مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ٢

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

في ليلة القدر كله ، وأحدثه فيها فأتمه وأكمله ، وأنه لم يرد بتنزيله ووحيه ، إنزاله له جملة على رسوله ونبيه ، أن الله سبحانه إنما أنزله على رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوحى تبارك وتعالى به إليه مفرقا لا جملة واحدة ، وعلمه إياه جبريل صلى الله عليهما سورة سورة وآيات آيات معدودة، ليقرأه كما قال سبحانه على مكث وترتيل ، ولترتيله وصفه تبارك وتعالى في الوحي له بالتنزيل ؛ لأن المفرق المنزل ، هو المرتل المفصل ، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى فيه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦)) [الإسراء : ١٠٦] ، ويقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قراءته : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)) [المزمل : ٤] ، والتفصيل : هو التقطيع والتنزيل.

وفي إجماله ، وجمع إنزاله ، ما يقول المشركون لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى أهله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، فقال الله سبحانه : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢)) [الفرقان : ٣٢] ، يقول سبحانه : نزلناه عليك قليلا قليلا ، ثم قال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)) [الفرقان : ٣٣] ، فنحمد الله على ما نوّر بذلك من حجته بمنه ورحمته تنويرا.

ثم أخبر سبحانه أن قد أنزله ، وتأويل ذلك : أن قد جعله الله كله ، في ليلة واحدة ، فقال تبارك وتعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)) و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] ، فأبطل بذلك كل حجة لمن كفر مظلمة مهلكة ، فكان ذلك من قدرته ، ما لا ينكره من أهل الجاهلية من أقر بمعرفته.

وقد يمكن أن يكون تأويل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) هو : تنزيله سبحانه من السماء السابعة العليا ، إلى من كان من الملائكة في السماء الدنيا ، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه أن ذلك هو تأويل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) وبيانه ، فأي التأويلين جميعا تؤوّل فيه ، وقع بإنزاله كله عليه.

١٠١

ولو كان إنما أراد (١) بذلك إنزاله على محمد صلّى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم لكان إنما نزل إليه مفرقا ومقطعا ، غير مجمل من الله ، وإنما قال الله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فأوقع التنزيل على كله لا على بعضه ، وقال لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] ، فأخبر سبحانه بفرضه ، والفرض : هو التقطيع والتفصيل كما يقول القائل للشيء إذا أمر بقطعه ، افرضه وفصّله ليقطعه.

وتأويل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، هو أن (٢) الذي قطّع تفريقا ما نزل من القرآن إليك ، وذلك فهو الله الرحمن الرحيم ، وما فرض : فهو كتابه المنزل الحكيم ، وأي القولين اللذين ذكرنا ، وبينا في ذلك وفسرنا ، قيل به فتأويل ، وأمر كبير جليل ، كريم ذكره ، واجب شكره.

وليلة القدر التي نزل فيها القرآن : فليلة من الليالي مباركة ، تتنزل الملائكة فيها كما قال الله تبارك وتعالى الروح والملائكة ؛ لبركتها وقدرها ، وما عظم الله من أمرها ، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) من أمور الله بنازلة ، وبركة لأهل الأرض كلهم شاملة ، فليلة ذلك الوقت والخير والقدر ، خير كما قال : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، لما جعل الله جلّ ثناؤه فيها من اليمن والبركات ، وما يمسك الله فيها عمن أجرم من النقم والهلكات ، ولما نسب الله إليها ، من الخير تنزلت الملائكة والروح فيها ، من أعلى العلى ، إلى الأرض السفلى.

يقول الله سبحانه : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، تأويل ذلك بإذن الله فيها لهم ، وقد قال غيرنا في تأويل (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) : إنه من كل وجهة ، وما قلنا به ـ والله أعلم ـ في نزولهم من أمر الله ورحمته بكل نازلة أشبه وأوجه ، فهم ينزلون فيها من أمر الله وتقديره ، وما جعل الله فيها من بركاته وخيره ، إحدانا وزمرا وإرسالا ، ببركتها وإعظاما لها وإجلالا ، وإذ جعلها الله سبحانه لتنزيله ووحيه وقتا ومقدارا ، وذكرها بما ذكرها به من القدر تشريفا لها وإكبارا ، وليلة القدر ليلة جعلها الله من ليالي رمضان ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

__________________

(١) في (أ) : أريد إنزاله.

(٢) سقط من (أ) : أن.

١٠٢

هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥] ، ويقول سبحانه بعد ذكره لشهرها ، وما جعل الله فيها من بركتها ويمنها ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)) [الدخان : ٣ ـ ٦] ، فهي ليلة بركة ورحمة ، وسلامة وعصمة ، وفيها ما يقول أرحم الراحمين ، ورب السماوات والأرضين : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)) ، وتأويل (سَلامٌ) ، فهي : سلامة هي حتى طلوع الفجر ، فليلة القدر ليلة سالمة مسلمة ، ليس فيها عذاب من الله تبارك وتعالى ولا نقمة ، جعلها الله بفضله (١) بركة وسلامة ، ورحمة للعباد إلى الفجر دائمة ، ولحقّ الليلة نزّل الله فيها وحيه وقرآنه ، وفرّق برحمته فيها فضله وفرقانه ، بالبركة والتفضيل ، والإعظام والتجليل.

