مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فأجابوه فلم يقنع بجوابهم ، ولم يستمع لمقالهم.

وكان مما أجبته به في مسألته ، وما كان فيها من مقالته ، أن قلت : أخبرني يا هذا إذ(١) أنكرت محمدا وما جاء به من رسالاته ، أليس قد زعمت أن ما كان معه من آيات الله ودلالاته ، (٢) وما كان يري الناس من الأعاجيب ، وينبئهم به من السر والغيب ، ليس كله من الله ، ولا شيء منه بصنع الله ، وأضفت ذلك كله إلى غير الله؟!

فقال : بلى. لا شك ولا امتراء.

فقلت : أفلا ترى أنك (٣) لو أنكرت أن تكون السماء والأرض من الله ولله خلقا صنعا (٤) ، مفتطرا بدعا ، كنت بإنكار (٥) ذلك لله منكرا ، وإن كنت بالله عند نفسك مقرا!! فكان في هذا الجواب ـ بحمد الله ـ ما حجّه وقطعه ، وكفاه في الاحتجاج عليه وكفه عن التشنيع ومنعه ، ولم يتكلم بعده ـ علمت ـ في مسألته بكلمة واحدة ، وأمسك في مسألته عن الاكثار والشّغب والملادة (٦).

ومن الدلائل (٧) على ما ذكرنا ، وقلنا به في ذلك وفسّرنا ، قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)) [الإسراء : ١٠١ ـ ١٠٢]. يقول صلى الله عليه : لقد علمت ما افتطر وجعل ، وخلق وأنزل ، ما جئتك به من الآيات والدلالات ، إلا من خلق وجعل وافتطر الأرضين والسماوات. فلما أزال فرعون صنعهن وخلقهن عن الله ونسبهن إلى السحر ، ازداد بذلك شركا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : إن. وفي (د) : إذا.

(٢) في (أ) و (ج) : ودلالته.

(٣) سقط من (أ) : أنك.

(٤) في (ب) و (د) : ولله صنعا خلقا.

(٥) في (ب) و (د) : وكنت لله بإنكار ذلك منكرا.

(٦) الملادة : اللجاجة والمجادلة.

(٧) في (ب) و (د) : الدليل.

٦٤١

وكفرا إلى ما كان فيه من الشرك والكفر ، وكذلك لو لم ينكر ، إلا آية واحدة مما بصّر وأري من آيات الله لكان بإنكارها مشركا ، صاغرا راغما (١) ، ليس له بالله معرفة ولا إيقان ، ولا بعد إنكاره لها توحيد ولا إيمان.

ومن توحيد (٢) الله ومعرفته ، وما هو أهله من حكمته ، أن تعلم (٣) أنه لم يكلف ولا يكلف أبدا ، (٤) من عبيده عبدا ، ما لا يتسع له ولا يمكنه ، ولا يأمره بما لا يستحسنه ، ولا يريد (٥) أبدا منه ، ما ينهاه تعالى عنه ، ولا يزجره أبدا فينهاه ، عما يريده من الأمور ويشاء ، لما في ذلك كله (٦) من خلاف الحكمة والرحمة ، وما لا يجوز أبدا أن يوصف به من الصفات المستقبحة المذمّمة ، (٧) التي لا يلحق بالله جل ثناؤه منها صفة ، ولا تحتملها من المعارف بالله سبحانه معرفة ، لما يزول بها من الأسماء الحسنى ، والأمثال الكريمة العلى ، ولله جل ذكره من ذلك كله ما طاب وزكى ، ومن قال في الله بخلاف ذلك فقد قال شركا ، كما قال سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠]. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠]. وقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠]. و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١].

ومن الايمان بالله بعد التوحيد لله إثبات الوعد والوعيد ، فمن أنكرهما ولم يكن مثبتا لهما ضلالة وتأويلا خرج بذلك من التوحيد ، وكان بإنكاره لهما متعديا ضالا ، وعميا جاهلا ، وإن هو أنكر شيئا من آيات تنزيلهما كان بالله مشركا ، ومن توحيد الله خارجا وله تاركا.

وكذلك كل من أنكر فريضة من فرائض الله كلها تنزيلا ، فإن كان إنكاره لها

__________________

(١) في (ب) و (د) : عما. مصحفة.

