مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، وما آمن بالله ولا راقب وعيده ولا وعده ، من والى أعداءه ، وكان متبوّؤهم متبوأه ، ولا أناب إلى الله ولا أسلم له ، ولا قبل أمره وقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥٥) [الزمر : ٥٤ ـ ٥٥] ، إذ من الاسلام والإنابة إليه ، المهاجرة لعدوه فيه ، كما لا يكون من (١) أتاكم ولا ورد عليكم ، من مشى بعض الطريق إليكم ، فكذلك لا يكون عند الله منيبا مسلما ، من لم يكن للإنابة والاسلام مكملا مستتمّا (٢).

ألا تسمعون لقول إبراهيم صلى الله عليه والذين آمنوا معه ، وكل من آمن به من المؤمنين واتبعه (٣) : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) ، فقدموا ذكر التبرّي منهم ، وذكر انقطاع (٤) الولاية والمجاورة بينهم ، قبل ذكرهم لأوثانهم ومعبودهم ، وما كفروا لله به فيها من شركهم وجحودهم ، فكما يجب الاعتزال للضّلال ، فكذلك (٥) يجب الاعتزال للضّلال ، وكما تجب الهجرة للكفرة والفجار ، فكذلك (٦) تحب الهجرة للفجور والكفار ، فرحم الله عبدا اعتزل الضّالين وضلالهم ، وهجر لله وفي الله الظالمين وأعمالهم ، فإنه أمر سبحانه (٧) باعتزالهم ، كما أمر باعتزال أفعالهم ، ولم يعتزلهم مهاجرا ولا مجانبا ، من كان لهم في دار ظلمهم قرينا أو مصاحبا.

فليحذر امرؤ ـ جاور من ظلم وحالّه ، وإن لم يفعل في الظلم أفعاله ـ أخذ الله له وعقابه ، وليذكر حكم الله عليه وكتابه ، فقد سمع ما أنزل الله من ذلك وفيه ، وما حكم

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) في (ب) : مشتملا (مصحفة).

(٣) في (ب) : وتبعه.

(٤) سقط من (ب) : وذكر انقطاع. وفي (ب) : أيضا الولاية.

(٥) سقط من (أ) : فكذلك يحب الاعتزال للضّلال.

(٦) سقط من (ب) : فكذلك.

(٧) في (أ) : فإنه أمر باعتزالهم.

٢٨١

به من هجرة الظالمين عليه ، ففي أقل من (١) ذلك كفاية وغنى ، ونور لمن هداه الله وضياء ، فقد جاءت من الله في ذلك كله البينة المضية ، ووصلت إليه فيه سنن رسله وأوليائه المقبولة عند الله المرضية ، التي جعلها الله سبحانه (٢) من بعدهم صلى الله عليهم تذكرة كافية ، وحجة على كل من آمن بالله وموعظة بليغة شافية.

[هجرة المؤمنين السابقين]

وليسمع قول أصحاب الكهف إذ يقولون وهم هاربون ، من قومهم في الله فارّون : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) (١٦) [الكهف : ١٦] ، فذكر اعتزالهم لأشخاصهم وأبدانهم ، قبل ذكرهم لاعتزال أصنامهم وأوثانهم ، وكانوا معتزلين لهم هاربين منهم إلى كهف (٣) الجبل ، مفارقين لله وفي الله الآباء والأهل ، مهاجرين بذلك في الله ، من كان عدوا لله.

وأمر (٤) الله سبحانه لبني إسرائيل بالخروج من قرى فرعون ، ففيه بينه ظاهرة جلية في الهجرة لقوم يعقلون ، قال الله لا شريك له لموسى وهارون صلوات الله عليهما ورضوانه : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧) [الشعراء : ١٦ ـ ١٧] ، وقال سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢) [الشعراء : ٥٢] ، فأمرهم سبحانه بهجرة عدوّه وأخبرهم بأنهم (٥) سيتبعون ، لتشتد عليهم فيما أمرهم به من ذلك المحنة ، ولتعظم لهم ومنهم به في طاعتهم لله(٦) الحسنة ، فلم يمنعهم خوفهم لفرعون وجنوده ، من المضي لما عهد الله إليهم

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) سقط من (ب) : من.

(٣) في (أ) : إلى الكهف في جبل.

(٤) في (ب) و (د) : فأمر.

(٥) في (ب) و (د) : أنهم.

(٦) في (أ) و (ج) : في طاعة الله.

٢٨٢

في الهجرة من عهوده ، مع ما دخل من الخوف في اتّباعه عليهم ، وقال سبحانه بعد فيهم ؛ إذ هاجروا ـ مع هائل الخوف في الله ـ من كان لله عدوا : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً) [يونس : ٩٠].

