مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

[الهجرة واجبة في كل الديانات]

ومن تشديد الله لفريضته في المهاجرة (١) للظالمين وتأكيدها ، أن الله سبحانه لم يجعل للمؤمنين ولاية لمن (٢) لم يقم بها ويؤدّها ، فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] ، فمنع سبحانه المؤمنين من ولايتهم وإن آمنوا ، إذا أقاموا في دار عدوّه فلم ينتقلوا ولم يظعنوا ، وأبى تبارك وتعالى لأوليائه ، أن يوالوا ـ وإن آمن ـ من لم يهاجر دار أعدائه ، نظرا منه سبحانه للأولياء ، وتطهيرا لهم (٣) عن مجاورة الأعداء.

وهل رأيتم من يجاور عدوه وهو يجد من جواره بدّا؟! إلا أن يكون ممن لم يهبه الله توفيقا ولا رشدا ، وهل رأيتم لبيبا مجاورا للسباع؟! وهو يقدر منها على الامتناع ، أو مقاربا للأفاعي وأولادها ، وله سبيل ومنتدح (٤) إلى إبعادها ، فبكم ترون من ظلم وتعدى ، أضر وأخبث وأردى ، مقاربة ـ والله المستعان ـ ومجاورة ، وأكثر لمن جاوره نكاية ومضرة ، وإن من ظلم وكفر وفجر ليضرك وإن نحا ، فكيف يحالّ فيما كان له منزلا وبلدا وملجا ، إن هذا لضلال ـ والحمد لله ـ ما يخفى ، وجفاء في دين الله لا يأتيه إلا من جفا.

ولقد قرأنا مع ما علّمنا الله في التنزيل ، ما في أيدي هذه النصارى من الإنجيل.

فإذا فيه : أن طائفة من الأشرار ، أبناء الظلمة والفجار ، جاءوا يطلبون التوبة للرياء (٥) إلى يحيى بن زكريا ، صلى الله عليه ، فقالوا له : طهرنا فقد تبنا إلى رب السماء ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الهجرة.

(٢) سقط من (ب) : لمن.

(٣) سقط من (ب) : لهم.

(٤) منتدح : سعة.

(٥) سقط من (ب) : للرياء.

٢٦١

بما تطهر به التائبين من الماء ، وكان يحيى صلى الله عليه ، إذا صار إليه ، أحد مطيعا لله ومجيبا ، أو تائبا إلى (١) الله منيبا ، أمره بالاغتسال من نهر الأردن ، وكانت تلك سيرته صلى الله عليه فيمن آمن. فقال للذين أتوه كاذبين ، إذ (٢) لم يكونوا بالحقيقة تائبين : يا أولاد الأفاعي ائتوا بثمرة ، تصلح للتوبة والتطهرة ، (٣) فطردهم ولم يرهم أهلا للتطهرة ، فهذا أيضا والحمد لله من دلائل الهجرة.

أو ما سمعتم نهي رب العالمين ، عما ذكرنا من جوار الظالمين ، إذ يقول سبحانه لعباده المؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨) [آل عمران : ١١٨]. وتأويل (مِنْ دُونِكُمْ) ، هو من غيركم ، يقول سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) من غير أهل دينكم ، والبطانة في المقارنة (٤) هم القرناء ، كما البطانة في المخادنة (٥) هم الخدناء ، فمن قارن أحدا في المحل فهو له بالمجاورة بطانة وقرين ، كما أن من خادن أحدا بمحل هو له بالمخادنة بطانة وخدين ، وإنما قيل للبطانة بطانة ؛ لأنها مخاصة (٦) ومقارنة ، فنهى الله سبحانه المؤمنين ، أن يتخذوا الظالمين ، أخلاء أو خدناء ، أو جيرة أو قرناء ؛ لأن من لا يدين دينهم لا يألونهم خبالا ، وإن لم يظهروا لهم حربا ولا قتالا (٧) ؛ لأنهم يرجعون أبدا بهم وفيهم ، عيونا ذاكية (٨) لعدو الله عليهم ، يجادلونهم بالباطل

__________________

(١) في (ب) : تائبا لله.

(٢) في (ب) : وإذا. وفي (د) : وإذا (مصحفة).

(٣) نص الرواية عن يحيى بن زكريا عليه‌السلام (وكان يقول للجموع الذين خرجوا يعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. إنجيل لوقا الإصحاح الثالث.

(٤) في (أ) و (ج) : المقاربة هم القربا (تصحيف).

(٥) المخادنة : المصاحبة.

(٦) في (ب) : خاصة (مصحفة).

(٧) في (أ) و (ج) : أو قتالا.

(٨) يعني : جواسيس للأعداء.

٢٦٢

ليدحضوا به حقهم ودينهم ، ويعارضونهم فيه بزخرف القول ليوهنوا به علمهم ويقينهم ، فبعلم من عليم ، وتقدير من حكيم ، ما نهاهم (١) الله عن موالاتهم ومخالّتهم ، ومنعهم من مجاورتهم ومحالّتهم.

