مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

يعود إلى مثل ذلك أبدا.

فإن كان صار إليه مال من ناحية ظالم غاصب ، وهو به عالم بسبب معونة له في ظلمه ، ودخول معه في غصبه ، وأخذ ذلك هبة منه ، وهو يعلم أن ذلك ظلم وغصب لغيره ، فالتوبة مما أخذ من ذلك أن يخرجه من عنده ، فيرده على أهله المغصوبين إياه ، ولا يحل له أن يرد شيئا من ذلك إلى الغاصب ، لأنه ليس له.

وإن كان أنفقه وليس عنده شيء منه ، كان ضامنا لرده ـ إذا أمكنه ـ على أهله ، ويتوب إلى الله جل ثناؤه من إنفاقه.

وأما ما كان من الربا فالتوبة منه ما وصفنا من الندم والاستغفار ، (١) ويخرج كل فضل فوق رأس ماله ، فيرده على ما وصفنا من رده على أهله إن عرفهم ، وإلا فعلى ما وصفنا من رده ، لكل ما لزمه رده.

[التوبة من القتل والجراحات]

وأما ما كان من قتل فلا توبة لقاتل المؤمن حتى يندم على القتل ، ويستغفر الله منه ، ويعزم على أن لا يعود إلى قتل أحد أبدا ظلما ، ويمكّن أولياء المقتول المؤمن من نفسه صابرا محتسبا ، يقول لهم : إنه قتل صاحبهم ظلما وعمدا وعدوانا. فإن فعل ذلك فهو تائب لا شيء عليه من إثم القتل ، فإن قتلوه تائبا ـ بحق هو لهم ـ فلا تبعة لهم عليه ، ولا للمقتول لديه حق ، وإن عفوا عنه فلهم أن يعفوا عنه ، لأن الحق بعد المقتول لأولياء المقتول. ويعوض الله جل ثناؤه المقتول إذا كان مؤمنا صابرا. ألم تسمع إلى قوله جل ذكره كيف يقول : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣]. فقد سلط الله جل ثناؤه أولياء المقتول على القاتل ، إن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية.

وإن تاب فيما بينه وبين الله ، ولم يمكّن أولياء المقتول من نفسه ، لم يسعه ذلك ولم

__________________

(١) في (ب) و (د) : والاستغفار منه.

٦٢١

تقبل توبته ، فإن لم يعرف أولياء المقتول عزم القاتل على أن يمكّن من نفسه أولياء المقتول متى عرفهم. يصنعون به ما لهم عليه من القتل ، أو الدية والعفو ، ولا يدفع نفسه إلى سلطان ، ولا إلى غيره ، ولا يدفع نفسه إلا إلى أولياء المقتول.

وإن لم يتب إلى ربه جل ثناؤه ، ويمكّن أولياء المقتول من نفسه ، كان كما قال الله جل ثناؤه : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)) [النساء : ٩٣].

وأما ما كان من جراحات سوى القتل ، مما يجب فيه القصاص ، فإنه يتوب إلى الله جل ثناؤه ـ منها بالندم عليها ، والعزم على أن لا يعود ، ويمكّن من نفسه ـ بعد التوبة إلى الله جل ثناؤه من فعله به ، وإن اقتصّ منه فلا شيء عليه ، وإن عفا عنه فذلك إليه ، وإن كانت جراحات قد برأ منها أصحابها ، ولم يكن أمكنهم القصاص من نفسه ، فلم يعلم مقدارها لبرء فلا قصاص عليه فيها ، لأنه لا يعلم قدر ذلك ، وعليه أرش الجراحات يقيمه عدل ، يتوخى في ذلك الصواب ، فيدفع ذلك إلى أصحاب الجراحات.

فإن لم يعرف أصحابها ، دفع ذلك (١) إلى ورثتهم الذين يقومون بذلك.

وإن كان لا يعرف أصحاب الحقوق ، دفع ذلك القدر إلى المساكين ، إذا قدر على ذلك.

وما كان من الجراحات مما لا قصاص فيه مما يكون فيه حكومة عدل ، دفع إلى من صنع به ذلك إن كانوا أحياء ، وإن كانوا أمواتا دفع ذلك إلى ورثتهم ، فإن لم يعرفهم ولا ورثتهم دفع ذلك إلى المساكين ، إذا قدر على ذلك.