وقال سبحانه : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) [الشعراء : ٦١] ، يعني سبحانه : جماعة بني إسرائيل وجماعة القوم الظالمين ، فلم يمنعهم هول الرؤية والمعاينة ، وما طلبوا عند ذلك (١) من الهلكة والمنازلة ، عن النفاذ على ما أمروا به من المهاجرة ، منطلقين بكليتهم ، ونسائهم وصبيتهم ، (٢) لا يلتفتون إلى شيء قد خرجوا ليلا سارين (٣) ، لظفر فرعون وجنوده خائفين محاذرين. فهذه (٤) ـ هديتم ـ عزائم الموقنين ، بالمرجع إلى رب العالمين ، فأما (٥) من ضجّعه تربّصه وارتقابه ، وصرعه شكه وارتيابه ، فما أبعده في الهجرة عن (٦) عزمهم!! وما صاروا به إليها من علمهم (٧).

وقال موسى صلى الله عليه ، إذ عصته بنوا إسرائيل فيما عهد الله إليهم وإليه ، من دخول الأرض المقدسة ، وما اعتلّوا به عليه من خوفهم لمن فيها من الجبابرة المتفرعنة : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٥) [المائدة : ٢٥] ، سأل الله صلى الله عليه أن يفرق بينه وبينهم ، إذ أجمعوا جميعا كلهم على ما يسخط الله منهم ، إكبارا منه صلى الله عليه للمقام مع معصية الله فيهم ، فكيف (٨) يجاور العاصون في أكثر الأحوال أو يصار إليهم؟!

وفي ذلك ومثله ، و [ما] رضي الله به من أهله ، ما يقول الله (٩) سبحانه : (وَما

__________________

(١) في (أ) : طلبوا بذلك من. وفي (د) : طلبوا عند تلك من.

(٢) في (ب) : وصبيانهم.

(٣) في (أ) : سائرين.

(٤) في (ب) و (د) : هذه.

(٥) في (ب) : وما.

(٦) في (ب) : من.

(٧) في (ب) و (د) : عملهم.

(٨) في (أ) : وكيف.

(٩) سقط من (أ) : الله.

٢٨٣

لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥) [النساء : ٧٥] ، فكفى بهذا كله وما تلونا منه في وجوب الهجرة بيانا وتنويرا.

وما كان من موسى صلى الله عليه ، عند رجعته إلى قومه (١) في أخيه ، إذ أقام مع العاصين في مكانهم ، وهم مصرون لله على عصيانهم ، ففيه عبرة لمعتبر ، وبيان وموعظة لمدّكر ، قال الله سبحانه ، لا شريك له : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) [الأعراف : ١٥٠] ، فأخذ صلى الله عليه برأس أخيه يجره إليه غضبا وأسفا ، وتغيظا وتلهفا ، وإعظاما وإكبارا ، وتقبيحا وإنكارا ، لمقامه معهم وبين أظهرهم ، مع ما صاروا إليه من معصية الله في أمرهم ، وهارون صلى الله عليه مباين لهم فيما هم فيه من عصيانهم وضلالهم ، وما ارتكبوا فيما بينهم وبين الله من سيئ أفعالهم ، يأمرهم دائما بالهدى ، وينهاهم عما هم عليه من الضلالة والردى ، يناديهم في إنكاره ، وتقبيحه وإكباره ، بصوت منه صيّت رفيع ، يسمعه منهم كل سميع.

فتمسك ـ صلى الله عليه في نفسه ، ومن أطاعه من آله وغيرهم من قومه ـ بعصم الحق والرشد والهدى ، بريء مما هم فيه من الضلالة والردى ، يقول صلى الله عليه (٢) : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠) [طه : ٩٠] ، فما منعه ذلك كله من سخط موسى عليه ، ولا من وثوبه صلى الله عليه إليه ، (٣) يجره بلحيته ورأسه ، وهارون في كرب أنفاسه ، يعتذر في غمة كربه ،

__________________

(١) في (أ) : رجعته إلى أخيه.

(٢) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

(٣) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

٢٨٤

وفيما نزل منه به ، لما يراه هارون صلى الله عليه له (١) عذرا ، وعدوه من عصاة بني إسرائيل يرى من فعل موسى به ما يرى ، وهارون يعتذر إليه ، صلى الله عليه (٢) ، فما قبل موسى ذلك منه ، ولكنه نبهه لما (٣) غفل عنه ، فقال صلى الله عليهما : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٩٢) [طه : ٩٢] ، قوله (٤) : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣] ، يدل على أن قد كان أمره ، أن لا يقيم صلى الله عليهما مع من شاقّ الله وكفره ، وقوله : ما منعك ألا تتبعني إذ عصوا ما منعك أن لا تتركهم وتلحقني ، (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) [طه: ٩٤].

