مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

منهما المتغايرة ، ويسخر من هذا التناقض ، إذ أنهما امتزجا ، وهما اللذان ما عرفا هذا الامتزاج من قبل على حد قول الثنوية!

فكيف رضي ممثل الخير ، الذي هو الأصل في وجود الأشياء ، وقبل الشر ممثل دولة الشيطان في ملكوته ، وكيف التقى النور بالظلام ولم؟!

كما ينقد مقالتهم بأن النور خير ، وهو لا يلزم والعقل يشهد بغير ذلك ، وكذلك قولهم بأن الظلام شر خالص ، فلا النور خير خالص ، ولا الظلام شر خالص ، وكلاهما يحمل صفات الخير والشر ، ولا حكم لأحدهما على الآخر ، ولا حكم لهما على المخلوقين ، وهما مخلوقان ككل المخلوقات تنفعل وتتأثر كما ينفعل كل مخلوق ويتأثر ، ومنهما علل للأشياء ومعلولات ، ويحكمهما قانون الحركة وناموس الخالق في إدارة الكون والحياة.

وما يحدث للإنسان من حياة وموت ، وصحة ومرض ، وفرح وحزن ، ليس من شأن النور أو الظلام أبدا ، وهي أفعال للإنسان نفسه خلقها الله فيه خالق كل شيء ، كما أن الله جعل في الشمس الحرارة والضياء ، وفي الماء الحياة والغرق.

وقد ورث ابن المقفع معتقدات ماني ، بحكم البيئة التي ولد فيها ، وآمن بها ودافع عنها ، وورث حقده على الإسلام ودولته التي قهرت بلاده وكسرت شوكة الكهنة وكسرت الأصنام ، ولم يعد لماني وجود إلا في نفوس الحقدة على الإسلام الغالب آن ذاك.

ووضع ابن المقفع كتابا في نصرة العقائد الثنوية ، يدعو فيها المسلمين إلى الإيمان بها ، وزاد على ذلك أن وضع لأتباع ماني خطة في تضليل الضعفة والعامة وأصحاب الأهواء من المسلمين عن عقيدة التوحيد!

وكلام ابن المقفع في جملته عبارة عن هرطقات وطقوس وطلاسم ، تليق بهذيان الكهان في معابدهم تستهوي الجهال وتستميل أصحاب الأهواء ، وترضي نفوس الأتباع في ظل الأبخرة المتصاعدة ، والأضواء المتناثرة من أرجاء المعابد ، وخلف الصور التي يقدسونها.

فالله رحمن رحيم ، وعلى الرغم من ذلك يلومه على خلق الشر في العالم متمثلا في الشيطان ، وهو متعال وفي الوقت نفسه هو في المباول والقذرات والأوحال بحكم

٦١

نورانيته المحسوسة في فهمه واعتقاده!

كما أنه يملك الكون ، وفي الوقت نفسه معه آخر يملك ويحكم ، ينقض أحكامه ، بل له أحكام قاهرة عليه ..! وكل ذلك غاية التناقض والفساد.

ثم وصف ابن المقفع إله النور بالعظمة ، وهي تلك التي اضطرت أعداءه لتعظيمه واحترامه ، وفي أثناء ذلك لا يفرق بين العامي والعمي ، مما يجعل الإمام القاسم ينتقصه ويصفه بالجهل وعدم معرفة الفروق اللغوية بين الألفاظ ، إذ دلالة العامي غير العمي!

ويقف الإمام القاسم عند دلالة التسبيح والتقديس عند الثنوية ، والفرق بينهما وبين المقصود منها في الدين الإسلامي ، فعندهم ألفاظ جوفاء ، يقول الإمام القاسم : نقول في الله الملك القدوس ، كما قال ، إذ كان كل شيء فبتقديسه نال من قدس البركة ما نال.

ومسبّح فقد نقولها ، إذ نجدها له ونعقلها ، من كل ما هو سواه مفطورا ، ظلمة كان ذلك أو نورا ..

ويرد زعم ابن المقفع بعد ذلك تمييزه بين الأشياء من حيث كونها محمودة أو مذمومة ، فقال : «وإن منها» ، وهو اقتطاع لا تقبله العقول ، ثم إن التفاضل يقع في محمود الأمور ومذمومها ، مما يجعل الأمور لا تبقى خيّرة بصفة دائمة ، أو شريرة كذلك بصفة دائمة ، وربما انقلب النور شرا ، أو الظلام خيرا ، حسب طبيعة الظروف والأحوال.

ويفضح تناقضه في كون بعض الناس يرجون من الظلمة ـ التي قال فيها أنها شر ـ الخير ، فيقول له : من الذي رجا منها الخير ، أهو النور أم أعوانه ، أم اتباع الظلمة على ما فيهم من شر!

وهو من قبيل الجدل اللازم لقضية ودعوى الخصم. والذي انتهى به إلى القول بأن ابن المقفع تخبط بين إلهين ، ووصفهما بأوصاف مقلوبة ومغلوطة تدل على تشوشه الذهني ، ويعلق مفسرا ذلك بقوله : «وليس علته فيما أحسب من ضلاله ، ولا علة من تبعه عليه من جهاله ، إلا قلّة علمهم بما شرع الله به دينه ونزّل به كتابه من الحكمة ؛ لا عن شبهة دخلت عليه ـ ولا عليهم ـ فيما وصفوا من النور والظلمة».

٦٢

ويبدو من كلام الإمام القاسم أنه يوجه حديثه إلى ابن المقفع وحركة كبيرة من جمهور الثنوية من المرتدين عن الإسلام ، وجهلة الاتباع والغواة الذين أغراهم ابن المقفع وحركته ، التي عملت كطابور خامس بين صفوف المسلمين تعمل على زعزعته.

٦٣

العقيدة وهدم الإسلام ومباديه الثابتة

ويقول الإمام القاسم إن عقائد المانوية أهون من أن يرد عليها أمثاله ، غير أن تجاهل العلماء لهم ، وجهل بعضهم بالرد عليهم ، ضخّم دعوتهم وشأنهم عند العامة فانقادوا لهم.

