مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

لا تعقب عقبا (١) ، ولا تنسل عقبا ، من ولد ولا ذرية ، ولا يرجع بعاقبة مؤدية (٢). وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

تفسير سورة عبس

قال أبو عبد الله [محمد بن القاسم] : سألت أبي القاسم بن إبراهيم عليهما‌السلام ، عن معنى قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢))؟

هذا تأديب من الله تبارك وتعالى لرسوله أن لا يعبس في وجه الأعمى ، الذي يأتيه يطلب منه الاسترشاد والهدى ، والأعمى هاهنا : أعمى القلب ، وقيل في ذلك : إن الأعمى أعمى البصر ، قالوا : هو ابن أم مكتوم ، أتى النبي يطلب منه الهدى فأعرض عنه(٣) وليس ذلك كذلك.

ومعنى (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) هو : عبس وتولى بكليته ، (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢)) في معنى حين ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)) هو : تعريف من الله أنه يعلم الغيب ، وأن الرسول لا يعلمه ، ومعنى (يَزَّكَّى) هو : يتزكى.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)) ، معنى (أَوْ يَذَّكَّرُ) : يعرف فتنفعه المعرفة.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)) هذا تأديب للنبي صلى الله

__________________

(١) في (أ) : بها يعقب تعقبا.

(٢) عن أبي خالد عن الإمام زيد عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) معناه : بسطها وكذلك دحاها.

وقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) معناه : بيّن لها.

وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) معناه : من أصلحها (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) معناه : أغواها ، وقوله تعالى (وَلا يَخافُ عُقْباها) معناه : لا يخاف تبعة من أحد. غريب القرآن / ٣٩٢.

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام في قوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بين لها ما تأتي وما تترك (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي من أصلح ، و (مَنْ دَسَّاها) أي من عصى. مجمع البيان للطبرسي ٦ / ١٥٣.

(٣) أخرجه الترمذي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عائشة. الدر المنثور ٨ / ٤١٦.

١٢١

عليه وآله وسلم أن لا يجلّ من سمع بغناه ولو كان كافرا ، ولا يستحقر من سمع بفقره إن (١) كان مهتديا.

وقد يكون هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرا لصلاح الأمة في الإقبال إلى من كان معه غنى ، ثقة بديانة الفقير ، واتكالا على صحته في الدين.

ومعنى (تَصَدَّى) : تقبل عليه.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧)) من جهة النظر ، وهذا ـ والله أعلم ـ ليس للرسول ولكنه مثل للتعريف والتأديب.

ومعنى (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨)) يبادر (وَهُوَ يَخْشى (٩)) يتخشع (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)) تتشاغل.

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١)) معناه : نعم إنها تذكرة ، وكلا هاهنا بمعنى نعم ، وليست بمعنى (لا) (٢) كغيرها ، (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢)) معناه : فمن شاء تعرّفه تفقه في معرفته على الاستطاعة التي ركبت ، وقد خص في ذلك خواص ، وشرح فيه شرح كثير يستغنى عنه.

(فِي صُحُفٍ) في كتب مبيّنة (٣) ، (مُكَرَّمَةٍ (١٣)) معظمة ، (مَرْفُوعَةٍ) مصونة (مُطَهَّرَةٍ (١٤)) منقّاة من الدنس الذميم ، ومخصوصة بكل فضل كريم ، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)) الملائكة عليهم‌السلام ، (كِرامٍ) مكرمين (بَرَرَةٍ (١٦)) صادقة القول ، (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧)) معناه : لعن الإنسان ما أشرّه! والإنسان معناه : الناس ، يخص بذلك كل كافر كما قال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)) [الانفطار: ٦]. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)) معناه : على تقليل النطفة ، في معنى أنها لا شيء فصار منها شيء.

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) تذكرة له ، وتوقيفا فيما منّ به من الحياة عليه ،

__________________

(١) في المخطوط : وإن. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : (وليست بمعنى نعم لا كغيرها) ، والمعنى غير واضح على هذا اللفظ ، فحذفنا نعم.

(٣) في المخطوط : مبين.

١٢٢

(فَقَدَّرَهُ (١٩)) معناه : فسوّاه وعدله ، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)) معناه : الطريق الواضح سيّره وعرّفه ، (ثُمَّ أَماتَهُ) حكم عليه بالموت غصبا ، (فَأَقْبَرَهُ (٢١)) دل على قبر أنه في التراب ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)) معناه : حتى إذا شاء بعثه ليوم نشوره ، (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)) كلا في موضع نعم ، حتى يقضي ما أمره ، أراد يحاسب على ما أمر به من الطاعة فيحاسب على ما فرط فيه ، ويجازى بالحسنة فيه على ما فعله ، وقد يخرج ذلك على معنى : لا ما قضى. معناه : ما فعل ما أمره ولكن قصّر فيه ، وهل يكون أحد إلا وهو مقصر.

