مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

الحمد لله ، ولا قوة إلا بالله ، الذي جل عن كل ذكر ذكره ، وعز في كل أمر أمره ، فلم يدل له سبحانه أمر بتناقض ولا اختلاف ، ولم يصغر له ذكر عن جليل ولا كبير (٢) من كرائم الأوصاف ، بل كلّ عنه جل ثناؤه كريم الصفات ، وأمور من خالفه فلم يحكم بحكمه فهن المختلفات ، اللاتي لا يعدل بهن حيف عن ميل ، ولا يهتدى منهن (٣) إلى حق بدليل ، بل الهدى منهن ممنوع ، وكل ضلال فهو فيهن مجموع ، لا يأوي إليهن هدى ، ولا يقين(٤) من ردى ، بل كلهن (٥) ظلمة ، وصمم وعمى وبكمة ، كما قال سبحانه في أهلهنّ ، ومن كان مؤثرا من العماة لهن ، (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : ١٨].

فسبحان من خذل أعداءه فأصمهم وأعماهم ، ونصر وتولى (٦) أولياءه فأعزهم وهداهم ، فلم يذل له وليا ، ولم يجعله عميا ، ولم يره في عاجل ولا آجل من ذلّ سوءا ، ولم يوال له قطّ عدوا ، بل حكم ـ جل ثناؤه ، وعزّت (٧) بعزته أولياؤه ـ لأوليائه بالمحبة والموالاة والمقاربة والإدناء ، وخصهم في كل حكمة لهم في هذه العاجلة بكل حسنى ، من البر والصلة والمجاورة والرضى ، وكّد (٨) بذلك كله لهم على عباده فرضا ، لا يسع محجوجا منهم إضاعته ، ولا يتم منهم (٩) لله إلا بأدائه طاعته.

__________________

(١) في (ب) و (د) : زيادة (الحمد لله وبه نستعين) بعد البسملة.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : عن. وفي (أ) و (ج) : ولا كثير.

(٣) سقط من (ب) و (د) : منهن.

(٤) في (أ) و (ج) : ولا ينتفين.

(٥) في (ب) و (د) : كلهن في عمى وظلمة ، وصمم وبكمة.

(٦) سقط من (د) و (ج) : وتولى.

(٧) في (ب) : تعزة. وسقط من (أ) و (ج) : وعزت.

(٨) في (أ) و (ج) : وكد بذلك كله على عباده لهم فرضا.

(٩) في (ب) و (د) : منه.

٢٤١

[صفات أولياء الله]

فسبب أولياء الله من الله بكل كرامة موصول ، وعملهم بولايتهم لله في كل خير عند الله مقبول ، لا يحبط مع زكي عملهم لهم برّ ولا عمل ، ولا يلم بهم بعد ولاية الله لهم صغر ولا ذل ، بل لهم مع ما (١) حكم الله به لهم على العباد من البر والمحبة ، ما ذكر الله سبحانه من (٢) الفلاح والفوز والنصر والغلبة ، فاسمعوا هديتهم لذكر الله في ذلك ، وخبره فيهم عن أنه كذلك ، إذ يقول سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) [المؤمنون : ١ ـ ١١]. ويقول سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) [النور : ٥٢] ، ويقول جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢]. ويقول سبحانه في إعزازه في الدنيا لأوليائه ، وما منّ به عليهم فيه من نصره وإعلانه : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) [الصافات : ١٧٢ ـ ١٧٣]. وفي ذلك ما يقول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨) [المنافقون : ٨]. وقال فيما وصفهم به من الإخاء والولاء : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ، فثبتت بينهم (٣) بتثبيت الله في الله ولله الموالاة والأخوة ، فهم الإخوة المتبارّون ، والأولياء المتناصرون ، والمؤمّنون بمنّ الله عليهم من كبائر العصيان ، (وبإيمانهم (٤) استحقوا عند الله اسم

__________________

(١) سقط من (ب) : ما.

(٢) سقط من (ب) : من.

(٣) في (أ) و (ج) : لهم.

(٤) في (ب) : وايمانهم من الكبائر. وفي (د) : وبإيمانهم من الكبائر استحقوا.

٢٤٢

الإيمان ، فسماهم به ودعاهم) (١) ، وبإيمانهم من كبائر عصيانه أعطوا هداهم ، كما قال الله الذي (٢) لا إله إلا هو : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٧] ، وبتقوى الله التي هي خشية الله وإكباره ، وإجلال الله عن العصيان وإعظامه ، تمت من الله عليهم النعم ، وثبت عند الله لهم الكرم ، فقال سبحانه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٢] ، فاتقوا الله فقد علّمكم وهداكم ، واطلبوا النجاة والكرم بتقواه ، فبها كرم عنده (٣) ونجا من آتاه هداه ، فلن يوجد البر والتقوى أبدا إلا في كريم ، ولا الفجور والعصيان (٤) ما بقيت الدنيا إلا في لئيم.

وفي الفريقين ما يقول الله تعالى في كتابه الحكيم : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤] ، وفي المؤمنين الأتقياء الأبرار ، بعد الذي وصفهم الله به من التّحابّ والتّبار ، ما يقول الله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١] ، فجعل دار المؤمنين والأبرار ، خير محلّ ومنزل ودار ، جعلها سبحانه دار أمن وإيمان ، ظاهر (٥) فيها كل برّ وإحسان ، يؤمر فيها بما يرضي الله سبحانه من التقوى والبر والمعروف ، بغير ما تقيّة فيها للظالمين ولا رهبة ولا مراقبة ولا خوف ، وينهى فيها عما يسخط الله من المنكر والطغيان (٦) ، وما لا يحبه الله من الفسوق والعدوان.

