مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

آية محكمة مجملة (١) تأتي على جميع الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية.

وفي أمر الله جل ثناؤه عباده بالطاعة ، دليل لمن كان له عقل أن الله جل ثناؤه أرادها وشاءها وأحبها ، إذ كان بها آمرا وعليها حامدا ، ولأهلها مواليا ، ولهم مثيبا. وفي نهيه عن المعصية دليل أنه لم يردها ولم يشأها ولم يحبها ، إذ كان عنها ناهيا ، وعليها ذاما ، ومن أهلها بريئا ، ولهم معاقبا.

فلا هو أرادها جل ثناؤه ، ولا هو عزوجل عصي مغلوبا ، ولكنه الحليم تأنى بخلقه وأمهلهم وحلم عنهم ، ولم يعجل عليهم بالانتقام منهم ، ليرجعوا فيتوبوا ، فاغتروا بحلمه عنهم ، حتى افتروا عليه ، فزعموا أنه أمر بما لا يريد ، ونهى عما يريد ، وأن رسله صلوات الله عليهم خالفوه فيما أراد ، (٢) وأن إبليس عليه غضب الله وافقه فيما أراد. وذلك أنهم زعموا أنه أراد الكفر من كثير من عباده ، وأرسل إليهم رسله يدعونهم إلى الإيمان وهو خلاف ما أراد من الكفر ، وأن إبليس دعاهم إلى الكفر وهو ما أراد منهم ، فكان إبليس في قولهم ـ لله جل ثناؤه فيما أراد ـ موافقا ، (٣) وكان رسول الله صلى

__________________

(١) أي : عامة.

(٢) في (ب) و (د) : أرادوا. والصحيح ما أثبت : وإنما تصحفت.

(٣) عن الحسن : إذا كان يوم القيامة دعي إبليس وقيل له : ما حملك أن لا تسجد لآدم!؟ فيقول : يا رب أنت حلت بيني وبين ذلك! فيقول : كذبت. فيقول : إن لي شهودا. فينادي أين القدرية؟ شهود إبليس ، وخصماء الرحمن ، فيقوم طوائف من هذه الأمة ، فيخرج من أفواههم دخان أسود ، فتطبق وجوههم ، فتسودّ لذلك ، وذلك قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). رواه أبو طالب في شرح البالغ المدرك / ١٠٠ ، والأمير الحسين في ينابيع النصيحة / ١٦٣.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي أين خصماء الله؟ فيقومون مسوّدة وجوههم ، مزرقة عيونهم ، مائلا شفاههم ، يسيل لعابهم ، يقذرهم من رآهم ، فيقولون : والله يا ربنا ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ). هم والله القدريون. ثلاث مرات. الدر المنثور ٧ / ٦٨٦.

وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين خصماء الله عزوجل؟ فتقوم القدرية. أخرجه أبو القاسم الجرجاني في تاريخه ١ / ٣٣٦ (٦١٨) ، والدارقطني في العلل ٢ / ٧٠ (١١٥) ، وابن الجوزي في ـ

٦٠١

الله عليه فيما أراد من ذلك مخالفا ، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (١).

[الطاعة والمعصية فعل العبد]

والدليل على أن ما فعلوا من طاعة الله ومعصيته فعلهم ، وأن الله جل ثناؤه لم يخلق ذلك ، إقبال الله تبارك وتعالى عليهم بالموعظة ، والمدح والذم والمخاطبة ، والوعد والوعيد ، وهو قوله جل ثناؤه : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)) [الانشقاق : ٢٠]. وقوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٣٩]. ولو كان هو الفاعل لأفعالهم الخالق لها ، لم يخاطبهم ولم يعظهم ، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير ، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن ، كما لم يخاطب المرضى فيقول : لم

__________________

ـ المتناهية ١ / ٢١٩ ، والجويني في جنة المرتاب ١ / ٤٢.

ولله در القائل :

المجبرون يجادلون بباطل

وخلاف ما يجدون في القرآن

كل مقالته الإله أظلني

وأراد ما قد كان عنه نهاني

أيقول ربك للخلائق أسلموا

جهدا ويجبرهم على العصيان

إن صح ذا فتعوذوا من ربكم

وذروا تعوذكم من الشيطان

ولمزيد من الاطلاع على العلاقة الوثيقة بين القدرية المجبرة وبين زعيمهم الشيطان الرجيم يرجع إلى كتاب رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس للحاكم الجسمي البيهقي وهو مطبوع متداول.

