مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

[مؤهلات القيادة]

ومن أحب أن تخضع له غلب (١) الرقاب ، ويقل في طاعته الارتياب ، وينتهى (٢) عند أمره ونهيه ، ويقتدى برأيه ، فليأصر (٣) نفسه من ذلك على ما يريده من غيره ، فإن انقادت لأمره ، وازدجرت عند زجره ، فليضمم كفه من غيره ، على إنفاذ أمره. (٤) لأن تهذيب المرء بطريقته ، يدعو إلى طاعته ، والمقصر عن طلب منفعته تزل موعظته من القلوب ، زلول القطر من الصفوان الصليب ، (٥) فأوقعوا يا بني الموعظة بقلوبكم.

فيا أيها المبتغي الدرك في العاجل ، والفوز في الآجل ، اجعل لك من نفسك موعدا ، تحظ به اليوم وتفز به غدا ، بصدق لا يشاب بالتفنيد ، (٦) ورجاء الموعود وخوف الوعيد ، واسم إلى ما (٧) أحببت من ذلك بالعقل العتيد ، (٨) والرأي السديد ، وأنا سفيرك (٩) فيه بالدرك لما تريد. وإنما أعجز الطلاب ما إليه يسمون ، تعسفهم السبيل التي فيها عن القصد يجورون ، فلم يدركوا ما طلبوا ، ولم ينالوا ما أحبوا ، فعن مواردهم يا بني فازدجروا ، وآثار آبائكم فاتبعوا.

إياك أن تستشهد على نفسك غير معرفتك بها ، ولا تقبل من غيرك تزكيتها ، بما يكذبه فعلك ، ويحيط بضد تزكية المزكي علمك. فإذا توسطت علانيتك ، وصحت سريرتك ، فتيقن بصدق من أطراك بما (١٠) فيك ، ولا يبهجنك (١١) الثناء من المضطر إليك ،

__________________

(١) غلب : أقوى وأشد ، أي : كثيرة الغلبة.

(٢) في (ب) و (د) : وينتهي له عند.

(٣) يأصر : يحبس.

(٤) أي لا يكلف غيره بتنفيذ أمره.

(٥) الصفوان : الحجر الصلب. والصليب : الصلب.

(٦) التفنيد : الخطأ في الرأي والقول.

(٧) في (ب) و (د) : لما.

(٨) العتيد : الحاضر السريع الفهم.

(٩) السفير : الساعي أو الضامن.

(١٠) أطراك : مدحك. وفي (ب) و (د) : أطراك بما هو فيك.

(١١) يبهجنك : يسرك.

٣٠١

ولا يسفه (١) بحلمك مملق مذق ، ولا من يستبيه (٢) معروفك بالتّملّق.

[مراقبة النفس]

يا بني : فإن أقل الناس عقلا ، وأبينهم جهلا ، من صدّق من سواه ، بما تكذبه عيناه ، والعقل آمن أمين ، وأفضل قرين ، فاستأمنه على أحوالك ، وجميع خلالك ، واعرف ما عرّفك. وإذا حمدت (٣) من أحد مذهبا ، فكن لمثله متسببا ، ولكل ما تستنكره من غيرك مجتنبا ، (٤) ولتكثر من مستتر عيوبك وحشتك ، وليقلّ بخفياتها أنسك ، فإن اكتتامها كالمحرض (٥) على أمثالها ، وإذا امتلأ الإناء انكفأ ، وإذا تنوسخ (٦) السّر فشا.

فكن يا بني : لجميع خلالك (٧) متفقدا وداوم على جميل ما به تعرف (٨) ، ولا ترض من نفسك بما تستقبح من غيرك إذا انكشف ، وأردف جميل غدك ، بجميل يومك ، ولا تغتر بستر الله عليك ، فتتعرض لما يندمك عجبا بما يومى به إليك ، وتظن أن سالف الحسنات ، يمحو مؤتنف (٩) السيئات.

ومن استصغر سيئته ، فيوشك أن تحبط حسنته ، ولكل نعمة حاسد يدير بها

__________________

(١) لا يسفه : لا يستخف بعقلك.

(٢) المذق : الذي لم يخلص ودّه. ويستبيه : يأسره.

(٣) في (ب) و (د) : أحمدت. يعني : رأيته حميدا.

(٤) في (ب) و (د) : تجنبا.

(٥) في (ب) : بالحرص مصفحة.

(٦) تنوسخ : انتقل.

(٧) في (ب) : لجميع حالاتك. وفي (ب) : في جميع حالاتك.

(٨) في (ب) و (د) : تعرف غدا. ويبدو أن كلمة (غدا) زائدة. إلا إذا جعلناها بعد قوله : متفقدا. لكن سيبقى قوله : انكشف. بلا سجعة.

(٩) المؤتنف : المستأنف الحديث.

٣٠٢

الدوائر ، وبحسبك أن يبصرك (١) بالجميل أهل البصائر ، فيشغب (٢) حاسدك ، فيما يرجو أن يهدم به ركنك ، ويمعن في الطعن عليك في كل ندي (٣) مشهود ، ليقبض (٤) المتفوّه فيك بكل أمر محمود ، فينقبض انقباض المحسور ، ولا يجد السبيل إلى التغيير.

وأحذرك يا بني : البغي ، والتهمة والظن ، فإنهما ملصقان ، بكل إنسان ، فلا تجعل لمتهمك إلى تهمتك سبيلا ، ولا تكن في غيرك بما تكره أن يقال فيك قئولا ، وانظر ما كنت به مما يوجد به السبيل إلى الطعن عليك فعولا ، فكن له قاليا وعنه حئولا ، (٥) مع نظرك ، لنفسك. وإن أردت أن تظفر من الدنيا بزينتها وزخرفها ، وعزها وشرفها ، وبالبهاء الذي يستنار به في كل مكان ، والثناء الذي تسير به الركبان إلى جميع البلدان ، فعليك يا بني : بالطاعة التي لا تدفع بالعصيان ، والمحبة المنتشرة بكل لسان ، فاجعل المروءة لك شعارا ، والصيانة لنفسك دثارا ، (٦) فإن من صابرهما ، وألزم نفسه الصبر عليهما ، تغرنق (٧) في الغرانيق العلى ، وتمكّن في قلل الشرف القصا ، (٨) وإن لم يكن ذا غرض من الدنيا.