__________________

(١) سقط من (ج) : ما بيت القوسين.

(٢) سقط من (ب) و (د) : الذي.

(٣) في (أ) : فيها كرم عند الله. وفي (ب) و (د) : فيها كرم الله عنده.

(٤) في (أ) : ولا الفجور والعصيان أبدا.

(٥) في (أ) و (ج) و (د) : ظاهرا.

(٦) سقط من (ب) : الله. وفي (أ) و (ج) : المنكر والعصيان.

٢٤٣

[وجوب الإنكار أو الهجرة]

فما بال من أبرّ وأطاع فلم يعص ، وحلول دار كل ظالم متعدّ لص ، لا يؤمن ليله ولا نهاره ، ولا تسترّ عمّن حالّه أسراره ، في عصيان الله (١) ومشاقته ، ولا يخفى عنه ولا يتوارى ، مجاورا لمن (٢) أسخط الله فيها لما يراه (٣) قاهرا ظاهرا ، لا ينكره منه بلسان ولا يد ، ولا يقوم لله فيه بدفاع ولا ردّ ، ذليلا بين أظهرهم وفي جورهم ، محكّما لهم على نفسه في فجورهم ، (٤) إن كذّبهم في افترائهم على الله كذّب ، وإن باينهم بمخالفة (٥) في الله صلب أو عذّب ، غير ممتنع منهم بغلب ولا معازّة ، ولا مهاجر (٦) عنهم إلى دار عزّ أو مفازة ، من فلاة ولا جبل وعر ، أو بعد أو مهرب أو مستتر ، (٧) يستره عنهم ومنهم ، ويفرق ما بينه وبينهم ، مع ما وسّع الله لمن صدقت إرادته لله من المهارب ، وما جعل الله في أرضه لمن هاجر في سبيله من المذاهب ، التي فيها لمن (٨) ظلم وتعدى مساءة وإرغام ، ولمن أسلم نفسه إلى الله هدى وإسلام ، كما قال الله سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠) [النساء : ١٠٠].

[التمييز بين أولياء الله وأعداءه]

فكل ما ذكرنا من الجوار والمقاربة ، والإكرام والتواد والمحابّة ، والنصر والولاء ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الله. فيها (زيادة).

(٢) في (ب) و (د) : من سخط.

(٣) في (أ) و (ج) : يرى.

(٤) في (ب) : جورهم (مصحفة).

(٥) في (أ) : لمخالفتهم لله.

(٦) المعازّة : المغالبة. وفي (أ) و (ج) : ولا مهاجرا (وهو خطأ).

(٧) في (ج) : أو مستر.

(٨) سقط من (ب) : لمن.

٢٤٤

والبر والإخاء ، فحكم الله جل ثناؤه في أوليائه ، ثم حكم الله سبحانه (١) بعد في أعدائه ، بخلاف ما حكم به للأولياء ، (٢) تفريقا بين مفترق الأشياء ، كما قال جل جلاله فيما نزل من الفرقان : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) [ص : ٢٨] ، وقال سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) [القلم : ٣٥ ـ ٣٦] ، وقال تبارك وتعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨) [السجدة : ١٨] ، فلم يسو بينهم عند ذي علم ، في اسم منه لهم (٣) ولا حكم ، وكان حكمه تبارك وتعالى على أعدائه ما (٤) لا يجهله ذو علم ، من لعنته وإخزائه ، ومقته لهم وإقصائه (٥) ، وما حكم به من هجرتهم على أوليائه ، وما وكّد على العباد من فرضه ، في مجانبه كل مجرم وبغضه ، وما أوجب الله على الأبرار ، من الهجرة للظالمين في المحل والدّار ، وما ألزم الظالمين من الصّغار والذل ، وما حكم به على بعضهم في ظلمه من القتل ، وعلى بعضهم من القطع والصلب ، وعلى بعضهم من السجن وألوان النكال والضّرب ، وما أوجب الله على الظالمين من الخزي في الظلم ، وما حكم به عليهم في ذلك من الحكم ، فما لا يعمى عنه من نوّر الله قلبه في معرفة الحق بضياء ، ولا يخفى على محجوج من الخلق (٦) فيما يخفى عليه من الأشياء ، ولا يحق لمن جهله حقيقة الإيمان ، ولا يتم لمن عطّله مثوبة الإحسان ، بل يحيط الله عمله ، بما جهل منه وعطّله.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : حكم الله سبحانه.

(٢) في جميع المخطوطات : لأوليائه. لكنه ظنن في (د) : ب (للأولياء) ، ولعله الصواب.

(٣) سقط من (ب) و (د) : لهم.

(٤) سقط من (ب) : ما.

(٥) في (ب) : وقضائه (تصحيف).

(٦) سقط من (أ) و (ج) : من الخلق.