وأخرج السمان في أماليه عن الحسن : قدم رجل من فارس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم!! فإذا قيل : لم تفعلون!؟ قالوا : قضاء الله وقدره.

فقال صلى الله على وآله وسلم : أما إنه سيكون قوم من أمتي يقولون مثل ذلك. ورواه الأمير الحسين في ينابيع النصيحة / ١٦٤ ، والزمخشري في الفائق.

ولقد أبطل مذهبهم الإمام الهادي حفيد الإمام القاسم عليهما‌السلام بكلمتين وذلك عند ما سأله النقوي : ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟ فقال الإمام : ومن العاصي؟ فسكت فلامه أصحابه. فقال : ويحكم إن قلت : الله ، كفرت. وإن قلت : العبد ، تركت مذهبي. ثم تاب وتابع الإمام الهادي عليه‌السلام.

(١) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج) : سهوا.

٦٠٢

مرضتم؟ ولم يخاطبهم على خلقهم فيقول : لم طلتم؟ ولم قصرتم؟ وكما لم يمدح ويحمد الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب في مجراهن ومسيرهن. وإنما لم يمدحهن ، ويحمدهن لأنه جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهن ، وهو مصرفهن ومجراهن وهو منشؤهن. وكان في ذلك دليل أنه لم يخاطب هؤلاء وخاطب الآخرين ، (١) فعلمنا أنه خاطب من يعقل ، ويفهم ويكسب ، وإنما خاطبهم إذ هم مخيرون ، وترك مخاطبة الآخرين إذ هم غير مخيرين ولا مختارين ، فهذه الحجة ، وهذا الدليل على فعله من فعل خلقه.

والدليل على أن المعاصي ليست بقضائه ولا بقدره ، ما أنزل في كتابه من ذكر قضائه بالحق ، وأمره بالعدل ، وتعبّده عباده بالرضى بقضائه وقدره ، وإجماع الأمة كلها على أن جميع المعاصي والفواحش جور وباطل وظلم ، وأن الله جل ثناؤه لم يقض الجور والباطل ، ولم يكن منه الظلم ، وأنهم مسلّمون لقضاء الله ، منقادون لأمر الله ، فإذا نزلت بهم الحوادث من الأسقام والموت والجدب والمصائب من الله جل ثناؤه ، قالوا هذا بقضاء الله ، رضينا وسلمنا ، ولا يسخطه منهم أحد ، ولا ينكره منكر ، وإن سخطه منهم ساخط ، كان عندهم من الكافرين ، وإذا ظهرت منهم الفواحش وانتهكت فيهم المحارم ، كانوا لها كارهين ، وعلى أهلها ساخطين ، ولهم معاقبين ، يتبرءون منهم ويلعنونهم ، ويذمونهم وأعمالهم. ففي ذلك دليل أن ذلك ليس فعله. وقضاء الله لا يكون جورا ولا فاحشا ، ولا قبيحا ولا باطلا ولا ظلما ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد وصفنا حجج الله في عدله ، وما بيّن من ذلك لخلقه.

[شبه القدرية]

فإن اعتلت القدرية السفهاء ببعض الآيات المتشابهات ، نحو قوله جل ثناؤه : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨]. وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧]. (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥]. ونحو ذلك من متشابه الآيات ، وتأولوها على غير تأويلها ، فإنّ كسر مقالتهم يسير ، والحجة عليهم

__________________

(١) يعني : الشمس والقمر ... إلخ.

٦٠٣

بينة. وذلك أن الله عزوجل أخبر أن الشيطان وجنوده من الجن والإنس يضلون ، وإنما (١) إضلالهم للعبد إنما هو من طريق الصد عن الطاعة ، بالغرور والكذب والخداع والتزيين للقبيح الذي قبحه الله ، والتقبيح لما زيّن الله وحسّنه ، فذلك معنى إضلال الشيطان وأوليائه. والله جل ثناؤه يضل لا من طريق أولئك ، لأنه تعالى عن الكذب والصد ، وإنما معنى إضلاله جل ثناؤه للعباد الذين يضلون عن سبيله ، عند كثير من أهل العلم : التسمية لهم بالضلالة ، والشهادة عليهم بها. كما يقال : فلان كفّر فلانا ، وفلان عدّل فلانا ، وفلان جوّر فلانا. يريدون : أنه سماه بذلك ، لما هو عليه من ذلك ، فكذلك يقال أضلّ الله الفاسقين ، وطبع على قلوب الكافرين ، معنى ذلك عند كثير من أهل العلم : أنه شهد عليهم بسوء أعمالهم ، ونسبهم إلى أفعالهم ، مسميا لهم بذلك ، وحاكما عليهم به كذلك ، لما كان منهم ، فذلك تأويل الآيات المتشابهات في هذا المعنى ، عند من وصفنا من أهل العلم.