(٢) في (أ) و (ج) : ومن معرفة الله ورحمته.

(٣) في (أ) و (ج) : يعلم.

(٤) في (أ) : أبدا أحدا من عبيده.

(٥) في (ب) و (د) : ولا يريده. مصحفة.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : كله.

(٧) في (ب) : الذميمة.

٦٤٢

عماية وتأويلا ، كان إنكاره لذلك فسقا وحرجا ، وكان جهله بذلك له من الايمان مخرجا ، وكل فريضة فرضها الله تنزيلا على عبد من عبيده ، فعليه من معرفتها والإقرار بها ما عليه من الإقرار بمعرفة الله وتوحيده ، إذا (١) لزمته حجتها ، وحضره وقتها ، فإن كان بتنزيلها جاهلا وله منكرا ، كان جهله بها منه لله شركا وكفرا ، وإن كان منكرا لتأويلها ، مقرا بتنزيلها ، كان بإنكاره فيها للتأويل فاسقا فاجرا ، ولم يكن مع إقراره فيها بالتنزيل بالله مشركا ولا به كافرا.

فهذه جوامع الايمان الواجبة اللازمة ، المشتبهة في حكم الله المتفقة المتلائمة ، التي لا تختلف جملها ، ولا يسع مكلفا جهلها ، والحمد لله كثيرا ، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الذين طهرهم من الرجس تطهيرا.

تمت المسألة بعون الله وتوفيقه.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : إذ.

٦٤٣
٦٤٤

فصول في التوحيد

٦٤٥
٦٤٦

الأصول الخمسة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

روى علي بن عامر ، (١) قال : قال القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه :

من لم يعلم من دين الإسلام (٢) خمسة من الأصول ، فهو ضال جهول.

أولهن : أن الله سبحانه إله واحد ليس كمثله شيء ، بل هو خالق كل شيء ، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير.

والثاني من الأصول : أن الله سبحانه عدل غير جائر ، لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يعذبها إلا بذنبها ، لم يمنع أحدا من طاعته بل أمره بها ، ولم يدخل أحدا في معصيته بل نهاه عنها.

والثالث من الأصول : أن الله سبحانه صادق الوعد والوعيد ، يجزي بمثقال ذرة خيرا ، ويجزي بمثقال ذرة شرا ، من صيّره إلى الثواب فهو فيه أبدا خالد (٣) مخلد ، كخلود من صيّره إلى العذاب الذي لا ينفد.

والرابع : من الأصول أن القرآن المجيد فصل محكم ، وصراط مستقيم لا خلاف فيه ولا اختلاف ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى.

والخامس من الأصول : أن التقلب بالأموال في التجارات والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام ، وينتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام ، والمكافيف والزّمناء ، وسائر الضعفاء ، ليس (٤) من الحل والإطلاق كمثله في (٥) وقت ولاة العدل والإحسان ،

__________________

(١) لم أقف على ترجمته.

(٢) في (أ) : يعرف من الإسلام. وفي (ب) و (ج) : يعلم في دين الإسلام.

(٣) في (ب) : خالدا مخلد.

(٤) في (ب) : ليس هو من الحل والإحلاق.

(٥) في (ب) : في مثل وقت.

٦٤٧

والقائمين بحدود الرحمن (١).

فجميع هذه الأصول الخمسة لا يسع أحدا من المكلفين جهلها ، بل تجب عليهم معرفتها.

تم كتاب الخمسة الأصول والحمد لله كثيرا.

* * *

__________________

(١) أي : أن ذلك يشمل جميع وجوه الكسب ، واختلاف الكاسبين ، ولو كانوا بعيدين عن أعوان الطغاة المعطلين للأحكام ، وذلك لأن تشابك أمور المعاش والاقتصاد تجعل أي كسب في مثل هذه الظروف لا يمكن أن ينجو من التلوث بمثل هذه الظلامات ، وفي هذا الحكم حث على العمل لتغيير الجائر من الأوضاع ، تطهيرا للكسب والمأكل ، وإراحة للضمير.