ثم يبين سر التوحيد والوحدانية والتفرد والصمدانية وتنزيه الخالق من الشريك والند والولد ، ويعقب ذلك تفسيره لسبب قذف الله الشياطين زمن نزول الوحي ، وكونه أمرا معقولا ليس لابن المقفع أو غيره عليه مأخذ ، ويبين السبب في نزول الوحي منشورا ، وأن للجن مقاعد للتسمع على أهل السماء ، وما الذي أدى إليه رجم الشياطين وحراسة الوحي.

ثم تلى ذلك الحديث عن علة خلق الله بعض عباده أطهارا بررة ، وبعضهم أرجاسا فجرة ، ولم يسمح الله عزوجل ، بظفر أعدائه بأوليائه ، وأن الله أن ينصر أولياءه بما يشاء.

وغلبة جند الله على حزب الشيطان أمر نافذ وحاصل ، وتفسير قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وأن الله هو الرامي ، وإثبات قدرة الله وعدله بين خلقه ، وكذلك بيان السبب في قتل أعداء الله لأوليائه ، وأنه أمر يرجع لأصل الطبيعة الإنسانية ، يقول الإمام القاسم : «قاتله الله وقتله ، لو لم يقتلوا لم تجب لهم من الكرامة عنده ما أوجبه ، ولم يدركوا ثواب ما كان القتل فيه سببه ، ولو كان له علينا في قتلهم مطلب لكان في موتهم».

وقد أمهل الله عباده ، ليعرف المطيع من العاصي ، وأن فساد الأبدان بالعلل المهلكة ، والأديان بالعقائد الفاسدة يرجع للإنسان ، يقول الإمام القاسم : «لقد وفّاهم سبحانه طبائعهم مفصلة ، وسلمها إليهم مكملة ، عن هلكات العصيان ، وشين معايب النقصان ، فما دخلها من سقم بدن ، أو فساد متديّن ، فبعد اعتدال تركيبها ، عن كل نقص من معيبها ، وما فسد لهم من دين بعصيان ، فبعد هدى من الله وبيان ، وتخيير في الطاعة وإمكان».

٦٤

والله لا يضل عباده ولا يعذبهم بغير ذنب ، ولا يجبر أحدا على طاعة أو معصية ، ويصف رحمة الله وعدله بقوله : «كيف وهو من عصاه استرضاه ، ومن استكبر ـ وهو القادر عليه ـ أملاه ، ثم كرر عليه في دعواه الهدى نداه ، ثم من قبل حظه فيه جازاه ، ومن أبى عطيته من الخيرات حرمه ، وهو الذي قبح من كل ظالم ظلمه».

ونعم الله على خلقه كثيرة وعلى وحدانيته شاهدة ، فهو الصانع والخالق والمبدع والحكيم ، تقدس عن كل نقص ، ومدح بكل كمال هو به موصوف.

وشكك ابن المقفع مرة أخرى في الرسالة والرسول ، وعمل في القدح في أمانته وصدقه ، فينكر عليه الإمام القاسم تسائله ، ويرده إلى الجهل ، ويبين أن الإسلام دعوة للمعرفة والبحث والنظر : «أهو ـ ويله ـ يحمل على خلاف ما يعرف؟! وإنما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى المعارف ، أو يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكفّ عن الطلب والبحث ، وهو الكاشف عن أسرار الغيوب لكل متبحث ..؟!».

وعمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أمره الله به ، من الدعوة إليه على بصيرة من النظر والتأمل وإعمال الفكر والبحث ، ويأتي الإمام القاسم من النص بما يرد دعوى ابن المقفع ، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي حدث اتباعه بما ركبه الله فيهم من العقل ، وخاطبهم خطاب العاقل إلى العقلاء ، وردهم إلى النظر والتأمل والإقناع بكل سبيل ، ومدح المعرفة بأنواعها ، ومدح العلم والعلماء : «فهل دعا أحد إلى إخلاص الفكر دعاه ، أو حدى أحد من الناس على النظر حداه؟!».

وقد دعا ابن المقفع إلى شقّ الصف المسلم والإغارة على الدولة والحكم ، بدعوته إلى الشعوبية المقيتة التي أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركها فقال : «دعوها فإنها منتنة» ، فالقبلية دعوة نتنة والشعوبية دعوة أنتن ولا عصبيات في الإسلام ، ومن دعا إليها بغيض عند كل موحد ، وذم ابن المقفع الإسلام وأهله ، بما أوجب قتله فهل أخطأ من قتله؟!

وبيّن الإمام القاسم فضائل الإسلام على الناس أجمعين ، ودعا كل قادح أن يفرق بين الإسلام والمسلمين ، وبين الشرع وحكام الجور والظلم فليسوا هم الإسلام ، وتاريخ الإسلام طفح بأفعال وسيئات هؤلاء الحكام ، كغيرهم من حكام الأرض ، والإسلام يبرأ

٦٥

من هؤلاء أجمعين.

يقول الإمام القاسم في خطأ المغرض في فهمه : «ولكني آراه ظن ديننا ، وتوهم أحكام ربنا ، أحكام معاوية بن أبي سفيان ، وما سنّ بعد معاوية ملوك بني مروان ، من تناقض أحكامها ، وجورها في أقسامها ، أولئك فأعداء ديننا ، وحكم أولئك فغير حكم ربنا ، وحكم ديننا فالحكم الذي لم يخالطه قط جور ، وأموره من الله فالأمور التي لا يشبهها أمور ، ويحق بذلك أمر وليه أحكم الحاكمين ، وحكم جاء من رب العالمين».

ولم يترك ابن المقفع مجالا لأحد من القضاة المنصفين في الحكم عليه بالردة والكفر ، فسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذمه ، اتهمه بالسحر ، وأشرك من باب المغالطة والتمويه سيدنا موسى عليه‌السلام ، فقدح في إمامين من أئمة الأنبياء ، واتهمهما بالجنون.