فعلى العبد أن يتقي الله ، وينظر لنفسه ، وأن لا يقبل ما تأولته القدرية المجبرة ، مما لا يجوز على الله جل ثناؤه في الثناء ، وأدنى ما عليه أن يحسن الظن بربه ، ويأمنه على نفسه ودمه ، ويعلم أنه أنظر له من جميع خلقه ، وليرجع إلى المحكمات من الآيات ، التي وصف الله جل ثناؤه فيها نفسه ـ جل وجهه ـ بالعدل والإحسان ، والرحمة بخلقه ، والغنى عنهم ، والأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، فيعمل بتلك الآيات ويكون عليها ، ويؤمن بالمتشابهات ، ولا يظن أنها وإن جهل تأويلها وحرّفت عن تفسيرها أنها تنقض المحكمات ، فإن كتاب الله (لا ينقض بعضه بعضا ، ولا يخالف بعضه بعضا ، وقد قال) (٢) الله عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فنفى أن يكون في كتابه اختلاف.

فليتق الله عبد ولينظر لنفسه ، وليحذر هذه الطائفة من القدرية والمجبرة ، فإنهم كفار بالله ، لا كفر أعظم من كفرهم ، لما وصفنا من فريتهم على الله جل ثناؤه ، في كتابنا هذا. لأنهم شهدوا لجميع الكفار أن الله أدخلهم في الكفر شاءوا أو أبوا ، فشهدوا

__________________

(١) في (ب) و (د) : فإنما.

(٢) سقط ما في القوسين من (أ) و (ج) : سهوا.

٦٠٤

للفساق وجميع العصاة ، أنهم إنما أتوا في ذلك كله من ربهم ، ولذلك (١) (هم مجوس هذه الأمة) (٢).

[المرجئة]

وليحذر العبد أيضا هذه الطائفة من المرجئة فإن قولهم من شر قول وأخبثه ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صنفان من أمتي لعنوا على لسان سبعين نبيا القدرية والمرجئة ، قيل : من القدرية والمرجئة يا رسول الله؟ فقال : أما

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولذاك.

(٢) وأخرج بن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، من طريق عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أنه قيل له : قد تكلّم في القدر ، فقال : أو فعلوها؟ وو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أولئك أشرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين. الدر المنثور ٧ / ٦٨٣.

وأخرج ابن عساكر من طريق البختري بن عبيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : " قال رجل يا رسول الله : ما العاديات ضبحا؟ فأعرض عنه ثم رجع إليه من الغد فقال : ما الموريات قدحا؟ فأعرض عنه ، ثم رجع إليه الثالثة فقال : ما المغيرات صبحا؟ فرفع العمامة والقلنسوة عن رأسه بمخصرته فوجده مقرعا رأسه فقال : لو وجدتك حالقا رأسك لوضعت الذي فيه عيناك. ففزع الملأ من قوله ، فقالوا يا نبي الله ولم؟ قال : إنه سيكون أناس من أمتي يضربون القرآن بعضه ببعض ليبطلوه ، ويتبعون ما تشابه ويزعمون أن لهم في أمر ربهم سبيلا ، ولكل دين مجوس ، وهم مجوس أمتي وكلاب النار" فكأنه يقول : هم القدرية. الدر المنثور ٦ / ٦٠٤.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم. الحاكم في المستدرك ١ / ١٥٩ (٢٨٦) ، وأبو داود ٤ / ٢٢٢ (٤٦٩١) ، والبيهقي ١٠ / ٢٠٣ (٢٠٠٥٨) ، والطبراني في مسند الشاميين ١ / ٣٢٢ (٥٦٦) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٧ / ٥٢ (٢٩٦) ، وابن عدي في الضعفاء ٢ / ١٣٧ (٣٣٦) ، ٣ / ٢١١ (٧٠٩) ، وفي الكامل ٦ / ٣١٣ (١٧٩٩) ، والخطيب في تاريخه ١٤ / ١١٣ (٧٤٥٣) ، ورواه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث / ٧٧. وبلفظ : القدرية مجوس أمتي. البخاري في التاريخ الكبير ١٢ / ٣٤١ (٢٦٨١) ، والصغير ٢ / ٢٧١ (٢٥٦٧) ، وابن حجر في اللسان ٢ / ٣٣٢ (١٣٦٥) ، ٤ / ٨٥ (١١٥) ، ٦ / ٢٢٢ (٧٨٤) ، ٢٥٦ / (٩٠٣) ، وابن عدي في الضعفاء ٢ / ٢٠٧ (٣٩٤) ، والكامل ٧ / ٧٧ (١٩٩٩) ، والعقيلي في الضعفاء ٣ / ٩٨ (١٠٧٢) ، والدارقطني في العلل ٨ / ٢٨٩ (١٥٧٦) ، ورواه الخطيب في الكفاية في علم الرواية / ١٢٠ ، وذكره ابن الأثير في النهاية ٤ / ٢٢٩.