٦٤٨

[فروض الله على المكلفين]

قال القاسم بن إبراهيم ، صلوات الله عليه :

سألتم ، يا ولدي ، وفقكم الله للرشاد ، عن أمهات فروض الله على من كلّفهن من العباد ، وأحببتم أن تعلموا من جملهن ، أصولا كافية في تفسير كلهن ، بقول جزم مختصر ، قريب المأخذ والمدّكر ، ليس فيه حيرة ولا تخايل ، ولا تكثر منه الأقوال.

فأول ـ يا بني ـ فرض الله على خلقه ، ومقدمات أمهات فرضه ، الإيقان لله بوحدانيته ، والإقرار له بربوبيته ، لأن من أقر لله بالربوبية عرف أنه لله عبد ، ومن أيقن له بوحدانيته علم أنه ليس له والد ولا ولد ، وبرئ عنده من مكافأة الأنداد ، وعزوجل ثناؤه عن مناوأة الأضداد ، [لأنه] لا يكون من معه ند أو ضد ، ومن له في الأوهام والد أو ولد ، أحدا أبدا (١) ، وصمدا فردا.

وكيف يكون عند من توهم ذلك فيه سبحانه واحدا ، وقد توهم معه أبا وابنا أو ندا أو ضدا ، ومن شبه الله بشيء من خلقه ، فقد خرج من المعرفة بالله وحقه ، وجعل لله ندا مماثلا ، وكفيا ونظيرا معادلا ، في كل ما يشبهه به فيه من أوصاف الخلق في معنى واحد أو في كل معنى ، لأن في تشبيهه له سبحانه ، بمعنى واحد من الخلق ، إبطال الوحدانية ، ومفارقة الأزلية ، ومن جوّر الله في حكمه فقد أشرك به ، إذ شبهه بالجائرين ، وخرج بتجويره له في حكمه من توحيد الله رب العالمين ، وكان بفريته على الله في ذلك من المشركين ، حكمه حكمهم ، واسمه اسمهم ، لأنه أشرك بين الله وبين الجائرين في الجور ، ومثّله سبحانه بهم فيما مثّل فيه بينه وبينهم من الأمور.

وكذلك كل تمثيل أو تشبيه قيل به فيما بين الله وبين خلقه فهو شرك بالله صريح ، ومعنى شرك صاحبه به فهو شرك في اللسان صحيح ، لأنه أشرك بين الله وغيره ، قال به في ذات الله أو تجويره.

__________________

(١) في (أ) و (ب) : والد وولد ، أحدا أبدا ، فردا صمدا.

٦٤٩

وكل (١) من وصف الله بهيئات خلقه ، أو شبّهه بشيء من صفاتهم ، أو توهمه صورة ما كان من الصور (٢) ، أو جسما ما كان من الأجسام ، أو شبحا ، أو أنه في مكان دون مكان ، أو أن الأقطار تحويه ، أو أن الحجب تستره ، أو أن الأبصار تدركه. من جميع خلائقه أو شيء منها ، أو أن شيئا من خلائقه يدرك شيئا مما خلق ، وذرأ وبرأ ، أو مما كان(٣) أبد الأبد ، فقد نفاه وكفر به وأشرك ، وعبد غيره.

فافهموا ، وفقنا الله ـ وكل مؤمن ـ لإصابة الحق وبلوغ الصدق ، إنه قريب مجيب.

* * *

__________________

(١) في (ج) : فكل.

(٢) في (ب) و (ج) : الأصوار.

(٣) في (ب) : مما خلق أبد.

٦٥٠

[فصل في التوحيد والعدل]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من عجز إدراك الحواس بارئها ثبت له التوحيد ، وباستحقاق التوحيد ثبت العدل ، لأن المتفرد بالوحدانية لا يجور ، لوجود الجور فيمن ليس بواحد ، ولمّا ثبت العدل وجب الوعد للمطيع ، والوعيد على العاصي ، ولمّا صح الوعد والوعيد وجب التحاجز بين المتظالمين ، وهو بالرسول الآمر الناهي ، بما آتاه الله ، بعد استحقاقه للرسالة منه بالطاعة ، والاتصال به (١) ، فأظهر عليه علامة الاتصال بالمعجزات والدلالات ، فرقا بين المتصل والمنقطع عن الله ، ليصح صدق خبر رسوله عنه ، وكما لم يجز في العقل مشافهة الباري ، وخطابه لخلقه ، خاطبهم منهم بهم ، (٢) بجنسهم ومثلهم ، إذ ليس في فطرهم غير ذلك.