يا بني : والمروءة غير مبيعة بثمن ربيز ، (٩) ولا حرز حريز ولا مطلب عزيز ، ولو لم يدركها الرائمون ، (١٠) إلا بجزيل ما يطلبها به الطالبون ، لكان ما تعيد وما تبدي ، أجزل منه وأوفر في العواقب والبدي ، (١١) ولو كانت لا توجد إلا في أبعد الأمصار ، أو

__________________

(١) في (د) : ينصرك.

(٢) يشغب : يهيج.

(٣) في (ب) و (د) : كل نادى ندي. والندي : المجلس.

(٤) في (ب) و (د) : لينقبض.

(٥) في (ب) و (د) : رحولا.

(٦) الشعار ما يلي البدن من الثياب ، والدثار ما علا منها.

(٧) تغرنق أي : سما وارتفع إلى مقام رفيع حسن. والغرنوق : طائر أبيض سمّي به لبياضه.

(٨) القلل : القمم. والقصا : جمع قصوى.

(٩) في (ب) : ربين. وفي (د) : رئيز وكلاهما مصحفة. والربيز : أي : الضخم الكثير.

(١٠) الرائمون : الطالبون.

(١١) البدي هنا : بداية الأمر.

٣٠٣

في لجج البحار ، بالقناطير المقنطرة (١) من الأمور الكبار ، لكان الواجب على ذوي العلم بخطرها ، (٢) والمعرفة بقدرها ، التعلق بأغصانها ، والبذل للنفيس من أثمانها. لكنما اشتملت عليها داياتك ، وحبيت عليها مستكنّاتك (٣) حتى تبثها عنك إذاعتها ، وتشيع لك فضيلتها ، بأن تمسك عن الأمر المردي ، وتعرض عن القبيح الذي لا يغني ، (٤) وتملك نفسك فيما ملكت ، من كبار الأمور وصغارها. تم ربع كتاب المكنون بمنّ الله وعونه ، وحسن توفيقه.

[المروءة]

يا بني : ولا تجر عن قصد السداد ، فيما أنت فاعله وتاركه إلى يوم التناد ، وكل ما أوجبته عليك الحقوق ، تأدّيت منه إلى كل عدو وصديق ، فافهم (٥) ، يا بني : ما أصّلت لك من فروع الأدب والحكمة.

ومن زعم أن المروءة لا تصلح إلا بالمال ، فقد أضلّ في المقال ، لأن المروءة قد تنقاد لذوي الإقلال ، وتصاعب على ذوي الأموال.

وللمال موقع من بعض القلوب ، يكاد أن يخرج صاحبه إلى الأمر المعيب ، حتى تذهب مروءته ، وتغلب عليه حلاوته ، فتنهدّ ذروته ، وينطمس كرمه وحريته.

وللمروءة في المال أنصباء ، تتشعب فيه شعبا ، وليست المروءة بمعدومة في أحد إذا جد في طلبها ، وأتاها من بابها ، وليست لها أثمان تباع بها ، إنما هو جميل تقوله ، أو خير تفعله ، أو معروف تبذله ، أو إقصار عن الاكثار إذا لم يكن للكلام موقع ، فهذه خلال

__________________

(١) القناطير : جمع قنطار والقنطار مائة مثقال. والمقنطرة : المتممة.

(٢) خطرها : شرفها.

(٣) داياتك : جمع دأي وهي غراضيف الصدر. في (ب) و (د) : حنيت. وفي (أ) و (ج) : جنيت. وكلاهما مصحفة. والصحيح : حبيت. لأن معاجم اللغة لم تذكر في جنيت أو حبيت معنى يؤدي ما عناه الإمام هنا ، بخلاف حبيت. ومعناه : اتصلت. والسّكنة بكسر الكاف مقدم الرأس من العنق.

(٤) في (أ) : يعني.

(٥) في (ب) و (د) : فافهموا ...... لكم.

٣٠٤

يكون لك بها في (١) المروءة قدر وموضع ، تستوجبه (٢) بها ، إذا لم يمكنك الاستكثار من غيرها ، وكلما ازددت ، أدركت ما طلبت ، وقد أوضحت لك ما تطلب به المروءة بأحسن الإيضاح ، وكنت لك أنصح النّصاح ، فإن أخذتها باللّين ـ يا بني ـ سلس لك (٣) مقودها ، وإن غلّظت شسع عنك عتيدها (٤) ، وصار نحسا عليك سعودها ، فأسعد الأدب يا بني بالحكمة.

[الحسد]

وإياك والحسد فإن للحسد نفرة على صاحبه مضرة ، فأبرده عند اضطرام تسعّره ، بكثرة التبكيت ، وتعريفه صغر صاحبه الممقوت.

يا بني فإن الحاسد لا يدرك في حسده نقيرا ، ولو أزيح عن المحسود ما حسده عليه لم يظفر منه قطميرا ، (٥) وليس من أحد من المخلوقين إلا وعليه من الله نعمة ظاهرة أو مكتتمة ، أصناف مقتسمة ، صغير ما يولي الله العبد منها ويبليه ، ويهب له ويعطيه ، من (٦) صحته ، وطول عافيته ، وما يصرف عنه (٧) من البلوى ، خير له من ما بين الأرض والسماء. يا بني: وكم من ذي نعمة متجددة ، يحسده من دونه على نعمة منتكّدة ، ولو أشعر نفسه ما يجب عليه من شكر المنعم ، كان ذلك أزيد للنعم وأصرف للملمّ (٨).

وفي الحسد ست خصال :

* طول الاغتمام بما لا يجدي.

__________________

(١) سقط من (أ) : بها. وسقط من (ب) : في.