ويفعل في كفارة الخطأ كما أمره الله جل ثناؤه في كتابه ، وكذلك في كفارة الظهار ، فمن لم يقدر على شيء من ذلك ، فالتوبة منه على ما أمر الله جل ثناؤه.

وأما ما كان من ضرب (٢) مما لا يكون القصاص فيه ، فالتوبة فيه والاستغفار والندم ، وأن لا يعود إلى مثله أبدا ، ويرضي أصحابها إن عرفهم ويتحللهم.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : ذلك.

(٢) في (ب) و (د) : من ضرب أو ظلم.

٦٢٢

وأما ما كان من ظلم الناس نحو اغتياب وتجسس ، أو سوء ظن بمؤمن ، أو سعاية إلى ظالم ، أو كذب عليه ، فالتوبة إلى الله جل ثناؤه من ذلك ، ويتحلل ذلك من أصحابه (١) الذين فعل بهم ، فإنه أحسن وأفضل ، ويكون ذلك على أجمل الوجوه.

فإن لم يمكنه التحلل ، ولم يفعله بعد أن يتوب إلى الله جل ثناؤه ، رجونا أن لا يضره ذلك.

وكذلك إن أساء إلى مماليكه في تقصير في مطعم أو ملبس ، مما لا يحل له أن يفعله بهم ، أو عاقبهم عقوبة أسرف فيها ، أو شتمهم بما لا يحل له ، فليتب إلى الله جل ثناؤه من ذلك كله ، وليتحلل من مماليكه.

وإن استدان رجل ما لا ينفقه على نفسه وعلى عياله ، بالقصد (٢) كما أمره الله جل ثناؤه ، وكان عزمه أن يرده إذا أيسر ، وأمكنه فمات قبل أن يؤديه ، وليس له مال ، ولم يترك وفاء ، فلا شيء عليه فيما بينه وبين الله جل ثناؤه وبين صاحب الدين ، لأن الله العدل ، الذي (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، و (... إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٦].

فإن أخذ دينا ونسي أن ليس عليه لأحد شيء ، فلا شيء عليه عندنا ، إذا لم يكن نسيانه ذلك من تشاغله بمعصية ربه.

فإن أخذ دينا فلم يرده إلى أصحابه ، حتى ماتوا فليؤده إلى ورثتهم ، فإن لم يعرف لهم ورثة وانقطعت آثارهم ، وانقطع ذكرهم ، فليتصدق به على المساكين ، وقد سلم من الإثم إذ (٣) تاب من حبسه ، وقد كان يقدر على أدائه.

فإن استقرض مالا فأنفقه فيما يحل له ويحرم عليه ، وكان من عزمه أن لا يؤديه إلى أهله (فهو فاسق ، وتوبته في ذلك الاستغفار والندم ، ورده على أهله) (٤) إن كان يقدر

__________________

(١) في (ب) و (د) : أصحابها.

(٢) يعني : بالاقتصاد.

(٣) في (أ) و (ب) و (ج) : إذا.

(٤) سقط ما بين القوسين في : (ب) و (د).

٦٢٣

عليه ، وإن كان معسرا عزم على أدائه إليهم إذا قدر عليه ، وأشهد لهم بذلك على نفسه ، إن أرادوا ذلك منه ، فإن ماتوا ولم يكن لهم ورثة تصدق به عنهم ، وإن كان محتاجا أنفقه على نفسه وعياله ، كما يتصدق به على غيرهم هذا إذا كان ضامنا له.

وإن كان أخذ أموال الناس من طريق الدّين ، وكان شأنه أن لا يقضي ولا يؤدي ، وجحد ذلك ، ثم مات على ذلك ، فأقام أصحاب الدّين من بعد موته على ورثته البينة ، أو عرف ذلك الورثة ، فعليهم أن يؤدوه إلى أهله ، والميت من أهل النار ، ولا ينجيه من ذلك أداء ورثته عنه ، لأنه اعتزم (١) على أنه لا يؤديه ، ومات غير تائب مصرا على أخذ أموال الناس ظلما وعدوانا فهو من الفاسقين. وإن لم يكن لهم بينة ، وعرف الورثة أن المال الذي خلف الميت إنما هو أموال الناس ، وعرفوا ما عليه من الدّين ، لم يحل لهم ما أخذوا ، لأنهم أخذوا ما ليس لهم من حقوق الناس. والسنة الماضية أنه لا شيء لوارث حتى يقضى الدين ، فإن لم يقضوه ولم يمكنهم وهم يعرفونه ، كانوا من أهل النار ، إذا (٢) ماتوا على ذلك مصرين ظالمين.