رجع إلى التعريف والتذكرة (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)) إلى مأكله ، (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)) معناه : أنزل الماء من السحاب ، وشق الأرض به ، وبالاغتصاص بشربه (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)) حبا من الحبوب ، (وَعِنَباً) من ألوان صنوف العنوب ، (وَقَضْباً (٢٨)) من القضوب ، (وَزَيْتُوناً) خاص بزيتون الشام ؛ لما فيه من البركة يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَنَخْلاً (٢٩)) المثمر للتمر وهو هذا النخل ، (وَحَدائِقَ) حوائط من كل الفواكه ، (غُلْباً (٣٠)) معناه : قوية تخرج من التراب على ثقله وتضعف نباته ، حتى تصير قوية ، (وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)) الأب : الشجر هذا الثمام ، الذي ينبت في الأسناد والآكام (١) ، ألا ترى أنه يقول : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)) الفاكهة لكم ، والمتاع والأب لكم لأنعامكم.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)) المسمعة المصخة للأنفس من هولها ، وما يرى فيها من عظمها فتصيخ لها النفوس ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) هو الإنسان (مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَ) من (أُمِّهِ) معناه : والدته ، (وَأَبِيهِ (٣٥)) الذي أولده ، (وَصاحِبَتِهِ) زوجته ، (وَبَنِيهِ (٣٦)) أولاده ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)) يعني : لكل على قدر ما قدم وأسلف فيما غبر من الدهر ، ألا ترى ما فسره حين قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) معناه : وجوه ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، (مُسْفِرَةٌ (٣٨)) معناه : ناضرة مشرقة حسنة ، وهي وجوه المؤمنين ، (ضاحِكَةٌ

__________________

(١) قال في الصحاح : الأكمة معروفة ، والجمع أكمات وأكم ، وجمع الأكم آكام ، مثل عنق وأعناق.

١٢٣

مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)) يبين لك في وجه المسفر الضحك (١) ولعله لا يضحك ، ويبين لك في وجه الكافر البكاء ولعله لا يبكي ، وبلى كم من باك ندامة! وكم من ضاحك استبشارا بما بشر به من نعم الله التامة! ومعنى (مُسْتَبْشِرَةٌ) : متباشرة بما قد رأت من علامات الخير.

(وَوُجُوهٌ) معناه : وجوه الكفرة ، (يَوْمَئِذٍ) تقدم تفسيره ، (عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠)) يعني : القتام ، يلحق وجوه الكفرة والإظلام ، (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)) تلحقها وتعلوها قترة ، والقترة فهي : الغبرة المقترة المهلكة الكريهة ، وهذا جرم ما يكون من الكسوف على الوجوه من الظلمة (٢).

ثم بيّن فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)) الكفرة : فهم الكافرون لأنعم الله ، والجاحدون لربوبيته أيضا ؛ لأن الكفر كفران ، كفر نعمة وكفر جحدان ، وكل أولئك صائر إلى سخط في عذاب أليم ، (الْفَجَرَةُ) معناه : الفجرة في الدين ، وأهل الإطراح لحقوق رب العالمين ، والافتتان فيما لا يحل لهم [من] محارم خالق الخلق أجمعين ، وقد يكون الفجور ، الارتكاب لأكبر الشرور ، من الفسق وأخبث الأخباث ، من الإتيان للذكران والإناث ، مما لم يأمر الله به ، ولم يسوغه في قرآنه ولم يثبته.

[تفسير سورة النازعات]

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)).

النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ : فهن السحائب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ، ومما في الأرض من الندوة والبخار ، وكذلك صح في الروايات

__________________

(١) في المخطوط : كالضحك. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : الوجوه والظلمة. وما أثبت اجتهاد.

١٢٤

والأخبار.

معنى (غَرْقاً) مغرقات لما أمطرن ، وكذلك المغرق من كل شيء أيضا : الناهي (١) فيه ، تقول : أغرق في النزع ، وهن (وَالنَّاشِطاتِ) في نزعهن (نَشْطاً) ، والنشط والإغراق : هو القوة في النزع والصب ، ومما ينتزع من المنتزع صكا.