(٢) في (ب) و (د) : تستوجب.

(٣) سقط من (ب) : لك.

(٤) شسع : بعد. والعتيد : المعد الحاضر.

(٥) النقير : النكتة في ظهر النواة ، والقطمير : القشرة التي على النواة.

(٦) في (ب) و (د) : في.

(٧) في (ب) : وما يصرف به من البلوى. وفي (ج) : به عنه البلوى.

(٨) الملمم : ما يلمّ بالإنسان.

٣٠٥

* وكثرة الاهتمام بما لا يغني.

* وتكدير المعاش.

* والخساسة عند الأخيار والأوباش.

* وحرقة القلب.

* ومضادة الرب.

واعلم يا بني : أن البغي داء لا دواء له ، فمن كثر في المحظوظة (١) تشكّكه ، طال في البغي محكّه ، والبغي فرع الحسد الأعظم ، وبه تحل النقم ، وتزلزل القدم ، والباغي مخذول ، مفلول ، (٢) والمبغي عليه بالخبر (٣) عن الله مؤيد بتعجيل النصرة ، في الدنيا والآخرة ، (٤) فإياك والبغي أن تلهج به فتكون صريعه الذي لا ينتشع ، (٥) وقتيله الذي لا يمتنع.

[مفردات أخلاقية]

وأحذرك يا بني : العجلة وإياك أن تكون عجولا ، فيما تجد إلى التثبت فيه سبيلا ، وتبيّن في صدور أمورك من (٦) قبل أن تبدو لك عواقبها ، وتنكشف لك (٧) معايبها.

__________________

(١) المحظوظة : إذا كانت من الحظ ، فمعناه ذات الحظ من الرزق ، وكأن مراد الإمام أنه من كثر ريبه وشكه ، وتردده في الموسع عليهم في الرزق فهذا يعني حسدا ، وعدم انقياد وتسليم بالحكمة الإلهية في ذلك ، فمن كان كذلك فقد طال في البغي تماديه ، ولجوجه.

والمحك : التمادي في اللجاجة ، والمشارة والمنازعة في الكلام. وقد استفرغت وسعي في الكشف والبيان ، فلم أجد إلا هذا. والله أعلم.

(٢) مفلول : مهزوم.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) : بالخير ، وهو تصحيف.

(٤) إشارة إلى قوله سبحانه : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج / ٦٠].

(٥) في جميع المخطوطات : لا ينتعش. وما أثبت اجتهاد ، لتوافق الفواصل المعهود في كلام الإمام ، ومعناهما متقاربان. فمعنى نعش : ارتفع. ونشع : كرب من الموت ثم نجا.

(٦) سقط من (ب) و (د) : من.

(٧) في (ب) و (د) : عنك معايبها.

٣٠٦

واعلم ـ يا بني ـ أنك المشار إليه عند عجلتك ، بما تسمعه أذنك ، فيمن قلّ تثبّته ، وذمّ على ما تكسبه عجلته! فأكثر من العجلة التقيّة ، وعلى نفسك من قبح القالة البقيّة ، وإياك أن يوردك الغضب موارد العطب ، ويشعلك إشعال النار للحطب ، فادفعه بالاحتمال قبل أن يضطرم ، فيهريق الدم ويصم العظم ويسلّ (١) اللحم ، فأخمده قبل أن يتلظى ، فإنه إن استعر بهظك (٢) بهظا ، ثم دفن ما كنت تذكر به من المحاسن ، وأعلن ما كنت تكتمه من المقارن (٣).

واعلم يا بني : أن آفة السلطان ، الجور والتجبر على الانسان ، إياك إن كنت سلطانا أن تستظهر ذنوب (٤) المذنبين ، أو تعاقبهم عقوبة المغضبين ، وإن كنت سوقة فما ذا يضرك (٥) مما يلمزك به الناس من المنطق فيما ترجو به الرفعة ، والعلو بعد الضعة ، وإياك أن تغضب على من دونك ، أو تستصغر من فوقك ، وجد بالفضل على من ناواك ، وبالصفح عمن(٦) عاداك.

واعلم أنه لا بد للمكارم أن تعلو ، وللمحاسن أن تفشو ، من ناشر لها يلبسك هيبتها وجلالها ، ونبلها وجمالها ، حتى ينسم عليك روحها ، (٧) ويشيع لك حمدها ، ويتجلى بها عنك الغماليل ، ويرد بها من (٨) قلبك الغليل.

يا بني : عليك بالحلم فإنه ليس يسمى الرجل حليما حتى يملك نفسه عند الغضب ،

__________________

(١) يصم العظم يقطعه. وفي (أ) و (ج) : ويشل. وهي صحيحة أيضا ، فيسل ويشل هاهنا بمعنى واحد.

السليل هو : الذي تخدّد لحمه وقل.

(٢) بهظك : أثقلك.

(٣) كأنها الخصال السيئة ولم أجدها في معاجم اللغة إلا أن الزمخشري قال في أساس البلاغة :

يقال للرجل عند الغضب : قد استقرنت وأردت ان تتفقأ عليّ. من أقرن الدمل.

(٤) أي : لا تفتش عنها وتبحث حتى تظهر لك. وفي (ب) : بذنوب.

(٥) السوقة : الرعية. وفي (أ) : فما يضروك.

(٦) في (ب) : على من.

(٧) ينسم : يهب. والروح : برد نسيم الريح.

(٨) الغماليل : السواتر المغطية. وفي (أ) و (ج) : عن قلبك.