[الأيمان والتوبة منها والكفارة]

فإن كان رجل حلف بأيمان بالله وهو كاذب متعمد للكذب ، من غير إكراه أو تخوّف ، فقد فسق إذا بلغت يمينه كبيرة ، وتوبته من ذلك أن يستغفر الله من ذلك ويندم على ما كان منه ، ولا يعود إلى مثل ذلك أبدا ، وليس عليه كفارة.

وإن كان حلف بما فيه كفارة ثم حنث فعليه كفارة لكل يمين.

والأيمان أربع فيمينان يكفّران ، وهو قول القائل : والله لأفعلن كذا وكذا ، فلا يفعل.

وقوله : والله لا أفعل كذا وكذا ، ففعل.

واليمينان اللتان لا يكفّران قول القائل : والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل.

__________________

(١) في (ب) : اجترم.

(٢) في (ب) : أو.

٦٢٤

وقوله : [والله] لقد فعلت كذا وكذا ، وما فعل.

وكفارة اليمين إذا حنث ، إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يأكل هو وأهله ، أو كسوتهم ثوبا ثوبا ، أو تحرير رقبة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فمن لم يقدر على إطعامهم ، وغير ذلك من الكفارة ، فليصم عن كل يمين ثلاثة أيام ، ويستغفر الله من تضييعه ولا يعد(١).

فإن أدركه الموت ولم يكفّر عن يمينه من إطعام ، أو كسوة ، ولم يقدر على ذلك ، فليوص أن يطعم عنه المساكين من ماله ، لكفارة أيمانه إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فلا شيء عليه ، لأن الله جل ثناؤه قد عذر من لم يجد.

وإن كان يعرف الأيمان التي عليه كم هي فليكفّر عددها ، وإن كان عددها لا يقف عليه فليتوخّ قدرا من ذلك ، يكون الغالب عنده أنه قد استغرقها وزاد. ثم نرجو أن (٢) لا يضره زاد أو نقص ، إذا لم يتعمد ذلك. وكذلك يوصي بمثل ذلك ، إذا لم يمكنه قضاء ذلك.

[التوبة من ترك الصلاة وسائر العبادات]

وإن كان ضيع صلاة ، أو صياما ، أو حجا ، أو زكاة ، بعد ما وجب ذلك عليه ، بالتواني والاستخفاف ، متعمدا لذلك ، فعليه أن يتوب إلى الله جل ثناؤه من ذلك ، ويقضي ما فاته من الصلوات (٣) إن كان يعرف عددها ، ومن الصيام أيضا كذلك ، وإن كان لا يعرف كم هو فليتحر الصواب جهده ، ويزيد حتى يستغرق ذلك ، ثم نرجو أن لا يضره نقص أو زاد ، إذا لم يتعمد ذلك ، ويقضي تلك الصلوات في أي أوقات النهار أو الليل شاء ، فإذا (٤) حلت له أوقات صلوات يومه الذي هو فيه صلاها في أوقاتها ، ثم عاد فيقضي ما عليه حتى يفرغ منها ، لا يتشاغل بغيرها.

__________________

(١) في (ب) : ولا يعود. وفي (د) : فلا يعود.

(٢) في (أ) : أنه.

(٣) في (أ) و (ج) و (د) : الصلاة.

(٤) في (ب) و (د) : فإن.

٦٢٥

[الصلاة]

وإن كان ترك صلاة متعمدا فلم يقضها نسيانا جاز ذلك (منه ، ثم ذكرها فليقضها وحدها أيضا ، وإن كان لها ذاكرا فتركها متعمدا) (١) حتى مضت لها أشهر أو سنوات ، فليقضها وليتب مما صنع.

وقد قال بعض العلماء يجزيه قضاؤها وحدها ويتوب من تأخيرها ، وقال بعضهم أسلم له قضاء ما بعدها من الصلوات ، وذلك أنه لا صلاة لمن ضيّع صلاة حتى يقضي ما ضيع.