ومعنى تنشط الماء : فهو تحيده وتطلعه ، ونشطا : مصدر كمصادر الكلام ، (وَالسَّابِحاتِ) هن : السحائب يسبحن في الهواء سبحا ، كما يسبح في الماء من كان سابحا يمينا ويسارا ، وإقبالا وإدبارا ، كما أراد الله عزوجل وشاء.

(سَبْحاً) مصدر أيضا ، وهن أيضا (فَالسَّابِقاتِ) بالمطر والغيث برحمة الله وفضله ، غير مسبوقات بإمساك الله للمطر لو أمسكه عن الأرض وأهلها بعدله ، وقد يكون السابقات هو : البرق ؛ لأن البرق أسرع شيء خفقا ، وأحثه اختطافا وسبقا ، والسحائب أيضا فهي (فَالْمُدَبِّراتِ) ، بما جعل الله من الغيث فيهن للشجر والثمار والنبات ، وفيما ذكرنا من هذا أعجب عجيب ، لكل ذي حكمة ونظر مصيب.

قيل : والمعنى فيه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) الملائكة.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)) الراجفة : القيامة ، سميت راجفة لهولها ، يقال : نزل ببني فلان رجفة ، والرادفة : مردفة بهول يتبع هؤلاء.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) ذلك اليوم ، (واجِفَةٌ (٨)) أراد مضطربة ، (أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)) منكسة ، (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠)) أولئك الذين كانوا يقولون ، أراد يكذبون بالرد لهم في الحافرة ، هم الذين تخشع أبصارهم وتذل ، والحافرة : التي تحفر على السرائر وتظهرها ، (إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١)) تعجب منهم أنهم لا يرجعون إذا صاروا عظاما نخرة ، والنخرة : البالية الدامرة.

ثم قالوا : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)) أرادوا : نطفة (٢) خاسرة ، رد الله تكذيب قولهم بقوله عزوجل : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣)) تحقيقا أنها كانت

__________________

(١) كذا في المخطوط ، ولم يتبين المراد بها.

(٢) كذا في المخطوط ، لعلها (مصحفة).

١٢٥

مثل للزجرة ، الزجرة ـ والله أعلم ـ مثل مضروب للحياة بعد الموت ، كما يفزع النائم بالزجرة من الصوت.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)) المتعبة لمن هو فيها ، تقول : فلان ألحق بالساهرة ، أي لم يخبر به.

قوله عزل وجل : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠)).

قال : (هَلْ) خبر من الله عزوجل ، ولفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التوقيف على الخبر والإفهام ، كأنه قال : قد أتاك خبر موسى.

ومعنى (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) فكذلك يقول الله ناداه ، وأنه أوجد كلاما به خاطبه وناجاه.

والواد المقدس : هو المكرم المنزه المعظم ، وهو طوى.

ثم قال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي : جاوز قدره وعلا وطمى ، وخرج إلى الظلم والجهل والعمى ، فقال : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل لك هو : ترغيب في الخير والهدى.

ومعنى قوله : (إِلى أَنْ تَزَكَّى) هو : الترغيب في التزكي والطهارة من قذر الدنيا ، وقبائح ما كان عليه من الكفر والردى.

ومعنى قوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي : أدلك إلى ربك ، فيدخل في قلبك الخوف لسيدك.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي : الدلالة العظمى ، ومعنى قوله : (فَحَشَرَ فَنادى (٢٣)) أي : جمع أصحابه ثم نادى ، (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)) والفاء بمنزلة ثم ، لأنهما من حروف النسق والعطف.

ومعنى قول فرعون اللعين : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) يريد : أنا سيدكم الشريف المرتفع في القدر والعلى ، والرب عند العرب : السيد ، قال الشاعر :

١٢٦

أم غاب ربك فاعترتك خصاصة

فلعل ربك أن يئوب مؤيدا

ومعنى قوله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥)) فالأخذ هو العذاب من اللهعزوجل ، عذب عدوه عذاب الآخرة والدنيا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)) هي : الموعظة والتذكرة ، قال الشاعر :

في آل برمك عبرة وعجائب

ومواعظ للعاقل المتزهد

ومعنى قوله عزوجل : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)) أي : رفع محلها وموضعها ، والسمك : هو المحل المرتفع العالي ، قال الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

معنى سمك السماء : أي رفعها ، وقال آخر :

وما إن بيتهم إن عد بيت

وطال السمك وارتفع البناء

ومعنى (فَسَوَّاها) ، أي : عدل صورتها وهيأها.