٣٠٧

ولا جوادا حتى يفيد إذا ازلأمّ الأزب. (١) وإنما يوصف بالنجدة ، من باشر أهل البأس والشدة. وللمحاسن والمحامد بوآد معتمدة ، تطلّع (٢) إليها الأفئدة ، ثم يبذل فيها الغالي من الأثمان ، وتنضا بها العيس إلى (٣) جميع البلدان ، فمن سرّه أن يشهر بالجميل والاحسان ، فليشهد التي منها يتناقلان ، ثم ليظهر منهما ما يسير به في الآفاق خبره ، ويعظم به في الناس خطره ، ثم ليقوّم من نفسه بحسن التعاهد أودها ، (٤) وليأخذ منها لها ما يزين به غدها ، فإن الأخلاق إذا سمحت ، (٥) والعلانية والسريرة إذا صحّت ، كانت غنائم يرتحل إليها المرتحلون ، وأحاديث حسنة ينقلها الناقلون ، وتبجيلا لصاحبها في العالمين ، وغبطة يغتبط بها يوم الدين.

[الخلق والمال]

والواجب في الأخلاق أكثر من الواجب في الأموال ، وأفضل في جميع الأحوال ، وإنما يعظّم ذو المال ما كان موئلا ، فإذا تخرّم ماله عاد دحيرا قليلا!! والأخلاق لا يبلى جديدها ، ولا يطيش سديدها ، وفضل صاحبها باق في حياته ، وبعد وفاته ، والمال ثوب تخلق جدته ، وتسمل سداه ولحمته (٦).

وأحق الأشياء بالصون العرض الصحيح ، والحسب الصريح ، ومن آتاه الله قلبا ذكيا ، وزنادا (٧) وريّا ، وخلقا مرضيا ، وسخاء مذكورا وعقلا زكيا ، وفهما مرضيا ، وعلما بتقلب الأحوال ، وتصرف الأيام والليال ، ولسانا يؤدي إليه معرفة خلف (٨)

__________________

(١) ازلأمّ : انتصب. والأزب : الشدة والقحط. والمعنى : لا يسمى جوادا حتى يعطي عند الشدة.

(٢) أي : تتطلع. وحذفت التاء الأولى للتخفيف.

(٣) تنضا : تسبق وتقطع. والعيس : الإبل. وفي (ب) : في جميع.

(٤) الأود : العوج.

(٥) سمحت : كرمت.

(٦) تخلق : تبلى. والجدة : مصدر الجديد. وتسمل : تخلق وتبلى. والسدى أعلى الثوب ، واللحمة : أسفله.

(٧) الزناد الوري : الذي خرجت ناره ، وكأنه تعبير عن سرعة الفهم.

(٨) الخلف : كل من يجيء بعد من مضى.

٣٠٨

الأزمان ، ويمتهنه فيما يعود عليه نفعه كل الامتهان ، ثم زمّ نفسه عن الكبرة ، (١) واعتاض من التجبر حسن العشرة ، وقلّ افتخاره عند مناظرته ، ولم يستدع نظيره إلى مباحثته ، ولم يجار (٢) المجاري له من طبقاته ، في طريق مساواته. ولم يخرج من القول إلى ما لا يعلم ، ولا من الفعل إلى ما يستعظم ، فقد شرى لنفسه محمدة الحاضر والباد ، واجتهد في مصلحته أشد الاجتهاد ، واستحق التعظيم من جميع من ضمته أقطار البلاد ، واجتمعت له الطرائق (٣) السمحة ، وزاحت عنه المذاهب المستقبحة ، وجرى عليه اسم الخيرة ، ونظرته بالنواظر المبجّلة كل عين مبصرة ، وجاز حد الأكفاء ، واعترف له بالفضل النظراء.

ولا بد أن في كل منفوس ، (٤) آلة تطلع إليها النفوس ، ويفتقر إليها حاجة المفتقرون ، ويتشوف إليها المشوفون. فمن قصّر (٥) عن علمها ، عظم في نفسه صاحبها ، وجل في عينه بحسب ما يدلّه ، عليه عقله ، وحاول أن يكون له على أمره ظهيرا ، وارتفعت عنده درجته من أن يكون له نظيرا ، ومن اتسع بدده ، (٦) لضده ونده ، كان على قدر ذلك عظم شأنه ، وارتفاع مكانه.

وكم من جامع لمال! يجود به لينال هذا المنال ، ويستدعي من الجميع محبتهم ، وينفي به حسايفهم ، (٧) فلا يدرك من ذلك ما يريد ، ولا يؤديه إلى ما يؤمل من العوام ماله الممدود.

__________________

(١) الكبرة : تأنيث الكبر على المبالغة. اللسان.

(٢) لم يجار : يجري معه.

(٣) الطرائق : جميع طريقة. وهي السنة والحال والمذهب.

(٤) منفوس أي : مرغوب. من النفاسة.

(٥) في (ب) و (د) : قصد.

(٦) البدد جمع بدّة : وهي القطعة من المال. والمعنى : من وسع الناس بماله ... إلخ.

(٧) الحسايف جمع حسيفة : وهي النقيصة.

٣٠٩

[العلم والمال]

وذو المال ـ يا بني ـ مذموم ومحمود ، وذو العلم موموق (١) مودود ، وفي العظماء معدود ، وعند التباس الخطوب معمود (٢) مشهود ، وبعد الوفاة مفقود ، ومن أتي إليه ما يستنكر (٣) في الملأ ، فتغمد ذلك بصبر وعزاء ، فقد نال من الشرف منالا ، محمودا في الآخرة والأولى.

[الصفح الجميل]

ومن اعتذر إليه ، من أساء في (٤) المقال والفعال عليه ، فأسرع في القبول ، والعطف عليه بالجميل ، فقد أبدى جهل متناوله (٥) بصفحه ، وخسرانه (٦) بزيادته ، وركاكته بركانته ، وطيشه (٧) بحلمه ، وسخافته (٨) بتكرّمه ، وجوره بعدله ، واستطارته (٩) بعقله ، وعجلته ، بمهلته ، وباء المعتذر إليه ، بسوء الصنيع لديه ، وأفاده خير الفوائد ، وألبسه عند من كان به جاهلا ثوب المحامد ، وأعلن (١٠) من نبله ما كان مستترا عن الغائب والشاهد ، وأظهر إعزازه وتطوّله ، بما كان من تذلّله له ، وجثوّه بين يديه ، متنصلا إليه ، ملحا في مسألته ، كالعبد المعترف بزلته ، يبذل له من نفسه الصبر ، ويعطيه التوبة إلى

__________________

(١) الموموق : المحبوب.