[الصوم]

وإن كان ترك صياما من شهر رمضان كله حتى حضر رمضان آخر ، فعليه أن يصوم هذا الذي حضر ، ويعتزم على صيام ما فاته ، فيصوم من بعد ذلك ويتوب مما ضيّع.

[الزكاة]

وإن كان ضيع زكاة حتى أدركه الموت ، فليتب مما ضيّع ويخرج ما عليه منها ، فيؤديه إلى المساكين ، إن كان له مال ، ويوصي بذلك إن لم يمكنه الأداء ، لأنها دين عليه لأهلها الذين سماهم الله جل ثناؤه ، في أي صنف منهم وضعت أجزت عنه ، وإن لم يكن له مال ومات فلا شيء عليه بعد أن يتوب.

[الحج]

وإن كان ترك الحج وهو يقدر عليه حتى أدركه الموت ، فليتب إلى الله جل ثناؤه

__________________

(١) سقط ما بين القوسين في : (ب).

٦٢٦

من تفريطه ، وليعزم على الحج ، وليحج إن قدر عليه ، وإن (١) لم أوصى أن يحج عنه ، فقد قال بعض العلماء ذلك. وقال بعضهم لا يحج عن أحد كما لا يصلى عن أحد ، ولا يصام عن أحد ، لأن تلك حقوق الله جل ثناؤه ، أمر عباده أن يتولوها بأنفسهم ، فإن لم يقدروا عليها عذرهم ولم يكلفهم غير هذا.

وأما ما كان من حقوق الناس فيما بينهم في أبدانهم ، وأموالهم ، فعليهم أن يخرج بعضهم إلى بعض منها ، ويعطي عنه إذا قدروا عليها.

وإن أوصى أن يحج عنه فحسن عندنا وهو أحوط.

وعلى المرتدين من الإسلام إذا تابوا ـ مع (٢) ما ذكرنا ـ من الظلم للناس في أبدانهم وأموالهم ومن (٣) الديون قبل ارتدادهم وفي ارتدادهم ، ثم أسلموا أن يتوبوا إلى الله جل ثناؤه من ذلك كله ، ويؤدوا الحقوق إلى أهلها كما يفعل المقرون ، لأن حكمهم في ذلك غير أحكام أهل الحرب ، لأنه لا قصاص بين أهل الإسلام وأهل الحرب (٤).

فعلى العبد مما وصفنا من هذه الذنوب التوبة النصوح ، وقد جعل الله جل ثناؤه لهم إليها السبيل.

التوبة النصوح هي الندم على ما كان من الذنوب ، وتركها والاستغفار منها وترك الإصرار عليها ، والعزم على أن لا يعود أبدا إليها ، فتلك التوبة المقبولة ، يقبلها التواب الرحيم.

فرحم الله عبدا اتقى الله في نفسه ، وتطهّر بالتوبة قبل الموت والفوت ، ولم تغره الحياة الدنيا ، ولم يغره بالله الغرور.

وليبادر بالتوبة قبل أن يسألها فلا يجاب إليها ، قال جل ثناؤه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ

__________________

(١) في (ب) : وإن يوصي. وفي (د) : وإن أوصى.

(٢) في (ب) و (د) : من.

(٣) في (أ) : من الذنوب ، وفي (ب) و (د) : ومن الذنوب. وفي (ج) : من الديون. وما أثبت اجتهاد مني ، والله أعلم.

(٤) في (أ) و (ج) : بينهم وبين أهل الإسلام.

٦٢٧

عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)) [النساء: ١٧ ـ ١٨]. والتوبة قائمة مبذولة مقبولة ، من حيث يواقع العبد الذنب إلى قبل حضور أجله بطرفة عين ، أو أقل.

وحضور الموت هو معاينة ملك الموت والملائكة صلوات الله عليهم ، أو بسبب من أعلام الموت العظيم المهول ، (١) الذي يشاهده العبد في تلك الحالات ، لا يعلمه أحد من البشر غيره ، أو ذهاب (٢) عقله ، فحينئذ لا تقبل توبته ، ولا عند نزول العذاب إذا نزل بأهل المعاصي ، ولا عند الحواجب من آيات الله المانعة من الرجوع إلى أحكام الدنيا ، والله ـ جل ثناؤه ـ بهذا كله وأوقاته أعلم وأحكم تبارك وتعالى.