فهل رأيتم هديتم من قول أشبه بأن يكون عذرا من قول هارون واعتذاره ، مع ما كان من أمره (٥) ونهيه وإنكاره ، فلما علم موسى صلى الله عليه ذلك كله ، وأن (٦) هارون صلى الله عليهما أتاه وفعله ، وأن جميع ما فعل من ذلك وإن كان إحسانا ، وكان الله تبارك وتعالى رضوانا ، غير مقبول عند الله منه ، وإن مقامه مع الظالمين ذنب يحتاج إلى الله في العفو عنه ، قال موسى بعد اعتذار هارون صلى الله عليهما إليه ، واستعطافه بذكر أمه له عليه ، إذ يقول : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) [الأعراف : ١٥٠] (٧) ، فلم يستغفر موسى لهارون ذنبه ، ولم يسأل العفو عنه ربّه ، حتى علم (٨) هارون أنه قد كان أخطأ في مقامه مع الظالمين ، يرى ويعاين عصيانهم لرب

__________________

(١) سقط من (أ) : له.

(٢) في (أ) : عليهما.

(٣) في (أ) : بما عقل (مصحفة).

(٤) سقط من (أ) : قوله أفعصيت أمري.

(٥) في (أ) : من نهيه وأمره وإنكاره.

(٦) في (أ) : وأنه صلى الله.

(٧) لم يذكر في (أ) : الآية كاملة.

(٨) في (أ) : حتى علم أن هارون قد أخطأ. وفي (ب) حتى هارون أن قد أخطأ.

٢٨٥

العالمين ، فعند ما اعترف هارون بزلته (١) في مقامه معهم ، وتركه لاتباع موسى عند ما رأى منهم ، قال موسى صلى الله عليه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١) [الأعراف : ١٥١] ، وقول (٢) موسى لهارون صلى الله عليهما : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣] ، بيّن أن قد كان أمره وقال له إن رأيت من القوم عمى ، أو ضلالا أو ظلما ، فلم يقبلوا قولك فيه ، وأقاموا مصرين عليه ، فالحقني ، وآتني (٣) واتبعني ، فهذا وجه قوله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ، يقول فأقمت مع من كفر وظلم ، وجاورت مقيما مع من أجرم.

وفي موسى نفسه صلى الله عليه ومن كان معه وتبعه لميقات الله له (٤) من خيار بني إسرائيل ، ما يقول الله تبارك وتعالى فيما نزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله من كتابه الحكيم : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥) [الأعراف : ١٥٥] ، فأخذتهم الرجفة ، وحلت بهم من (٥) المعصية المخافة ، وهم هم ، ومع سخطهم لهم ، فوصلت معرّة العاصين منهم ، إلى من قد (٦) زال عنهم ، فلما أصابتهم الرجفة ، ظنوا أنها الهلكة المتلفة ، ولم تكن تلك الرجفة من الله لهم هلكة مدمرة ، ولكنها كانت من الله لهم ولغيرهم من الأمم موعظة وتذكرة ، نفعهم الله بها وأولياءه ، وذعر بها من الأمم أعصياه ، رحمة من الله للمطيعين والعاصين ، وموعظة للفريقين من رب العالمين ، فتبارك الله فيها أحكم الحاكمين ، والحمد لله بها وفيما كان منها لأرحم الراحمين.

__________________

(١) في (ب) : بنه لله (مصحفة).

(٢) في (أ) : وقال.

(٣) في (أ) : فالحقني واتبعني. وآتني.

(٤) سقط من (ب) : له.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : فن.

(٦) سقط من (ب) قد.

٢٨٦

ومن ذلك وفيه ، فخبر الله جل ثناؤه عن عيسى صلى الله عليه ، بعد الذي كان من إخباره عن موسى صلى الله (١) عليه ، بما قد سمعته عن الله آذانكم ، وأحاط به يقينا إيقانكم ، من مهاجرته صلى الله عليه ، وسياحته مهاجرا على قدميه ، هاربا لسخطه في (٢) الله من بني إسرائيل ، إذ لم يعملوا بما في أيديهم من التوراة ولم يقبلوا ما جاء به (٣) من الإنجيل ، وأبوا إلا الكفر لنعمة الله ، والمشاقّة بعصيانهم على الله ، فلما أحس عيسى صلى الله عليه كفرهم ، (٤) وتوجس في إصرارهم على الكفر أمرهم ، كما قال الله سبحانه : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٤٦] ، يريد : من المهاجر معي إلى (٥) الله ، والتابعون لي سياحة في سبيل الله ، ولسياحته في الله ، ونصيحته بها لله ، سماه الله مسيحا ، وكان لله فيها نصيحا.

ولقد (٦) قرأنا مما في أيدي النصارى لعنة الله عليها ، في كل ما عندها من أناجيلها : (أن عيسى ابن مريم ، لما وجّه في المدائن والأمم ، للدعاء إلى الله حوارييه ، قال لا تزودوا معكم زادا ، ولا تحملوا معكم فضة ولا ذهبا ، وأي (٧) مدينة حللتموها ، أو أمة دخلتموها ، فلم تقبل منكم ، ولم يسمع الحق عنكم ، فأقلّوا بها وفي أهلها مقامكم ، وانفضوا من غبارها إذا خرجتم عنها أقدامكم ، لكيما تكون شهادة لله عليهم ، (٨) وحجة باقية من بعدكم فيهم ، فخرجوا فكانوا يطوفون في المدائن والقرى ، وينشرون أمر الله فيهم نشرا) (٩).