تم والحمد لله كثيرا.

* * *

__________________

(١) هذه النظرية القائلة بأن النبوة وغيرها من المقامات الدينية جزاء على الأعمال ، قال بها جماعة من العلماء ، مستدلين بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) ، وغيرها.

(٢) سقط من (ب) و (د) : بهم.

٦٥١

[فصل في التوحيد والعدل]

إن سأل سائل فقال : ما مذهبك؟ فقل : أنا قاسمي المذهب في القول بالتوحيد والعدل ، ونفي الجور والتشبيه عن الله ، ورأي السيف في القريب والبعيد ، إذا عاند بعد الإنذار والبيان ، فاطمي المقال موالاة العترة والقول بإمامة سبطي الأئمة سيدي شباب أهل الجنة ، وفي إثبات الدعوة وإيجاب البيعة لمن قام بالحق من ولديهما عليهما‌السلام ، إذا كان عالما بالحق عاملا بأحكامه ، داعيا إلى سبيل ربه ، ناصرا لأهله ، وعلوي السيرة في موالاة الأولياء ومنابذة الأعداء ، والصبر على البلوى ، والغمض على القذى ، مع شهر السيف على من ينكث البيعة ، ويحرف عن الدين ، ويخرج عن إمام المسلمين ، فهذا مذهبي وديني ، فمن أبى أنكر ، ومن أحب أقر ، فأنا لا أبالي بإنكار منكر و [لا] (١) أباهي بإقرار مقر ، لأني أرى (٢) الحق لا يستوحش من الوحدة ، ولا يبالي عمن أعرض وتولى. والسلام.

* * *

__________________

(١) في المخطوطات الوحيدة : منكر أباهي.

(٢) في المخطوطات الوحيدة : مقر لأرى الحق.

٦٥٢

[أصول الدين]

قال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام أصول الدين ثمانية عشر أصلا :

أولها : التوحيد.

٢ ـ والعدل.

٣ ـ وتصديق الوعد.

٤ ـ والوعيد.

٥ ـ والنبوة.

٦ ـ والإمامة.

٧ ـ والولاء.

٨ ـ والبراء.

٩ ـ والصلاة.

١٠ ـ والزكاة.

١١ ـ والصوم.

١٢ ـ والحج.

١٣ ـ والجهاد.

١٤ ـ والأمر بالمعروف.

١٥ ـ والنهي عن المنكر.

١٦ ـ وبر الوالدين.

١٧ ـ وصلة القرابة.

١٨ ـ وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، فجملة ذلك ثمانية عشر أصلا.

ثم اعلم أن لكل أصل من ذلك حقيقة ، فحقيقة التوحيد : نفي جميع صفات التشبيه

٦٥٣

عنه ، وحقيقة العدل : نفي الفاقة ، وحقيقة تصديق الوعد والوعيد : الخلود ، وحقيقة النبوة : المعجزات ، وحقيقة الإمامة : الأربع الخصال ، القرابة من رسول الله صلى الله عليه ، والعلم البارع ، والزهد ، والشجاعة ، وحقيقة الولاء والبراء : الحب في الله والبغض في الله ، وحقيقة الصلاة : المحافظة على أوقاتها والمواظبة لها. والخمس من الطهارة ، وهي طهارة القلب ، وطهارة البدن ، وطهارة اللباس ، وطهارة الماء ، وطهارة المصلى.

والست الخصال :

أولها : الأذان ، والافتتاح ، والتكبيرة ، والقراءة ، والتسبيح ، والتسليم.