وعلى العبد أن يكون أبدا مستعدا تائبا. نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الموت إذا نزل بنا ، وفي العرض على ربنا جل ثناؤه ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)) [آل عمران : ٣٠].

تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب ، وصلواته على المصطفى من خير نصاب ، محمد النبي وأهله الطاهرين الأطياب ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

* * *

__________________

(١) في كل المخطوطات بياض بين أعلام ....... والذي. إلا أنه أشار في (د) : إلى ما أثبت في نسخة ، وهو الراجح.

(٢) معطوف على : أو بسبب.

٦٢٨

أصول

العدل والتوحيد

٦٢٩
٦٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اعلم يا أخي علمك الله الخير والهدى ، وجنبك جميع المكاره والردى ، أن الله خلق جميع عباده العقلاء المكلفين لعبادته ، كما قال عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧].

والعبادة تنقسم على ثلاثة أوجه : أولها : معرفة الله.

والثاني : معرفة ما يرضيه وما يسخطه.

والوجه الثالث : اتباع ما يرضيه ، واجتناب ما يسخطه.

وهذه الوجوه كلها فهي كمال العبادة ، وجميع العبادات غير خارجة منها ، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت. وهي منفصلة من العبادة الثانية ، لمن تراخت به الأيام إلى وصول التعبد ، وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه. ثم العمل بما يرضيه واجتناب ما يسخطه عبادة ثالثة منفصلة من الوجهين الأولين ، لمن تراخى به الوقت إلى استماع كيفية العبادة على لسان الرسول الذي جاءت الشريعة على يديه. فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج ، احتج بها المعبود على العباد ، وهي : العقل ، والكتاب ، والرسول. فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الآخرتين ، لانهما عرفا به ولم يعرف بهما ، فافهم ذلك.

ثم الإجماع من بعد ذلك حجة رابعة مشتملة على جميع الحجج الثلاث ، وعائدة إليها.

ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا ، والفرع مردود إلى أصله ، لأن الأصول محكمة على الفروع ، فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء ولم يختلفوا فيه ، والفرع ما اختلفوا فيه ولم يجمعوا عليه. وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر ،

٦٣١

والتمييز فيما يوجب النظر ، والاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم ، على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر واستدلاله يكون دركه لحقيقة (١) المنظور فيه ، والمستدلّ عليه ، فكان (٢) الإجماع من العقلاء على ما أجمعوا عليه أصلا وحجة محكّمة على الفرع الذي وقع الاختلاف فيه.

وأصل الكتاب فهو المحكم الذي لا اختلاف فيه ، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله. وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل.

وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما وقع عليه الإجماع بين أهل القبلة ، والفرع ما اختلفوا فيه عن الرسول. فكل ما وقع فيه الاختلاف من أخبار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مردود إلى أصل الكتاب والعقل والإجماع.

وقد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم ، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض ، وأن لكل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها ، ولذلك ما (٣) وقعوا في التشبيه ، وجادلوا عليه ، لما سمعوا من متشابه الكتاب ، فلم يحكموا عليه الآيات التي جاءت بنفي التشبيه.

فاعلم ذلك ، فإن هذه جملة من معرفة المعبود والتعبد والعبادة ، ومعرفة الحجج التي وجب التعبد على جميع المكلفين.

ثم نعود إلى تفسير هذه الجملة وشرحها ، وتبيين عللها وما تكمل به المعارف من تقسيمها ، فأول ما نذكره من ذلك معرفة الله عزوجل ، وهي عقلية منقسمة على وجهين : وهي إثبات ونفي ، فالإثبات هو اليقين بالله والإقرار به ، والنفي هو نفي التشبيه عنه تعالى وهو التوحيد.

__________________

(١) في (د) : بحقيقة.

(٢) في (أ) و (ج) : وكان.

(٣) ما : زائدة لتحسين الكلام ، وكثيرا ما ترد في كلام الإمام القاسم.

