؟ وما علمت من استدعاء القليل من موجودها ، للكثير الجم من مفقودها ، حتى في كل أمرها ، بل في خطرات ذكرها ، فهي فقر لا غناء معه ، وشره (١) لا قناعة له ، وحرص لا توكّل فيه ، وطلب لا انقضاء للميعاد منه ، وغدر وختر (٢) وكذب وخيانة ، ليس فيها صدق ولا وفاء ولا أمانة.

أفما كان في ذلك ما يدعوك إلى الزهد فيها ، والتنزه بعده من الميل إليها ، وإدخال الراحة على نفسك من الشغل بها ، وما حملك الشّره من أحمال ثقلها؟! فكيف وأنت زعمت أنك موقن بمواعيد ربك ، وذلك فما لا يتم ـ إلا به ـ إيمانك ، (٣) فكيف وقد فهمت من الدنيا خبرها ، وعلمت يقينا موعظتها ، وأيقنت أنه لا يدوم لك فيها خلود محبة ، ولا يتم لك فيها سرور بمعجبة ، ولا يتبعك منها (٤) تراث تركته ، والموت فسبيل كأن قد سلكته ، فكل هذا منها فأنت منها (٥) في منهج وسبيل ، مع أن الذي هو فيها وأدل عليها من كل دليل ، خبر الله سبحانه عنها ، وما وصفه من صدق الخبر منها.

فاسمعوا لذلك من الله فيها ، وتفهموا عن الله دلالته سبحانه عليها ، بفهم من قلوبكم مضي (٦) ، وعقل من ألبابكم حيي ، فإنه يقول سبحانه : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) [الأنعام : ٣٢]. ويقول سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) [فاطر : ٥].

ثم قال سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا

__________________

(١) الشّره : غلبة الحرص.

(٢) في (ب) و (د) : للميعاد : معه. والختر : الغدر.

(٣) في المخطوطات : إيمانك إلا به. ولعل الأوفق لأسلوب الإمام ما أثبت.

(٤) في (ب) : ولا يشغلك (مصفحة). وفي (ب) و (د) : فيها.

(٥) في (ج) و (د) : منه. وسقط من (أ) : منها.

(٦) مضي : نافذ.

٣٣٨

النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) [هود : ١٥ ـ ١٦].

ثم قال سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) [الإسراء : ١٨ ـ ١٩].

وقال سبحانه : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦) [الرعد : ١٩ ـ ٢٦]. فحياة الدنيا وعمرانها عند من يعقل عن الله خراب وبور ، وكل ما في الدنيا من غير طاعة الله فلا يغتر به إلا هالك مغرور.

وفي فروع هذا كله وأصوله ، وما نزل الله فيه من بيانه وقوله ، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عيانا ، وسمعتم نداه إعلانا ، وكلا (١) لو رأيتم لعمركم إذا لأبصرتم ، ولو أبصرتم إذا لاغتنمتم ، ولكنكم نظرتم بأعين عميّة ، وسمعتم القول فيه بآذان دوية (٢) ، ودبرتم الأمر فيه بقلوب سقيمة ، غير بريّة من أدواء الأهواء ولا سليمة ، فآثرتم ذميم ما

__________________

(١) سقط من (أ) : وما نزل الله فيه من بيانه وقوله ، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عيانا ، وسمعتم نداه إعلانا ، وكلا.

(٢) دوية : دوي من باب صدئ ، أي : مرض.

٣٣٩

حضركم ، على كريم ما غاب عنكم ، وما عجل إليكم ولكم ، على ما قصر علمه دونكم ، كما قال الله تبارك وتعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) [الروم : ٧]. وكذلك فلم يزل العتاة (١) الجاهلون ، أما لو نظرتم إليه بأعيان جليّة ، وسمعتم القول فيه بآذان سويّة ، ودبرتم الأمر فيه بقلوب حييّة ، لعلمتم أنكم من الدنيا في إدبار حثيث ، ومن الآخرة في إقبال غير مكيث ، (٢) فكأن ليلكم ونهاركم في مرورهما بكم ، وكرورهما عليكم ، قد وقفا بكم على آجالكم ، وأفرادكم عن غرور آمالكم ، وكشفا عنكم أغطية أبصاركم ، فحسر (٣) رأيكم إن لم يرحمكم ربكم.

[الانسان المغرور]

فيا ويل المغرور من نفسه ، المخطئ لسبيل حظه ، من أي يوميه يشغل؟! بل من أي حاليه يغفل؟! أيوم رجوعه إن عمّر إلى أرذل عمره؟! وحاله حين يصير عيال عياله وأسير منزله وداره ، أم عن يوم وروده دارا لم يتخذ بها منزلا؟! ولم يقدّم إليها من صالح عملا ، أم لأي يوميه يفرغ أليوم حبرة ، (٤) يتبعها عبرة؟! وفرحة ، يعقبها ترحة ، (٥) وزخرف يعود حطاما ، وفخر يحول (٦) بوارا ، أم ليوم شغل لما فرغ منه؟! وتفرغ لما أمر بالاعراض عنه ، واحتقار لما نعي إليه فراقه ، وحرص على لزوم ما هو مفارقه ، كأنه لا يستحيي من حمده لمذموم ، وركونه (٧) من الدنيا إلى ما لا يدوم ، واستبطائه لغير دار خلوده ، وتكذيبه بفعله لما يزعم من محموده.

__________________

(١) في (ب) و (د) : الغماة. ويبدو أنها مصحفة.

(٢) مكيث : مأخوذ من المكث. أي غير متأخر.

(٣) حسر : عيي ، وانقطع.

(٤) الحبرة : المسرّة.

(٥) الترح : الحزن.

(٦) في (ب) و (د) : يعود ويحول. بمعنى يعود ويرجع.

(٧) في (ب) : وركنه.

٣٤٠