وحقيقة الزكاة : أخذها من حقها وصرفها في أهلها ، وحقيقة الصيام : اجتناب الرفث ، ومجالسة أهل البغي ، وحقيقة الجهاد : بذل المال والمهجة ، وأن لا يولي دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، وحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : قول النبي صلوات الله عليه : (من غابت عليه شمس نهاره ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر فقد تبوأ مقعده من النار) ، (١) وحقيقة بر الوالدين : قول الله عزوجل : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء : ٢٣] ، وحقيقة صلة القرابة : التفقد لهم والاطلاع لأحوالهم ، فمن كان منهم مؤمنا كان عليك أن تؤدي ما في رقبتك من حقه ، لأن حقه فرض عند الله ، وذلك قول الله سبحانه : (الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)) [الرعد : ٢١] ، ومن كان منهم عاصيا وعظته ، لقول الله سبحانه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)) [الشعراء : ٢١٤] ، وتحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لها ، وهذا بحر عميق ، غرق فيه بشر كثير.

* * *

__________________

(١) لم أقف على هذا الحديث.

٦٥٤

تفسير

العرش والكرسي

٦٥٥
٦٥٦

صفة العرش والكرسي وتفسيرهما

سماع علي بن محمد بن عبد الله عن الحسن بن القاسم رضي الله عنه.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على كل حال

قال علي بن محمد : حدثني الحسن بن القاسم ، عن الحسين بن القاسم رضوان الله عليه ، قال : سألت أبي رحمه‌الله وأرضاه ، عن تأويل ما ذكر الله سبحانه ، من كرسيه وعرشه؟

فقال : سألت يا بني فهّمك الله فاعلم وافهم ، وليكن أول ما تعلم فيما سألت عنه وتتفهم ، أن يخرج في ذلك كله من علمك وفهمك ، كل خاطرة خطرت بقلبك ، أو وقعت في وهمك ، لله فيها بمعنى من معاني خلقه كلها تشبيه أو تمثيل ، أو لشيء (١) مما صنع الله كله بالله تسوية أو تعديل ، كبير ذلك كصغيره ، وقليله كله (٢) ككثيره.

فهذا يا بني هو الأصل في توحيد الله المقدم الأول ، والقول الصادق على الله وفي الله الصحيح المتقبّل ، الذي لا يقول بغيره في الله ولا على الله إلا كل مفتر أفّاك ، يلزمه في قوله بذلك على الله اسم الجهل بالله والإشراك ، وفي توهّم كل متوهّم لذلك على الله (٣) الخروج مما نزل الله في توحيده من كل تنزيل ، (٤) نزله الله سبحانه في القرآن أو في التوراة أو في الزبور أو في الإنجيل.

وتأويل ما سألت يا بني عنه ومعناه ، فأبين بيان ـ بحمد الله ـ لمن فهّمه الله إياه ، وإنما تلبّس ذلك وأظلم على من لبّس فيه على نفسه ، فأسلمه الله تبارك وتعالى فيه ـ صاغرا ـ إلى حيرته ولبسه ، وسبيل فهمه وعلمه منير مضي ، لا يجهله ـ بمنّ الله ـ من

__________________

(١) في (ب) و (د) : أو بشيء مما خلق لله وصنع كله.

(٢) سقط من (ب) : كله.

(٣) سقط من (ب) : الله.

(٤) في (ب) : تنزيله نزله. مصحفة.

٦٥٧

خلق الله زكي ولا رضي.

فمن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وقوله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]. وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٣]. فنفى سبحانه عن نفسه قليل النوم من السّنة نفيه للكثير ، تبرّيا منه وتعاليا عن مشابهة الأشياء كلها في معنى من معانيها كبير أو صغير. والحي : فهو الذي لا يغيره أبد ولا دهر ، والقيوم : فهو الدائم الذي لا يلم به تبدل ولا تغيّر (١). وكذلك قال لرسوله ، (٢) صلى الله عليه وعلى آله (٣) : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢)) [الإخلاص : ١ ـ ٢] (٤). ثم قال في آخر السورة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤]. والصمد فهو الذي ليس من ورائه مصمود ولا معمد ، (٥) وليس بعده في جلال ولا كبرياء بعد. والأحد : فهو الواحد الذي ليس بشيئين اثنين ، جزءين كانا أو غير جزءين ، ولا يتوهم أبدا سبحانه بمعنيين متغايرين ، أحدهما في الجزئية غير الآخر ، فيوصفان بالتباين والتغاير.