وتأويل (وَما أَدْراكَ) ، فهو : ما يدريك ، لو لا ما نزلنا من البيان فيها عليك ، (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)) في القدر والكبر ، وما يضاعف فيها لعامله من البر والأجر ، فهي ليلة (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، جعلت لبركتها ويمنها ، في التضعيف لها ، والأضعاف كعشرة آلاف ليلة ، وعشرة آلاف ليلة ، وعشرة آلاف ليلة ، فذلك ثلاثون ألف ليلة ، ونحوها تامة ، جعلت مقدارا مضاعفا لليلة القدر تشريفا لها وكرامة ، وهي ليلة مقدسة يضاعف فيها كل بر وعمل صالح لمن عمل به فيها من أهلها ، فيزاد على تضعيفه من قبل ثلاثين ألف ضعف لقدرها وفضلها ، ونحمد الله في ذلك وغيره رب العالمين ، على ما أنعم به من ذلك الله خير المنعمين (٢).

__________________

(١) في (أ) : لفضلها.

(٢) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) معناه : في ليلة الحكم ، وقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) معناه : جبريل عليه‌السلام ، وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) معناه : يسلم من كل أمر ، معناه : من كل ملك. تفسير الغريب / ٣٩٨.

١٠٣

تفسير سورة العلق

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت أبي رحمة الله عليه عن تفسير : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢))؟

ف [قال :] تأويل (اقْرَأْ) ، فهو أن يقرأ ، وتأويل اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به فهو بسم الله الرحمن الرحيم ، الذي قدم له في تعليمه كل سورة عند الإقراء له والتعليم. وربه: فهو الله الذي خلق خلقه ، فخلق الإنسان من علق إذا ما خلقه. والعلق : فهو الدم الأحمر المؤتلق ، الذي يتلألأ لشدة حمرته ويبرق ، فيما ذكره الله سبحانه من علق الدم ، وخلق الناس كلهم غير آدم وحواء فإن حواء خلقت من آدم ، وخلق آدم من تراب ، فلم يخرج آدم وحواء من بين ترائب وأصلاب ، كما خرج من بين الصلب والترائب غيرهما ، ولكنه كان من الله سبحانه ابتداؤهما وتدبيرهما ، من غير أصل مقدم ، من أب ولا أم ، وكان ما بين ذلك من التباين والفرق ، في الصنع والفطرة والخلق ؛ إذ خلق آدم من تراب ، وخلق نسله من علق من أعجب العجاب (١) ، وأدل الدلائل على قدرة الخالق ، على ما خلق مما يشاء أن يخلقه جلّ ثناؤه من الخلائق ، وعلى أن قدرته سبحانه فيما يخلق من خليقته ، واحدة غير ولا متشتتة متفرقة (٢) ، على أقدار ما يرى من افتراق البدائع ، والخلق المفطورة والصنائع ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النحل : ٤٠] ، فأخبر سبحانه أنه لا يختلف عليه في قدرته البدائع والكون ، وأن قدرته في ذلك كله لا تتفاوت ، وإن تفاوت الخلق المبتدع المتفاوت.

ثم أمر تبارك وتعالى رسوله بالقراءة باسمه أمرا مثنى ، وكل ذلك فواحد في الإرادة والمعنى ، إلا أن التكرير غير التفريد ، في زيادة الأمر والتوكيد ، والتكثير فأكثر في الرحمة ، وفي زيادة المن والنعمة ، بالعلم والتعليم ، والأمر والتفهيم ، وفي كل كلمة من كلمات

__________________

(١) في المخطوطتين : العجائب. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوطتين : غير متشتتة ولا متفرقة. ولعل الصواب ما أثبت.

١٠٤

الله تقل أو تكثر ، بصائر جمة ـ بمن الله ـ لمن يعقل ويبصر ، فليس في شيء من كلام الله جلّ ثناؤه نقص ولا فضول ، ولا يشبه قول الله في الحكمة والبيان من أقوال القائلين قول ، فقال سبحانه : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) ، من كل ما علمه ببصر أو سمع أو فؤاد ، وما كان مرضيا أو مسخطا لله من غي أو رشاد ، كما قال سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)) [النحل : ٧٨] ، فبما جعل الله لهم من الأفئدة يعقلون ويتفكرون ، وبما سلم من السمع والبصر يسمعون ويبصرون ، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقا ، وأوسع الرازقين في العلم وغيره رزقا.

فهو المعلم سبحانه بالقلم ، وبغيره من وجوه العلم ، التي ليست بخط ولا كتاب ، من كل ما يعلمه أولو الألباب ، ما يعلمه أيضا سواهم ، ممن لم يبلغ في العلم مداهم ، وإن لم يكتب ، وكان جاهلا بالكتب ، مما يعلمه من صناعة ، أو بحرف أو بياعة ، فالله معلمه ومفهمه ، من ذلك أو يعلمه ، فلو لا قول الله سبحانه لم يظفر أبدا من علمه بما علم ، ولم يفهم منه وفيه من يعلم ما فهم ، وكذلك كل ملهم من طفل صغير ، وكلما سوى ذلك من البهائم والطير ، من ألهم علما في تغذّي ، أو محاذرة لضر أو توقّي ، فالله عزوجل ملهمه معرفته ، وتوقيه ومحاذرته.

وتأويل قوله سبحانه : (رَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ، فهو : ما بان به الله من الجود والكرم ، فيما وصل به إليه من النعم ، من مواهبه في العلم وغير العلم ، وقد علّم الله رسوله عليه‌السلام من شرائعه ودينه ، وإن لم يكتب بقلم أو بخط كتابا بيمينه ، ما جعله الله به ـ فله الحمد ـ إماما لكل إمام ، كان معه في حياته وبعد وفاته من الكتبة والعلام ، فكان بمن الله لكلهم إماما ومعلما ، وعلى جميعهم في العلم والحكمة مقدما ، وفي ذلك وبيانه ، ما يقول الله سبحانه في فرقانه (١) : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨] ، فكفى بهذا والحمد لله بيانا وبرهانا لقوم يعقلون.