وفي ترك مقاربتهم (٢) وإيجاب مجانبتهم ، وما أمر الله به الرسول صلى الله عليه والمؤمنين من مهاجرتهم ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ) [الأنعام : ٧٠] ، يقول سبحانه بمهاجرتك لهم ، ففيها تذكير لمن يعقل منهم ، إن أبصر هداه ورشده ، أو كان شيء من الخير عنده ، ولا تجلس معهم ، ولا يجمعك من المقاعدة ما يجمعهم ، إذ كانت مقاعدهم مقاعد لهو ولعب واستهزاء ، فإن ذلك إذا كان كذلك يمنعهم من الذكر لما تذكّرهم به من الأشياء ، وفي تركك لهم وإعراضك عنهم ، ما فيه تذكير لمن عقل منهم ، ولم يذر الظالمين من جاورهم ، وحلّ وسكن دارهم.

وفي جدالهم ، وزخرف أقوالهم ، ما يقول سبحانه : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦) [الكهف : ٥٦].

وفي من ذكّر بآيات الله فلم يذكر ، وبصّر نورها فلم يبصر ، ما يقول الله لا شريك له: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) [الكهف : ٥٧].

[وعيد الله للمعرضين]

ثم أخبر سبحانه عن اغتماده واغتفاره (٣) الذي هو احتماله ، وعفوه وتغمده ورأفته

__________________

(١) في (ما) زائدة لتحسين الكلام.

(٢) في (أ) : مقارنتهم.

(٣) في (ب) و (د) : اعتماده (تصحيف). وسقط من (أ) و (ب) و (د) : واغتفاره.

٢٦٣

ورحمته وإفضاله ، في ترك المعاجلة بعذابه ونقماته ، لمن أعرض عما ذكّر به من آياته ، فقال سبحانه : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٥٨) [الكهف : ٥٨] ، فمن أشد إعراضا عن آياته؟! وما أوضح بها وفيها من بيناته ، ممن جهل فرض الله عليه فيها ، أو ليس هذا هو الذي لم يلتفت قط إليها؟! بلى(١) إنه لهو ذلك ، وإن لم يكن عند من لا يعقل كذلك.

وقد جهل قوم ما قلنا به في الموالاة ، وما زعمنا أنه منها من القرب والمداناة ، بالجوار والمحالّة ، والخلطة والمعاملة ، وقد يقال للقوم إذا تتابعوا جميعا في مجيء ، أو قالوا كلهم قولا واحدا في شيء : إنهم جميعا لمتوالون فيه ، وفي المجيء إلى البلد : إنهم لمتوالون عليه. وإذا جاءوا متتابعين ، قيل : جاءوا متوالين ، وكذلك يقال للقوم إذا دخلوا أرضا ، وكان بعضهم مجاورا فيها بعضا ، إنهم بالجوار لمتوالون فيها ، كما يقال : إذا ساروا إلى الأرض إنهم لمتوالون إليها. وكما يقال للمتاصفين : إنهم أصفياء المودة والصفاء ، كذلك يقال للمتوالين : أولياء في المقاربة والولاء ، وقد قال الله تبارك وتعالى في أهل الكتاب من اليهود ، إنهم أولياء لأهل الكفر والشرك والجحود.

فاسمعوا لقول الله سبحانه لرسوله في بني إسرائيل ، وما وقّفه عليه من ذلك في التنزيل: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١) [المائدة : ٨٠ ـ ٨١] ، يقول سبحانه لو كانوا يؤمنون بالنبي الذي كان فيهم ، وبمن صار من أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم إليهم ، لما والوا عدوا مشاقا ، ولا أدخلوا (٢) عليهم إذ كانوا أعداء للرب مرفقا ، بمخالطة منهم لهم ولا معاملة ، ولا بمجاورة لأحد منهم ولا محالّة ، وقد تعلمون أن من ذكره الله سبحانه في هذه الآية بالتولي للكفار من اليهود ، وإن كانوا قد نقضوا في أكثر الأمور ما بينهم وبين الله من

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بل.

(٢) يحتمل أن تكون الكلمة (ولا دخلوا) والمرفق بمعنى المكان أو الموضع. وعلى ما هي عليه (ولا أدخلوا) والمرفق بمعنى النفع.

٢٦٤

العهود ، فلم ينقضوا أنهم غير متولين للكفار في أديانهم ، ولا راضين بعبادة ما كان الكافرون يعبدون من أوثانهم ، ولا ما كانوا يشرعون في دينهم من الشرائع ، ويفترون على الله فيه من الشنائع ، في أكل الميتة والدم ، وما كانوا يحلون من كل محرّم ، بل كانوا لهم في ذلك مخالفين ، ولعملهم فيه من القالين ، ولكنهم كانوا لهم موالين ، وإن لم يكونوا لدينهم قائلين ، وكانوا لهم على دينهم من العائبين ، ولهم في أنفسهم من المعادين ، ولكنهم كانوا أولياء لهم بالنصرة والموادّة ، وبما ذكرنا من الجوار والمعاملة والمقاعدة.

أفلا (١) ترون كيف جعلهم رب العالمين ، بموالاتهم لمن ظلم من الظالمين؟! فأثبت سبحانه عليهم في الحكم ، أنهم عنده كهم في الظلم ، وأنهم منهم بموالاتهم لهم ، وإن كانوا برءاء منهم في شرائع دينهم ، وجاهلين بأكثر أقاويلهم ، لا يعملون منها حرفا ، ولا من أوصافهم فيها وصفا ، فلذلك (٢) كان من الموالاة ، ما ذكرنا من القرب والمداناة ، التي منها المجاورة والمحالّة ، كما منها الإخاء والمخالّة.