٦٣٢

وهو ينقسم على ثلاثة أوجه :

أولها : الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق ، حتى ينفى (١) عنه ما يليق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني ، صغيرها وكبيرها ، وجليلها ودقيقها ، حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك ولا توهيم ولا ارتياب ، حتى توحد الله سبحانه باعتقادك وقولك (٢) وفعلك. فإن خطرت على قلبك في التشبيه خاطرة شك ، فلم تنف عن قلبك بالتوحيد خاطرها ، وتمط باليقين البتّ والعلم المثبت حاضرها ، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك ، ومن اليقين إلى الشك ، لأنه ليس بين التوحيد والشرك ، وبين اليقين والشك ، منزلة ثالثة. فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه ، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه.

والوجه الثاني : فهو الفرق بين الصفتين ، حتى لا تصف (٣) القديم بصفة من صفات المحدثين.

والوجه الثالث : فهو الفرق بين الفعلين ، حتى لا يشبّه فعل القديم بفعل المخلوقين ، فمن شبّه بين الصفتين ، ومثّل بين الفعلين ، فقد جمع بين الذاتين وخرج إلى الشك والشرك بالله ، وبرئ من التوحيد والإيمان بالله ، وصار حكمه في ذلك حكم من أشرك ، اعتقد ذلك وامترى فشك (٤). فهذه جملة التوحيد المضيقة التي لا يعذر ـ من (٥) اعتقادها ، والنظر في معرفتها ، عند كمال الحجة ـ أحد من العبيد ، فمن مكّن بعد بلوغه وكمال عقله ، وقتا يكمل فيه معرفة العدل ويمكنه ، فتعدى (٦) إلى الوقت الثاني وهو جاهل بهذه الجملة ، فقد خرج من حد النجاة ، ووقع في بحور الهلكات ، حتى يستأنف التوبة ، ويقلع عن الجهل والغفلة ، بالنظر في معرفة هذه الجملة التي لمعرفتها

__________________

(١) في (ب) و (د) : تنفى.

(٢) في (ب) و (د) : باعتقادك وقوله فإن ...

(٣) في (ب) و (د) : لا يصف.

(٤) في (أ) : وشك.

(٥) في (ب) و (د) : عن.

(٦) في (أ) و (ج) : العدل تمكنه. وسقط من (ب) : ويمكنه فتعدى.

٦٣٣

خلق الله الخلق ، وهي (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠].

والدين القيم : فهو المستقيم الواصب ، الثابت الدائم المتصل ، وذلك قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) [النحل : ٤٣]. يريد منصبا متعبا. وهو التوحيد والخلصانية ، التي لا تزول عن قلوب المتعبدين العارفين بالله المخلصين ، بزوال سائر الشريعات التي تزول بزوال الاستطاعات ، والعلل المانعات ، عن القيام بالفروض الشرعيات.

ثم اعلم أن هذه الجملة هي أصل التوحيد ، فكل ما ورد من الشرح والكلام فهو مردود إلى هذا الأصل ، الذي أجمع عليه أهل القبلة ، فما ورد عليك من فروع الكلام والشرح ، يؤكد (١) لك أصول دينك اعتقدته ، ودنت الله به ، وما ورد عليك مما ينقض الأصل تركته واعتزلته ، فإن بذلك صحّت المقالة لأهل الفرقة الناجية.

فالواجب على الطالب لنجاته حراسة الأصول من النقض لها بالتفسير ، حتى لا ينقضها بالتفسير طول عمره مضطربا في عمارة التوحيد ، برد الفرع إلى أصله حتى لا يضيف إلى معبوده ، شيئا من صفات خلقه وعبيده ، في كل فعل منه وذات ، وفي كل صفة من الصفات ، حتى تنزه القلوب والضمائر ، وخواطر الأوهام والسرائر ، فإن دقيق ذلك كله كجليله ، والكثير من ذلك كقليله ، فافهمه وتدبره تجده كذلك إن شاء الله.

تم ذلك بعون الله تعالى ، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (د) : يؤيد.

٦٣٤

جواب مسألة لرجلين

من أهل طبرستان

٦٣٥
٦٣٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الحسين (١) بن القاسم : سألت أبي رحمة الله عليه ، لرجلين من أهل طبرستان ، وهما عبيد الله بن سهل (٢) ، وهشام بن المثنى ، عن توحيد الله ومعرفته ، وما اختلف فيه المختلفون من صفته؟

فقال رضي الله عنه : اكتب : سألتما أعانكما الله وهداكما ، ونفعكما بما بصّر كما من الهدى وأراكما ، عن توحيد الله ومعرفته ، وما اختلف فيه المختلفون من صفته.