٦٠٥

القدرية فالذين يعلمون بالمعاصي ويقولون : هي من عند الله وهو قدّرها علينا ، وأما المرجئة فهم الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل) (١).

فهذان قولان فيهما ذهاب الإسلام كله ، ووقوع كل معصية ، وذلك أن القدرية زعمت أن الله جل ثناؤه أدخل العباد في المعاصي ، وحملهم عليها وقدرها عليهم وخلقها فيهم ، فهم لا يمتنعون منها ولا يستطيعون تركها.

وأما المرجئة فرخّصوا في المعاصي وأطمعوا أهلها في الجنة بلا رجوع ولا توبة ، وشككوا الخلق في وعيد الله ، وزعموا أن كل من ركب كبيرة من معاصي الله فهو

__________________

(١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بعث الله نبيا قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته ، وإن الله قد لعن القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا.

أخرجه الطبراني في مسند الساميين ١ / ٢٢٤ (٤٠٠) ، وفي المعجم الكبير ٢٠ / ١١٧ (٢٣٢) ، وابن حجر في لسان الميزان ٤ / ٣٨١ (١١٤٦) ، ٦ / ٢٧٦ (٩٦٩) ، وابن عدي في الكامل ٦ / ٢٢٨ (١٧٧٣) ، وابن حبان في المجروحين ١ / ٣٦٢ (٤٧٨) ، والخطيب البغدادي في تاريخه ١٤ / ٣١٩ (٧٦٣٩) ، وأبو القاسم الجرجاني في تاريخه بلفظ قريب موقوف على ابن عمر ١ / ٣٣٦ (٦١٨) ، وغيرهم كثير.

وأخرجه بلفظ : صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي القدرية والمرجئة قلت يا رسول الله ما المرجئة؟ قال : قوم يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل. ابن حبان في المجروحين ١ / ٣٣٦ (٤٢٣) ، ٢ / ١١٢ (٦٩٠) ، وابن فلانة في الوضع في الحديث ١ / ٢٥٧ ، والكناني في التنزيه ١ / ٣١١ ، والجويني في جنة المرتاب ١ / ٤٧. وغيرهم.

وبلفظ : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب.

الترمذي في السنن ٤ / ٤٥٤ (٢١٤٩) ، وابن ماجة ١ / ٢٤ (٦٢) ، ١ / ٢٨ (٧٣) ، والطبراني في الكبير ٨ / ٢٨١ (٨٠٧٩) ، ١١ / ٢٦٢ (١١٦٨٢) ، والأوسط ٢ / ٣٧٢ (١٦٤٨) ، وعبد بن حميد في المنتخب ٢٠١ (٥٧٩) ، والمزي في تهذيب الكمال ١٦ / ١٠٤ (٣٥٥٣) ، ٢١ / ١٥٥ (٤١٤٣) ، ورواه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٤ / ٢٥١ (٥٠٣) ، والذهبي في التذكرة ٣ / ١٢٠٠ (١٠٣٢) ، وابن عدي في الكامل ١ / ٢٨٨ (١٢٦) ، وابن معين في تاريخه ٤ / ٣٨٥ (٤٩٠٦) ، وابن حبان في المجروحين ١ / ٣٣٦ (٤٢٣) ، والعقيلي في الضعفاء ٢ / ١٢٣ (٢٠٦) ، والبغدادي في تاريخه ٥ / ٣٦٧ (٢٨٩٣) ، والجرجاني في تاريخه ١ / ٥٠٢ (١٠٢٠) ، والدارقطني في العلل ١ / ٢٨١ (٧٢) ، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث / ٧٧ ، والبخاري في الكبير ٤ / ١٣٣ (٢٢٢٣).