ومن قارب شيئا ودنا إليه ، فهو غير شك يليه ، وكذلك في المحبة من والاكم ، فقد وادّكم وآخاكم. ومن ذلك حرم الله سبحانه المجاورة والمداناة ، إذا كانت بين (٣) أهلها مقارنة وموالاة ، ففرض الله على نبيه صلى الله عليه وعلى المؤمنين الهجرة لدار من كفر به ، ولم يصر إلى القبول عنه لما جاء به من (٤) ربه ، ولمن هاجر ـ يومئذ من المؤمنين عن الدار ، وما أمر الله بهجرته من الكفار ، وقبلهم وفيهم ، وعندهم ولديهم ـ الأموال والديار العامرة ، والأبناء والأهلون والقرابة الناصرة ، فألزمهم (٥) الله لذلك كله الهجرة ، وأوجب عليهم لدينه ولأنفسهم النصرة ، وأبقى الهجرة بعدهم ، لمن سلك قصدهم ، شريعة ثابتة قائمة ، وفريضة للمؤمنين لازمة دائمة.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ألا.

(٢) في (ب) و (د) : ولذلك.

(٣) في (ب) و (د) : من.

(٤) في (ب) و (د) : عن.

(٥) في (ب) : وألزمهم.

٢٦٥

[الهجرة شرط الإيمان]

ولم يجعل سبحانه للمؤمنين حقا ، وحقيقة في الاسم وصدقا ، ولم يوجب مغفرة ورزقا كريما ، ولم (١) يجعل برحمته فوزا عظيما ، إلا لمن هاجر لله وفيه ، وخرج من بيته مهاجرا إليه.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه (٢) في تنزيله ، وما بيّن به (٣) في الهجرة من تفصيله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) [الأنفال : ٧٤] ، ويقول سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠) [النساء : ١٠٠]. فما استحقوا على الله سبحانه جزاه ، وإن آمنوا وجاهدوا حتى هاجروا في الله من عاداه ، وزالوا من دار أهل مشاقّته وعصيانه ، وخرج كل مهاجر (٤) منهم عنهم هاربا إلى الله من أوطانه.

فكيف يرجو النجاة عند الله ، والفوز برضوان الله؟! من لم يهاجر إلى الله كما هاجروا ، أو يؤو وينصر كما آووا ونصروا ، لا كيف إن (٥) فهم عن الله أو عقل!! أو علم ما أوحى (٦) الله في ذلك ونزّل!!

أما سمع (٧) قول رب العالمين ، إذ يقول سبحانه للمؤمنين : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : لم.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : سبحانه.

(٣) في (أ) : بين به من الهجرة في تفصيله. وفي (ب) و (د) : في ن في الهجرة من تفصيله. وفي (ج) : بين به من الهجرة في تفضيله. ولفقت النص من الجميع.

(٤) في (أ) : كل من هاجر.

(٥) سقط من (ب) : إن.

(٦) في (أ) : ما أوصى.

(٧) في (ب) و (د) : سمعتم.

٢٦٦

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٨٩) [النساء : ٨٨ ـ ٨٩] ، ومن المنافقين ، يومئذ لبعض (١) المؤمنين ، أب وقريب ، وجار وحبيب ، وعون وظهير ، وولي ونصير ، يوالي بعض المؤمنين في حربه ويناصره ، ويعاونه على عدوه ويظاهره.

فلما نزلت على المؤمنين يومئذ البراءة منهم ، ونهوا عن المقاعدة لهم ، وقطع الله الولاية بينهم وبينهم ، وأمروا (٢) بالاعراض عنهم ، افترقوا بالرأي فيما حكم به عليهم في المنافقين فرقتين ، وصاروا كما قال الله تبارك وتعالى فيهم طائفتين ، فطائفة تأسى على ما فاتها من نصرهم ، وما كان يدخل عليها من المرافق (٣) بهم ، في المداينة والاسلاف ، والمجاورة والائتلاف. وطائفة عريّة (٤) عنهم ، قد قطعت الآمال منهم ، والتي أسيت من المؤمنين عليهم تمنى لهم الهدى ، والطائفة الأخرى فإنما تراهم حربا وأعدا ، وكل المؤمنين وإن اختلفوا فيهم ، فقد قاموا (٥) بحكم الله في العداوة لهم عليهم ، لا يعدلون بأمر الله لهم فيهم أمرا ، ولا يتخذون منهم ـ كما قال الله عزوجل ـ وليا ولا نصيرا ، فنهاهم الله سبحانه عنهم ، وجعل من تولاهم منهم ، ومنافقا مثلهم ، بولايته لهم ، ثم أمر سبحانه بقتل الفريقين ، إذ كانا جميعا منافقين ، ومنع سبحانه من آمن به وبكتابه ، وكان قابلا لحكمه وآدابه ، أن (٦) لا يتخذوا من الفريقين وليا ولا نصيرا ، أو يستظهروا منهم عونا أو ظهيرا ، تعزيزا منه سبحانه للمؤمنين بأمره ، واكتفاء لهم من غيره بنصره.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله ، (٧) (يا أَيُّهَا

__________________

(١) في (ب) و (د) : يومئذ للمؤمنين.

(٢) في (أ) و (ج) : وأمر.

(٣) المرافق : المنافع.

(٤) في (ب) : عدية (مصحفة).

(٥) سقط من (ب) : قاموا.

(٦) سقط من (ب) : أن.