(٢) المعمود : المقصود.

(٣) في (ب) و (د) : ما يستنكره من.

(٤) سقط من : (ب) : في.

(٥) في (أ) : مناويه.

(٦) في (ب) : خرابه. وهو تصحيف.

(٧) بركانته : رزانته ووقاره. والطيش : خفة العقل.

(٨) السخافة : رقة عقله وضعفه.

(٩) استطارته : خفته وحمقه.

(١٠) في (أ) و (ب) : وأعلى.

٣١٠

آخر الدهر.

فيا ويح معتذر أسلكته في مضايق الذل عجلته!! وألبسته ثوب الخضوع والاستكانة هفوته ، وأعلنت لصاحبه عليه يدا ، أكسبته حمدا ما كان الأبد أبدا ، ولربّ مغتبط بمنال شريف الثناء ، لو لا ما لا يأمنه (١) من قلة الاغتفار للأذى ، لرغب إلى الله فيه في كل صباح ومساء ، لتعظم باحتماله عند الناس حظوته ، (٢) وتكبر عندهم منزلته ، ومن نزغت به (٣) النزغات فيما بينه ، وبين صنو له ، كان بمودته ضنينا ، (٤) وله على ملمات دهره معينا ، فعزم على مقاطعته ، وباينه مباينة أهل عداوته ، وحاول به الغدر والمكر ليقطع من أسبابه (٥) أسبابه ، وفجع به أحبابه ، ثم لم يدفع غضبه بالرضى ، وصدوده بالوفاء ، ونزغة الشيطان بالحياء ، ويرجع إلى ما هو به أولى ، من محض (٦) الصفاء ، وخالص الإخاء ، ويميز ما مني به من الأمور المؤلمات ، وما كان قد أضحك (٧) به سنه وأطال به سروره في الليالي الخاليات ، فإذا أوضح له التمييز تطاول الحسنات على السيئات ، فأداسها بقدمه ، ولم يصفح عن صنوه وعن جرمه ، فليس من أهل الحكم ، ولا السامين إلى (٨) مراتب الهمم ، وعما قليل سيئول إلى الندم ، إذا تحاماه الإخوان ، وطرقه الزمان ، بما ليس له عليه أعوان.

وإن سلّ من قلبه السخائم ، (٩) وجرى في ميدان المكارم ، ولم يأت أمرا يكره أن

__________________

(١) في (ب) : لو لا ما يأمنه.

(٢) حظوته : مكانته.

(٣) في (ب) : فيه.

(٤) ضنينا : نجيلا. والمعنى أنه كان حريصا كل الحرص على مودته وصداقته.

(٥) السبب الحبل والمراد قطع علاقته به.

(٦) المحض : الخالص.

(٧) الضاحك : كل سن يظهر عند التبسم. والمعنى هنا إدخال السرور عليه حتى بدت ضواحكه من الفرح.

(٨) في (ب) و (د) : في.

(٩) السخائم : الأحقاد.

٣١١

يؤتى إليه مثله ، سكن غليله ، (١) وصفت له عيشته ، وطالت سلوته ، وكثرت راحته ، ورسخت في القلوب محبته ، ونقيت من صدره ضغينته ، وأشرقت بالفضل صفحته ، وعادت له من صنوه مودته ، وتأكدت في رقبته منته. ولعله إن طال تمعزه ، (٢) أن يكثر عما يروم به عجزه ، فيريه (٣) الغيظ والحرد ، ويغلغله (٤) الحزن والكمد.

تم نصف كتاب المكنون والحمد لله رب العالمين.

ألا وإن أحمد الناس مذاهب ، وأكملهم ضرائب ، (٥) وأحسنهم فعلا ، وأرسخهم في اللب أصلا ، من تجافى عن هفوات إخوانه ، ووادع (٦) أيام زمانه ، وصاحب بالمسالمة خدينه ، (٧) وبالمناصفة قرينه ، ورضي من دهره بالموجود في غيره ، وساير الناس كلا على ما طبع عليه في عصره ، فإن أعظم النوائب ، وأقبح النواكب ، أن يسكن قلبك البغضة لمن كنت له وامقا ، (٨) وتقل ثقتك بمن كنت به واثقا ، وتستوحش ممن كان لك نصيحا ، وكنت إليه حين تحزبك (٩) الأمور مستريحا.

واعلم يا بني : أن الحقد والحسد والغضب إذا اعتلجت في قلب أوقدته ، وأعمدته(١٠) وأقلقته ، فربما تهيّج من ذلك الداء المستكن (١١) فاستوحش له البدن ، وأظهر من غوامض الأوجاع ما بطن ، فتغيرت لذلك الطبيعة ، واستدعيت القطيعة.

__________________

(١) في (ب) : عليه. وهو تصحيف. والغليل الحقد.

(٢) تمعزه : بخله.

(٣) في (ب) و (د) : فيريه به. ولعلها فيبريه الغيظ والحرد ، يعني يسقمه وينحله حتى يكون كالسهم المبري.

(٤) الحرد : الغيظ والغضب. ويغلغله : يدخل فيه أو يدخله في.

(٥) الضرائب : جمع ضريبة وهي : الخليقة والطبيعة.

(٦) وادع : هادن وصالح.

(٧) الخدين : الصديق.

(٨) الوامق : المحب.

(٩) حزبه الأمر : نزل به.

(١٠) أعمدته : أحزنته.

(١١) المستكن : الكامن الساكن.