فبيّن الإمام القاسم وجه الحكمة في معجزة موسى ومحمد عليهما‌السلام ، وعلق على ذلك بأنها عجمة ابن المقفع في فهم النص فجهل ألفاظه ، وغابت عنه دلالاته ، فوقع في أخطاء شنيعة في فهم النص.

ولا يرى الثنوية لخلق الله للعالم سببا أو علة! .. كما يعيب على ابن المقفع سقوط لغة الخطاب وتجاوز الأدب مع الله فيقول : «تحسّر الله .. اغتاظ» وهو ما لا يليق بمقام الألوهية. والله ليس له شبيه أو مثل ، وما يحدث من انفعالات للخلق لا يحدث مثلها للرب.

أما لم خلق الله العباد؟ .. فلعبادته وطاعته والتسليم له ، ولاختبارهم في هذه الحياة الدنيا وابتلائهم ، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها!

وتساءل ابن المقفع هل أراد من وراء اختبار وابتلاء خلقه الخير أم الشر؟ .. «فالخير أراد بهم جميعا سبحانه معجلا ، وثواب المحسن منهم أراد جل ثناؤه مؤجلا ..» هذا رد الإمام القاسم عليه ، ويعلل سبب تأجيل الثواب والعقاب للآخرة ، ويرجعه لاختلاف طبيعة الدارين ، وكذلك بنية الإنسان ، وحكمة الله في أفعاله.

وانتهى التشبيه بابن المقفع إلى القول بالمكانية والعرش والكرسي ، وهو مما ينفى عن الله عقلا ونقلا : «أما علم إن ما يراد بالاستواء ، إلا جلال الله والإعلاء ، بملكه لما

٦٦

فوق العلى ، وأن استواءه على ذلك كاستوائه على الأرض السفلى ، وأن «استوى» في هذا كلمة من الكلام ، جائز معناها بين الخواص من العرب والعوام ، تقول العرب إذا ظفرت بأحد ، أو غلب على بلد : لقد صرت إليها ، واستويت عليها ، تريد غلب سلطاني فيها ، فهذا وجه قوله جل ثناؤه : استوى ، لا ما يذهب إليه من العمى».

وكذلك العرش وحمل الملائكة له ، وتصوير حالهم وهم حافون من حوله ، وأوّل الإمام القاسم العرش بالسقف ، وكذلك استتر ابن المقفع خلف بعض صفات الله الفعلية الخبرية كالاستدراج والكيد ، ليقدح في ذات الله ، والحب والرضا والفرح .. وغير ذلك.

ويرجع بنا الإمام القاسم إلى قضية التأويل في القرآن ، وحظ العالم من اللغة ، فلها المرجعية الأولى في فهم النص والحكم على المتشابه :

«وإلا فلم لم يفكر ؛ إن كان ذا فطنة وينظر ، إن كان من أهل النظر فيما استدل به أهل الكتاب والعرب ، من هذه الأحرف على ضمائر كل مغيّب ، فكانت هي الدليل لهم على الكتاب ، والسبب لعلمه دون جميع الأسباب! ..».

ثم أنكر ابن المقفع وجود الصانع الأدلة المؤدية إلى معرفته ، والأدلة كثيرة ومتواترة في النفس والآفاق ، وما أبدع الله في الكون من الإتقان والحكمة وعظيم الصنع ، وقد عرّفنا الله عليه ، والمتأمل واجد ضرورة توحيد الله ، فضلا عن وجوده في قلبه.

والله غيب ، ومعرفة الغيب تكون بالنظر والاستدلال ، ولا معرفة إلا بعد نظر وهو ما يتقاصر عن إدراكه ابن المقفع واتباعه!

ويبين الإمام القاسم أن ورثة العلم هم أهل بيت النبوة ، وهم الذين يعرفون تأويل الكتاب ، ويحكمون بين الخلق بالحق والرشاد.

ثم تحدث الإمام القاسم رادا على ابن المقفع ، فبين أن الله خلق العالم من العدم الذي هو في مقابل الوجود ، وكذلك أثبت قدم البارئ وحدوث العالم بالأدلة الواضحة والبراهين المفحمة للخصوم ، وكل ذلك دعاه للحديث عن دليل الممكن والواجب ودليل الحدوث ، ودليل الحركة والتغير ، وعن الجوهر الفرد ، ورد على تصور اليونان للقديم ووجود العالم وبيّن معنى التناهي وكونه منفيا عن الله تعالى. والحد في المنطق

٦٧

والمحدود ، والفرق بين الحد المنطقي والحد الذي يعني حد الشيء ونهايته. والوزن والحجم والمثل ، والأعيان والأعراض ، في فهم عميق لدلالات المصطلح ، ووجوه تعلقه.

ثم نقد ابن المقفع في زعمه كثرة النور وكونه لا يحصى ولا يتناهى ، فيرد عليه بأن الليل هو الآخر بظلمته لا يتناهى ولا يحصى!

ثم يحكي ابن المقفع حكاية أقرب للأسطورة والخرافة ، عن مملكة الشيطان وجنوده وأعوانه ، وعرشه ووكلائه وسجونه وحصونه.

ويعقب ذلك نقده لفكرة المزاج بين النور والظلمة ، وكيف تزاوجا ليؤدي إلى وجود العالم بأعيانه وأشيائه.

والنور والظلمة كإلهين للخير والشر والهداية والضلال والله والشيطان ، حسيان جسميان ، فرد عليهم بأن الإله واحد أحد ولا يكون جسما ولا عرضا ، كما رد عليه بأن الأشياء لا تتغير ، أو لا يكون إلا مثل جوهره.

أما من غرائب الثنوية زعمهم بأن النور ، وهو في مملكة العالم العلوي ، ترك مملكته وصار إلى الأرض السفلى ، وكذلك الظلمة صارت إلى علو.