ومعنى (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)) فالإغطاش : هو الظلام.

ومعنى قوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)) هو أسكنها وأثبتها وأهدأها ، قال الشاعر :

ألقى مراسيه بتهلكة

ثبتت رواسيها فما تجري

وفي هذا الكلام تقديم وتأخير ، والتنزيل قول الله عزوجل : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ) فعل تمتيعا لكم ، والتأويل والمعنى : هو أخرج منها ماءها ومرعاها ، متاعا لكم والجبال أرساها ، ولكن لا يجوز أن يقرأ كتاب الله إلا على ما أنزل الله سبحانه ، وعز عن كل شأن شأنه ، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأسباب من الصواب ، ولو لا ذلك لبين جميع الكتاب.

ومعنى قوله عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)) يعني القيامة ، وإنما سميت طامة لعلوها ورفعتها ، وهولها عند وقعها ووثوبها بغتة وسرعتها ، وأصل الطم في الارتفاع في الهواء سريعا معا ، قال الشاعر :

١٢٧

أتاكم طم فوق كل طم

إذا العكاظي كثافي اليم

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥)) ، يريد : أنه يتذكر ما عمل في الدنيا ، وأصل السعي هو الجد والاجتهاد ، والإقبال والإدبار والتحدر والإصعاد ، قال سيد العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين :

فإن امرأ يسعى لدنياه جاهدا

ويذهل عن أخراه لا شك خاسر

ومعنى (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)) هو : أخرجت وأظهرت ، ومعنى (لِمَنْ يَرى) هو : لمن يرى عزوجل ويعلم أنه يستحق العذاب.

ومعنى قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧)) هو جاوز الحد في ظلم نفسه بكفر أو فسق ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)) قدمها على الآخرة ، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)) أي : المنزل والمحل والمثوى.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : موقفه الذي يقوم فيه العباد للحساب.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)) أي : نهى نفسه عن إتباع الهوى ، فأما الهوى في نفسه فلا يقدر أحد على تركه ؛ لأن الهوى في ذاته إنما هو الشهوة ، والشهوة لا يقدر أحد على تركها ، وإنما يقدر على خلافها ، ويمكنه الامتناع من طاعتها ، وهذا من الاختصار ، وهو كثير موجود في القرآن ، وهو عند أهله بيّن غاية البيان ، فالحمد لله على ما علمنا من الفرقان ، ونسأله أن يزيدنا برحمته من البرهان.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢)) أي : متى حلولها ، وهجومها على البرية ونزولها؟ وأيان في اللغة بمنزلة متى؟ قال الشاعر :

أيان تدفع بالرماح عليهم

يا مال قبل منيتي وذهابي

ومعنى قوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)) ، يريد بذلك : التوقيف للناس على خوف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما هو فيه من الفزع والحزن عند ذكره لها ، وعند ما يخطر على باله من هولها.

ومعنى (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)) ، أي : عند ربك نهايتها ووقت هجومها ،

١٢٨

وغاية ما يكون في آخر تلك الساعة ، ومصير الأبرار إلى سعادتها ، ومصير الفجار إلى إشقائها ونكدها ، والساعة في تلك الواقعة التي يحكم الله فيها بين العباد ، ويصير كل إلى داره التي يستحق بعمله من الضلال والرشاد.

ومعنى قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)) يريد : كأنهم في ذلك اليوم لم يقيموا في الدنيا إلا عشية من عشاياها ، أو ضحوة من ضحاها ، لقصر ما فات من الدنيا ، وكذلك الإنسان عند الموت والفناء ، كأنه لم يعمر ولم يخلق ، إلا في تلك الساعة التي يقبض فيها ويوثق ، ولكن هذه البرية أبت إلا العمى ، والتقصير عما أراد الله بها من اتباع الحكماء ، ومالوا إلى اللعب والجهل والردى ، وزهدوا في الحق والدين والهدى ، فزادهم الله تبابا وبعدا ، ولا وفقوا للخير أبدا.

إلى هنا انتهى تفسير شيخ آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، وعاقه عن التمام ، شواغل منعته إلى أن نزل به الحمام ، رحمة الله عليه.

وكل ما تقدم من رواية ابنه محمد بن القاسم عليهما‌السلام.