__________________

(١) في (أ) : قرآنه.

١٠٥

وتأويل : (كَلَّا) ، فهو (١) : نعم وبلى ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) فتأويل يطغى ، فهو العتا والطغاء ، وتأويل (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) ، فهو تكثّره بالجدة والغنى ، في كل ما رآه فيه من علم ومال ، وما يراه مستغنيا به أو مستطيلا به من كل حال.

وتأويل (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)) ، فهو : إلى الله المعاد في قيامة الموتى ، ثم قال سبحانه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢)) ، تثبيتا له عليه‌السلام وتعريفا ، وتبيينا أيضا لمن كفر به وتوقيفا ، على ما يعرفون ولا ينكرون ، وما هم به جميعا كلهم مقرّون ، من أنه ليس لأحد أن ينهى عبدا من عباد الله عن الصلاة ، والأمر بالتقوى لله.

فتأويل (أَرَأَيْتَ) فهو : أرأيت أنت ومن معك ممن يرى كما ترون وكلهم جميعا يرى ، أن كل من صلى من خلق الله وأمر بما يحب الله ويرضى ، مبتغيا بذلك رضوان الله ، وطالبا بذلك لما عند الله ، مصيبا لذلك في رشده وهداه ، قد أصاب بذلك من الله طاعته ورضاه ، أليس من نهاه عندهم عن ذلك وآذاه ، فقد استوجب لعنة الله وإخزاءه؟ وكذلك كل عبد الله أمر بالتقوى والإجلال لله ، كما كان يصلي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لله ولمرضاته ، ويأمر باتقاء الله جلّ ثناؤه ومخافته ، وكل ما كان فيه من ذلك كله عندهم فحميد ، ومن يعمل لله بذلك فيهم فرشيد.

ثم قال سبحانه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)) ، تأويل ما يقرأ من ذلك ويتلى. أفرأيت من كذب به بعد إقراره بما يصف ، وتولى في ذلك عما يعرف ، من أنه ليس له أن ينهى عبدا عن أن يصلي لله ، ولكن أن يأمر بما هو الهدى عنده من تقوى الله.

(أَلَمْ يَعْلَمْ) ، من فعل ذلك (بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤)) ، فيخاف أن يؤاخذه الله بفعله ويجزى.

__________________

(١) في (أ) : فهي.

١٠٦

وتأويل رؤية الله فهو علم الله بنهي من ينهى ، عبدا إذا صلى ، فما بالهم ينهون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصحابه عن الصلاة ، وعما لم يزل يأمر به من التقوى ، أهل البر والرشد من الهدى ، مع علم من ينهى عن ذلك ويقينه ، بأن الله علم بنهيه عن ذلك وغيره ، فلما أصر الناهي عن ذلك على ظلمه فيه وكفره ، مع ما أيقن به من علم الله بأمره ، فيه كله وأقر (١) ، قال سبحانه : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه ، وعما أصر من ظلمه عليه ، (لَنَسْفَعاً) وتأويل (لَنَسْفَعاً) فهو : لنأخذن (بِالنَّاصِيَةِ (١٥)) ، والناصية : فهي مقدم الرأس العالية.

ثم قال سبحانه : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦)) ، إذ كانت عما لا يجوز النهي عنه عندها من الصلاة والتقوى لله ناهية ، فكذبت قولها في ذلك بفعلها ، وأخطأت بنهيها عنه فيه بجهلها ، فهي كما قال الله سبحانه : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وهي لله مخالفة في ذلك عاصية ، يقول الله سبحانه فإذا أخذنا منه بالناصية ، (فَلْيَدْعُ) ، إن استجيب له حينئذ (نادِيَهُ) (١٧) ، وناديه فهم (٢) عشيرته وأولياؤه ، وأنصاره وجلساؤه ، الذين كانوا يجلسون في مقامه وإليه ، ويجتمعون لمجالسته ونصرته لديه ، (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)) ، والزبانية فهم الملائكة المطهرة الزاكية ، التي يأمرها الله سبحانه بأمره فتنفذ ما أمرها الله به مطيعة لله غير عاصية ، وآخذة لما أمرها الله سبحانه بأخذه غير وانية ، تأخذ بالغلظة والشدة ، كل نفس عاتية متمردة ، كما قال سبحانه : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)) [التحريم : ٦].

ثم قال سبحانه لرسوله : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) ، يقول سبحانه لرسوله، صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تطع من نهى عن الصلاة والهدى ، وعن الأمر لله بالتقوى ، وكذب فعمل بالكذب ، ولكن اسجد واقترب ، بكل عمل صالح مقرّب ، من صلاة أو هدى ، أو بر وتقوى ، فكلهم يقر بأن الهدى والصلاة لله ، والأمر باتقاء الله مقرّب لمن فعله إلى الله ، فليس لهم أن ينهوا عن شيء من ذلك ، إذا كان عندهم كذلك ، ومن يفعل ذلك أو عمل به فقد كذب فيه قوله بفعله ، وصار إلى ما لا مرية فيه عنده من جهله ، وتولى

__________________

(١) لعل في هذه الفقرة سقطا.

(٢) في (ب) : فهو.