__________________

(١) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

(٢) في (ب) و (د) : وهاربا. وفي (ج) : من الله.

(٣) في (ب) : ما حكم.

(٤) في (ب) : بكفرهم.

(٥) في (ب) و (د) : في.

(٦) في (أ) : فلقد.

(٧) في (أ) : فأي مدينة.

(٨) في (ب) : عليكم.

(٩) نص الإنجيل : ثم استدعى الاثني عشر تلميذا ، وأخذ يرسلهم اثنين اثنين ، وقد أعطاهم سلطة على الأرواح النجسة ، وأوصاهم أن لا يحملوا للطريق شيئا إلا عصا ، لا خبزا ولا زادا ، ولا مالا ضمن ـ

٢٨٧

ومن مثل ذلك وفيه ، ما كان يقول صاحب إنجيلهم صلى الله عليه (١) : (للسباع مغار ، وللطير أوكار ، وليس لي مأوى آوي إليه ، ولا بيت أستكن فيه) (٢) فأين هذا ومثله؟! وما كانت عليه أنبياء الله منه ورسله ، من جوار من ظلم وفجر ، وساكن وكثّر وعمر ، لا أين والحمد لله!! والحجة البالغة فلله ، ونستعين فيما وجب علينا في ذلك بالله.

فالهجرة أمرها عظيم كبير ، وفرضها في كتاب الله مكرر (٣) كثير ، لا يجهله إلا جهول ، ولا ينكره إلا مخذول ، إلا أنه قد قطع ذكرها ، وصغّر قدرها ، وأمحى (٤) عهودها ، وحل عقودها ، تحكّم الناس على الله فيها ، وتظاهرهم بالمخالفة لله عليها.

والمقام مع الظالمين في دارهم محرم ، حكم من الله كما ترون أول مقدم ، قد جرت به سنة الله قبلكم في الماضين ، وسار به من قد (٥) مضى قبل رسولكم من المرسلين ، صلى الله عليه وعليهم ، في الأمم الذين كانوا فيهم.

فكفى بهذا في وجوب الهجرة ، وما حرم الله من جوار الظالمين والفجرة ، نورا وبرهانا ، وحجة وبيانا ، لمن آثر الله على ما يهوى ، ولم يمل مع هواه على التقوى.

فأما من لا يصبر عما يجمع ديار (٦) الظالمين من الشهوة والفكاهات ، وما يأوي

__________________

ـ أحزمتهم ، بل ينتعلوا حذاء ، ويلبسوا رداء واحدا ، وقال لهم : أينما دخلتم بيتا ، فأقيموا فيه إلى أن ترحلوا من هناك. وإن كان أحد لا يقبلكم ولا يسمع لكم في مكان ما فاخرجوا من هناك ، وانفضوا التراب عن أقدامكم شهادة عليهم ، فانطلقوا يبشرون داعين إلى التوبة ، وطردوا شياطين كثيرة ، ودهنوا كثيرين من المرضى بزيت ، وشفوهم. إنجيل مرقس الإصحاح السادس فصل ٧ ـ ١٣.

(١) سقط من (ب) : صلى الله عليه.

(٢) نص الإنجيل : للثعالب أو جار ، ولطيور السماء أو كار ، أما ابن الإنسان فليس له مكان يسند إليه رأسه.

إنجيل متّى ٢٢٨.

(٣) سقط من (أ) : مكرر.

(٤) في (أ) : أمرها. وفي جميع المخطوطات وأمح ، وما أثبته من مخطوطة من شرح الأساس للشرفي في باب الهجرة مما نقله من كلام الإمام من كتاب الهجرة للظالمين.

(٥) سقط من (أ) : قد.

(٦) في (أ) : دار.

٢٨٨

إليها ويجتمع فيها من المجالس الملهيات ، فما (١) أبعده وأصدّه ، وأدفعه (٢) وأردّه ، للبيان فيما عطّل من هذه الفريضة وبدّل ، وافترى في خلافها ومضادّتها على الله وتقوّل ، فإلى الله المشتكى من (٣) ذلك وهو المستعان ، فما بعد بيان الله في ذلك بيان ، فيه شفاء لمشتف (٤) ، ولا اكتفاء من مكتف ، وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ، (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) [يونس : ٣٣].