* * *

١٢٩
١٣٠

تثبيت الإمامة

١٣١
١٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

[مبدأ التفصيل]

الحمد لله فاطر السموات والأرض ، مفضل بعض مفطور خلقه على بعض ، بلوى منه تعالى للمفضّلين بشكره ، واختبارا للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره ، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله ، وليذيق المفضولين لسخط إن كان منهم في ذلك من تنكيله ، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله ، وفعلا فعله بالمفضولين عن عدله ، يقول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣]. وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)) [القصص : ٦٨]. ويقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)) [الأنعام : ١٦٥]. ويقول تبارك وتعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)) [الإسراء : ٢١]. ويقول سبحانه : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)) [الزخرف: ٣٢]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)) [الإسراء : ٧٠]. وقال تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)) [الجاثية : ١٣]. ويقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)) [النحل : ١٢]. والحمد لله رب العالمين ، الذي جعلنا من أبناء المرسلين ، الذين اختصهم بصفوة تفضيل المفضلين ، ونستعين مبتدئ الخيرات ، وولي كل حسنة من الحسنات ، على واجب شكره ، وكريم أثره ، فيما ابتدأ به من فضله ، وخص به من ولادة رسله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم.

١٣٣

[وجوب الإمامة ودليلها]

سألت يرحمك الله عن الإمامة ووجوبها ، وما الدليل إن كانت واجبة على ملتمس مطلوبها ، فأما وجوب الإمامة ودليله ، فوحي كتاب الله عزوجل وتنزيله ، فاسمع لسنته في الذين خلوا من قبلك تفهم ، وتفهّم متقدّم أوليها عن الله (١) تعلم ، فإنه يقول عزوجل ، ونحمده فيما نزل ، من محكم كتابه : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)) [الأحزاب : ٦٢]. ويقول تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)) [البقرة : ١٨٣]. وهذا (٢) يرحمك الله لكي تعتبر بمنزل بيانه ، في أشباه حكمه في الأمم واستنانه.

ثم أخبر تعالى عما جعل من الإمامة في بني إسرائيل ، قبل أن ينقل ما نقل منها إلى ولد إسماعيل ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)) [السجدة : ٢٣ ـ ٢٤]. وقال سبحانه ـ ما أنور بيانه! ـ فيما نزل من قصص خليله إبراهيم ، وما خصه الله به في الإمامة من التقديم ، وما كان من دعاء إبراهيم وطلبته ؛ لإبقائها من بعده في ذريته : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)) [البقرة : ١٢٤] ، خبرا منه سبحانه أن عهده فيها إنما هو منهم للمتقين ، فلم يزل ذلك مصرفا بينهم ، لم يخرجه الله تعالى منهم ، بعد وضعه له فيهم ، وإنعامه به عليهم ، حتى كان آخر مصيره في الرسالة ما صار إلى إمام الهدى محمد صلوات الله عليه ، فكان خاتم النبيين ، ومفتاح الأئمة المهتدين.

ثم قال تعالى بعد هذا كله ، دلالة على أن محمدا وارث خليله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

__________________

(١) سقط من (أ) : عن الله.

(٢) سقط من (أ) و (ج) و (د) : و :

١٣٤

(٦٨)) [آل عمران : ٦٨]. فكان محمد الوارث من إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام للنبوة ، وإليهعليه‌السلام صار ما كان من إبراهيم وإسماعيل من الدعوة ، إذ يقولان صلوات الله عليهما : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)) [البقرة : ١٢٩].

وأبين دليل ، وأنور تنزيل ، في وجوب الإمامة ، وما يجب منها على الأمة ، قول الله تبارك وتعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)) [النساء : ٥٩]. فأمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة الرسول ، ولا يأمر تبارك وتعالى إلا بمعلوم غير مجهول ، مع ما لا أعلم فيه بين الرواة فرقة ، وما لا أحسب إلا قد رأيتها عليه متفقه ، من حديث الرسول عليه‌السلام في أن (من مات لا إمام له مات ميتة جاهلية) ، (١) فكل هذا دليل على وجوب الإمامة وعقدها ، وما في ذلك للأمة بعد رسولها صلوات الله عليه من رشدها ، مع ما يجمع عليه جميع الأمم على اختلاف مللها وعقولها ، وما هي عليه من الفرقة البعيدة في