فتوحيد الله والمعرفة به وتيقنه ، الذي لا يسع أحدا من المكلفين جهل شيء منه ، جهل (٣) قليله في توحيد الله كجهل كثيره ، وأصغر ما يجهل منه في الشرك بالله عند الله ككبيره ، ومن جهل من ذلك شيئا واحدا ، لم يكن بالله موقنا ولا له موحّدا ، أن يعلم أن الله واحد أحد ، ليس له ند من الأشياء ولا ضد ، لأن الند لما ينآده مكاف ، والضد لما يضاده مناف ، وليس من الأشياء كلها ما يكافيه ، ولا يضاده جل جلاله فينافيه ، فليس هو جل ذكره كشيء ، وهو الأول قبل كل بدي ، لم يلد سبحانه فيكون ولده له مثلا ، ولم يولد فيكون والده له بديا وأصلا ، كما قال سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤] ، والكفؤ : فهو النظير والمثيل والشبيه والند ، ولبعده سبحانه من (٤) شبه الأشياء ومماثلتها ، ولتعاليه عن مشابهة جزئية الأشياء وكلّيتها ، لم تدركه ولا تدركه أبدا عين ولا بصر ، ولا يحيط به من الناظرين عيان ولا نظر ، كما قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]. وقال جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقال سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] والحي القيوم ، فهو الذي يبقى سرمدا ويدوم ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الحسن.

(٢) في (ب) و (د) : سهيل. ولم أقف على ترجمته ولا صاحبه هشام بن المثنى.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : جهل.

(٤) في (ب) و (د) : عن.

٦٣٧

وليس شيء من الأشياء يبقى فلا يفنى ، ولا يصح له أبدا هذا الذّكر والمعنى ، إلا الله في البقاء والدوام ، كما قال سبحانه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]. و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٨٨] ، ولكفى دليلا ببقائه وفناء كل ما سواه على تعاليه عن مشابهة الأشياء لقوم يعقلون.

وكيف يشبه الباقي الفاني؟! في معنى ما كان من المعاني ، فمن توهم الله جل ثناؤه أجزاء وأعضاء ، أو أبعاضا يصل بعضها بعضا ، أو اعتقد أنه يرى ، أو رؤي قط فيما خلا ، بعين أو بصر أو رؤية أو نظر ، أو أنه يدرك بحاسة من حواس البشر ، أو وصفه سبحانه بكف أو بنان ، أو بفم أو لهوات (١) أو لسان ، فقد شبهه بما خلقه جل ثناؤه من الانسان ، وبري واصفه بذلك من المعرفة له والإيقان ، وقال في الله من ذلك بالزور والبهتان ، وخالف كلما نزل الله في ذلك من النور (٢) والفرقان ، فهو لرب العالمين من أجهل الجاهلين ، وهو بالله جل ثناؤه من المشركين ، وبما اعتقد في ذلك من أهلك الهالكين ، فهذه صفته تبارك وتعالى في الإنّية والذات ، وهي صفة واحدة ليست فيه جل ثناؤه بمختلفة ولا ذات أشتات ، ولو كانت فيه مختلفة غير واحدة ، لكان اثنين وأكثر في الذّكر والعدة. وإنما صفته سبحانه هو (٣) وأنه كذلك في التوراة (٤) ، قال تعالى لموسى عليه‌السلام عند المناجاة ، : (إني أنا الله إلهك ، وإله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب). (٥) وكذلك قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ

__________________

(١) في (ب) و (د) : بلهوات.

(٢) في (ب) : في ذلك كله من الفرقان. وفي (د) : في كله من الفرقان. وسقط من (أ) : من.

(٣) يعني أن الصفات هي الذات وليست الصفات أمورا زائدة على الذات.

(٤) في (ب) و (د) : التوراة والإنجيل. (زيادة سهو).

(٥) نص التوراة هكذا : (أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب). سفر الخروج ١ / ٧. وسفر التكوين ٣ / ٤٦.