١٠٧

عما كان من الإقرار لله عليه ، بتركه لما كان مقرا لله بالحق فيه ، فتشهد عليه نفسه (١) لله بكفره ، وتثبت عليه فيه الحجة باعترافه وإقراره ، فبان منه الكفر ، وانقطع عنه العذر ، فلا عذر له عند نفسه ولا اعتذار ، ولا خفاء لكفره ولا استتار.

وكذلك كل من أسلمه الله إلى الباطل وحيرته ولبسه ، وحجة الله قائمة عليه في الحق بنفسه ، وفي إقراره من ذلك بما (٢) يقر ، حجة لله عليه فيما ينكر ، وسواء قيل : اقترب أو تقرّب ، معناهما واحد في التقرب. والسجود فهو السجود الذي يكون بعد الركوع ، وليس سجود التذلل والخضوع ، وكلا الوجهين فقد يدعا سجودا ، وبرا إذا كان ممن هو فيه بيّنا موجودا.

وتأويل (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٩١) : فمن السجود والصلاة ، وتأويل (وَاقْتَرِبْ) فمن التقرب مما تقرّب به (٣) من الحسنات ، وسواء قيل : اقترب أو تقرب ، معناهما جميعا اقتراب (٤) ، واحد ذلك كله فيما يقال به فيه فصواب.

تفسير سورة التين

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)) فالتين : فهو هذا التين المأكول ، والزيتون : فهو هذا الزيتون المعلوم ، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : أن التين والزيتون هو التين الشامي خاصة وزيتونه ، وذلك لما جعل الله للشام من التقديس والبركة ، وفي الشام ما يقول موسى عليه‌السلام لبني إسرائيل : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] ، وما ذكر الله من طور سينين ، فهو الجبل الذي كلم

__________________

(١) في (أ) : فشهد على نفسه لله.

(٢) في المخطوطتين : ما. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) في المخطوطتين : اقترب. ولعل الصواب ما أثبت.

١٠٨

موسى منه رب العالمين.

و (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) فهو : الحرم الذي على كل حد من حدوده رضم من الحجارة ، وعلم فصل به بين غيره وبينه ، لتعرف بذلك ما هو منه.

وإنما أقسم الله سبحانه من الأشياء بما أقسم من القسم ؛ لما جعل فيها من الآيات والبركات والكرم ، وإنما يقسم أبدا المقسم ، بما يجل من الأشياء ويكرم ، وكرم ما ذكر الله من هذه الأشياء ، فما ليس به عند من يعقل من خفاء ، فمن كرم التين والزيتون ، ما جعل الله فيهما من المنافع والطعوم ، وكرم طور سينين وبركته ، ما كان من مناجاة الله تبارك وتعالى لموسى عليه‌السلام في بقعته ، وفي ذلك ما يقول سبحانه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص : ٣٠] ، فذكرها سبحانه بما جعل فيها من التقديس والبركة ، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] ، والطور ، فهو طور سينين المذكور.

ومن كرم الحرم وفضله ، فما جعل الله فيه من الأمن لأهله ، وما فرض من حج بيته ، وألزم الناس في ذلك من فريضته.

وتأويل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)) ، فهو : خلقه للإنسان في أحسن تعديل ، من كل توصيل فيه وتفصيل ، أصّل به أو فصّل ، أو هيّئ بهيئته فعدّل ، من هيئة أو صورة مصوّرة مقدرة ، أو فؤاد أو سمع أو عين مبصرة ، وكل ذلك كان مفصلا أو موصلا ، فقد جعله سبحانه مستويا معتدلا ، كما قال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)) [الانفطار : ٦ ـ ٨].

وتأويل (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)) ، فهو رده إن بقي وعمّر إلى آخر أعمار الآدميين ، التي إن صار إليها ، وبقي حيا فيها ، تغيرت حاله وعقله ، وبان نكسه وسفاله ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)) [يس : ٦٨] ، وتأويل (نُنَكِّسْهُ) فهو : نرده في الهرم والذهاب ، بعد القوة والجدة والشباب ، أو يموت قبل ذلك على كفر وإنكار ، فينكس بعد الكرامة في الهوان وعذاب

١٠٩

النار ، ومن الذي هو أسفل درجة من كفره إن لم يهرم ؛ إن (١) هو نكّس وردّ في الآخرة إلى نار جهنم ، فنعوذ بالله من السفال ، بعد التّمة والكمال ، وكل إنسان فرذل ، ليس له كمال ولا فضل ، كما قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)).

فكلما لم يدخله من العطايا والجود ، وذلك فما لا يوجد أبدا إلا في عطايا الله الجواد الكريم ، وكل عطاء أعطاه معط سوى الله من حميد أو ذميم ، فليس يخلو من أن تدخله منّة وامتنان ، وإن لم ينطق بالمنة فيه لسان ، لأن من وهبه وأعطاه ، لم يعطه إلا بعد أن تكلّفه وعاناه ، والله جلّ جلاله يعطي من أعطى ما يعطيه (٢) ، بغير معاناة من الله ولا تكلف فيه ، وكل معط سوى الله ، فإنما يعطي ما أعطى من رزق الله ، وإنما يعطي مما قد جعله الله له ، ومما هو لله تبارك وتعالى فنحمد الله الذي لا شريك له ، الذي يعطي فلا يعطى ، والذي لا يعطي معط سواه إلا ما أعطى (٣).

تفسير سورة الانشراح

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات عليه عن تفسير : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)).

__________________

(١) في (ب) : إذ.

(٢) في (أ) : الله يعطي من يعطيه.