وللثنوية أسماء أشبه بالتعاويذ والطقوس ، تنم ـ على زعمهم ـ عن التعظيم كأبي العظمة ، وأم الحياة المتنسمة ، وحبيب الأنوار ، وحراس الخنادق والأسوار ، والبشير والمنير والإنسان القديم .. إلخ وما الأراكنة ، وعمود الشبح ، إلا من خرافاتهم.

ويحذر الإمام القاسم المسلمين من دعوة المانوية وابن المقفع ، ويختم الرسالة برده عليهم في إنكارهم البعث والنشور ، وكذا في إنكارهم للألوهية.

وهكذا فنّد الإمام مزاعم ابن المقفع الثنوية ، ورد الاعتبار للإسلام ، وانتصر للتوحيد ، في كتاب يعد من أكبر كتبه

* * *

٦٨

النصرانية والنصارى

وها هم النصارى يحرفون الإنجيل ، ويشركون بالله سبحانه ، ويجعلون معه آلهة من البشر ، فيدعون أن عيسى عليه‌السلام إله ، ويضللهم قساوستهم عن معنى الأب في الإنجيل ، ويحرفون الإنجيل ، وينكرون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي شهد بها الإنجيل ، وحكاها الله في القرآن ، إذ قال على لسان عيسى عليه‌السلام : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦].

فهب الإمام القاسم لقراءة التوراة والإنجيل والزبور ، قراءة مستوعبة فاحصة ، وإني لأقف مشدوها هاهنا!! هل كان الإمام القاسم ملما باللغات التي كتبت بها الكتب السماوية ، لأنه قبل عصر الترجمة؟! أم أنه سعى إلى ترجمتها؟! وكلا الأمرين ليسا بعيدين!

وأخذ الإمام ينقض الخرافة النصرانية في العقيدة ، معتمدا على نصوص الإنجيل نفسه.

ولا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن معظم الذين كتبوا في الرد على النصارى ، إنما استفادوا من رد الإمام القاسم ، كابن حزم الأندلسي في القرن الخامس في كتابه (الفصل في الملل والنحل) ، الذي خصص جزأ كبيرا منه في نقد المسيحية ، وكذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي في موسوعته (المغني) الجزء الخامس ، وكذلك الباقلاني المتوفي سنة (٤٠٣ ه‍) تأثر به تأثرا واضحا ، خصوصا عند ما تحدث عن الجوهر والعرض والأقانيم ، والاتحاد والتجسد في كتابه (التمهيد) ، لأن هذه المصطلحات غريبة وجديدة على الفكر الأشعري.

ولتوضيح الصورة عن تحريف اليهود والمسيحيين للكتب السماوية ، ولتوضيح دور الإسلام في تصحيح مسار العقيدة ، ودور علماء الإسلام في المواجهة الفكرية مع هذا التحريف والتنزيف ، ودور الإمام القاسم الرائد في ذلك ، نقول : أساء اليهود استقبال المسيح عليه‌السلام ، كما أساءوا استقبال أنبياء الله من قبل ، ولذلك ظلت العلاقة متواترة وغير سلمية بين اليهود والنصارى طوال تاريخهم ، ويرجع ذلك لعدة أسباب ، أهمها رفض اليهود للمسيح رفضا باتا ، منذ البدء الأول وهم يرفضونه ، على الرغم من

٦٩

تبشير التوراة بالمسيح ، إلا أن اليهودية تحولت على يد أتباعها إلى دين كهنوتي له طقوسه وطلاسمه وربابنته وعلماؤه ، ولم يكن من السهل الإيمان والتسليم بالمسيح عيسى بن مريم كنبي لليهود ، فأنكروه نسبا ، وأنكروه نبوة ، بل بلغ بهم الأمر أن أنكروه وجودا!

وإذا علمنا أن الأناجيل «الموضوعة» ، قد كتبت بعد وفاة عيسى بمدة من الزمان سمحت بأن يخرج كل كاتب بتصور مختلف للعقيدة في عيسى وشريعته ، ندرك مدى أهمية الإسلام ، ككتاب ورسالة ، في وجود المسيحية كدين ، فما من شاهد على المسيح وأمه وما جاء به من ربه ولا حياته وتاريخه سوى القرآن الكريم ، ذلك المصدر الإلهي المقدس المطهر والموثق ، كان بحفظ الله له حفظا لحقيقة وجود المسيح ورسالته ، وحقيقته هو كنبي لا إله ، كما يدعي أتباعه بتصوراتهم الموهومة.

إذا نحن أمام تصورات ثلاثة في إثبات وجود المسيح ، الأول ينكره تماما ، وهذا يعني محو الوجود والأثر ، والثاني يقدسه حتى إنه اتخذ منه إلها ، والثالث يثبته بشرا رسولا جاء بهدايات السماء إلى الأرض ، ليطرح مادية اليهود جانبا ، ويهدي خراف بني إسرائيل الضالة مرة أخرى إلى حظائر الإيمان ، ويعيد إلى الشريعة الموسوية احترامها عند اتباعها ، الذين حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأخفوا كثيرا مما جاءهم ، وعملوا ببعضه ، حسب ما تمليه أهواؤهم عليهم ، وحسب مصالحهم.

وهذه التصورات الثلاثة اثنان منها في جانب الافتراء والاجتراء على الله ، والثالث هو الوحيد الذي يحمل روح الاعتدال والعقل والواقعية التي تليق بوحي السماء ، وترد الاعتبار للنبوة والرسالة.

لقد أشهر اليهود في وجه الأنبياء سلاحين ، سلاح القتل وسلاح التكذيب ، ولم يتسامحوا أبدا مع أي منهم ، ويرجع ذلك لطبيعة فيهم ، تتسم بالقسوة والفظاظة والمادية والجرأة والوقاحة ، وهذه ليست ألفاظا للسب ، ولكن أوصافا للنعت ، ولذلك كما أنكروا رسالة عيسى أنكروا رسالة محمد صلى الله عليهما ، ومن العجب أن ينكر النصارى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي جاء لإثبات وتصديق رسالة عيسى عليه‌السلام!