٢٤٥

[التحذير من موالاة أعداء الله]

ومن صار لعدوّ من أعداء الله ، إلى محبّة أو موالاة ، أو مسالمة أو مراضاة ، أو مؤانسة أو موادّة أو مداناة ، أو مقاعدة أو مجاورة أو اقتراب ، فضلا عن توادّ أو تحابّ ، فقد باء صاغرا راغما من الله جل ثناؤه بسخطه ، وهلك في ذلك بهلكة عدوّ الله وتورط من الهلكة في متورّطه ، وكان في الإساءة والجرم مثله ، وأحله الله في العداوة له محلّه ، وجعله الله لموالاته لمن عاداه ، ولم يصر إلى ما أمره الله به من تقواه (١) ، ونسبه لموالاته لهم إليهم ، وحكم عليه بما حكم به من السخط واللعنة عليهم ، فرحم الله امرأ ، أحسن (٢) لنفسه نظرا ، فسمع في ذلك عن الله وقيله (٣) ، واتبع ما نزله الله في ذلك من تنزيله ، فإنه يقول سبحانه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) [النساء : ١٢٢] ، ويقول أيضا في الكتاب : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، وقد قال سبحانه في فريضته هذه بعينها ، وما نزل به سبحانه (٤) كتابة من تبيينها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة : ٥١] ، فأخبر سبحانه أنه من والى من الفريقين من عادى ، فليسوا ممن (٥) وهبه الله ولا أعطاه الهدى ، لجهلهم بحكم الله في ذلك عليهم ، وجعلهم بموالاتهم (٦) لهم منهم ونسبهم إليهم ، ودعاهم بموالاتهم (٧) لهم كما دعاهم ظالمين ، فتبارك الله أحكم الحاكمين ، الذي لا يعتريه وهم ولا جور في حكمه ، ولا يحاط إلا بما شاء من علمه، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ

__________________

(١) في المخطوطات : تقواه منهم. ولعل (منهم) زيادة ، والله أعلم.

(٢) في (أ) و (ج) : نظر.

(٣) في (ج) : وقبله (مصحفة).

(٤) سقط من (أ) : سبحانه.

(٥) في (ب) : بمن.

(٦) في (ب) و (د) : لموالاتهم.

(٧) في (ب) و (د) : لموالاتهم.

٢٤٦

الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥) [القصص : ٨٥] ، ولا يحكم (١) سبحانه في صغير من الأمور ولا كبير كما يحكم الذين لا يعلمون ، ولكنه يقضي الحقّ وهو خير الفاصلين ، ولا يغفل في الأشياء كغفلة الغافلين ، فيتناقض حكمه وأمره ، ويسوء بتناقض أو خلاف ذكره.

[مرض القلوب]

ثم دل سبحانه على خفي مرض قلوب الموالين ، لمن أمر بمعاداته وهجرته من الظالمين ، فقال سبحانه : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢) [المائدة : ٥٢] ، فنبأ سبحانه بما كانوا يقولون ، وبإحباطه ما (٢) كانوا يعملون ، وأنهم بموالاتهم لعدوّ المؤمنين ليسوا منهم ، وبيّن الله للمؤمنين ما كانوا يسترون من ذلك عنهم ، فأما ما ذكر الله من مسارعتهم فيهم ، فهو [ما] كان بيّنا غير مستور يرونه (٣) بمعاملتهم لهم ومصيرهم إليهم ، مقبلين في كل وقت ومدبرين عليهم ، ألا تسمعون (٤) لقول الله سبحانه (فَتَرَى) ، ولا يرى صلى الله عليه إلا ما كان له معاينا مبصرا ، فأما مرض قلوبهم ، وما (٥) كانوا يخفون من عيوبهم ، في الشك والارتياب والحيرة ، وما كانوا عليه للدنيا (٦) من الحب والأثرة الكبيرة ، فإنما يتبين عند ما يأتي به الله المؤمنين من النصر والفتح ، فعند ذلك بالحسرة والندامة يفتضح من المرتابين كل مفتضح : ف (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ

__________________

(١) في (أ) : لا يحكم.

(٢) في (ب) و (د) : لما.

(٣) في (أ) و (ج) : ويرونه.

(٤) في (ب) : ألا يسمعوا.

(٥) في (ب) : وكانوا.

(٦) في (ب) : من الدنيا.

٢٤٧

(٥٣)) [المائدة : ٥٣] ، فخسّرهم الله أعمالهم ، وصيّرهم بموالاتهم لهم مثلهم (١) كافرين ، وقال سبحانه بعد هذا من أمره كله للمؤمنين ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥٤) [المائدة : ٥٤] ، فأخبرنا سبحانه أنه لن يحبه ولن يحب ، ولن (٢) يزكو عنده ولم يطب ، من لم يذل لأوليائه ، ويعز على أعدائه.

[مجالسة الظالمين مهلكة]

فلعمر أبي من جاور عدو الله من الظالمين ، ما عز عليهم ولكنه كان لهم من الأذلين ، ولعددهم في محلهم من المكثرين ، ولدار ظلمهم بحلولها (٣) من العامرين ، فنعوذ بالله من الشقوة في الدين ، والمكابرة لما جاء فيه عن الله من اليقين.