فاتقوا الله في الهجرة أيها الناس ، فلا يقطعكم عنها الإلف والإناس ، والمعارف والأحباب ، والمجالس والأصحاب ، والفكاهات والألعاب ، والشك فيها والارتياب ، فإن الله وملائكته أنس لمن هاجر إليه ، وقام لله من الهجرة بما يحب عليه ، من كل إلف وأنيس ، وصاحب وجليس ، ورضى الله أرضى من كل رضى ، وفرض الهجرة أوكد الفروض فرضا ، فلا تثقل عليكم الهجرة فإن من أيقن بالمرجع إلى الله والمعاد ، خف عليه ثقل كل رشد ورشاد ، ومن أيقن بقصر مدته وبقائه ، فكان (٥) مراقبا لأجله وانقضائه ، لم يغترر بدنياه ، ولم يلهه شيء عما أنجاه ، وكان (٦) أبغض الناس إليه ، من شغله عما ينجيه ، (٧) أبا كان شاغله عن ذلك أو أخا ، ولم يعد شيئا من دنياه سرورا ولا رخاء ، ولم يرغب فيما هو فيه من الحياة ، إلا لما يطلب من النجاة ، وكانت الدنيا ونعيمها عنده بلاء ، وما يستحقه الجاهلون منها ثقلا ، وغرورا كلها وكذبا ، ولهوا في نفسه ولعبا ، كما قال الله سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) [العنكبوت : ٦٤] ، فحياة الدنيا عند من يعقل موت ، ودركها وإن أدرك فوت ، وهي كما قال رسول الله

__________________

(١) في (ب) : هما (مصحفة).

(٢) في (أ) : وأبعده (مصحفة).

(٣) في (ب) و (د) : في.

(٤) في (ب) و (د) : للمشتف.

(٥) في (ب) : وكان.

(٦) في (ب) و (د) : فكان.

(٧) سقط من (ب) : عما.

٢٨٩

صلى الله عليه وعلى آله : (الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه ، وجنة الكافر ورخاؤه) (١) ليست بدار سرور لمن يعقل ولا أمن ، ولكنها دار الفناء ودار الأذى ودار البلايا ودار الحزن ، لا يغتر بها إلا مغرور ، ولا يأمنها إلا مثبور ، (٢) ظالم لنفسه جهول.

تم كتاب الهجرة والحمد لله (٣) كما هو أهله ومستحقه.

وصلّى الله على رسوله الأمين ، وأهل بيته الأكرمين ، وسلم عليه وعليهم أجمعين.

* * *

__________________

(١) الحديث : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). أخرجه مسلم في باب الزهد ١ / ٥٠ ، والترمذي في باب الزهد ١٦ ، وابن ماجة في باب الزهد ٣ وأحمد ٣ ، ١٩٧ و ٢٢٢. والإمام صاغ الحديث بلغته الشاعرية.

(٢) هالك خاسر.

(٣) في (أ) : أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، وصلى الله على رسوله الأمين ، سيدنا محمد النبي وأهله الأئمة الأكرمين ، وسلم عليه وعليهم أجمعين ، وحسبي الله وحده وكفى ونعم الوكيل.

٢٩٠

المكنون

٢٩١
٢٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

[دعاء]

أستعصم الله بعصمته التي لا تهتك ، وأسترشده إلى السبيل (١) التي ينجو بها من الردى من هلك ، وأستوهبه التوفيق لهدايته ، والحظ الوافر من طاعته ، وأرغب إليه في إلهام حكمته ، واجتناب معصيته.

[توحيد الله]

إن الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لا كفؤ له موجود ، ولا والد ولا مولود ، تعالى من أن يتخوّنه (٢) أبد ، أو يقع عليه عدد ، فطر الأرض والسماء ، وابتدع الأشياء ، وأنشأ المخلوقين إنشاء ، بلا معين يشاركه في التدبير ، ولا ظهير يؤازره على ما أبرم من الأمور ، ولم يمسسه في ذلك كلال ، ولم يتخرمه (٣) نصب ولا زوال ، ولم تتوهّقه (٤) عن محكم الصنعة العوائق ، ولم يشتبه عليه ما أتقنه علمه السابق ، بل نفذ بمشيئته ما أبرم ، ومضى في خليقته ما علم ، بلا اختلاج (٥) اشتبهت عليه فيه الآراء ، ولا توهّم تفاوتت عليه فيه الأشياء ، فتعالى عما يقول فيه (٦) الظالمون ، وعز وتقدس مما (٧) يتفوّه به العادلون ، جعل الأنام شعوبا وقبائل متعارفين ، وفيما تنازعهم إليه الأنفس غير مؤتلفين ، مختلفة هممهم ، لا يشتبه تصرفهم ، وكل يعمل على شاكلته ، ويسلك سبيل طبقته (٨).

__________________

(١) في (ب) و (د) : الذي ينجو به.

(٢) في (ه) : عن أن. يتخونه ، أي : يغيّره.

(٣) الكلال : الإعياء. يتخرمه : يقطعه ويستأصله.

(٤) تتوهقه : تعوقه وتمنعه.

(٥) الاختلاج : الشك والريب.

(٦) سقط من (ب) و (ج) و (د) : فيه.

(٧) في (ب) : أشار ب (عن) في نسخة.

(٨) الشاكلة : الطريقة. والطبق : الجماعة ، والقرن من الزمان.

٢٩٣

والعقول حظوظ متقسمة ، والأخلاق غرائز (١) مستحكمة ، فالحازم مغتبط بما ألهم ، جذل (٢) بما قسم ، والمفرّط متأسّ (٣) على ما حرم ، يقرع سنّه من الندم ، فإن قهر نفسه على تعوّض (٤) ما فرط ، أورده صغر الهمم في أعظم الورط ، وإن تمادى في التقصير ، دحض (٥) دحضة الحسير.