٧٠

لقد فرض التحريف على الحقيقة نفسه ، التوحيد في مقابل التثليث ، والصدق التاريخي أمام الوهم ، والعقل أمام الخرافة والتزييف ، والإنسان مقابل الابن الإله ، والإله الابن ، ومسئولية الإنسان عن عمله أمام فكرة الخلاص وإلقاء التبعات على السماء والصليب ، كل هذا وقف ليواجه عقائد هشة مفككة ، لطالما أرّقت أصحابها دهرا طويلا.

جاء الإسلام ليبدد ظلامها ، ويقرر الوحي العيسوي كما نزل به عيسى نفسه ، بلا تحريف أو خرافة إضافتها إليه التصورات الأرضية من الفلسفات القديمات التي تؤمن بالوسائط والتعددية الإلهية ، فهذا إليه للخير وآخر للحب وثالث للجمال ورابع للقوة ... وهكذا ، مما يعني غزو الفلسفة اليونانية للعقيدة المسيحية ، وكذلك الفلسفات الشرقية ، واختلطت نجاسات التصورات الأرضية التي خرجت من المعابد وزوايا الكهوف وبطون الجبال لتلوث طهر وحي السماء وتفرض نفسها عليه.

المسيح إنسان أوحي إليه ، وأمه صديقة ، هذه هي صورة القرآن المنزل للمسيح وأمه ، الله واحد أحد فرد صمد ، والمسيح عبد ، وبدأت المواجهة التي انتهت بالمباهلة في المدينة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران ، وينهزم الوفد القادم لمعرفته بحقيقة الأمر.

ولم ينته الصراع عند المواجهة الأولى بل تطور وأخذ أشكالا أخرى من الصراع ، كان أوضحها المواجهة العسكرية ، وحسمها المسلمون بكسر شوكة الدولة الرومانية ، راعية المسيحية العالمية بأشكالها المختلفة ـ طواعية وقهرا ـ وأخذت أشكال أخرى في الظهور متمثلة بين المسلمين وفرق النصارى ومدارسهم في العديد من مدن الإسلام وحواضره ، فلم يعد الأمر في إطار الفكر العقائدي فقط ، بل جاء من ورائه صراع حضاري يمثل الوجود وتقبّل الآخر أو نفيه ، وفي حين بدا الإسلام دينا وشعبا متسامحا مع غيره ، لم يكن الأمر كذلك عند الآخرين الذين عدوا الأمر مواجهة لا يحسمها سوى التسليم بقطب واحد فقط لا غير!

جادل الصحابة في الفتوحات الأولى السّريان في الشرق والأحباش في إفريقيا ، ووضعوا صورا للجدل العقلي عند مناقشة هؤلاء لهم ، ثم تطور الجدل وتتابعت صوره في العصرين الأموي والعباسي ، ووضعت المناظرات بين علماء النصارى والمسلمين ،

٧١

فنجد أسماء تظهر كيوحنا الدمشقي طبيب خلفاء بني أمية ، فيضع الكتب في جدال المسلمين في شكل فلسفي جدلي ، ويفعل ذلك قساوسة آخرون في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي ، بغرض الحيلولة بين جماهير المسيحيين والإسلام.

وأخذت المواجهة الفكرية طابعا جدليا عقليا ، وإن كان في إطار الحوار والمناظرة ، فنجد العديد من علماء المسلمين يضعون الكتب في مناقشة مذاهب النصارى ، وتحمل كتب الفهارس والفرق أسماء كتب عديدة وضعها علماء المسلمين في عصور مختلفة ، فنجد واصل بن عطاء يضع «رسالة في الرد على النصار» ، وكذلك أبا علي الجبائي ، والجاحظ ، حتى الخليفة المأمون يضع رسالة في الرد على عقائدهم هم واليهود ويسميها (كتاب في الرد على اليهود والنصارى) ، ويأتي بعد ذلك في القرن الرابع الهجري القاضي أبو بكر الباقلاني فيضع كتابه «التمهيد» ، ثم ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس يضع كتابه «الفصل في الملل والنحل» ويخصص جزأ كبيرا منه في نقد المسيحية كتابا وعقيدة بطريقة منهجية رائعة ، تعد بعد ذلك نموذجا لكثير من العلماء في الشرق والغرب ، فقد بدأ بنقد النص في الأناجيل وأظهر تناقض واضعيها تناقضا فاحشا مما يدل على تحريفهم لها ، كل بحسب هواه ، ويسجل بعد ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي فصلا كبيرا في نقد النصارى والرد عليهم في موسوعته الكلامية «المغني» (انظر الجزء الخامس ، ويجمع فيه ردود كثير من علماء المعتزلة ، مما يجعله مصدرا أساسيا لهذه الردود التي اختفى أوضاع كثير منها) ، وكذلك ناقش الجويني عقائد النصارى وتبعه بعد ذلك تلميذه الغزالي.

ويرد في العصر الحديث رحمة الله هندي على العديد من كتب النصارى في كتابه «إظهار الحق» والذي حلل فيه الأناجيل ونقدها في دراسة علمية ضافية ، ولا ننسى كتابات الشيخ أحمد ديدات ومناظرته للعديد من قساوسة الغرب ، وكذلك الشيخ محمد الغزالي في كتابيه «قذائف الحق» و «التعصب بين المسيحية والإسلام».

ومن هنا ندرك مدى أهمية رسالة الإمام القاسم في الرد على فرق النصارى في خلافهم حول نزول عيسى واتصاله بأمه ، وكذلك اختلافهم في كيفية صعوده وتوحده بالكلمة ، واختلافهم حول حقيقة التجسد والاتحاد ، وهل هو بالناسوت أو اللاهوت ، أو بهما جميعا؟!