فحذّر ـ سبحانه من والاهم ، بمودة أو مجاورة فداناهم ـ الارتداد ـ بذلك من موالاتهم عن دينه ، ومن قبل ذلك ما أخبر بمرض قلبه في يقينه ، وكيف لا يكون من والاهم مرتدا إليهم ، وقد حكم الله عليه بحكمه عليهم ، (٤) فكفره بموالاته لهم ككفرهم ، وأمره في الكفر لنعم الله أمرهم ، وكيف لا يكون في الكفر كهم ، وقد جعله تبارك وتعالى مثلهم ، فقال سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] ، فجعلهم الله سبحانه في موالاتهم لهم من المنافقين والكفار ، وأحلّهم جميعا كلهم محل أهل النار. وما ذكر الله عنهم ، ولا سخط سبحانه منهم ،

__________________

(١) سقط من (ب) : مثلهم.

(٢) سقط من (ب) : ولن.

(٣) في (ب) : يحلوها (مصحفة).

(٤) سقط من (ب) : وقد حكم الله عليه بحكمه عليهم.

٢٤٨

عند ذكره في الولاية لهم ، سوى ما ذكر من الموالاة ، بالمقاعدة والمداناة ، فكيف من رمى إليهم بإخائه ووده؟! وكثّر عددهم بشخصه وعدده؟ وعمر ديارهم وأسواقهم ومحافلهم بمحله وابتنائه ، فلعله بذلك أنفع لهم ممن خصهم بودّه وإخائه ، فهو عامر لهم ومكثّر ، وولي لهم من حيث لا يشعر ، فهم خيرته وأولياؤه ، وفيهم مسكنة وثواؤه (١).

وقد قال الله للمؤمنين جل ثناؤه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) [المائدة : ٥٥ ـ ٥٦] ، فبرّأهم الله (٢) عزوجل من ولايته وحزبه ، وولى كل امرئ (٣) منهم ما هو أولى به ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥) [النساء : ١١٥].

ثم قال سبحانه بعقب ما قدّم في الولاية من الآيات ، وأوضح فيما أمر به فيها من البينات ، تكريرا لنهيه عن موالاة الظالمين وترديدا ، وتوكيدا لحكمه في مجانبة دار المعتدين وتشديدا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥٧) [المائدة : ٥٧].

فما ارتكب الظالمون من قتل الأبرار وصلبهم ، أكبر عند الله أضعافا مضاعفة من الاستهزاء بهم ، والتلعب بالأنبياء ، كالتلعب والاستهزاء بما جاءوا به من الأشياء ، وكذلك التلعب بأولياء الله ، كالاستهزاء بالدين عند الله ، ولذلك (٤) أخبر الله سبحانه أنهم إن لم يكونوا لمن عاداه من المعادين ، فليسوا لما ينتحلونه من الايمان (٥) بمستحقين ، ولا في دعواهم له وتسميتهم به من المصدّقين ، ولا فيما أوجبه عليهم من هجرة من

__________________

(١) ثواؤه : مقامه.

(٢) سقط من (ب) : الله.

(٣) سقط من (ب) : إمرئ.

(٤) في (ب) و (د) : وكذلك.

(٥) في (ب) : ينتحلونه من المستحقين.

٢٤٩

ظلم وتعدى من المتقين ، بل حالهم في ترك ما حكم عليهم من ذلك حال من جهل واستهزأ ، وأعرض عما أمر به من تقوى الله فيه طغى وتعززا ، كما قال الله سبحانه فيما هو أقل من هذا قلة ، وأصغر عنده قدرا ومنزلة ، من الظلم والاعتداء ، فيما طلّق من النساء : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١) [البقرة : ٢٣١].

وقال سبحانه فيمن تعزز واعتدى ، وأبى ما دعي إليه من التقوى والهدى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦) [البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦] ، فيكون ـ عند من يعقل مستهزئا ، وظالما في الدين متعديا ـ من أمسك وهو يعول ويمون زوجته وهي [ا] مرأته (١) ضرارا ، ومن قيل له اتق الله فتعزز على قائلها وأدبر نفارا ، أو لا يكون من ترك حكم الله فيما تلونا من الآيات ، من المستهزئين (٢) المتعززين المعرضين العتاة؟! كلا لن يكون أبدا ذلك ، إلا عند كل (٣) عميّ كذلك.

ألا تسمعون لقول الله سبحانه ، فما أوضح حجته وبيانه (٤) : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] ، فجعلهم كهم ومثلهم ، ولم يعملوا

__________________

(١) في (أ) : مرته. وفي (ب) و (ج) و (د) : مرأته.

(٢) في (أ) : المستهزءين.

(٣) في (ب) و (د) : عند من.

(٤) في (ب) : حججه وبرهانه. وفي (د) : حججه وبيانه.

٢٥٠

في كل أمر عملهم ، فكيف يكونون مستهزئين كافرين؟! إن لم يكونوا كهم كفرة مستهزئين ، هذا ما لا يجهل ـ والحمد لله (١) ـ بيانه ، من أوضح الله عنده للحق برهانه.

ومن أين يقوم من لم يؤدّ فريضة الله في هجرة دار الظلم ، بما حكم الله به على الظالمين من الحكم ، في القتل والقتال ، وما يجب عليهم من الانكار في معصية ذي الجلال ، لذلك أعزّ عليه عزة ، ولهو فيه أكثر معجزة ، (٢) والله المستعان فيما يكون وما كان ، ونسأل الله العفو والغفران ، لما مضى من صحبتنا للظلم والطغيان ، بحلول دور أهل الفجور والعدوان.