٦٠٦

مؤمن كامل الإيمان عند الله ، بعد أن يكون مقرا بالتوحيد ، (١) وأن جميع أعمال المؤمنين من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ليس من الإيمان ، ولا من دين الله ، مع أشياء كثيرة تقبح من قولهم ، فكان في قولهم انتهاك حرمات الله سبحانه ، وتعدي حدوده ، وقتل أوليائه، وخفر ذمته ، واستخفاف بحقه ، والفساد في أرضه ، والعمل بالظلم في عباده وبلاده ، فهذان قولان مما أهلك العباد والبلاد بهما ، فنعوذ بالله منهما ، ونبرأ إلى الله من أهلهما ، ونسأله فرجا عاجلا ، إنه قريب مجيب.

[فرائض الله ونواهيه]

فإذا أقرّ العبد بما وصفنا من توحيد الله وعدله وعرفه ، فعليه بعد ذلك أن يؤدي ما افترض الله عليه (٢) من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، إذا كان لذلك مطيقا ، والجهاد في سبيله لجميع أعدائه من الكافرين والفاسقين ، إذا أمكنه ذلك واحتيج فيه إليه ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا لزمه ذلك بنفسه ، ومع غيره إذا أمكنه ذلك ، ويؤدي ما

__________________

(١) أخرجه الخطيب عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (شفاعتي لأهل الذنوب من أمتي) ، قال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق؟!! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء!!! تاريخ بغداد ١ / ٤١٦. وأخرج البخاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قلبه) ١ / ١٩٣. وأخرج البخاري أيضا : (وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه) ٢ / ٣٠٧ ، وأخرجه أحمد ٢ / ٥١٨ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٤ / ١١١ ، وابن حبان في الموارد / ٦٤٥ ، والحاكم ١ / ٧٠. وأخرج أحمد ٦ / ٢٨ في آخر حديث (فأنا أشهدكم أن شفاعتي لمن لا يشرك بالله من أمتي). وأخرجه الترمذي ٤ / ٤٧ ، والطيالسي ٢ / ٢٢٩ ، وابن خزيمة / ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، وغيرهم. وأخرجه ابن ماجة في آخر حديث عن الشفاعة قال : (هي لكل مسلم) السنن ٢ / ١٤٤٤ ، والآجري في الشريعة / ٣٤٣ ، والحاكم ١ / ١٤. وفي لفظ للحاكم ١ / ٦٧ (هي لمن مات لا يشرك بالله شيئا) وأحمد ٥ / ٢٣٢. ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). أخرجه أحمد ٣ / ٢١٣ ، وأبو داود ٥ / ١٠٦ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٢ / ١٢٦ ، وابن خزيمة / ٢٧١ ، والحاكم ١ / ٦٩.

(٢) في (ب) و (د) : يؤدي إلى الله ما افترض من ...

٦٠٧

افترض الله جل ثناؤه عليه من شرائع دينه.

وعليه أن يتجنب ما نهى الله عنه من معاصيه كلها من الكفر كله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق ، وأخذ أموال الناس مسلميهم ومعاهديهم بغير حقها ، والظلم لهم ، والعدوان عليهم ، وأكل أموال اليتامى ظلما ، وأكل الربا ، والسرقة ، والزنا ، وقذف المحصنات والمحصنين ، وشرب الخمر ، وإتيان الذكران من العالمين ، والفرار من الزحف في المواطن التي لا ينبغي له الفرار فيها ، إذا كان في ذلك اصطلام (١) المسلمين ، وهلاكهم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإن كانا عاصيين صاحبهما (٢) معروفا ، وكل معصية يعلمها الله معصية ، وكل ما عليه أن يعلم أنه لله معصية فلا يعمله ولا يقربه ، فإن الله تبارك وتعالى قد نهى عن الذنوب كلها ، كبيرها وصغيرها ، كبيرها فيه الوعيد ، وصغيرها هو موهوب لمن اجتنب الكبير ، وذلك قول الله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) [النساء : ٣١].