٦٣٨

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤]. فوصف نفسه تبارك وتعالى في أول الآيات بأنه هو ، ثم ذكر سبحانه ملكه وخلقه وقدسه ما ليس له فيه نظير ولا مثيل ولا كفؤ ، فمن وصفه جل ثناؤه بغير ما وصف به نفسه من العلم والقدس والحكمة ، وما ذكر جل جلاله من العز والرأفة والرحمة ، فقد خرج صاغرا بصفته ، من العلم بالله ومعرفته.

والسّنة التي ذكر الله أنها لا تأخذه ، ولا تعرض له جل جلاله ، هي قليل النوم ويسيره ، لا النوم نفسه وكثيره ، فنفى سبحانه عن نفسه من قليل مشابهة خلقه ما نفى تبارك وتعالى عن نفسه من كثيرها ، تعاليا عن صغير مماثلة خلقه وكبيرها ، لأن ذلك كله في التشبيه له سواء ، يثبت به كله أن له نظيرا في التشبيه وكفؤا.

ومن معرفة الله والايمان به ، الايمان بجميع رسله وكتبه ، ومن أنكر آية من تنزيله ، أو جحد رسولا واحدا من رسله ، خرج بذلك من التوحيد والإيقان ، وزال عنه ـ لما أنكر من ذلك ـ اسم الإيمان ، لأنه من أنكر آية من آيات الله ، أو رسولا واحدا من رسل الله ، كمن أنكر صنع السماء والأرض من الله ، ونسب ما كان من آية أو علم أو دلالة إلى غير الله ، لأنه إذا زعم أنما جاء به رسول من رسل الله من أعلامه ودلائله ، أو أن (١) آية من آيات كتب الله وتنزيله ، ليست من الله ولا عن الله (٢) ، ثبّت وزعم أن ذلك من غير الله.

ومن أضاف شيئا من صنع الله في أرضه وسمائه ، أو في سوى ذلك كله من خلقه وإنشائه ، إلى غير الله فقد ألحد وكفر ، وجحد وأنكر ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ

__________________

(١) سقط من (أ) : أن.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : عن الله.

٦٣٩

وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)) [النساء : ١٥٠ ـ ١٥٢]. فمن فرّق من ذلك بين ما جمع الله وألّف ، خرج بتفريقه ذلك مما أقر به من توحيد الله وعرف ، وكان منكرا بذلك كله، بإنكاره لما أنكر من أقله.

[مرجع أهل الديانات]

وقد سأل عن هذا بعينه ، وما قلت به من تبيينه ، نصراني ، كان يغشاني ، من قبط أهل مصر يقال له سلمون ، وكان ربما اجتمع عندي هو والمتكلمون ، وكان هو يزعم في عيسى بخلاف ما تزعم النسطورية واليعقوبية والروم ، لأن أولاء كلهم يزعمون أن عيسىعليه‌السلام (١) ابن وإله ، ومنهم من يقول : إنه الله. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٢ ، ١٧]. وكان هذا النصراني الذي ذكرنا يقول : إن عيسى عليه‌السلام عبد مربوب ، وصنع مخلوق ، وإنّ من لم يقل من النصارى بقوله ، وينسب عيسى صلى الله عليه إلى الخلق والعبودية ، فليس بنصراني ، وهو مشرك خارج من النصرانية.

فسأل يوما ـ وهو عندي ـ جماعة من الموحّدين ، وفيهم حفص الفرد البصري وكان من المتكلمين ، فقال : يا هؤلاء أخبروني فقد زعمتم أنكم تنصفون ، وأنكم لا تقولون إلا بما تعرفون ، من أين زعمتم أن من أنكر محمدا أو جحده ، ولم يقر بما كان من النبوءة عنده ، منكر لله جاحد؟ والله فغير محمد معبود ومحمد عابد؟ وإنكار واحد ليس بإنكار اثنين ، لأن الشيء الواحد ليس بشيئين! فقد سألت منكم كثيرا عن هذه المسألة ، فأجابوا فيها بجوابات مختلفة غير مقنعة ، (٢) وكيف أكون لك منكرا بإنكاري لغيرك؟ وهل تراه يصح في فكرك؟ أن أكون بإنكاري لمحمد لله منكرا وأنا به مقر ، وله موحّد مجلّ معظّم مكبّر؟

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : عليه‌السلام.

(٢) في (ب) و (د) : متفقة.

٦٤٠