فمن رأيتم ـ وفقتم وهديتم ـ صحب ما يكره من الأمور ويشنأ ، (٣) أو جاور منكم أو من غيركم ما لا يرضى ، وهو يجد منه بدا أو عنه مندوحة ، وله إلى هرب منه سبيلا أو طريقا مفتوحة ، أو تخشون ألا يكون من جاور ورضي بالمقام ، سخط ما يسخط الله جل ثناؤه من الظلم والآثام ، بل (٤) يخافون ألا يكون من فعل ذلك وجد مسّ عدم الاسلام (٥) ، فهو سليم لتلك ولجهله بها مما مسّ أهله (٦) لعدمه من الآلام.

فنعوذ بالله من الرضى بسخطه ، ومن كل موالاة لمسخطه ، (٧) فإنه لا نجاة لأحد مع موالاتهم ، التي منها ما ذكرنا من جوارهم ومداناتهم.

ولما (٨) أراد الله برحمته من نجاة أوليائه ، نهاهم وأكد وردد نهيهم عن موالاة أعدائه ،

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : والحمد لله.

(٢) أي : عجزا.

(٣) ينشأ من الشنآن هو : البغض والقلى.

(٤) في (ب) : بل لا يخافون (زيادة).

(٥) في (أ) و (ج) : حس. والمعنى على هذا غير واضح. ولعل كلمة (عدم) زائدة. ويكون المعنى على هذا : أنه لم يجبر طعم الإسلام.

(٦) في (ب) فما. وأهله أي : أهل الإسلام.

(٧) في (ب) و (د) : موالاة لأهل عداوته وسخطه.

(٨) في (أ) : وبما.

٢٥١

فلم يسهل سبحانه فيها ، ولا فيما نهى عنه منها ، لمؤمن في أبيه ولا أخيه ، ولا في أحد من أقربيه (١) ، وأزال ـ عمن والى منهم أحدا ، أو منحه في جدّ أو هزل ودّا ـ الإيمان بالله واليوم الآخر ، وجعله بهما وفيهما كالكافر ، فقال سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) [التوبة : ٢٣] ، فأنزل سبحانه بتظليمه لهم في ولايتهم إياهم وحيا ، ثم قال تبارك وتعالى بعد للمؤمنين تقدما ونهيا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) [آل عمران : ٢٨]. فأخبر سبحانه كل برّ تقي ، أن من والى من كفر أو ظلم فليس منه في شيء ، لا في ولاية من الله ولا ارتضى ، ولا في برّ عند الله ولا تقى.

ثم قال في آخر نهيه للمؤمنين ، عما نهاهم عنه من موالاة الكافرين : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) [آل عمران : ٣٠] فدل سبحانه بقوله : (رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ، على أن موالاة أهل الكفر والفساد ، من مساخطه العظام الشداد ، إذ كان الرءوف الرحيم ، لا يسخطه إلا الذنب العظيم.

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) [النساء : ١٤٤]. فأخبر سبحانه أن ذلك منهم إن لم يفعلوه (٢) تقاة نفاق ، وأنه منهم ظلم وكفر وشقاق ، وأنهم كهم كفار ، وأن مصيرهم جميعا إلى النار ، لكفرانهم وفسقهم ، وعصيانهم

__________________

(١) في (ب) : أقرابيه. وفي (أ) : أقاربيه.

(٢) في (أ) و (ج) : إن فعلوه.

٢٥٢

ونفاقهم.

ولو كان المنافقون الذين ذكر الله غيرهم ، لما صيّرهم من الدرك الأسفل (١) مصيرهم ، ولما كان في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ، لهم من موعظة ولا معتبر ولا تحذير ولا ازدجار ، ولكان القول في ذلك ، لو كان القول كذلك ، كالقول في (٢) فرعون وهامان وقارون ، هم فجرة ظلمة كافرون ، فما كان يكون في هذا لو كان من نذير ، أو تعبير أو موعظة لأحد أو تذكير.

وكيف ينكر من آمن بالله أن يكونوا كافرين لنعم الله؟! ومنافقين في دين الله ، أو يزال النفاق والكفر عنهم ، وقد جعلهم الله بولايتهم لهم منهم ، ونسبهم في منزل كتابه إليهم ، فاسم النفاق والكفر واقع عليهم ؛ لأن من كان من قوم أو دين أو حكم ، لزمه ما يلزمهم من حكم (٣) واسم.

فأما قوله جل ثناؤه في الآيتين (٤) : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤٤] ، فإن من تأويل من دونهم عندي ووجوه فهمه والله أعلم فيهم ، تعريجهم ونزولهم من دون المؤمنين عليهم ، وحلولهم بالمجاورة لهم بين أظهرهم ، واختلاطهم في المعاملة بهم ، لما في المعاملة ، من لين التراجع والمقاولة ، وما يكون في ذلك ، إذا كانوا كذلك ، من زوال الغلظة ، والاشتغال عن العظة ، وقد أمر الله تعالى جده (٥) ، ووجب في كل حكم حمده ، بالعظة لهم ، والغلظة عليهم ، كما أمر بقتالهم ، والمجانبة لأعمالهم ، فقال سبحانه لرسوله ، (٦) صلى الله عليه وعلى آله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩].

__________________

(١) في (د) : الأسفل من النار (زيادة).

(٢) في (أ) : كالقول أن فرعون.

(٣) في (أ) : من دين واسم.

(٤) يريد الإمام : الآية السابقة ، وهذه الآية : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) [النساء : ١٣٩]

(٥) في (ب) : حده (مصحفة).