(٧) في (ب) و (د) : وعلى آله الطاهرين.

٢٦٧

النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) [الأنفال : ٦٤] ، فجعل له (١) سبحانه فيمن اتبعه ، وكان في طاعته معه ، كفاية وعزا ، ومنعة وحرزا ، والحمد لله الذي لا يذل أولياءه ، ولا يعزّ أبدا أعداءه.

وفي الهجرة وذكرها (٢) ، وما عظّم الله من قدرها ، ما يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨) [البقرة : ٢١٨] ، فكأنه لا يرجو رحمة الله ، إلا من هاجر لله وفي الله.

ومن الهجرة وفيها ، ومن الدلائل (٣) عليها ، قول الله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦]. فلم يوجب بينهم بالأرحام ولاء وإن كانوا إخوة وقرباء ، بل وإن كانوا أمهات وآباء ، إلا أن يهاجروا دار من كان لله عدوا ، ولا يتبوءوا معه في محل متبوّأ.

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله (٤) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) [الأحزاب : ٥٠] ، فلم يحل له من بنات عمه وعماته ، وبنات خاله (٥) وخالاته ، إلا من هاجر معه ما (٦) هاجر ، وزال عن دار من كفر.

مع التي ليس فيها إحالة ، (٧) ولا بعدها لمؤمن ضلالة ، من العلم بهلكة من لم يهاجر دار من أمره الله بمهاجرته ، وأقام مجاورا لمن منعه الله من مجاورته ، ممن اعتذر عند

__________________

(١) في (ب) و (د) : فجعل الله سبحانه فيمن.

(٢) في (أ) و (ج) : وذكر ما عظم (تصحيف).

(٣) في (أ) و (ج) : الدليل.

(٤) في (أ) و (ج) : وعلى أهله.

(٥) في (ب) و (د) : خاله وبنات خالاته.

(٦) في (أ) : معه من هجر. وفي (ج) : معه ما هجر.

(٧) إحالة : أمر محال.

٢٦٨

حضور وفاته (١) إلى الملائكة ، بالضعف في الأرض التي كانوا فيها وما خشوا من أهلها على أنفسهم من الهلكة ، ففي ذلك أكفى الكفاية ، لمن له في نفسه أدنى عناية ، قال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧) [النساء : ٩٧] ، فاعتذروا في الجوار لمن ظلم عند (٢) مساءلة الملائكة لهم عن أمرهم ، بما لم يقبله الله جل ثناؤه ولا الملائكة صلوات (٣) الله عليهم من عذرهم ، وردت عليهم الملائكة في ذلك ردا محكما فصلا ، جعله الله لرضاه (٤) به وحيا منزلا ، فقالت الملائكة عليهم (٥) السلام : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] ، وقال الله لا شريك له لهم : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ٩٧] ، فلم يجعل الله سبحانه لهم في جوار أعدائه عذرا ولا تعذيرا ، وجعل جهنم لهم مصيرا ودارا ، ولم يزدهم عذرهم عنده إلا تبارا ، فأي كفاية أو شفاية أشفى ، لمن أراد شفاء (٦) من هذا لمن يسمع ويبصر ويرى (٧) ، فنحمد الله على ما بيّن في الهجرة من الحق والهدى ، فأمر به وفرضه من مهاجرة من ظلم وتعدّى.

مع ما في سورة الامتحان ، في الهجرة من التأكيد والبيان ، فقال الله لا شريك له : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] ، فإنما كان إلقاء بغير التقاء ولا مقاعدة ، بكتاب كتبه ، فيما قالوا : حاطب ابن أبي بلتعة ، فقال عمر : اتركني يا رسول الله أقتله فقد كفر بمكاتبته ،

__________________

(١) في (أ) و (د) : وفاته له.

(٢) في (أ) : عن.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : صلوات الله عليهم.

(٤) في (ب) : و (د) : لرضائه وحيا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : عليهم‌السلام.

(٦) في (ب) اشتفاء واكتفاء من. وفي (د) : شفاء واكتفاء.

(٧) في (أ) و (ج) و (د) : أو يرى.

٢٦٩

فمنع رسول الله عمر مما أراد بحاطب من القتل لرجعته وتوبته (١) ، وكان رسول الله صلى الله عليه في ذلك (٢) بحكم الكتاب ، أعلم من عمر بن الخطاب.

ثم أكّد في السورة على المؤمنين أشد تأكيد ، (٣) وردد نهيه عن موالاة من كفر ترديدا بعد ترديد ، وأخبرهم أن الأرحام وإن كانت بينهم ، فإنها غير نافعة في يوم القيامة لهم ، وكل(٤) محل ودار ، كان أهلها كفارا أو غير كفار ، إذا (٥) كانوا أعداء لله وكان الحكم في الدار حكمهم ، وكانت دارا ظاهرا فيها ظلمهم ، فهجرتها مفترضة واجبة ، وحلولها هلكة معطبة ، وبذلك (٦) وله ، ولما ذكرنا منه ، هلكت القرون والأمم ،

__________________

(١) أخرج القصة البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأحمد ، وأبو عوانة ، وابن حبان ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم. عن علي عليه‌السلام.