٧٢

وفي حين أن الملكانية أعلنت التثليث بكل وضوح ، وناقضت العقل والنقل والتاريخ ونفسها أيضا ، نجد النسطورية تخوض محاولة للتوحيد وجعل الثلاثة واحدا في شكل ما ، ولكن يغلب عليها السذاجة وإن حملت طابعا فلسفيا خالصا.

أما اليعقوبية أصحاب القول بأقنوم واحد وطبيعة واحدة ، لم يلاقوا ترحيبا أو قبولا لدى فرق النصارى الأخرى وقد رد القرآن ، كما نرى في الرسالة ، كل هذه التصورات الموهومة.

لقد تمثلت في الرسالة الصياغة الفلسفية الجدلية الواعية إلى جانب النص القرآني في مناقشة الإمام القاسم للنصارى في عقائدها مع قدم النص ، إذ كتب يقينا في أوائل القرن الثالث الهجري ، قدرة المسلمين في الحوار مع الآخر في عقائده ببصيرة مستنيرة وفهم راشد بعيد عن التعصب الأعمى وفي إطار الدولة الواحدة ، والذي لم تستوعبه أوربا بعد ذلك ولا محاكم التفتيش ، وجاء الباقلاني من بعده فتأثر به تأثرا واضحا ، خصوصا عند ما تحدث عن الجوهر والعرض والجوهر والأقانيم ، والاتحاد والتجسد ، وبذلك جمع بين النسق الفلسفي والقرآني في وحدة واحدة أفاد من جاء بعده منها ، وساعدت على التأصيل لعلم الكلام منهجا وموضوعا ونقدا.

* * *

٧٣

محتوى الرسالة ومنهج المؤلف

بدأ الإمام القاسم رسالته في نفي كون الله عزوجل من والد أو يكون له ولد ، وذلك لأن (الربوبية لا تمكن أبدا إلا لواحد ، ليس بأصل لشيء ولا ولد ولا والد).

فالولد يحمل صفات وسمات أبيه ، وأبوه كذلك يحمل صفات ابنه فهو له شبيه ، ومن كان من والد فآباؤه أولى منه بالعبودية ، وقد نفى النص الإلهية لعيسى ونفى الوالدية ، وتعجب من عبادتهم له دون أمه رغم أنها أصل وهو فرعها ، وما ثبت للفرع فالأصل أحق منه بذلك ، وبنفي الإلهية عنها تنفى النبوة أيضا!

ومن ناحية المعقول فالأنبياء من البشر يأكلون ويشربون وقد أشار النص لذلك ، وشهدوا هم أنفسهم بذلك ، والنصارى تشهد على عيسى بأنه كان يألم ويفرح ويأكل ، بشر ككل البشر ، وهذه آية بينة تبطل دعوى النصارى في إلهيته.

والنصارى عبدت عيسى ، عبادة غيرها للنجوم والكواكب وجعلها وسائط وآلهة بينها وبين الله ، يخلق بهن ويعطي ويمنع ويحيي ويميت بواستطتهن. (وكذلك زعم المشركون من أصحاب النجوم أن الله خلق الحيوان الميت ودبره بالنجوم السبعة ، وأن بهن وبما جعل الله من القوة فيهن كانت من ذلك كل بريته وكل صنعة!).

وفي ولادة عيسى وتماثله واشتباهه مع غيره من البشر دليل على بشريته وإبطال لدعوى الإلهية المزعومة له ، ومن صفات الخالق الواحدية والصمدية ، ونفي الشبيه والمثل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، فالله عزوجل : «ليس له شبيه ولا كفيّ ، ولا مثيل ولا بديّ».

والإمام القاسم في إبطاله لدعوى الإلهية يجمع بين النقل والعقل ، في أسلوب واضح سلس ، بعيد عن الغموض واللبس ، وفي أدلة برهانية إقناعية ، تلزم الناظر فيها بالتسليم.

ويتنزه الله عزوجل أن يكون كصنعته في شيء ، وكل خلقه كان بلا علاج ، ولا أعياه خلق شيء منها ، وإنما أمره بين الكاف والنون ، وكل الدلائل تشهد أن الخالق واحد لم يلد ولم يولد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٣ ـ ٤] ، وقد أنكر عزوجل عليهم أن يكون له ولد أو كان هو من والد ، إذ أن

٧٤

ذلك دليل على النقص والحاجة وهو منزه عنهما ، (فمن أين يكون مع هذا القول منهما ولد ووالد ، وأمرهما جميعا في القدم والأزلية واحد؟!).

فدعوى الشريك والولد تناقض معنى الأزلية والقدم ، وليس المحدث كالقديم بمثيل أو شبيه ، وقد أنكرت جميع مخلوقات الله ، فحش هذه المقالة ، وإن كان عيسى ابنا لله فهو مثل لجميع الأبناء في الخلق والجبلة : «ومتى جعلوا المسيح ابنا وولدا ، كان مثل الأبناء لله عبدا مخلوقا متعبدا».

بعد أن يستعرض الإمام القاسم الأدلة العقلية والقرآنية في نفي الشريك والمثل والشبيه والولد ، ويثبت لله الفردانية والوحدانية والصمدية ، والتنزيه عما تقول وتدعي النصارى يضع منهجا في مجادلتهم.

* * *

٧٥

منهج في مجادلة الخصوم

يقول الإمام القاسم : (.. فلا بد لمن أنصف خصما في منازعته له ومجادلته ، من ذكر ما يرى الخصم أن له فيه حجة من مذهبه ومقالته ، فإذا ذكر ذلك كله ، بان ما فيه عليه وله ، فكان ذلك لباطله أقطع ، وفي الجواب له أبلغ وأجمع). إذا فهو يؤسس لقواعد ثابتة في النظر والجدل على أساس علمي سليم.