٣١٢

فالواجب على الأريب (١) العاقل ، أن يسلو فيما نزل به سلوّ الذاهل ، (٢) وأن (٣) يتسبب لدفع ما ألظّ به من (٤) محاورة الأوداد ، بالملاينة وترك البعاد ، وإخماد ما يتشبب (٥) بالأحقاد ، ويتطلف للمسالمة والراحة ، وما فيه عائدة المصلحة ، حتى يعود إلى ما تعوّد من السرور في قديم العهد ، ويبعد عنه خواطر البال أشد البعد ، ويدفع عنه طول (٦) الحمية ، وبعد أهل الجاهلية ، فإن الضمائر المذمومة أشر (٧) ذخيرة ، ادّخرها أهل المكرمة والبصيرة ، وليس تنجع (٨) المواعظ إلا في ذوي العقول ، وأهل الرأي الأصيل (٩).

يا بني : فأما ذوو الأذهان المستلبة ، الممنوعون حسن النظر في العاقبة ، فغير سادّين (١٠) ببصيرة ولا فكرة ، في أمر (١١) دنيا ولا آخرة.

فصاحب الناس بحسن المعاشرة ، وألبس كلّا بالمساترة ، ولا تثقنّ بكل أحد فتعجز ، وكن هينا لينا كثير التحرز.

[واجبات الأخوّة]

وآخ من آخيت بالستر لعورته ، والإقالة لعثرته ، ولا تطل معاتبته إذا هفا ، ولا

__________________

(١) في (ب) و (د) : الأديب.

(٢) ...

(٣) في (أ) و (ج) : الذاهن ، تصحيف. وسقط من (ب) و (د) : أن.

(٤) ألظ : لزم. وسقط من (ب) : من.

(٥) يتشبب : يتوقد.

(٦) في (أ) و (ج) : ويرفع. والطّول : المن والعلو. والحمية : الأنفة والغيظ والغضب والغيرة.

(٧) في (ب) و (د) : أشد.

(٨) تنجع : تؤثر.

(٩) الأصيل : الثابت العاقل.

(١٠) في (ب) و (د) : للعاقبة. وسادين : مصيبين.

(١١) في (أ) : أمور.

٣١٣

جفوته إذا جفا ، ولا تأخذه بالغاية القصوى ، فإن زل فأقل ، وإن قصّر فاحتمل ، وإن كملت عندك بصدق المعرفة خلالك ، وتيقنت أنك لا تجد كفؤا لك في مثل أخلاقك ، فلا تمحض مودتك لمن يكون بمعزل ، عما لست عنه فيه بذاهل ، واطّرح عنك ثقل مئونته ، وأدرج (١) له في مثل مودته ، فإن للناس مذاهب مختلفة ، وأخلاقا غير مؤتلفة.

يا بني : فإن الكامل (٢) في جميع الحالات ، المعدود في أهل المروءات ، لا يكلف الأخلاء ما يعدم في الطبع الذي ركّبت عليه الأجسام ، ولا يحمّلهم ما تقصر عن بلوغه الأفهام ، فلا تراود أحدا على ما لا يوجد في خليقته ، فتكون قد ظلمته بمراودتك له على معنى لا تناله مقدرته.

يا بني : وخالق الناس بالبشر والبشاشة ، واللين والطلاقة ، وسلامة الضمائر ، واستدعاء ما إليه يشخصون في الظاهر.

يا بني : وكن سهل الجناب (٣) تحمد ، وأكثر التّبذّل (٤) ترشد وتسعد ، ومن عاشرته من الناس يا بني فعاشره على قدر عقله ، ثم سائره على حسب ساعات نهاره وليله ، واجر مع كل يوم كما يجري ، فإن الأيام تقلّب المرء أطوارا وإن كان لا يدري ، فلا يذهب بك القياس ، إلى ما كان عليه في أمسك الذاهب الناس ، فإن لكل يوم وليلة ممرا ، (٥) يحول فيه عن سالف خلائقه المرء ، فإن من (٦) سعى مع يومه بغير ما يوافقه ، وخالقه بغير خلقه ، طالت (٧) معتبته على الصديق ، وكان كالسائر في غير الطريق ، فلا تذهب نفسك بالحسرات ، في طلب الوفاء ممن ليس لك بالموات ، (٨) ولا تشغل قلبك

__________________

(١) الإدراج : النزع قليلا قليلا.

(٢) في (ب) : الكل. تصحيف.

(٣) الجناب : القياد.

(٤) التبذل : ترك التصاون. والمعنى مخالطة الناس بلا كلفة.

(٥) في (أ) : ضمرا (تصحيف).

(٦) سقط من (ب) : من.

(٧) في (ب) : طلب. تصحيف.

(٨) الموات : الموافق.

٣١٤

بالتفكر فيمن يخيس (١) بعهدك ، فإنك إن عثرت لك قدم ، أو نزل بك ملمّ ، (٢) صرف وجهك عما كنت تشخص إليه منه باليأس ، وأخلفك حسن الظن فيه كما أخلف من كان قبلك من الناس ، فاقطع عنك هذا الطمع الكاذب ، ولا تسلك بين جوانحك الرجاء الخائب ، واقبل ما به حبيت ، (٣) وإليه دعيت ، بالرأي الجازم ، والعزم اللازم ، فإنك خليق عند القبول ، والعمل بما أقول ، أن لا تنقطع مروءتك (٤) حين يصد عنك الخليل إذا أسلمك عند النازل بك ، وأفردك بما يسكن جوى (٥) الأحزان في قلبك.

فتأدب يا بني : بأدب آبائك ، واطرح عنك صفحا من يمزج لك من لسانه العسل ، ليوهمك بغروره (٦) أنك تحل منه في أرفع المحل (٧).

يا بني : إياك والطمأنينة إلى من قد حبيت (٨) على النكث جوانحه ، (٩) وركّبت على الغدر جوارحه ، فكن لأوليائك متهما ، ومنهم متسلما ، وباليأس من (١٠) من وفائهم عالما ، فإذا صار ذلك في صدرك مستحكما ، فانظر ما كنت تطمع به منهم ، فكن أنت على مثله لغيرهم ، تضرب إلى بابك القلائص ، وتشخص (١١) إليك عند النوائب العيون الشواخص ، وتصير كهفا للاجئين ، ومعتمدا للقاصين ، وزينا للأقربين.