وإني لما زايلت (٦) قلة الآثام ، وخضت في أفانين الكلام ، وناسمت (٧) كثيرا من علماء الأنام ، أطللت (٨) على مكنون (٩) من العلم جسيم ، واستدللت على نبأ من ضمائر القلوب عظيم ، لأن صحيح الجهر ، يدل على كثير من مكنون السر.

[صفات العالم الرباني]

واطلعت على ذلك بخصال أوتيتها ، وأخر تجنبتها ، فأما اللواتي أوتيت فذكاة (١٠) الفطنة ، وقلة المشاحة (١١) في المحنة ، والإصغاء لأهل الافتنان ، (١٢) والقبول من ذوي الأسنان ، (١٣) وكثرة الاقتباس من أولي (١٤) الحكم والأذهان ، والزهادة في الزائل الفان ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : منقسمة. والغرائز : الطبائع.

(٢) جذل : فرح مسرور.

(٣) من الأسى.

(٤) في (ب) : تعويض.

(٥) دحض : زلق.

(٦) زايلت : فارقت.

(٧) ناسمت : تلطفت في التماس العلم منهم شيئا فشيئا.

(٨) أطللت : أشرفت.

(٩) سمي الكتاب بالمكنون أخذا من هذا.

(١٠) ذكاة الفطنة : سرعة الفهم.

(١١) المشاحة : الجدال والنزاع.

(١٢) أهل فنون العلم.

(١٣) الذين مرت عليهم السنون الكثيرة ، يعني : أصحاب التجارب.

(١٤) في (ب) و (ب) : ذوي.

٢٩٤

وصحة الناحية ، (٢) وتكافئ السريرة والعلانية ، وسلامة القلب ، وحضور اللب ، فافهموا يا بني.

وأما اللواتي اجتنبتها (٣) ، فمهازلة الحمقاء ، ومشاحنة الأدباء ، وترك ما تشره (٤) إليه النفس من عرض الدنيا ، والمكاثرة والحقد ، والظغن والحسد ، والاسترزاء للحرّ والعبد ، والمماكسة (٥) فيما يكسب الحمد.

يا بني فبعض هذه الخصال طبعت عليه بالتركيب ، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب ، والتمثل (٦) بالأريب اللبيب ، مع رغبة حداني عليها طلب الازدياد ، مما أرجو به النجاة في المعاد ، والزلفة يوم التّناد (٧).

[فضائل الأعمال]

فلم أر مما أتاه الله العبد شيئا أفضل من التقوى ، ولا أنجع (٨) في العقبى من السّلوّ عن الدنيا ، وبيع ما يزول بما يبقى ، ورأيت خير ما ينشأ مع المرء العقل المولود ، (٩) والمذهب المحمود ، والفهم العتيد ، وكمح (١٠) النفس عن الشهوات ، وقصرها عما تدعو إليه من

__________________

(٢) الناحية : العلم. قال الشاعر :

أيكني إليها وخير الرسول

أعلمهم بنواحي الخبر

قال في اللسان : إنما يعني علمهم بنواحي الكلام.

(٣) في (ب) و (د) : تجنبتها.

(٤) تشره : تطمح وتحرص.

(٥) المماكسة : هنا بمعنى الحرص.

(٦) التمثل : الاقتداء.

(٧) يوم التناد أي : يوم المناداة. وهو يوم القيامة.

(٨) أنجع : أفلح.

(٩) يريد العقل المكتسب بالتجارب.

(١٠) العتيد : الحاضر السريع. والكمح : المنع والصد.

٢٩٥

المهلكات.

يا بني فمن ظفر بهذه الخصال ثم عرف فضلها ، وسلك بنفسه سبيلها ، فاز بالظفر ، وأمن من (١) الغير ، ولم يكثر على الفائت تأسّفه ، وقلّ عند النوازل (٢) تأفّفه ، وأبصر ما بين يديه ، ولم تنكصه الشبهات على عقبيه ، ومن (٣) لم يقده الفهم إلى العقل ، زلّ في شبهات الجهل ، ومن لم يلطف النظر في غوامض الأفطان ، (٤) كاد أن يدهمه الجديدان ، (٥) ومن كثرت حيرته ، ملكته شهوته ، وأردته غرته ، ونظره عدوه بعين الاستقلال ، واستزراه في جميع الأحوال.

[صفات الحكيم]

يا بني : ولخير خصال المرء أن يكون على خلاله مستشرفا ولأوده مثقّفا ، (٦) بما يكون له من غيره متعرّفا ، من جميل يومئ به إليه ، أو مذموم خليقة يطعن من أجلها عليه.