فبدأ بعرض مذهب النصارى بفرقها المختلفة في عيسى ، ومجادلتهم بعد ذلك ، واشترط على نفسه الإحسان والدعوة إلى الله بالحكمة والبينة ، وقد جاء من كتب في علم الأديان المقارن من المسلمين ، فاستفاد من أسلوب ومنهج الإمام القاسم في مجادلة أهل الكتاب والرد عليهم كالباقلاني في «التمهيد» ، أو ابن حزم في «الفصل».

واختلفت النصارى في كون الأب والابن والروح القدس ثلاثة متفرقات أو مجتمعات ، واحتاروا بين التوحيد والتثليث وإلى يومنا هذا يمثل التوحيد مشكلة حقيقية عند النصارى ، سيما عند عرض عقائدهم والإقناع بها ، يأتي بعد ذلك اختلافهم حول حقيقة الاتحاد بين هذه الأقانيم الثلاثة ، وكل فرقة لها رأي في هذا الأمر فخالفت اليعقوبية النسطورية ، والملكانية خالفت الفرقتين السابقتين ، فمن الذي نزل الأب أم الابن ، ومن الذي حل في مريم؟ اختلفوا ولهم في ذلك مذاهب مضحكة .. لو حاولت العقول فهمها.

والإمام القاسم تعرض لجميع هذه الآراء وتناولها بالمناقشة والرد ، فبدأ بدعوى الأبوة والبنوة ، فأبطلها من وجوه كلها صحيحة ومقنعة ، ودعاهم للإنصاف فقال : (ولا بد لنا ولكم من الإنصاف ، فيما وقع بيننا وبينكم من الاختلاف ، فإن نحن تناصفنا ائتلفنا ، وإن فارقنا التناصف اختلفنا).

فمعاندة الحقيقة يؤدي إلى مناصرة الباطل ونبذ الحق ودفع العدل ، ويعود ليؤكد لهم أن الإنصاف فيه خلاصهم من اللبس ، والتأويل يدفع بالتأويل ، ولا خير فيه عند الاختلاف ، ولا يصلح إلا عند الاتفاق ، وقد اتفق الجميع على (أن أصدق الشهادات كلها وأعدلها ، خمس شهادات يلزمنا وإياكم أن نقبلها :

١ ـ فأولها : زعمنا وزعمتهم ، شهادة الله.

٧٦

٢ ـ والثانية : فشهادة ملائكة الله.

٣ ـ والثالثة : فقول المسيح وشهادته.

٤ ـ والرابعة : فما شهدت به أمه ووالدته.

٥ ـ والخامسة : فشهادة الحواريين ، وما كانوا يقولون.

وهكذا نجد الإمام القاسم يضع منهجا في ترتيب الأدلة وتنظيمها ، لا يعترض عليه الخصوم ، فالإنجيل يشهد بأن عيسى بن داود ، والمسيح يقول لحوارييه إنهم أبناء الرب جميعا ، ويدعوهم في موقف آخر أنهم إخوته ، وأمه تشهد بأنه ابن يوسف.

ويحيى يؤوّل معنى البنوة بالمحبة والولاية ، والملائكة تشهد بنسبه إلى أمه ، والملك ينسبه إلى يوسف.

وهكذا نجد ما ذكره الإمام القاسم من أدلة تتضافر في نسبته إلى غير الله تعالى ، ولم يجرؤ أحد في نسبته إلى الله ، حتى الشواهد اللغوية جاء فيها ما يدل على أن نسبته إلى الله على وجه من التأويل يعني : المحبة والولاء والرأفة.

والمسيح نفسه يقول : (جئتكم من عند أبي ، وما سمعت عنده فهو ما كلمكم به ، وأنتم لو كنتم منه ، لقبلتم ما جئتكم به من أمره ، ولكنكم من الشيطان وأنتم بنوه ..) ،

وهكذا نسبهم إلى الشيطان مرة ، وهم ليسوا أبناء له على وجه الحقيقة ، مما يعني أن الأبوة والبنوة في الإنجيل متأولة.

وينقل الإمام القاسم بأمانة نصوصا مطولة من الإنجيل منها موعظة الجبل ، وهي في الشريعة والأخلاق ، وتحتاج لمقارنتها بنصوص القرآن ، لبيان أن الأخلاق في الشرائع السماوية واحدة ، وكذلك الأحكام إلى حد كبير ، وهي موعظة جامعة مانعة شاملة ، يمكن أن يطلق عليها لقب دستور أو منهج أخلاقي ، من سار عليه اهتدى إلى خيري الدنيا والآخرة ، وقد أتى به الإمام القاسم ليدلل على نبوة عيسى عليه‌السلام ، كما ذكر الأمثال في الإنجيل ، وختم بنصح أحد حوارييه بحسن اتباعه والاقتداء به.

٧٧

النصارى واليهود أيضا

وهذا نصراني من أقباط مصر يسمى (سلمون) كان يغشى الإمام ويسأله في قضايا التوحيد ويورد عليه إشكالاته ومسائله.

بل إنه كان يورد مسائله وشبهاته في مجلس الإمام الذي كان يجمع المتكلمين من سائر الطوائف فلا يجد لديهم جوابا شافيا ، أو ردا كافيا ، حتى يتدخل الإمام ، ويكشف له الحقيقة بالبرهان ، فلا يملك إلا التسليم والإذعان.

قال الإمام في كتاب مسألة الطبريين وهو في سياق الحديث عن (سلمون) القبطي المسيحي : فسأل يوما ـ وهو عندي ـ جماعة من الموحّدين ، وفيهم حفص الفرد البصري وكان من المتكلمين ، فقال : يا هؤلاء أخبروني فقد زعمتم أنكم تنصفون ، وأنكم لا تقولون إلا بما تعرفون ، من أين زعمتم أن من أنكر محمدا أو جحده ، ولم يقر بما كان من النبوءة عنده ، منكر لله جاحد؟ والله فغير محمد معبود ومحمد عابد؟ وإنكار واحد ليس بإنكار اثنين ، لأن الشيء الواحد ليس بشيئين! فقد سألت منكم كثيرا عن هذه المسألة ، فأجابوا فيها بجوابات مختلفة غير مقنعة ، وكيف أكون لك منكرا بإنكاري لغيرك؟ وهل تراه يصح في فكرك؟ أن أكون بإنكاري لمحمد لله منكرا وأنا به مقر ، وله موحّد مجلّ معظّم مكبّر؟

فأجابوه فلم يقنع بجوابهم ، ولم يستمع لمقالهم.