__________________

(١) رواه الإمام الهادي في الأحكام ٢ / ٤٦٦ ، والعلوي في الجامع الكافي بسنده إلى علي عليه‌السلام ، ورواه الإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٣٧. بلفظ : (من مات لا يعرف إمام عصره ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه ابن حبان ١٠ / ٤٣٤ برقم (٤٥٧٣) بلفظ : (من مات وليس له إمام ، مات ميتة جاهلية). والحاكم في المستدرك ١ / ١٥٠ (٢٥٩) ، بلفظ : (ومن مات وليس عليه إمام جماعة ، فإن موتته موتة جاهلية). وأبو يعلى ١٣ / ٣٦٦ (٧٣٧٥) ، بلفظ : (من مات وليس عليه إمام ، مات ميتة جاهلية). والطبراني في الأوسط ١ / ١٧٥ (٢٢٧). بلفظ : (من مات ولا بيعة عليه ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (٣٤٤١) ، والطبراني في الكبير ١٩ / ٣٣٤. (٧٦٩). وأحمد برقم (٥١٣٠) بلفظ : (من مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية). والطبراني أيضا ١٩ / ٣٨٨ (٩١٠). وأبو داود الطيالسي ٢٥٩ (١٩١٣). بلفظ : (من مات بغير إمام ، مات ميتة جاهلية). وفي مسند ابن الجعد ٣٣٠ (٢٢٦٦). بلفظ : (من مات وليس عليه طاعة ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه أحمد بلفظ : (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). برقم (١٦٢٧١). وهو في نهج البلاغة ، الخطبة / ١٥٢. وهو في شرح نهج البلاغة ٩ / ١٥٥ ، ١٣ / ٢٤٢. وهو في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً).

١٣٥

أجناسها وأصولها ، من تقديمها لمن يؤمها منها ، ويذب مخوف ذمار (١) الأعداء عنها ، ويحوط حرمها عليها ، وينفذ حكم المصلحة فيها ، ويكف سرف قويها عن ضعيفها ، ويجري حكم قسط التدبير فيها في وضيعها وشريفها (٢) ، استصلاحا منها بذلك للدنيا ، والتماسا به لما (٣) فيه لها من البقيا.

فكيف يرحمك الله بطلاب ، رضى رب الأرباب؟! وحلول دار الخلد من الجنة ، وملتمس حكم الكتاب والسنة ، أيصلح أولئك أن يكونوا فوضى (٤) بغير إمام؟! هيهات أبى الله ذلك لمنزل الأحكام!

[ضرورة الإمامة]

فمن ـ إن كانوا فوضى ـ للحدود؟! وما عهد الله إلى الأئمة فيها من العهود ، من لحدّ الفاسق والفاسقة؟ ولحكم الله في السارق والسارقة؟ من لقاذف (٥) المحصنات؟ ومنع إبراز المؤمنات؟ من لحكم التفصيل؟ وإصابة خفي التأويل؟ من يهدي أهل الجهل والضلال؟ والاحتجاج بحجج الله على أهل الابطال؟ أما سمعت قول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)) [النور: ١ ـ ٣]. مع جميع

__________________

(١) الذّمار : ما يلزمك حفظه وحياطته.

(٢) في جميع المخطوطات : في شريفها ووضيعها. وما أثبت اجتهاد.

(٣) سقط من (ب) : به لما.

(٤) في (ب) : أفواضا.

(٥) في (ب) : لقذف. وفي (ج) : لقذاف.

١٣٦

حكم الله فيها وفي غيرها ، وما أمر به في (١) أحكامه من تنفيذها ، فهذا في وجوب الإمامة هكذا ، وكفى من أنصف ولم يحف بهذا ، مع حجج كثيرة تركت تكلفها ، وألقيت إليك منها جملها ، كراهية للاكثار (٢) ، واكتفاء بالاقتصار (٣) ، مع أخر لا بدّ (٤) من ذكر معترض عروضها ، وتكلف تبيين ما استتر من خفي غموضها ، فافهم نشر (٥) مذكورها ، واسمع لذكر منشورها ، بإذن واعية من واع ، وارعها رعاية انتفاع.

اعلم أن هذا العالم وما فيه معا ، لا يخلو من (٦) أن يكون محدثا مبتدعا ، من أحكم الحاكمين ، وأن يكون لواحد لا لاثنين ، فإذا ثبت أن ما وجد من العالم وتدبيره ، وما بني عليه من حكم تهييئه (٧) وتقديره ، لواحد حي ، حكيم عليّ ، ليس له ضد يناويه ، ولا ند يماثله فيكافيه ، ولا به آفة تضره ، ولا ضرورة تضطره ، إلى ما أحدث وصنع من بدائعه ، (وابتدع في الأشياء من صنائعه ، فكان كل ما أحدث من بديعه) (٨) ، واصطنع جل ثناؤه من صنيعه ، عن أمرين ، ولشيئين :

أحدهما : الاختيار فيما ابتدأ ، وحكمة (٩) ماضي إرادته فيما أنشأ.