(٦) سقط من (أ) و (ج) : لرسوله صلى الله عليه وعلى آله.

٢٥٣

[مجاورة الظالمين شقاء وفتنة]

وقال سبحانه فيمن تعدى أمره وحكمه : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) [النساء : ٦٢ ـ ٦٣]. ومن الإعراض ما ذكرنا من الهجرة والمصارمة (١) ، ومنها أيضا فرفض للمخاطبة والمكالمة ، والغلظة فمنها العظة وهي من يسيرها وقليلها ، لا من كثيرها وجليلها ، فكيف يكون مغالظا؟! من لم يكن لمن ظلم واعظا! وكيف يكون مهاجرا لمن ظلم مجاهدا؟! من كان مؤاكلا له أو معاملا أو مقاعدا! لا كيف وإن عارض فيه (٢) معارض بتحيير أو تشبيه ، أو شبّه فيه على جائر بضروب من الحيرة والأماويه ، (٣) أما يسمعون لقول الله جل ثناؤه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) [التوبة : ١٢٣]. فأمرهم سبحانه بالغلظة في القتال والمقال على الكافرين.

وكيف يعقد لهم سبحانه حرمة الجوار؟! وقد أوجب ما أوجب من حقوق الجار! وأمر بالإحسان إليه ، والإفضال عليه ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦] ، فلو كان الأمر في هذا (٤) كما ظن من يجهل لكان هذا تناقضا في أحكام الرب ، ولكنه سبحانه أوجب عليهم حقوق الجوار ، بعد أن أمرهم (٥) بمهاجرة الكفار.

__________________

(١) المصارمة : المقاطعة.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : فيه.

(٣) في (ب) و (د) : والإبادية (مصحفة).

الأماويه : التلبيسات والمخادعات.

(٤) سقط من (ب) : هذا.

(٥) سقط من (ب) : أن.

٢٥٤

وكيف (١) يؤكّد لمن كفر حق الجوار على المؤمنين وحرمه (٢)؟! وقد أمر أن يقاتلوا من كفر ويسفكوا دمه ، إن في هذا من الاختلاف والبعد ، لما (٣) لا يخفى على من وهبه الله أقل الرشد ، فنعوذ بالله من الحيرة في دينه ، ومن الضلالة بعد هداه وتبيينه ، عمي من (٤) خالف حكم الله في هجرة دار الظالمين بهواه ، فأسلمه الله إذ (٥) اتبع الهوى إلى عماه.

أو ليس بمعلوم فيما فطر الله من العقول ، وفي أقل ما يوجد بها من فهم كل معقول ، أن من جاور لأحد عدوا فحالّه ، فضلا أن يقاعده ويعامله ، فقد أغضبه وأساءه ، (٦) وكثّر بشخصه أعداءه ، كذلك من جاور أعداء (٧) الله ، فهو من المغضبين لله ، بغير ما شك في حجة (٨) الألباب ، وقبل ما نزّل الله في ذلك من الكتاب.

فكيف بمن اغتر وخدم؟! وجالس وحدّث وكلّم ، وجاء وذهب ، وأجلب وركب ، وتفقد المجالس والخلوات ، وألمّ بحواضر الحفوات (٩) ، فراح وبكّر واغتدى ، وظل وبات ساهرا كمدا ، مراقبا في مجالسهم ومقاعدهم للقوت ، قد أغفلته مراقبة ذلك (١٠) عن كل سقم أو موت ، فكأنه لا يخطر بباله للدنيا زوال ولا فناء ، ولا يتوهم أنه يكون له إلا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فكيف.

(٢) في (ب) : وجرمه (مصحفة).

(٣) في (ب) و (د) : ما لا يخفى.

(٤) في (ب) و (ج) : عمّن (مصحفة).

(٥) في (ب) : إن (مصحفة).

(٦) في (ب) و (د) : وأسأه.

(٧) في (ب) عدوا.

(٨) في (أ) : في فطرة.

(٩) في (ج) : بحواطر. والحواضر ربما تكون جمع حضرة ؛ لأني لم أقف عليها في المراجع اللغوية الموجودة. والحضيرة جماعة القوم ، أفاده في اللسان وقد تكون من الحضور أي الشهود. وفي (أ) و (ب) و (ج) : الجفوات ، ويبدو لي أنها مصحفة ، والحفوات : جمع حفاوة ، المبالغة في الإكرام والكلام واللقاء الحسن. أفاده في اللسان.

(١٠) سقط من (ب) : ذلك.

٢٥٥

من الظالمين سعة وغناء ، فهو متدلّه (١) إليهم حرّان ، متأوه عليهم لهفان ، قد شغله ما هو فيه من الحسرة ، عما هو سائر إليه (٢) من دار الآخرة ، يروح دائبا ويبكر ، ويقبل أبدا ويدبر، في مواكب الظلم والظلمة ، لا يتكلم في إنكار ظلمهم بكلمة ، يضحك معهم إن ضحكوا ، ويتباكى لهم إن بكوا ، غرق (٣) في الغفلة غرقهم ، يرى في كل حين فسقهم.