(٣) وعن أبي خالد عن الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) فالتين : الذي يؤكل ، والزيتون : الذي يعصر ، ويقال : التين والزيتون جبلان ، والطور : جبل ، وسيناء الحسن بالحبشة ، والبلد الأمين : يعني مكة.

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) معناه : في أحسن صورة ، وقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) معناه إلى أرذل العمر إلى أن يبدل حالا بعد حال ، وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) معناه : غير مقطوع ، ويقال : غير محسوب. تفسير الغريب / ٣٩٦.

١١٠

فقال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فشرحه هو توسيعه لصدره ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفسحه لما كان يضيق عنه كثير من الصدور ، فيما حمل من التبليغ والأمور ، ومن شرح الله أيضا لصدره ، تيسيره في الدين لأمره ، وما أعطاه فيه من معونته ونصره.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) فوزره ، هو ثقله ووقره ، والوقر من كل شيء فهو الحمل ، والحمل من كل شيء فهو الثقل. وإذا قيل لشيء : أوزره وزره ، فإنما يراد بذلك حمّله وقره ، وما حمل من الأثقال كلها والأمور ، فإنما يحمل منه الحاملون على الظهور ، وكلما يعمله المرء من خيره وشره ، فإنما يحمله على ظهره ، كما قال سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)) [الأنعام : ٣١] ، وقال سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، يريد سبحانه : «ما حملوه من كفرهم وفجورهم». وليس يريد (١) بذلك حمل أحمال ، ولا ما يحمل على الظهور من الأثقال ، وإنما هو مثل يضرب ، من الأمثال مما كانت تضربه وتمثله العرب ، وكذلك ما ذكره (٢) الله من الشرح لصدر نبيه ، وما نزل في ذلك (٣) من وحيه ، فذكره سبحانه لما ذكر من إنقاض الوزر لظهره ، وما وضع سبحانه لما ذكر من وزره ، فإنما هو تمثيل ، وبيان ودليل ، فليس يريد بشرح الصدر ، ولا ما ذكر من الحمل على الظهر ، شرح شيء يقطعه ، ولا حمل ثقيل يضعه ، وما حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وزر على ظهره ، وذلك فلا يكون إلا من زلل وخطيئة (٤) في أمره ، ووضع الله لذلك عنه ، فهو حطه لما أثقله منه ، وحط الذنب فعفوه ومغفرته ، وقد غفر الله لرسوله ذنبه كله وخطيئته ، كما قال سبحانه له ، صلوات الله عليه [وآله] : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً

__________________

(١) في (أ) : يراد.

(٢) في (أ) : ما ذكر.

(٣) سقط من (ب) : في ذلك.

(٤) في (أ) : أو خطيئة.

١١١

مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)) [الفتح : ١ ـ ٣].

وتأويل (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) ، فهو رفعه لذكره ، بما أبقى في الغابرين إلى فناء الدنيا من أمره وقدره ، ومن ذلك النداء في كل صلاة باسمه ، وما جعل (من الشرف به لقومه ، فضلا عما منّ به على ذريته وولده ، ومن يشركه في الأقرب) (١) من نسبه ومحتده ، فنحمد الله الذي رفع ذكره ، وشرّف أمره.

ثم أخبر سبحانه في السورة نفسها من أخبار غيوبه خبرا مكررا ، فقال تبارك وتعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) ، فبشره بأن له مع عسره يسرا في دنياه ، وأن له مع ذلك يسرا لا يفنى في أخراه (٢).

ثم أمره سبحانه إذا هو فرغ من أشغاله ، ومما يقاسي في هذه الدنيا من عسر أحواله ، فقال عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)) والنّصب : فهو الاجتهاد ، والجد والاحتفاد ، كما يقال : اللهم لك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد. فذكر أنه لما أنزل على رسوله ما أنزل في هذه السورة من آياته ، فعبد رسول الله (٣) حتى عاد كالشن البالي في عبادته ، شكرا لله وحمدا ، وتذللا وتعبدا (٤).

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين سهوا.

(٢) في المخطوطتين : آخرته. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٣) في (أ) : رسوله.

(٤) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) معناه : إثمك ، وقوله تعالى: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال : إذا ذكرت ذكرت معي فيقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) معناه يكون الرجاء أعظم من الخوف ، وقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ) من أمر دنياك (فَانْصَبْ) معناه : فصل واجعل وثبتك إلى الله عزوجل.

وفي مجمع البيان ٦ / ١٧٦ عن الباقر والصادق : (فَانْصَبْ) إلى ربك بالدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك ، وفيه عن الصادق : الدعاء دبر كل صلاة.

١١٢

تفسير سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢)) [الضحى : ١ ـ ٢]؟

فقال : والضحى إضحاء النهار وشدة ضوئه وظهوره ، وسجوّ الليل : فتراكب ظلمته وتكوّره ، كما قال سبحانه : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥].

وتأويل : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥)) [الضحى : ٣ ـ ٥] ، فخبر من الله لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله ، عن أنه وإن لم يعطه ما يعطيه ويكثره أهل الدنيا في دنياه ، فما تركه فمن حسن النظر في ذلك له لا لبغضه وقلاه (١). والقالي : فهو الشاني ، والشانئ : فهو المبغض ، وكل ذلك فهو بغض ، ولكنه آثره بكرامته له في آخرته على أولاه.