إياك يا بني : أن تستن بسنن أهل الاختيال ، أو تعمل بعمل يستقبح من الأعمال ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : يختر. وكلاهما بمعنى يغدر.

(٢) في (ب) و (د) : مهم.

(٣) حبيت : خصصت.

(٤) في (أ) و (ب) : مودتك.

(٥) الجوى : الحرقة وشدة الحزن.

(٦) سقط من (ب) : بغروره.

(٧) في جميع المخطوطات : ليوهمك بغروره أنه يحل منك في أرفع المحل. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٨) حبيت : اتصلت.

(٩) الجوانح : الضلوع.

(١٠) في (أ) : وتأس مصحفة.

(١١) القلائص : جمع قلوص وهي : الناقة. وتشخص : ترتفع.

٣١٥

وإن كان ذلك في الناس كثيرا ، وفي غيرك مشهورا ، فإنما يستحق اسم السؤدد ، (١) عند كل أحد ، من قلّ اختياله ، واستحسنت أعماله ، وجاد بالمعروف ، وعطف بالفضل على الضعيف ، وطبع (٢) نفسه بطابع المروءة ، وصانها عن الأخلاق المذمومة ، ومن صح عنده كرمه ، وظهرت على غيره نعمه ، وزال (٣) لمزايلة ما تهواه نفسه ذمّه ، برّز في السبق ، وصار محمودا عند الخلق ، وبان عن سواه ، وتكاملت (٤) أسبابه ، وليس كل عاقل مفضل بعقله ، (٥) حتى يحتمل من عاذله كثرة عذله ، فلا تؤدب العاقل بما يستثقل ، (٦) ولا تحمّله ما لا يحتمل ، فإن مداوي الجرحى ، قد يحميهم ما لا يحمي منه الأصحاء. وليس بطبيب ولا برفيق ، من أمر (٧) من الدواء بما ليس له المأمور بالمطيق. ومن ادعى المعرفة بالتفرّس قبل الامتحان ، فقد سبح في الغمر (٨) الذي ليس له به يدان (٩).

[أصناف الناس]

يا بني : الناس رجلان ، فرجل ذو عين باكية ، على ممر أيامه الخالية ، متأسّن على أخدان له سلفوا ، وآلاف (١٠) له انقرضوا ، يشرق (١١) بغصته ، ويأخذه الشجا (١٢) في

__________________

(١) السؤدد : الشرف.

(٢) في (ب) : ويطبع نفسه بطابع.

(٣) في جميع المخطوطات : وطال لمزايلة ، ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) في (ب) : ما تكاملت : تصحيف. ولعل في العبارة سقطا.

(٥) في (ب) : بفعله.

(٦) في (ب) : يستقبل. تصحيف.

(٧) في (ب) : أمر من بالدواء.

(٨) الغمر : الكثير.

(٩) يدان : قوة.

(١٠) آلاف : جمع إلف ، من الألفة.

(١١) يشرق : يغص.

(١٢) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم وغيره.

٣١٦

حنجرته ، فلا يتهنأ بطعم ، ولا يتلذذ بنوم ، فقدا لسالف معاشريه ، وتوجعا على ما فاته من قديم عهده بمؤالفيه ، حتى (١) كأن لم يفارق مصافيا ، ولم يعدم مؤاخيا ، إلا في ذلك الحين الذي هو به ، (٢) فحرقته لا تنجلي عن قلبه ، فذلك المواسي عند حلول النوازل ، الجواد بمهجته في الخطوب الجلائل ، الذي لا يلهيه عن الاحتيال فيما يحل بأخدانه ، من (٣) نوائب أزمانه ، حتى تنجلي بهمتها ، (٤) وتنكشف كربتها ، فذلك الرقيق قلبه ، المداوم على الحفيظة إربه ، (٥) فاشدد به يدك ، (٦) تقرّ عينك ، من غير أن تترك الاحتراس ، لتقلّب الأيام بالكثير من الناس.

وآخر ساه عن ذكر من تولى ، كثير السلو عند نزول القضاء ، طويل الغفلة عما يلظّ(٧) بالأخلاء والأقرباء ، دائم الجفوة والقسوة ، إذا انقضت ساعته ، انجلت غمته ، وبردت حرقته ، فذلك الذي لا يرنق (٨) صفوه كدر ، ولا يثق بوفائه بشر.

يا بني : ومن أحب أن يصلح خلقه ، وتسدد إلى الخيرات طرقه ، فليصحب الكرام ، وليقلّ ـ فيما يعود وبالا عليه ـ الكلام ، وليصن لسانه عن مفاكهة اللئام ، ونفسه عن مخالطة الكهام. (٩) وليس من مخلوق إلا وله دليل يستدل به عليه ، وسائس يشرع (١٠) بالأبصار إليه ، فصن نفسك يا بني عن موضع الرّيب ، ومهازلة الحمقاء.

واعلم يا بني : أن مخالة الرعاع والأوباش والأوغاد ، (١١) ربما آل بالطبع الحسن إلى

__________________

(١) في (ب) : الذي كان. تصحيف.

(٢) في (ب) و (د) : فيه.

(٣) سقط من (ب) و (د) : من.

(٤) البهمة : الظلمة والسواد.

(٥) إربه : عقله.

(٦) في (أ) في (د) : يديك.

(٧) يلظ : يلم وينزل.

(٨) لا يرنق : لا يكدر. أي لا يهتم بما نزل بأصحابه فيتكدر صفوه.

(٩) الكهام : البطيئون عن النصرة.

(١٠) يشرع : يفضي ويقبل.