فلا يخلو كل واحد من الجزءين من أن يكون قادرا على حاله ، (٦) أو عاجزا عن مبلغ قوة الجزء الآخر في قدرته ومثاله ، فإن كان الجزء عاجزا لم يكن ربا ولا قويا ، وإن كان قادرا قدرته كان له في الربوبية مساويا ، فكانا جميعا ربين اثنين ، وإلهين متساويين ، وكان في ذلك الخروج من وصف الله بالوحدانية ، ومما وصف به نفسه جل

__________________

(١) في (ب) : تبديل ولا تغيير.

(٢) في (ب) : لرسول الله.

(٣) في جميع المخطوطات : آله وسلم. ولعل (وسلم) زيادة.

(٤) في (أ) و (ج) : أكمل (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ).

(٥) في (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ه) : معتمد.

(٦) في (ب) و (د) : حياله.

٦٥٨

جلاله من التفرد بالربوبية ، فلم يكن في قولهم إلها واحدا ، وعاد في وصفهم (١) كثيرا عددا.

ومن دلائل الهدى والحق ، في بعد ربنا من مشابهة الخلق ، ما يقول الله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣]. وكيف يكون لمن كان أولا آخرا ظاهرا باطنا من الأشياء شبيه أو نظير؟! أو يعتقد (٢) ذلك في من كان كذلك أبدا عقل صحيح أو ضمير؟!

وأول الأشياء أبدا غير آخرها ، وباطن الأشياء فغير ظاهرها ، فكفى بما قال سبحانه في ذلك (٣) بيانا ودليلا ، على أن لا يكون شيء من الأشياء كلها له شبيها ولا مثيلا.

وفيما من ذلك أبانه ، يقول سبحانه : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤]. فدل سبحانه على نفسه بأنه هو ، وأنه لا نظير له ولا كفو.

وكذلك قال من رسله كل من قد (٤) عرفه ، عند ما سئل عنه فوصفه ، أو دلّ من جهله عليه ليعرفه ، فقال إبراهيم عليه‌السلام خليله ، لمن كان من قومه يجهله ، ولمن كان يلحد فيه ويجادله ، يا قوم : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩]. وقال صلى الله عليه لقومه ، عند ما منّ الله عليه به من معرفته وعلمه : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ

__________________

(١) في (أ) : صفتهم.

(٢) في (ب) : ويعتقد.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : في ذلك.

(٤) سقط من (أ) : قد.

٦٥٩

(٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)) [الشعراء : ٧٥ ـ ٨٢].

وكذلك قال نوح من قبله ، صلى الله عليه وعلى جميع رسله : يا قوم (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)) [نوح : ١٣ ـ ٢٠]. ومثل هذا قوله صلى الله عليه في تعريفه لله من جهله فكثير ، في أقله ـ والحمد لله ـ لمن أيقن بالله هداية جلية وتبصير (١).

وفي مثل ذلك ما يقول موسى ، لفرعون إذ طغى وتعامى ، إذ قال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩)) [طه : ٤٩]. فقال صلى الله عليه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه : ٥٠]. وكذلك قال عليه‌السلام ، عند ما دار بينه وبين فرعون في الله الكلام ، إذ يقول فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥)) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٥]. فقال لهم إذا قالوا مقالته ، وسألوه عليه‌السلام مسألته : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦)) [الشعراء : ٢٦]. فقال فرعون لهم ، عند جواب موسى إياهم : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)) [الشعراء : ٢٧]. فقال موسى لهم جميعا : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)) [الشعراء : ٢٨]. فدلهم في ذلك كله ، على الله بصنعه وفعله ، ليس منهم من يدل على الله سبحانه بنعت ولا بحلية ، ولا يصفه جل ثناؤه بصورة ولا هيئة ، ولو كان كما قال الضالّون العمون ، الذين لا يعقلون ولا يعلمون ، على ما ذكروا من صورة آدم ، لكانت الصورة من لحم ودم ، ولوصفه (٢) العارفون به وسموه ، بالصورة والهيئة وحلّوه.

وفي مثل ذلك من وصفه بصنعه وخلقه ، وصدق القول عليه فيه وحقه ، ما تقول

__________________

(١) في (ج) : وتبصرة.

(٢) في (ب) و (د) : ولو وصفه. مصحفة.

٦٦٠