والأمر الثاني : فإحكام تدبير (١٠) منشأه ، وتبليغه غاية مداه ، بإحداث ما لا يكون بلوغ المدى إلا به ، وما يريد الحكيم من إبقاء المنشأ بأسبابه ، من مواد الأغذية ، وحوط المنشأ من كل مفنية ، ثم يكون ذلك في لطف مدخله ، وحوط فرعه من الفساد وأصله ، على قدر حكمة تدبير المدبّر ، واقتدار قدرة العليم المقدّر ، فلا يمكن في حكمة التدبير ،

__________________

(١) في (ب) : من.

(٢) في (ب) : كراهية الإكثار. وفي (د) : كراهة للاكثار.

(٣) في (ب) : بالإقصار.

(٤) في (أ) : إلا بعد. مصحفة. وفي (ب) : مع أخرا لا بد. مصحفة.

(٥) في (د) : تسير. مصحفة.

(٦) في (أ) و (ج) : لا يخلو إما أن.

(٧) في (ب) : تهيئيه. وفي (د) : تهيئته.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٩) في (ب) و (د) : وحكمة في ماضي.

(١٠) في (ب) : تدبيره.

١٣٧

ولا تدبير ذي العلم القدير ، أن يريد كون بقائه ، إلا مع خلقه لمقيم إبقائه ، من مادة الغذاء ، وتركيب آلة الاغتذاء ، من الأفواه والأوعية ، وبسط الأيدي المغتذية ، لاستحالة بقاء المبقى ، مع عدم ما به يبقى ، واستنكار دوام دائم ، أو توهم قوام قائم ، جعلهما الله لا يدومان إلا بمديمهما ، ولا يقومان طرفة عين إلا بمقيمهما ، ثم يقطع المديم المقيم لهما عنهما ، وهو مريد مع قطعه لدوامهما ؛ لما في ذلك من الجهل الذي تعالى الله عنه ، وخطأ التدبير الذي بعد سبحانه منه.

[تدبير الخلق]

كنحو ما خلق من حيوان الأشياء ، الذي خلقه لا يبقى إلا بمادة الغذاء ، وجعل غذاءه لا يكون إلا ببرد الأرض (١) والماء ، وبما فطر سبحانه من حرارة النار والهواء ، وبما جعل من فصول السنة الأربعة ، وجعل السنة لا تكون إلا بشهورها المجتمعة ، وجعل الشهور لا تتم إلا بأيامها ولياليها ، وما قدرها الله عليه من تواليها ، وجعل الأيام لا تتم إلا بساعات أزمانها ، والأزمان لا تتم إلا بحركة الأفلاك ودورانها ، ثم فصل تعالى الليل من النهار ، وفرق برحمته بين الظّلم والأنوار ، لتمام ما أراد من إبقاء المدبّر ، ولينتشر في النهار كل منتشر ، في ابتغاء حاجاته ، وليسكن في الليل من فتراته ، ولم يجعل الليل والنهار سرمدا ، ولم يعرّ منهما من خلقه إلا مخلدا ، فقال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)) [القصص : ٧١ ـ ٧٢]. فجعل الليل والنهار رحمة منه ، ثم قسم تبارك وتعالى السّنة ، فجعلها أربعة أزمانا ، وفنّنها للبقاء أفنانا ، من شتاء وصيف ، وربيع وخريف ، ثم قدّر في كل فن ، ومع كل زمن ، من الأغذية ضربا ، يابسا فيه ورطبا ، لا يصلح في غيره ، ولا يتم إلا بتدبيره ، وجعل هذه الأزمنة عمودا لتناسل الحيوان ، وعلة لبقائهم إلى ما قدر

__________________

(١) في (ب) و (د) : إلا بالأرض.

١٣٨

لهم من الأزمان.

[أصناف الخلق]

ثم جعل الحيوان (١) ضروبا ، وجعل أغذيته شعوبا ، فمنهم الناس المغتذون بطيب الأغذية ، ومنهم الطير والدواب وفنون الأشياء الحية ، المكتفية بأثفال (٢) الغذاء ، وتيسير مئونة الاغتذاء ، فبنى الناس على خلاف بنية المسخّر لهم من الحيوان ، وبانوا منهم بفضيلة الفكر ونطق البيان ، فدبروا أغذية معايشهم بالفضيلة ، واستعانوا في ذلك بتصرف الحيلة ، وكفي ذلك غيرهم من الحيوان ، ولو لا ذلك لما (٣) بقوا ساعة من زمان.