أفيعدّ هذا لله وليا؟! أو من الظلم لنفسه بريا ، ما يبريه (٤) من ذلك ، أو يعده كذلك ، إلا من جهل أمر ربه ، وضلّل الله صميم قلبه ، فما جهل بعد توحيد الله أعظم ، ولا جرم في دين الله أجرم ، من جهل من جهل ما حكم به من هجرة الظالمين ، ونهى عنه جل ثناؤه من مجاورة المعتدين ، لما وكد الله من ذلك في وحي الكتاب ، وما أقام به وفيه وعليه من حجة الألباب ، وما هاجر قوما من حالّهم في بلدهم ، وكان مكثّرا بشخصه فيها لعددهم ، فيأوي منها وفيها مأواهم ، ويروح ويغتدي مقبلا ومدبرا مغدّاهم ، فكلهم في بلد العدوان معه ، قد جمعهم من مأوى الطغيان ما جمعه ، يجمعه من أكثر (٥) الأمور فيها ما جمعهم ، (٦) منتفع بحلول دار الظالمين بما نفعهم ، عامر لها من الحلول فيها بما عمروا ، ومكثر لعدد أهلها بما فيها كما (٧) كثروا ، وبحلول من حلّها وأوى إليها ، كثرت معاصي الله سبحانه فيها ، فبلد أهل الطغيان لكلهم بلد ، وجميعهم في حلولها وتبوئها (٨) فواحد ، وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (من كثر

__________________

(١) في (أ) و (ج) : متدالة. والتدلّه : ذهاب الفؤاد من همّ أو نحوه ، وحران : محترق القلب. وفي (ب) و (د) : حزان (مصفحة).

(٢) سقط من (ب) : إليه.

(٣) في (ب) و (د) : غرقا.

(٤) في (ب) ما يبره (مصفحة).

(٥) في (ب) : بأكثر.

(٦) في (أ) و (ج) : ما يجمعهم.

(٧) في (ب) : لما (مصحفة).

(٨) في (ب) : وثبوتها (مصحفة).

٢٥٦

سواد قوم فهو منهم) (١). ومن ذلك حكم الله على المؤمنين بالهجرة للكافرين والزوال عنهم.

فاسمعوا هديتم لما وكد الله من المهاجرة ، التي من قبلها ترك المجاورة ، فقد سمعتم نهيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن مقاعدة من خاض في آياته ، مع ما ذكرنا من نهيه للمؤمنين عن مقاعدة من كفر به ، وما أمر الله به رسوله من الاعراض عمن تولى عن ذكر ربه ، والاعراض أوكد وأقل من المقاعدة والمجالسة (٢) ، لأن من أعرضتم عنه فقد هجرتموه وقطعتم بينكم وبينه كل (٣) مؤانسة.

فكيف تسع أحدا المجاورة لهم والمحالّة ، هذا ما لا يصح به في المعقول مقالة ، يقول الله لا شريك له ، لرسوله صلى الله عليه وعلى آله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) [الأنعام : ٦٨] ، ويقول سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠]. فكيف يكون معرضا عنهم؟! وهو مجاور لهم والجوار حرمة بينه وبينهم.

__________________

(١) ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ١ / ١١٧٠ بلفظ : من كثر سواد قوم فهو منهم. والزرقاني في مختصر المقاصد ١ / ١٠٧٠ ، والسيوطي في ذيل اللآلئ ٤ / ٥٣٦٧ بلفظ : من سود اسمه مع إمام جائز كان قرينه في النار. وأخرجه الخطيب في تاريخه ١٠ / ٤٠ (٥١٦٧) بلفظ : من سود مع قوم فهو منهم ومن روع مسلما لرضا سلطان جيء به يوم القيامة معه. ورواه السيوطي في الجامع الصغير ٦ / حرف الميم برقم (٨٧٦٢) وقال : أخرجه الخطيب.

(٢) في (ب) : المحاسة (مصحفة).

(٣) في (ب) : وكل (مصحفة).

٢٥٧

[طرد النبي للمتشبهين بالنساء]

فلم يكن صلى الله عليه يساكن ، ولا يجاور ولا يقارن (١) ، إلا من آمن بالله ، وكان وليا لله ، ولقد نفى صلى الله عليه غير واحد من أهل ملته ، ممن جاوره بفسوق في محل هجرته ، فمن ذلك مخنّث (٢) كان في المدينة كان فيه لين وتكسير ، فنفاه من المدينة إلى جبل من جبالها يقال له عير ، (٣) فابتنى في ذروة الجبل كنّا ، وكان الجبل وعرا خشنا ، فلم يزل ذلك الكنّ له مسكنا حتى مات رحمه‌الله (٤). وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما حضر موته ، وقد كانت حسنت توبته ، حتى دعي في أيام عثمان ، ولا أحسبه إلا وقد دعي قبل ذلك فيما كان لأبي بكر وعمر من الأيام ، إلى المدينة والتحول إليها وترك

__________________

(١) في (أ) : ولا يقارب (تصحيف).