وأخبره سبحانه أن سوف يعطيه ، من عطايا الآخرة ما يسره ويرضيه ، ثم ذكّره سبحانه بفضله ونعمته ، وبما منّ به عليه من رحمته ، فقال تبارك وتعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠)) [الضحى : ٦ ـ ١٠] ، وقد علم الناس أنه قليل من الأيتام من يؤوى ، (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) فأغناه ، بما لم يستغن به غيره في دنياه ، (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) ، فهداه بما منّ به عليه من الهدى.

ثم نهاه تعالى عن اليتيم أن يقهره ، وعن السائل أن ينهره ، وأمره من الحديث بنعمة ربه بما به أمره ، أن ذكّره من اليتم والفاقة بما ذكّره ، وقرر بمعرفة ذلك بما قرره ، فقال تبارك وتعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)) [الضحى : ١١] ، تأويل (فَحَدِّثْ) فهو فخبّر ، وانشر ذلك واذكره وكثّر ، فكان بمن الله لما ذكّر به ذاكرا ، ولنعم الله فيها

__________________

(١) في المخطوطتين : فقلاه. ولعل الصواب ما أثبت.

١١٣

كلها شاكرا (١).

تفسير سورة الليل

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن تفسير : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣))؟

فقال : (وَاللَّيْلِ) وغشيانه ، فهو ظهوره وإتيانه. وتجلي النهار فهو ظهور شمسه ، على وحشه وإنسه ، وبظهوره وتجليه ، يعيش أهل الأرض فيه ، ويتحركون وينتشرون ، ويقبلون ويدبرون ، كما قال الله سبحانه : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)) [الفرقان : ٤٧] ، فجعله برحمته لخلقه ضياء ونورا ، ليبتغوا فيه كما قال سبحانه : من فضله ، ولمنته (٢) على أهله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)) [القصص : ٧٣] ، فكفى بما في الليل والنهار من الدلالة على الله دليلا (٣) لقوم يتفكرون.

وتأويل (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، فهو وما خلق به كل ذكر وأنثى من

__________________

(١) عن أبي خالد ، عن الإمام زيد بن علي ، عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) معناه : مكن ، ويقال : استوى ، ويقال : إذا أقبل فغطى كل شيء.

وقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي : ما تركك (وَما قَلى) معناه : ما أبغض.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) معناه : كنت من قوم ضلال.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) معناه : فقير فأغنى ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) معناه لا تحقر (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) معناه : لا تزجر ، ولكن رده برحمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) معناه : إخوانك حدثهم بالقرآن ، ويقال : إخوانك إخوان ثقتك فهذا تأديب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان نبيه عليه‌السلام. تفسير الغريب / ٣٩٤.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : (فَحَدِّثْ) معناه : فحدث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك. مجمع البيان ٦ / ٦٧٠.

(٢) في (أ) : وبمنته.

(٣) سقط من (ب) : دليلا.

١١٤

الأزواج المختلفة الشّتى ، أزواج الإنس والبهائم والأشجار ، وكلما خلقه زوجا من الأصول والثمار ، فأقسم بما خلق به جميع خليقته ، من قدرته وحكمته ومنّه ورحمته.

وقد قال غيرنا : إن تأويل (وَما خَلَقَ) ، هو ومن خلق (١) ، يريدون أن القسم كان بالله ، جلّ ثناء الله ، وليس ـ والله أعلم ـ ذلك ، في القسم كذلك ؛ لأن الله تبارك وتعالى أقسم بالليل والنهار فقدمهما في قسمه ، ولو كان تأويل ما خلق : هو ومن خلق لبدأ ، الله في القسم باسمه لجلاله وذكره ، وعظم اسمه وكبره ، ولكنه إن شاء الله كما قلنا.

ثم قال سبحانه : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، فجعل عملهم متفرقا متشتتا ، لأن عمل المتفرقين ، من المبطلين والمحقين ، بر وفجور ، وصدق وزور ، فهو كله شتى متفرق ، هذا باطل في نفسه وهذا حق ، أما تسمع كيف يقول الله سبحانه في تشتته ، وتباينه في الدنيا والآخرة وتفاوته : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧)) ، فإعطاؤه هو لما يجب من الحقوق عليه ، واتقاؤه فهو فيما أمر بالتقوى لله [فيه] ، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، فهو : تصديقه بأن سيجزى.

وتأويل (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، فهو : سنصيره من الكرامة والثواب إلى ما سيراه عند موته وفي حشره ، وما سيعاينه في الموت والحشر من أمره.

وتأويل (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) ، بما يراه عند نفسه غنى (٢) من ماله وكسبه ، وبخل منه به عن ربه ، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) فتكذيبه بالحسنى ، هو تكذيبه بما وعد الله أهل التقوى.

وتأويل (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، هو : سنصيره من الإهانة والعقاب إلى ما سوف يرى

وتأويل (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) ، فهو وما ينفعه في الغناء ماله ، (إِذا

__________________

(١) روي ذلك عن الحسن البصري والكلبي. انظر مجمع البيان للطبرسي ٦ / ١٥٨ ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن. انظر الدر المنثور ٨ / ٥٣٤.

(٢) في (أ) : غنما.

١١٥

تَرَدَّى (١١)) تأويله (١) : إذا هلك وردي ، بعد أن كان قد أرشد وهدي ، وما أغناه من دنياه ، و [ما] ملّكه الله إياه ، فجعله الله له ، فهو لله قبله ، ألا تسمع كيف يقول في ذلك تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)) ، وما كان من النيران يتلظى ، فهو أشدها لهبا وسعيرا ، وأنكرها في الحرّ والتحريق مصيرا.