قال بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا والزبير والمقداد ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فائتوني به ، فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقا من قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق. فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). الدر المنثور ٨ / ١٢٥. وفي آخر الحديث ما فيه فما أهل بدر وغيرهم في العدل الإلهي إلا سواء ، والعبرة بخاتمة الأعمال وليست بدر حصانة يعمل معها صاحبها ما شاء ، وهي لا شك عمل عظيم يوجب الجنة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لمن حافظ عليها ولم يحبطها.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : في ذلك.

(٣) في (ب) و (د) : تأكيدا (مصحفة).

(٤) في (ب) و (د) : فكل.

(٥) في (ب) و (د) : إذ كانوا.

(٦) في (أ) و (ج) : مهلكة. وفي (أ) و (ج) : ولذلك وما ذكرنا منه.

٢٧٠

ودمرت القرى والمدن ، إذ لم يكن فيها إلا ظالم معتد ، (١) ومجاور لمن ظلم غير مهتد ، فلم يستحق الهلكة والتدمير من الفريقين إلا مذنب مجرم ، يستوجب أن ينزل به من الله جل ثناؤه التدمير والنقم.

[هلاك جبابرة الأمم]

فاسمعوا لخبر الله عمن دمر بالظلم من القرون والقرى. فإن به عبرة وموعظة شافية لمن يبصر ويسمع ويرى ، قال الله سبحانه : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧) [الإسراء : ١٦ ـ ١٧] ، فخص الله مترفيها بالذكر في الفسق ، وإن كان كل أهلها فساقا في حكم الحق ؛ لأن (٢) أهلها إنما هم مترف أو جبار ، أو مساكن لهم وجار ، فكلهم فاسق عن أمر ربه ، وكل فإنما أخذ بذنبه.

وفي تذكير الله بإهلاكه للقرى (٣) ، ما يقول الله سبحانه مذكرا : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥) [الأعراف : ١٦٣ ـ ١٦٥] (٤) ، فكان أهل القرية ثلاث فرق ، نسبها الله إلى العتا والفسق ، وفرقة من الفرق الثلاث معذرة

__________________

(١) في (ب) و (د) : متعدّ.

(٢) في (ب) و (د) : ولأن.

(٣) في (ب) الفري.

(٤) سقطت الآية الثانية من قوله : وإذ قالت من (أ) و (ج).

٢٧١

مقصرة ، وفرقة منهن واعظة ناهية مذكرة ، (١) تنهى من عتا ، عن الفسق والعتا ، وتذكر بما يجب لله (٢) من الطاعة والرضى ، فلم يذكر الله تبارك (٣) وتعالى في خبره عنهم ، أنه جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، إنجاء منهم ، إلا من أمر ونهى ، وكان واعظا منبها ، وداعيا لهم إلى الله مسمعا ، ومقبّحا لعتاهم مشنّعا ، لم يذكر سبحانه عمن خلّصه وأنجاه ، أنه أقام مع من وعظه ونهاه ، في محل الفسق والعتا ، ولا أسبت (٤) معهم في قريتهم سبتا (٥) ، ولا استحل فيها لهم جوارا ، ولا قر (٦) معهم فيها بعد العتا قرارا.

وكيف يقيمون معهم في القرية ، مع ما أظهروا لله فيها من المعصية ، يرونها فيها عيانا ، ويوقنون بها إيقانا ، لله كان أجل في صدورهم جلالا ، وأكبر في نفوسهم أمرا وشأنا ، من أن يجاوروا مشاقّيه ومعاصيه ، أو يقيموا جيرانا لمن يشاقّه ويعصيه ، وهم لو ـ جاورهم (٧) جار في أنفسهم بما يسخطون ، أو بكثير من الأذى والمكروه هم له ساخطون ، لا يقدرون له على دفاع ، ولا منه إلى امتناع (٨) ـ لما أقاموا ساعة واحدة معه ، ولا سيما إذا كان لا يقدر أحد منهم على أن يدفعه ، فكيف بمساخط الله التي هي في صدورهم (٩) أعظم ، ولقلوبهم أحرق وآلم ، ما يحل توهم ذلك عليهم ، ولا نسبة (١٠) شيء منها إليهم ، والحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من مجاورة الظالمين.

وفيما ذكرنا من هلكة القرى ، ما يقول (١١) الله تبارك وتعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

__________________

(١) سقط من (ب) : مذكرة.

(٢) سقط من (ب) لله.

(٣) في (أ) و (ج) : سبحانه في.

(٤) في (أ) : ولا سبت. وسقط سهو من (ج) : من ولا أسبت إلى .. قرارا.

(٥) السبت : الراحة والقطع ، والمسبت : الذي لا يتحرك.

(٦) سقط من (ب) و (د) : قرّ.

(٧) في (ب) و (د) : ويعاصيه. وفي (ب) : جاورهم بما رأوا (مصحفة).

(٨) في (ب) و (د) : على.

(٩) في (أ) : صدرهم.

(١٠) في (ب) : شبه (مصحفة).

(١١) سقط من (أ) و (ج) : الله.

٢٧٢

أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) [الحج : ٤٥] ، فذكر سبحانه إهلاكه لكل من كان في القرية من ضعيف أو شديد ، إذ لم يكن في القرية إلا جبار أو جار ، وكل فقد حقت عليه من الله الهلكة والدمار ؛ لأنهم كلهم لله عصاة ، وعن أمره جل ثناؤه عتاة ، جبارها بتجبّره واستكباره ، وجارها بمحالّته للظالمين وجواره ، فكل أهلكه الله بكسبه ، وأخذه الله بجرمه وذنبه ، كما قال سبحانه : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) [العنكبوت : ٤٠] ، وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩) [الأعراف : ٩٦ ـ ٩٩].