يا بني : فكل من لم يفصل بالتمييز ما يعنيه من زمنه ، ويحذر مضلات فتنه ، ويدخر لنفسه من جدته ، ما يحمد غبّه (٧) في عاقبته ، ويختر الزيادة على النقصان ، والربح على الخسران ، فهو كالماص لثدي أمه ، المخدج (٨) قبل تمّه.

يا بني : الزمان أنصح المستنصحين ، وأرشد المسترشدين ، وبحسب من صحبه ، أن يعرف تغلّبه ، ويقفو آثاره ، ويتصفح أخباره ، ويسير لكل حقبة بسيرتها ، ويلبس لها

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) في (ب) : النوائب.

(٣) سقط من (ب) : من.

(٤) الأفطان : الأمور الغامضة التي تحتاج إلى فطنة.

(٥) الجديدان : الليل والنهار.

(٦) مستشرفا : مطلعا. ولعوجه مثقفا. والتثقيف التقويم ويسمى الرمح مثقفا لتعديل اعوجاجه ومنه سمي المثقف مثقفا بلغة العصر.

(٧) جدته : حالة غناه. والغب : العاقبة.

(٨) الخداج : النقصان.

٢٩٦

أخصف (١) لبستها ، حتى تستوري (٢) نار زنده ، وتستحكم قوى معتقده ، وتتحصحص (٣) له طبقات دهره ، ما مدّ له المهل في عمره ، ثم لا يغتر بساعات الليل والنهار ، ولا يسهو سهو من صحب الدهر بغير الاختبار ، ولا يلهو عن مصلحته كأهل الاغترار ، فإذا داوم على ذلك فقد كملت خصاله ، وأحاطت بالجميل أفعاله.

يا بني : ولو أن العاقل ساير الأيام طول حياته بغير الاستحكام ، والنقض والإبرام ، لم يكن إلا كالصبي في مهده ، المدخول في خلده (٤) ، لأن العاقل الذاهل (٥) هو الخائض في بحار الظّلم ، والمرتطم في الخزاية مع المرتطم ، والمعرفة أسطع نورا من المقباس (٦) ، وأجلى للقلوب من الهندوان (٧) للنحاس.

[صفات الغافل]

يا بني : ومن أعجب العجائب ، ذو شيبة (٨) مرتد بالنوائب ، متسربل بالمصائب ، يستنكر ريب التصاريف (٩) ، ويفجر أمامه بالتسويف (١٠) ، وذلك لضعف نحيزته (١١) ، ونسيانه لما يتصرف من أزمنته ، وكثرة سهوه وغفلته ، عما قد أفهمته خبرته ، وانتظمته

__________________

(١) الأخصف : الثوب الغليظ جدا.

(٢) تستوري : تتّقد. والزند : العود الذي تقدح به النار.

(٣) تتحصحص : تظهر وتتضح.

(٤) الخلد : القلب والمراد الغر الذي لا معرفة له بالأمور.

(٥) الذاهل : الغافل الناسي.

(٦) المقباس : الشعلة.

(٧) الهندوان : الحديد المطبوع في الهند ، يقال : سيف مهند وهندواني نسبة إلى الهند.

(٨) في (ب) : شبهة.

(٩) التصاريف : التخاليف أي التقلبات.

(١٠) يركب الفجور في أيامه المستقبلة اعتمادا منه على التوبة المسوّفة.

(١١) النحيزة : الطبيعة.

٢٩٧

تجربته. ولو ـ غيّب عن (١) العاقل اللبيب ، كل أمر عجيب ، مما فطر عليه المفطورون (٢) ، وقصر عن الإحاطة بخبره العالمون ـ لكان فيما طبع عليه في ذات نفسه ، وما يمر به في يومه وأمسه ، من الفقر والغناء ، والسراء والضرّاء ، والشدة والرخاء (٣) ، والأخذ والإعطاء ، والبذل والإكداء (٤) وكثرة السكوت ، وطول الصموت ، والاكثار في المنطق ، والهدوء (٥) وسرعة القلق ، والجد والهزل ، وغلبة الجهل على العقل ـ له أشغل (٦) شاغل عن الفكرة في خلائق الانسان ، وتضاد ما يختلف فيه من الجهل والعرفان ، فالموموق (٧) منها معروف ، والمقلي منها مشفوف (٨). فمن جنح إلى الأقل ، كبح (٩) واستوحل ، وذم غبّ المصدر (١٠) ، وكان من أمره على خطر ، وأندمته آخريته ، لما قد دلته (١١) على علمه أوّليّته ، وليس بحكيم ، من مال إلى الأمر المذموم ، والخيلاء بالفضل ، مجانب لسبيل العقل. ومن جعل غيره لعينه نصبا ، وأظهر على من سواه في شيء من أفعاله عتبا ، وكان الذي فيه لطالب عثرته أعيب ، كان الواجب عليه أن يكون على نفسه أعتب ، لأن من استنكر أمرا من غيره ، يرضى في نفسه بمثله ، فقد دل على جهله ، ومن سها عما يعنيه ، كان ما لا يعنيه أجدر أن لا يؤاتيه (١٢).

__________________

(١) في (ب) : على.