ثم أخبر تبارك وتعالى من يصلاها ، والإصلاء : فهو التحريق فيها ، فقال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) ، كذب بالجزاء والمثوى ، وتولى عن البر والتقوى ، ثم أخبر سبحانه أن سيجنب هذه النار المتلظية من اتقى فقال جلّ ثناؤه : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) ، يؤتي : يعطي ماله (يَتَزَكَّى (١٨)) ، تأويلها : ليطيب بها عند الله ويزكّى ، (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)) ، تأويله يريد : يكأفأ ، (وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)) ، بما يعطى ويجزى ، إذ (٢) أعطى ما أعطى لابتغاء وجه ربه ، وما أراد من رضاءه به (٣).

تفسير سورة الشمس

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢))؟

__________________

(١) في (ب) : تأويلها.

(٢) في (ب) : إذا.

(٣) عن أبي خالد عن الإمام زيد عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) معناه : إن عالمكم لمختلف ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) معناه : بخل بما لا يبقى واستغنى بغير غنى.

وقوله تعالى : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) معناه بالجنة ، ويقال : بلا إله إلا الله ، وبالخلق.

وقوله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) معناه : إذا هلك ومات ، ويقال : إذا تردى في جهنم.

تفسير الغريب / ٣٩٣.

١١٦

والشمس : هي الشمس في عينها ونفسها واستدارتها ، وضحاها : فهو ما يرى من علوها في السماء وظهورها واستنارتها.

وتأويل (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢)) ، فهو اتصاله بها ، وجيئته وراءها متصلا نوره بنورها ، وظهوره في الضوء بظهورها ، وما أبين ذلك وأنوره ، وأعرف ذلك وأظهره ، في الليالي الغر ، من ليالي كل شهر ، فنوره حينئذ بنورها متصل ، ليس بين نورهما فرقة ولا فصل ، وهي ليال (١) بيض مسفرة ، مضيئة ساعاتها منيرة ، عظمت في النعمة والقدر ، فقيل عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله : (إن صيامها كصيام الدهر) (٢) ، وهي ليلة ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة ، وهي ليال جعلها الله كلها مضيئة مقمرة ، وصل الله ضوء نهارها بضوء ليلها ، فكان ذلك من عظيم النعمة فيها وجليلها ، فسبحان من وصل وفصل بين الأمور ، فوصل منها بين نور عظيم ونور.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (٣)) ، فهو إذا أظهرها النهار وأضحاها ؛ لأنها لا تضحى أبدا بإظهار ، إلا فيما جعلها الله تضحي (٣) فيه من النهار ، وكذلك سبحانه دبّرها في مقدارها ، وبذلك قدرها في مسيرها ومدارها ، وفيها ما يقول سبحانه : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)) [يس : ٤٠] ، فكلهم جميعا في فلك وهو المدار يطلعون ويغربون ، فليل الشمس والقمر عند كل أحد فغير نهارهما ، وأنهما يدوران جميعا بالليل والنهار في مدارهما ، والليل كما قال سبحانه فلا يمكن أن يسبق النهار ، وإن كان الفلك في ذلك كله هو المسلك والمدار ، لأن الليل لو سبق نهاره ، لسبقت الظّلم أنواره ، فبطل العدد والزمان وتقديرهما ، وفسد البشر والحيوان وتدبيرهما ، ولكان في ذلك أيضا فساد الأشجار والثمار ؛ لأن قوام ذلك كله ونشأته بما فصل بين الليل والنهار.

__________________

(١) في (أ) : ليالي.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٢٥٧ (٣٢٣٧) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ٢٢١ (٢٤٢٠) ، وأحمد ٢ / ٢٠٥ (٦٩١٤) ، ٢ / ٢٦٣ (٧٥٦٧) ، وابن حبان ٨ / ٤٠٠ (٣٦٣٨) ، وبان خزيمة ٣ / ٣٠١ (٢١٢٦) ، والنسائي في الكبرى ٢ / ١٣٦ (٢٧٢٨) ، وأبو يعلى ١٣ / ٤٩٢ (٧٥٠٤) ، وغيرهم.

(٣) في (ب) : تضيء.

١١٧

فسبحان مفصل الأمور والأشياء ؛ لبقاء ما أراد بقاءه من النبات والأحياء. وليعلم العالمون عدد السنين والحساب ، الذي عنه وبه يكون كل جيئة وذهاب ، أو بقاء لشيء من الأشياء جعله يبقى ، أو يفنى مما فطره سبحانه خلقا ، كما قال جلّ ثناؤه ، وتقدست بكل بركة أسماؤه : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)) [الإسراء : ١٢].

وتأويل (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) ، فهو : والنهار إذا أضحاها ، فبانت وظهرت وتجلّت بتجلّيه ، وبما يظهر من الضوء والنور فيه.

وتأويل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤)) ، فهو إذا غشي الليل الشمس وأتاها ، فوارى بظلمته نورها ، وأخفى بظهوره ظهورها ، ولم تر الشمس ، ولم تنتشر الأنفس (١) ، ويسكن في الليل الإنس والوحش وكل طير ، فهدأ من ذلك كله فيه كل صغير أو كبير ، رحمة من الله به لذلك كله ، ومنّة من الله منّ بها عليهم بفضله ، كما قال سبحانه : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)) [القصص : ٧٣].

وتأويل (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥)) ، فالسماء : هي السماء التي نراها ، (وَما بَناها) فهو : وما هيأها ، من حكمة الله وتدبيره ، ورحمة الله وتقديره.