فكل مذكور من أجناس البهائم ، المسخرة لمنافع بني آدم ، فمبني على النقص مما (٤) ذكرنا من فضيلتهم ، عاجز عما جعل الله لهم من متصرف حيلتهم.

وكذلك كان بنوا آدم في بديّ مولدهم (٥) ، في عجزهم عن نيل منافع غذائهم ورشدهم ، وجهلهم لمصلحهم (٦) في الأمور من مفسدهم ، فلو كان الناس ـ إذ (٧) ابتدءوا ، عند ما فطروا وأنشئوا ، لم يجعل لهم ولا فيهم ، من يغذوهم ويقوم عليهم ـ لهلكوا ولم يبقوا وقت يوم واحد ، لما يحتاجون إليه في النفاس وعند المولد ، من تلفيف الولدان بخرقها ، وتسوية أعضاء خلقها ، ولكن الله تبارك وتعالى جعل لهم في الابتداء ، آباء قاموا بكفاية المصلحة والغذاء ، حدّهم في العلم بمصلحتهم غير حدّهم ، فغذّوهم برأفة الأبوّة وبصر التربية في مولدهم ، إلى بلوغ قوة الرجال ، والاستغناء بنهاية الكمال.

__________________

(١) سقط من (ب) : ثم جعل الحيوان.

(٢) الثفل : ما رسب خثارته من الأشياء كلها وعلا صفوه. والثافل : الرجيع.

(٣) في (ب) : ما.

(٤) في (ب) و (د) : عما.

(٥) في (أ) : كانوا بني آدم في بدء مولدهم. وفي (ب) و (د) : كان بنو آدم في بدي موالدتهم. إلا أنه سقط من (ب) : كان.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) : لمصلحتهم.

(٧) في (ب) : إذا.

١٣٩

ولا بد لهذه الآباء ، التي قامت على الأبناء ، من أن تكون في المبتدأ ، وعند أول المنشأ ، من الجهالة في مثل حال أبنائها ، محتاجة إلى تربية آبائها ، ولا بد كيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى من أبناء يقوم عليها آباؤها ، وآباء كانوا كذلك في الأصل إذ ابتدئ إنشاؤها ، في مثل (١) حد أبنائها ، من جهلها وقلة اكتفائها ، حتى يعود ذلك إلى أب واحد ، منه كان (٢) ابتداء النسل والتوالد ، ولا بد للأب الأول من أن يكون أدبه وتعليمه ، على خلاف أدب من يكون بعده ، إذ لا أب له ولا يكون أدبه وتعليمه إلا من الله ، أو من بعض من يؤدبه ويعلمه من خلق الله ، فإن كان من مخلوق (٣) أخذ أدبه ، فلا يخلو ذلك من أن يكون الله أو غيره أدّبه ، وكيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى ، فلا بد من (٤) أن يعود إلى أن (٥) خلق ابتداء أدبه من قبل الله الأول البديّ ، ولا بد للأب الأول ، الذي هو أصل التناسل ، من أن يكون مؤدّبا معلّما للجوامع ، (٦) من معرفة جهات المضارّ والمنافع ، مخلوقا على الفهم ، وقبول أدب المعلم ، ليتم بذلك من فهمه ، نفع تعليم معلمه ، فيقوم به على نفسه ، وعلى من معه من ولده ، من الأخذ لهم بأدبه ، وعقاب مذنبهم بذنبه ، وثواب محسنهم بإحسانه ، وتوقيف كلّ على ضره ونفعه ، كي يتم بذلك ما أريد لهم من البقاء ، وعنهم من تأخير مدة الفناء.

[طبقات حياة الخلق]

وكذلك (٧) هم في الخلق ، مجرون في طبق بعد طبق ، مصرفون (٨) مدة بقائهم ، بين

__________________

(١) سقط من (ب) : مثل.

(٢) سقط من (أ) : كان.

(٣) في (ب) و (د) : المخلوق.

(٤) سقط من (ب) : من.

(٥) العبارة مستغلقة ويبدو أن هنا سقطا في الكلام.

(٦) في (أ) : الجوامع.

(٧) في (ب) و (د) : كذلك.

(٨) في (أ) : مصرفون في مدة. وفي (ج) : مصروفون من مدة. وفي (د) : مصرفون من مدة.

١٤٠