وكان مما أجبته به في مسألته ، وما كان فيها من مقالته ، أن قلت : أخبرني يا هذا إذ أنكرت محمدا وما جاء به من رسالاته ، أليس قد زعمت أن ما كان معه من آيات الله ودلالاته ، وما كان يرى الناس من الأعاجيب ، وينبئهم به من السر والغيب ، ليس كله من الله ، ولا شيء منه بصنع الله ، وأضفت ذلك كله إلى غير الله؟!

فقال : بلى. لا شك ولا امتراء.

فقلت : أفلا ترى أنك لو أنكرت أن تكون السماء والأرض من الله ولله خلقا صنعا ، مفتطرا بدعا ، كنت بإنكار ذلك لله منكرا ، وإن كنت بالله عند نفسك مقرا!! فكان في هذا الجواب ـ بحمد الله ـ ما حجّه وقطعه ، وكفاه في الاحتجاج عليه وكفه عن التشنيع ومنعه ، ولم يتكلم بعده ـ علمت ـ في مسألته بكلمة واحدة ، وأمسك في

٧٨

مسألته عن الاكثار والشّغب والملادة.

وكما التقى بالنصارى التقى أيضا باليهود.

ففي المسائل : وسألته عن قول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]؟

ف [قال] : قد يكون عنى بذلك ماضيهم ، وأن يكون أيضا اليوم من يقول من باقيهم ، وليس كلهم لقيت ، وإنما لقيت منهم من شاهدت ورأيت.

قال : وسألته : عن الذبيح أهو إسماعيل أو إسحاق؟

فقال : قد صح أنه إسماعيل ، على ما في كتاب الله من التنزيل ، لأن الذبح والقربان بمنى ، وفي ذلك دليل على أنه إسماعيل ، لأنه كان بمنى وإسحاق يومئذ بالشام ، إلا أن اليهود تأبى وتزعم أن الذبيح إسحاق ، وليس قولهم في ذلك محمودا.

المشبهة

وها هم المشبهة والمجسمة يثيرون البلبلة الفكرية في أوساط العامة ، ويشوهون نقاء العقيدة الإسلامية بخرافاتهم وأحاديثهم المستقاة من خرافات أهل الكتاب وأقاصيصهم المفتراة ، ذات الصلة الوثيقة بالتصور الوثني الساذج للإله. فلقد نهى عمر بن الخطاب عن جمع الحديث وروايته بلا تحفظ ، خوفا من اختلاطه بكتاب الله من ناحية ، وخوفا من الافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أخرى ؛ بأقوال لم يقلها ، فيتم تحريف الدين عن مقاصده وأهدافه التي نزل القرآن بها ، وانقسم الصحابة بين متحفظ في الرواية ، وهؤلاء قلّ ما نقل عنهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن كان هناك من الصحابة من توسع في الرواية من أمثال عبد الله بن عمر وأبي هريرة.

ولكن لم يبق الأمر على ما وضعه عمر ، فقد جاء من بعده فبدءوا في الرواية والتدوين بشكل ما ، حتى جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، فأمر بتدوين السنة ، وانتشر المحدثون في بقاع العالم الإسلامي يجمعون السنة من الحفاظ ومن المدونات والصحائف ، وقد كان لبعض الصحابة صحائف خاصة جمعوا فيها قدرا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا نجد السنة قد مضى عهد طويل بين زمن

٧٩

التلقي وزمن الأداء ، حدثت أحداث وجدت أمور على المسلمين اختلف فيها حال التابعين وتابعي التابعين عن حال الصحابة وعصرهم ، وزالت دولة الخلافة الراشدة ، بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وأذنت دولة بني أمية بالزوال ، والمسلمون على أبواب خلافة جديدة وهي خلافة بني العباس ، وتفرق المسلمون إلى فرق وأحزاب بدأ كل فريق في تكوين مذهبه السياسي والفكري وينصر آراءه بكم هائل من الأحاديث الصحيحة والباطلة ، ولا يرى غضاضة في رواية الحديث طالما ينتصر له على خصمه.

ظهرت على يد غلاة الشيعة الكثير من المرويات التي تناولت الذات المقدسة بالتشبيه والتجسيم ، ومثل هذا أيضا ظهر في جمهور أهل السنة وعامتهم. يؤيد ذلك ما ذكره الشهرستاني فيقول : (إن جماعة من الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل الهشامين ـ يقصد هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي ـ من الشيعة ، ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي ، وغيرهم من غير الشيعة ، قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ، إما روحانية وإما جسمانية ، يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن) (١).

وإذن فقد ظهر الحشو عند الفريقين من غلاة الشيعة وأهل السنة ، وكذلك فرق أخرى كالمرجئة الذين قال بعضهم إن الله جسم لا كالأجسام ، فمن وراء هذا التيار العاتي في العالم الإسلامي آنئذ؟! .. لقد تسرّب التشبيه والتجسيم وكذلك مئات المرويات من الاسرائيليات في التفسير على يد المسلمين الجدد ، بقصد أو بدون قصد ، وانتشر القصاص بهذه الإسرائيليات يروجونها ، وكان اليهود وراء هذه الظاهرة.

وقد أرجع العلامة محمد بن زاهد الكوثري نشأة الحشو إلى أن (عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس ، أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثم أخذوا بعد ذلك في بث ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ، ممن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم ، فتلقفوها منهم ورووها لآخرين بسلامة باطن ، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه ، مستأنسين بما كانوا عليه

__________________

(١) انظر كتاب الملل والنحل للشهرستاني ١ / ١٤٨.

٨٠