وتأويل (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦)) ، فهو : والأرض وما دحاها ، ودحو الشيء: هو بسطه وتمهيده ، ونشره وتوسيعه وتمديده ، كما قال سبحانه : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) [الحجر : ١٩ ، ق : ٧] ، وتأويله : بسطناها ومهدناها) (٢) ، كما قال الله سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)) [النبأ : ٦ ـ ٧] ، والممدود إذا أريد مده وامتهاده ، ضرب فيه (٣) وفي نواحيه لتمتد أوتاده.

__________________

(١) في (أ) : الأنس.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (أ) : إذا ضربت فيه. لعلها مصحفة.

١١٨

وتأويل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) فهو (١) : الأنفس ، التي قد علمناها لكل ذي نفس من البهائم والإنس ، وهي التي إذا فارقت وزالت ، ماتت أجسادها وخفت ، فعادت أجسادها أمواتا هلاكا ، ولم ير لها أحد بعد ذهاب أنفسها منها حراكا ، (وَما سَوَّاها) فهو وما هيأها فجعلها حية كما جعلها ، وعدّلها سوية كما عدّلها ، من قدرة الله وإحكامه ، ومنته عليها وإنعامه.

وتأويل (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) ، هو فعرّفها تدبير الله لها وإحكامه هيئتها واجتراها ، فجعلها تبارك وتعالى عارفة ، بكل ما كانت عليه مجترئة أوله خائفة.

ثم أخبر سبحانه أن نفس الإنسان ، من بين ما ذكرنا من الحيوان ، نفس بين الزكاء والفلاح ، والفجور والتدسية والصلاح ، فإن تزكّت بالتقوى أفلحت وزكت ، وإن تدسّت بالفجور عند الله طلحت وهلكت ، فقال سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠)) وتأويل تزكيتها : هو تطهرتها ، وتأويل تدسيتها : فهو (٢) تطغيتها.

ثم ذكر تبارك وتعالى من دساها ، من سالف الأمم في الفجور فأطغاها ، فقال سبحانه : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١)) ، تأويله : بعتاها وغواها ، (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢)) ، وتأويله : إذ قام أخزاها ، لشقوته وشؤمه ، وبرضاء عشيرته وقومه (٣) ، والأشقى فقد يكون إنسانا واحدا ، أو يكون جماعة عدة وأي ذلك قيل به كانت المقالة في الصدق والمعنى واحدا ، كما يقال : أشقى هذه قبيلة فلان وأشقى هذه قبيلة بني فلان ، فيكون ذلك كله واحدا في الدلالة والبيان.

ويدل على أن أشقاهم ، ليس بواحد منهم ، قوله سبحانه : (فَقالَ لَهُمْ) ، فلو كان واحدا منهم ، لقال : فقال له. وقوله : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) ، فلو كان الأشقى واحدا منهم ، لقال : فدمدم عليه ربه ، ولقال أيضا : بذنبه ، ولم يقل :

__________________

(١) في (أ) : فهي.

(٢) في المخطوطتين : من تطغيتها. ولعل (من) زائدة.

(٣) في المخطوطتين : قومه وعشيرته. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

١١٩

(بِذَنْبِهِمْ) ، إذ (١) هو واحد منهم ، ولقال أيضا : عقرها ، ولم يقل : (فَعَقَرُوها) إذا لم يكن إلا من واحد عقرها.

وقد قال غيرنا : إن عاقر الناقة ، كان إنسانا واحدا ليس بجماعة ، وذكروا فيما في أيديهم من الأخبار ، أن عاقرها يسمى ب (قدار) (٢).

وتكذيب ثمود فإنما كان بما وعدها صالح صلى الله عليه إن عقرت الناقة من عذاب قريب أليم ، لا تكذيبها بما لم تزل به مكذبة قديما قبل عقر الناقة من عذاب الجحيم ، إذ يزجرها صالح صلى الله عليه وينهاها ، عما أتت في عقر (٣) الناقة بطغواها ، إذ يقول لهم : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)) ، فتأويل ما ذكر الله من السقيا ، هو ما أعطى الله من لبن الناقة وسقى.

ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه في الأنعام ، وهي الآبال : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)) [المؤمنون: ٢١]. وقوله سبحانه : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)) [يس : ٧٣] والمشارب والسقيا ، هي الموارد والسقايا ، والدمدمة : هي التسوية ، والهلكة لجمعهم المفنية.

وتأويل قوله تبارك وتعالى : (فَسَوَّاها) ، إنما يراد به أدنى ثمود كلها وأعلاها ، ومن أضعف ثمود كلها وأقواها.

وتأويل : (وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)) ، فقد يمكن أن وجهها ومعناها ، هو فلا يخاف أحدا ـ على الضمير (٤) ـ أن يراها بعد تدمير الله لها ، وما أنزل من الهلكة بها ،

__________________

(١) في (أ) : وإنما هو.

(٢) انظر تفسير الطبري ٢٧ / ١٠٢ ، ٣٠ / ٢١٤ ، وابن كثير ٢ / ٢٢٩ ، والقرطبي ٧ / ٢٤١ ، والبيضاوي ٥ / ٤٩٧ ، والسيوطي في الاتقان ٢ / ٢٦٨ ، والدر المنثور ٦ / ٣١٦ ، والثعالبي ٢ / ٣٣ ، ٣ / ١٦٣ ، وأبي السعود ٤ / ٢٤٢ ، وغيرهم.

(٣) في (أ) : أمر.

(٤) يعني على إضمار محذوف تقديره (أحدا).

١٢٠