فينبغي لمن كان في قرية من القرى ، غير معمول فيها بما يحبّ الله ويرضى ، الغالب على أهلها فيها الظلم والعتا ، أن لا يأمن مكر الله وأخذه لأهلها ضحى أو بياتا ، ولا يغفل عما يتوقع من أمر الله فيها ، من حلول نقمه بها وعليها ، وإن أمليت فأطيل لها الإملاء ، فإن بالغفلة يهلك (١) فيها الغفلاء.

وربما أملى الله لقرية (٢) فأطال ، وهو يرى فيها الظلم والضلال ، كما قال سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨) [الحج : ٤٨]. ففي هذا وأقل منه موعظة لمن يعقل ويبصر ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢١) [فاطر : ١٩ ـ ٢١] ، كما قال العزيز الغفور ، ولعل من عمي قلبه ، وضل فلم يرشد لبّه ، كما قال الله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

__________________

(١) في (ب) و (د) : هلك.

(٢) في (أ) و (ج) : للقرية.

٢٧٣

(٤٦)) [الحج : ٤٦] ، أن لا يبصر ما فصّل الله في هذا الباب من الأمور.

فنقول : إنما نزلت نقم الله وعذابه ، وحل تدميره وعقابه ، على من أشرك به ، ولم يقرّ بربه ، فأما نحن فمقرون ، وأولئك كانوا يكفرون ، ففي قول من قال ذلك لمن يعقل عجب العجب ، لما فيه على الله من الافتراء والكذب ، أو لا يرى (١) من زعم ذلك وقاله ، وزيّن له فيه مقاله ، أن الله سبحانه عذّب قرية أهل الاعتداء في سبتهم ، على ما ركبوا فيه وما مسخهم الله به (٢) من معصيتهم ، التي لم يخلطها منهم لله ولا لشيء من دينهم إنكار ، ولم يأت لشركهم (٣) في مسخ الله لهم بمعصيتهم من الله ذكر ولا إخبار ، بل إنما عظّم الله سبحانه (٤) عصيانهم ، وذكر في سبتهم عدوانهم ، لإقرارهم فيه على أنفسهم بالتحريم ، ولما كانوا عليه للسبت من التعظيم ، وبتعظيم الله له وتعظيم رسله عندهم في دينهم عظّموه ، وبما حرّمت عليهم رسل الله حرّموه.

ولو كان لا يهلك ، إلا منكر أو مشرك ، (٥) كان ما ذكر الله من إهلاكه للقرى بالعدى والظلم ، (٦) تلبيسا شديدا وحيرة (٧) في الفهم والعلم ، لا يخاف الهلكة معه ظالم ولا مفسد ، ولا طاغ مقر ولا متمرد ، بل كان كل من فسق وظلم ، وطغى وتعدى وغشم ، آمنا للغير والنقم ، في كل فسق وجرم.

وإنما الشرك ضرب من ضروب الفسق والظلم ، خصه الله بخاصة من الكبر والعظم ، كما قال لقمان عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [لقمان : ١٣] ، فخصه لقمان بما خصه الله (٨) به من التعظيم ، وكل كبيرة

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ألا يرى.

(٢) سقط من (أ) : به.

(٣) في (ب) و (ج) : بشركهم.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : سبحانه.

(٥) في (ب) و (د) : إلا مشرك أو منكر (مقلوب).

(٦) في (ب) بالعد. وفي (د) : بالظلم والعداوة.

(٧) في (أ) و (ج) : أو حيرة.

(٨) سقط من (ب) : الله. وسقط من (أ) و (ج) : به.

٢٧٤

سوى الشرك من المعاصي فقد خص الله أهلها فيها بالتظليم ، والكبائر وإن اختلفت بأهلها(١) فيها الشئون ، فبالظلم وإن اختلفت (٢) هلكت القرى والقرون ، ولذلك وبه ، وما (٣) ذكرنا من قدره ، ما يقول الله سبحانه : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩) [الكهف : ٥٩].

وإن ـ فيما ذكر الله لا شريك له في سورة الطلاق ، وما عظّم فيها من خلاف أمره حتى في الفراق ، والاشهاد عليه إذ كان بشاهدي عدل ، وما حكم به على المؤمنين في السورة كلها من حكمه (٤) الفصل ، وما خوّفهم فيها به (٥) من ترك أمره وعهده ونهاهم فيها عنه من التقصير ، وذكّرهم به في عتوّ القرى عن أمره من التذكير ـ لدليلا مبينا ، وعلما يقينا ، بأنه يهلك القرى ، إذا أراد وشاء ، بالعتوّ والفسوق والعدوان ، وبكبائر (٦) الظلم والعصيان ، إلّا أن يدفع (٧) ذلك عنهم في الدنيا برحمته ، ويؤخرهم بالعقاب فيه إلى يوم حشره وبعثته(٨).

فاسمعوا لقول رب العالمين ، في ذلك للمؤمنين ، بعد الذي أمرهم به ، في السورة من أمره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً

__________________

(١) في (ب) : أهلها.

(٢) في (أ) : و (ج) : وإن اختلف.

(٣) في (ب) و (ج) : ولما.