(٢) في (ب) : المفطرون.

(٣) سقط من (ب) و (ج) و (د) : والشدة والرخاء.

(٤) الإكداء : البخل.

(٥) في (ب) : والهزو.

(٦) اسم كان المتقدم في أول الكلام.

(٧) الموموق : المحبوب.

(٨) المشفوف : المنظور إليه.

(٩) كبح : ارتطم في الوحل وهو مستنقع الماء والطين.

(١٠) المصدر : المنصرف.

(١١) في (ب) و (ج) : دله.

(١٢) لا يؤاتيه : لا يطاوعه ولا يستجيب له.

٢٩٨

فافهموا يا بني : ما عبرته (١) لكم ، وأوضحته من شأن زمانكم.

[صفات الأحمق]

وإن من المنكرات ، فيمن يسم (٢) نفسه بميسم الخيرات ، أن يضرب بطرفه صاعدا ، ويكون (٣) على غيره واجدا (٤) ، ولزناده زاندا ، كأنه قد تهذب من الأدناس ، وأمن من (٥) معيبة الناس ، واستقام على سوق الزيادة للمستزيد ، أو ما عرف المعدوم من الموجود ، والحاضر من المفقود ، والخير من الشر ، والنفع من الضر ، والحرّ من القر (٦) ، حيث سلك في أحشائه ، واتصل بحواسه وأجزائه ، ثم أدّبه (٧) الأركان إلى الأركان ، والروح إلى الجثمان ، ثم صرفته تلك العوارض الخاطرة ، والنوازل السائرة ، فاستفزته (٨) إلى السخط مرة ، وإلى الرضى أخرى ، فأسرف في الخلتين (٩) ، ومال عن النجدين ، فأين مستقر القديم منه ، لم يدرأ به عنه ، النوازل الممضّة (١٠) ، والآفات العارضة ، ويستدع

__________________

(١) في (ب) و (د) : ما عبرت.

(٢) يسم : يصف.

(٣) صاعدا : عاليا ، تعبير عن التكبر. وفي (د) : أو يكون.

(٤) واجدا : غاضبا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : من.

(٦) القر : البرد.

(٧) في (ب) و (ج) و (د) : أدته. وهو تصحيف.

أدبه : ملأه. قال كثير عزة :

بلوه فاعطوه المقادة بعد ما

أدبّ البلاد سهلها وجبالها

لسان العرب مادة دب.

(٨) استفزته : أخرجته.

(٩) الأولى وصف نفسه بالخير ، والثانية أن يكون واجدا على غيره.

(١٠) في (ب) : المضة. والممضة : الموجعة.

٢٩٩

لنفسه بدرئه لذلك عاجل (١) السلوة ، وينف عنها بوادر الشقوة ، ويعاود ما يديم له السرور، ويدفع عنه المحذور ، ولو ألهم نفسه أحسن ما يلهم ، لزاح عنه خواطر الهمم ، ولم يعدم محمود العاقبة وعلو الذّكر في الفئام (٢) ، والصوت الرفيع في محافل الأقوام ، ولأقصر عن شقشقته (٣) ، وشهد بالفضل لمزايل (٤) طريقته ، ولكنه لم يحم أنفه ، وقل عن مزايلة ما تهواه نفسه أنفه ، فامتشجت (٥) الأدواء في آرابه ، واستلبته رصين (٦) آدابه ، فابتغى السلامة من غير جهتها ، والراحة بعد فوتها.

كلا لن يكون فرع من غير أصل ، ولا جود إلا ببذل ، ولا زكاء مخلوق إلا بفضل ، يجشّم (٧) فيه نفسه المجهود ، ويستدعى به لها الثناء المحمود ، ويجنبها الموبقات ، والشهوات المرديات ، وليس من نفس إلا وهي تراود صاحبها على الهوى ، وتدعوه إلى موارد الردى ، فمن (٨) أعطاها زمامه ، أركبته ردعه ، ومن منعها ما تهوى ، فاز بالرغبى. ففي هذا لكم يا بني : بيان ومعتبر ، ومن لم يستظهر (٩) ، بالحزم على مذاق (١٠) الأخلاق ودناءتها ، ويزجر النفس عن شهواتها ، قصر دون رميته ، ولم يدرك الثناء الذي سما إليه بأمنيته.

__________________

(١) في (ب) : يدرك.

(٢) الفئام : جماعة الناس.

(٣) الشقشقة : التفيهق في الكلام والسرد بلا مبالاة ، شبّهه بالبعير الهائج.

(٤) المزايل : المفارق.

(٥) أنفه : كبره. وامتشجت : اختلطت.

(٦) الرصيك : الثابت والمحكم.

(٧) يجشم : يكلف.

(٨) في (ب) : من.

(٩) ركب ردعه إذا سقط على وجهه. اللسان. وفي (ب) : ردغه. تصحيف. وسقط من (ب) و (د) : من. ويستظهر : يستعين.

(١٠) مذاق الأخلاق : سيئها.

٣٠٠