(٢) في (ب) : في من (مصحفة). والمخنث : ـ بكسر النون وبفتحها ـ من يشبه النساء في حركاته وكلامه. والمشار إليه : اسمه هيت وكان من سبب نفيه ما روي أنه كان يدخل على نساء النبي (ص) فدخل يوما دار أم سلمة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها ، فأقبل على أخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، وقال : إن فتح الله عليك بالطائف غدا فعليك ببادية بنت غيلان بن معتب فإنها مبتلة هيفاء ، شموع نجلاء ، إن قامت تثنت ، وإن قعدت تبنت ، وإن تكلمت تغنت ، تقبل بأربع وتدبر بثمان ، مع ثغر كالأقحوان ، وثدي كالرمان ، أعلاها قضيب ، وأسفلها كثيب ، وبين رجليها كالقعب المكبوب ، فهي كما قال قيس ابن الحطيم :

تغترق الطرف وهي لاهية

كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها

قصد فلا جبلة ولا قضف

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع كلامه : لقد غلغلت النظر ، ما كنت أحسبك إلا من غير أولي الإربة ، وكان رسول الله (ص) يضحك من كلامه ويظن ذلك نقصا من عقله ، فلما سمع منه ما سمع ، قال لنسائه : لا يدخل هيت عليكن. وأمر أن يسير إلى خارج. فبقي هنالك حتى قبض رسول الله (ص) ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى أن يرده ، فقيل له : إنه قد كبر وضعف واحتاج ، فأذن أن يدخل كل جمعة. قيل : ويرجع إلى مكانه.

أخرجه البخاري فتح الباري ٩ / ٢٧٤ ، وأبو داود ٢ / ٧٠٠ رقم (٤٩٤٩).

(٣) في (أ) : ثبير. وعير وثبير وجبلان ، عير بالمدينة وثبير بمكة.

(٤) في (ب) حتى توفي رحمة الله عليه ، فلما. وفي (ج) و (د) : حتى مات وتوفى رحمة الله عليه.

٢٥٨

المقام ، (١) فكان يقول لكل من قال له (٢) ذلك كلا والله ، لا أزول عن موضع صيرني إليه رسول الله ، حتى تنقضي فيه حياتي ، وتحضرني به وفاتي ، فقال له عند الموت بعض الصالحين : يا فلان أتحب أن نحدرك من هذا الجبل الوعر فندفنك مع المسلمين ، فقال : لا تدفنوني والله إلا بحيث صيرني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقبره ومسكنه الذي كان يسكنه معروفان اليوم بظهر الجبل.

مع ما حكم به صلوات الله عليه من نفي الزاني البكر سنة ، مع ما حكم الله به على المحاربين بالنفي ففي ذلك كله عبرة لمن يعقل بيّنة ، وقد قال الله سبحانه ، لرسوله صلوات الله عليه ورضوانه : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥) [الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥] ، وقال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣) [هود : ١١٣].

والركون ، فقد يكون السكون ، فأي ركون أركن ، أو سكون أسكن ، بعد الإخاء والمحابّة ، من الجوار والمساكنة ، فمن جاور وساكن ، فقد ساكن وراكن ، عند من يعرف لسان العرب ، فضلا عما في ذلك من بيان الرب ، جل ذكره ، وعز أمره.

هذا حكمه جل ثناؤه على رسوله فيمن كفره ، وتعدى أمره ، فلو (٣) سهّل الله سبحانه لأحد في هذا أو مثله ، لسهّل لرسوله صلى الله عليه وعلى آله ، (٤) ولكان رسول الله صلى الله عليه أولى بالتخفيف فيه والتسهيل ، فاسمعوا ـ هديتم ـ لما حكم به من الهجرة في الوحي والتنزيل ، على الرسول صلى الله عليه (٥) وعلى المؤمنين ، وما

__________________

(١) في المخطوطات : وترك المقام فيها. زيادة (فيها) وهي زيادة مغيرة للمعنى. لأنه دعي لترك الجبل والتحول إلى المدينة والمقام فيها ، لا ترك المقام فيها. إضافة إلى السجعة قبلها (الأيام) فهي تؤكد أن آخر العبارة (المقام).

(٢) في (أ) : من قال ذلك له.

(٣) في (ب) : لو.

(٤) في (أ) و (د) : وعلى أهله.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : صلى الله عليه.

٢٥٩

أمره به وإياهم من مهاجرة الظالمين ، قال الله لا شريك له ، وهو يأمر رسوله صلى الله عليه وعلى أهله ، (١) بالصبر على ما حمّله ، وعلى ما يقول أهل الكفر له : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) [المزمل : ١٠] ، فأنزل الله (٢) عليه بمهاجرته لهم أمره تنزيلا.

ومن الهجر (٣) لهم الجميل ، ما أمر الله به في الوحي والتنزيل ، من النقلة عنهم ، والبعد والانتياء (٤) منهم ، وهو صلى عليه كان فيه أولهم ، وأسبقهم في الهجرة لهم ؛ لأنهعليه‌السلام هاجر قبلهم ، والبلد يومئذ بلده ، وبها أهله ومولده ، مؤثرا في ذلك كله لله بهجرته ، وصائرا إلى أمر الله له بذلك وخيرته ، وما ذكرنا من أمر الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ، بالهجرة للظالمين ، فما لا يجهله والحمد لله علماء المؤمنين ، ولا يحتاج في ذكره إلى تكثير ، لما فيه من الغناء عن كل تفسير ؛ لأنه تنزيل من الله غير تأويل ، فبيانه عند من وفقه الله بيان (٥) التنزيل.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : صلى الله عليه وعلى آله.

(٢) سقط من (ب) و (ج) و (د) : الله.

(٣) في (ب) و (ج) : الهجرة.

(٤) الانتياء : البعد. من النأي.

(٥) في (ب) و (د) : لبيان التأويل (مصحفة).

٢٦٠