(٤) في (أ) : و (ج) : من حكم الفصل.

(٥) سقط من (أ) : به.

(٦) في (أ) و (د) : وتكاثر.

(٧) في (أ) : أن يرفع ذلك عنهم في الدنيا برحمته.

(٨) في (أ) و (ج) : وبعثه (تصحيف).

٢٧٥

(١١)) [الطلاق : ٨ ـ ١١] ، فلما كان جميع من في القرية ، لا يخلو من عامة أو خاصة متعدية ، وكان أمر الله وأمر رسوله للعامة ، في الخاصة المتعدية الظالمة ، أن (١) يجاهدوهم إن قووا وانتصفوا ، ويهاجروهم وينتقلوا عنهم إن ضعفوا ، فلم يفعلوا ما أمروا بفعله ، كانت القرية كلها عاتية عن أمر الله وأمر رسله ، فحل عذاب الله بذلك فيهم ، ونزلت نقمات الله فيهم وعليهم ، وكان كلهم ظالما عاتيا فاستحقوا جميعا الهلاك (٢) بظلمهم وعتائهم ، وعصيانهم واعتدائهم ، ولو كان الأمر في ذلك كما قال من لم يهد فيه لرشده ، ولم يسدّد في القول للهدى وقصده ، لكان في ذلك من التجربة ، لكل نفس متعدية ، ما تقل معه لله منهم الطاعة ، ويعظم فيه عليهم الفساد والإضاعة ، ولكن لم يأمر الله سبحانه في السورة كلها وينه ، ولم يكن بما (٣) فيها من التذكير والتحذير واعظا منبها ، إلا لمن آمن من المؤمنين به ، ولم يجحد بشيء من رسله ولا كتبه.

فافهموا هديتم قوله سبحانه : (آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، فإنكم إن تفهموا ذلك يبن (٤) لكم إن شاء الله ما التبس عليكم في كل ما ذكرنا من الأمور ، وخرجتم ببيان الله فيه من ظلمات الهوى ، إلى نور الحق والبر والتقوى.

وفي قرى الفسق والعتا والظلم ، وما أحل الله بها من الحطم القصم ، ما يقول سبحانه: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) [الأنبياء : ١١ ـ ١٣] ، فمن تأويل (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ، لعلكم (٥) تعرفون ، وتقرّون أيها المترفون ،

__________________

(١) في (ب) : إذا (مصحفة).

(٢) في (أ) و (ج) : المثلات بظلمهم وعتائهم. وفي (ب) و (د) : جميعا الهلاك بظلمهم في عتائهم.

(٣) سقط من (ب) : بما.

(٤) في (ب) و (د) : يتبين.

(٥) في (أ) : أي لعلكم.

٢٧٦

المساكنون بما كنتم في مساكنكم من الظلم تعملون ، فلما عرف كبراء (١) القرية وضعفاؤها بظلمهم فيها أجمعين ، قالوا : عند الاعتراف والاقرار آسفين متحسرين : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) [الأنبياء : ١٤] ، قال الله لا شريك له : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥) [الأنبياء : ١٥].

فكم وكم من نقمة ، وقرية منقصمة ، الظلم من أهلها والعدوان قصمها ، والفسق من ساكنها (٢) والعصيان حطمها ، قد نبأكم الرحمن نبأها ، وخبّركم في كتابه مهواها ، وما به كانت هلكتها من الظلم ورداها ، لتهاجروا (٣) فساقها وفسقها ، ولتجانبوا (٤) أخلاقها وطرقها ، ولتحذروا (٥) مثل الذي وقع بساكنيها ومجاوريها ، إذ لم ينكروا الظلم من مترفيها وجباريها (٦) ، فأصبحت الجبابرة مقصومة ، ومدائنها بالهلكة محطومة ، وجيرتها معها مدمرة ، إذ لم تكن لظلمهم مباينة منكرة ، وفي مثل (٧) ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) [القصص : ٥٨].

[هجرة الأنبياء والرسل]

ومن ذلك ، ولذلك ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) [المؤمنون : ٩٣ ـ ٩٤]. لأن من كان مقيما فيهم ، وصل إليه ما وصل إليهم ؛ لأنه لا يجاور

__________________

(١) في (أ) و (ج) : كبراء أهل القرية.

(٢) في (أ) و (ج) : سكانها.

(٣) في (ب) و (د) : ليهاجروا.

(٤) في (ب) و (د) : وليجانبوا.

(٥) في (ب) : وليحذروا.

(٦) في (أ) و (ج) : وجبابرتها (مصحفة).

(٧) سقط من (ب) : مثل.

٢٧٧

أهل الظلم ويقيم فيهم إلا الظالمون الفاجرون ، ولذلك يقول سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) [الأنفال : ٣٣] ، يقول سبحانه : يعذبهم وهم يتوبون ويتورعون (١) ؛ لأن الاستغفار ، هو التوبة من أهل الكفر والإقصار ، فلم يقم أحد من المرسلين ، بدار من دور الظالمين ، إلا مباينا داعيا ، ومنتظرا فيها (٢) لأمر الله مراعيا.