(١١) المخالة : المصادقة. والرعاع : الأحداث الطغام ، ومن لا عقل له. والأوباش : الأخلاط. والوغد : ـ

٣١٧

الفساد ، غير أن المغرس إذا كان كريما ، والفرع محضا صميما ، (١) أيقظ المرء عن سنته ، ورده إلى أوليته ، ومحّض من العلل درن غريزته ، ومن ريض (٢) ولا غريزة له بأدب سلس ثم رجع إلى الحران (٣) ودحض به عن الاستقامة القدمان ، وقلّما انفردت غريزة من (٤) عقل ولا عقل من غريزة ، فمن طبع على واحد منهما كان الآخر له لاحقا ، ومن خلا من واحد منهما كان الآخر له مفارقا ، ومن ألان جناحه للمخاشن ، (٥) وجعل وجهه بسطا (٦) للملائن ، وألقى مقوده إلى المحاسن ، فقد ارتقى في ذروة المكارم ، واستعين به على العظائم ، واقترف الحمد من المباعد والملائم (٧).

[مكارم الأخلاق]

يا بني : فتعوّد القول الجميل ، وأصبر على ذلك نفسك صبر الحازم البهلول ، (٨) وآس (٩) من رآك لحاجته أهلا بالكثير والقليل ، ولا تشخص بطرفك ، إلى مكافأة الممتاح(١٠) لعرفك ، فيذهب (١١) صنيعك ضياعا ، وتكون بمنزلة من أعطى صاعا ليأخذ

__________________

ـ الأحمق الدنيء الضعيف العقل.

(١) الصميم : الخالص.

(٢) الدرن : الوسخ والقذر. والغريزة : الطبيعة. وريض : من الرياضة.

(٣) الحران : الوقوف. يقال : فرس حرون لا ينقاد ، إذا اشتد به الجري وقف.

(٤) في (ب) : عن.

(٥) المخاشن : الصعب الغليظ ، الذي لا يطاق.

(٦) بسطا : متهللا.

(٧) الملائم : الموافق.

(٨) البهلول : العزيز الجامع لكل خير.

(٩) من المؤاساة.

(١٠) الممتاح : القاطع. يقال : متح الشيء إذا قطعه من أصله.

(١١) في (ب) و (د) : فتذهب صنيعك.

٣١٨

صاعا ، وإياك ومذاقة الأخلاء ، (١) والاستطالة بالغناء ، والاستقصاء في شيء من الأشياء.

وألزم نفسك يا بني (٢) : الكرم والتذمم ، (٣) وقلة التعظم ، وأعظم شأنك بالتصمامم(٤) عن اللغو المنكر ، وبالتغافل عن الأمر المصغر.

يا بني وكن للراغب إليك وصولا ، وللضعيف الطارئ عليك منيلا ، (٥) بذات يدك إن أمكنك ، أو بجاهك (٦) إن أعجزك ما أمّل منك ، ولا تتبع عورات الجيران والجارات ، ولا تبحث عما استتر عنك من العثرات ، وتغطّ بستر الله عليك قبل أن يهتك بحثك عن أستارك ، فينكشف ما استتر من عوارك (٧).

[الكذب]

وتهذّب من الكذب ، فإنه مسخطة للرب ، مفسدة للقلب ، ضعة للنبيل ، (٨) نقص لذوي العقول ، وهو ضرب من الفحشاء ، وشيمة من شيم الحمقاء ، ورأس مال أصحاب المنى ، وربما استحلت به الدماء ، وركب به الدهماء ، (٩) واستبيحت به القرى ، وعظمت به البلوى.

فكن يا بني لعرضك منه (١٠) صئونا فإنه إذا تضمنته الأحشاء ، جاشت ..

__________________

(١) في (ب) و (د) : ومداقة الأخلاق. ومذاقة الأخلاء : الذين لم يخلص ودهم.

(٢) في (ب) و (د) : يا بني ألزم نفسك.

(٣) التذمم : الترفع عما يوجب اللوم. والذمام أيضا : الحق.

(٤) التصامم : مصدر تصامّ. أي أرى غيره الصمم وليس به ، والمعنى الإعراض عن اللغو.

(٥) من الإنالة : الاعطاء.

(٦) في (ب) : بجاهل. تصحيف.

(٧) عوارك : عيبك.

(٨) النبيل : الذكي النجيب الفاضل.

(٩) الدهماء : الداهية.

(١٠) في (ب) و (د) : عنه.

٣١٩

(١) به إلى الصدور الحوباء ، ثم تلقلق (٢) به اللسان ، وفشى منه الكتمان ، وفارت به الشفتان ، فوران المرجل بوقود (٣) النيران.

يا بني : وإذا تمكن من قلب خرب ، وغلب عليه كل الغلب ، وكاد لا يفارقه آخر الحقب. وكم من صاحب له يريد انتزاحه (٤) منه فلا ينتزح ، وإصلاح لسانه منه فلا يصلح ، لكثر غلبته ، وشدة ضراوته ، (٥) والكذب مجانب للحق ، مكذّب من عرف به في الصدق.

[قواعد أخلاقية]

فتأدب يا بني : بأحسن أدب المتأدبين ، واقتد بهدى الصالحين ، واستغش (٦) بثوب السلامة ، ولا تدرّع سرابيل الملامة ، وتودد للخاصة والعامة ، وأجمل البشر (٧) في اللقاء ، للعدو ولذي الصفاء ، وابذل له الانصاف في كثرة الاصغاء (٨) لكلامه ، والاستماع لحديثه ، ولطف الاجابة له على مقالته ، والمكافأة بما ترضيه في عشرته ، واستبرز (٩) في حديثه ، ولا تستطل ريثه ، (١٠) فإن لكل واحد في نفسه قدرا ، كبيرا كان أو صغيرا ، وأكثر تبسطه (١١) إليك ، وقاربه ليألف ما لديك ، واستعمل عقلك في كل زمان بما

__________________

(١) جاشت : غلت وفاضت.

(٢) الحوباء : النفس ، وروع القلب أيضا. وتلقلق : تحرك.

(٣) المرجل : القدر. وفي (ب) : بوقد.

(٤) انتزاحه : إبعاده.

(٥) ضراوته : عادته.

(٦) التغش : تغط.

(٧) البشر : الطلاقة.

(٨) في (ب) : الاستماع.

(٩) استظهره. أي : اطلب ظهوره ووضوحه.

(١٠) ريثه : إبطاءه.

(١١) نقيض القبض.

٣٢٠