ومن قبل ما حكم الله به من الهجرة على رسوله وعلى المؤمنين ، فقد حكم به على من مضى قبلهم من المرسلين ، ومن تبعهم فكان (٣) معهم من عباده الصالحين ، فقال في نوح صلى الله عليه ، وما صيّره سبحانه من الهجرة إليه : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨) [هود : ٣٧ ـ ٣٨] ، ثم أمره (٤) سبحانه أن يحمده على إنجائه له (٥) منهم ، وما حكم به عليه من البعد عنهم ، وكانت هجرته لهم قبل غرقهم على ظهر الماء ، وفي الفلك بين الأرض والسماء ، وقال صلى الله عليه : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٨) [الشعراء : ١١٧ ـ ١١٨] ، فقال سبحانه : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) (١٢٠) [الشعراء: ١١٩ ـ ١٢٠] ، فأنجاه تبارك وتعالى منهم ، وغرّقهم (٦) بعد هجرته عليه‌السلام عنهم ، فهاجر صلى الله عليه أهل الكفر والفسق ، قبل ما أحلّه الله بهم من الهلكة والغرق ، تأدية لفرض الله عليه في الهجرة لهم ، وقد كان قادرا على أن ينجيه وإن أقام معهم ، ويغرقهم بجرمهم ، وبما ركبوا من

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويترعون.

(٢) في (أ) و (ج) : فيه.

(٣) في (أ) و (ج) : وكان.

(٤) في (ب) : أمر.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : له.

(٦) في (ب) و (د) : فأغرقهم.

٢٧٨

كفرهم وظلمهم.

وقال إبراهيم صلى الله عليه : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) [الصافات : ٩٩] ، وقال عليه‌السلام لأبيه ، إذ أجمع من الهجرة على ما أجمع عليه ، عند الرحيل والزوال ، وعند ما جاءه (١) له من السلام : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨) [مريم : ٤٧ ـ ٤٨] ، فلما اعتزلهم وما يعبدون صلى الله عليه وأصنامهم ، وفارق (٢) مهاجرا إلى الله دارهم ومقامهم ، وهبه الله من إسحاق ويعقوب ما وهب ، وهداه الله في مذهبه (٣) إذ ذهب ، وقال سبحانه : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) [مريم : ٤٩ ـ ٥٠] ، فهاجر إبراهيم عليه‌السلام لله قومه وبلده ، وفارق في (٤) الله وطنه ومولده ، وهجر صلى الله عليه أباه فيمن هجر ، وهو صلى الله عليه كان أبرّ من برّ ، فهجر أباه في الله (٥) طاعة لله ، وتبرأ منه إلى الله ، إذ تبيّن له أنه عدو لله ، فقال سبحانه فيه ، صلى الله عليه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٤] ، والأواه فهو الرحيم : والحليم فهو : الحكيم.

وهاجر لوط صلى الله عليه إذ هاجر معه ، ولم يسعه من الهجرة إلا ما وسعه ، كما قال لا شريك له : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٦) [العنكبوت : ٢٦] ، وهاجر (٦) لوط صلى الله عليه بأهله ثانية ، إذ (١) كانت

__________________

(١) في (ب) و (د) : جاءوا.

(٢) في (أ) : وهاجروا مهاجرا (مصحفة).

(٣) في (ب) : و (د) : مذاهبه.

(٤) في (أ) و (ج) : وفارق لله.

(٥) في (أ) : أباه لله طاعة ، لله. وفي (ب) و (ج) و (د) : في اللغة طاعة في الله ، وما أثبت تلفيق من الجميع.

(٦) في (أ) : فهاجر.

٢٧٩

القرية التي كان فيها قرية طاغية ، إذ جاءته ملائكة الله ، فقالوا له عن أمر الله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥) [الحجر : ٦٥]. تأويل لا يلتفت منكم أحد : لا يعرج أحد منكم تلبيثا ، وسيروا كلكم جميعا سيرا حثيثا ، وليس تأويل لا يلتفت ، ما يظن العمي (٢) الميّت ، من الالتفات في النظر ، إلى ما (٣) وراء الظهر أو إلى (٤) ما عن الميامن والمياسر ، ولكنه استحثاث واستعجال ، كما يقول المستحث المعجال ، إذا أنذر أحدا أو أرسله ، فاستحثه واستعجله : لا تلتفت إلى شيء ولا تعرج له.

ثم قال ـ من بعد قصة إبراهيم وأبيه ـ ربّ العالمين ، لرسوله ومن معه من المؤمنين : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣]. فبيّن سبحانه أن من والى من عاداه ، فقد ضل عن حقه وهداه ، فمن جاور من ظلم وتعدّى ، وهو يجد من جواره بدا ، فقد قاربه بالمجاورة وداناه ، ومن دانى أحدا كما قلنا فقد وليه وتولّاه ، والمقاربة كما قلنا فهي ولاية وإن لم تكن مؤاخاة ، ولذلك ما (٥) طهر الله أولياءه من أن يجاوروا في دار ومحل أعداه ، فأمر تبارك وتعالى لوطا ، إذ كان (٦) من هاجر عنه ظالما مفرطا ، بالخروج عنهم والهجرة لهم ، كما هاجر عن من كان قبلهم.

وقال رب العالمين ، لمن بعد إبراهيم من الرسل والمؤمنين : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً

__________________

(١) في (ب) : إن (مصحفة).

(٢) في (ب) العم.

(٣) سقط من (أ) : ما.

(٤) في (أ) : وإلى.

(٥) ما : زائدة. وكثير ما يستخدمها الإمام في كتبه.

(٦) في (ب) : كان مهاجرا (مصحفة).

٢٨٠