فليتق الله عبد ولا يقدم على معصية ربه وهو يعلمها ، ولا يعتقدها متأولا ولا متدينا بها ، (٣) وقد جعل الله له السبيل إلى معرفتها وتركها ، وليكن أبدا متحرزا متحفظا ، وبأمر ربه متيقظا ، فإن الله عزوجل وصف المتقين ، من عباده المؤمنين ، فقال جل ثناؤه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)) [الأعراف : ٢٠١]. ولم يقل فإذا هم مصرون ، ثم أخبر تبارك وتعالى عن إخوان الشيطان فقال جل ثناؤه : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)) [الأعراف : ٢٠٢]. فالمؤمن أبدا متيقظ متحفظ ، راج خائف ، يرجو الله لما هو عليه من الإحسان ، ولما يكون منه من ذلك رجاء لا قنوط فيه ، ويخافه على الإساءة الموبقة إن فعلها خوفا لا طمع فيه ، إلا بتوبة منها ، فالخوف والرجاء لا يفارقانه ، بذلك وصف الله جل ثناؤه المؤمنين من عباده، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

__________________

(١) الاصطلام : الاستئصال.

(٢) في (أ) ، (ج) : صحبهما.

(٣) سقط من (ب) : بها.

٦٠٨

وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧]. وهكذا صفة المؤمنين ، وليس أحد يقدر أن يؤدي كلما استحق الله جل ثناؤه من عباده من شكر نعمه ، وإحسانه بالكمال والتمام حتى لا يبقي مما يحق له جل ثناؤه عليه شيئا إلا أداه. هيهات!! فكيف وهو يقول تبارك وتعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨]. فكيف يؤدي شكر ما لا يحصى؟! ولم يفترض جل ثناؤه على خلقه ذلك ، ولا يسأل كلما له عليهم ، مما يستحق لديهم ، لعلمه بضعفهم ، وأن في بعض ذلك استفراغ جهدهم ، وما تعجز عنه أنفسهم ، وأنهم لا يقدرون على ذلك ، ويقصرون عن بلوغ ذلك ، فتبارك الله جل ثناؤه عن الاستقصاء عليهم. ولم يسألهم كل ماله عليهم ، وغفر لهم صغير ذنوبهم كله ، إذا اجتنبوا كبيره ، رحمة بهم ونظرا لهم.

فأما من رجا الرحمة وهو مقيم على الكبيرة ، فقد وضع الرجاء في غير موضعه ، واغتر بربه ، واستهزأ بنفسه ، وخدعه وغرّه من لا دين له ، إلا أن يتوب فيغفر له بالتوبة.

فأما الإقامة على الكبائر فلا. بل قد وصف الله جل ثناؤه الراجين لرحمته ، وكيف وضعوا الرجاء موضعه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)) [البقرة : ٢١٨]. فهكذا يكون الرجاء. وذلك أن الجنة والنار طريقان ، فطريق الجنة طاعة الله المجردة من الكبائر من معاصى الله ، وطريق النار معصية الله ، وإن لم تكن مجردة من بعض طاعات الله ، لأنا قد نجد العبد يؤمن بكتاب الله (١) ، ويكفر ببعضه فلا يكون مؤمنا ، ولا بما آمن به منه من النار ناجيا ، يصدق ذلك قول الله عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٨٥]. فلم يسمّوا بما آمنوا به مؤمنين ، بل سمّوا بما كفروا به منه كله كافرين.

وعلى هذه الطريق في من لم يكفر به من الفاسقين ، أهل الكبائر العاصين ، فمن

__________________

(١) في (أ) و (ب) و (د) : بكتاب الله كله ، ويكفر ... لعلها زيادة من النساخ.

٦٠٩

كان على المعصية الكبيرة مقيما فهو على طريق النار. فكيف يرجو البلوغ إلى الجنة ، وهو يسلك ذلك الطريق. كرجل توجه إلى طريق خراسان فسلكه وهو يقول أنا أرجو أن أبلغ الشام ، وهو على طريق خراسان. وذلك ما لا يكون إلا أن يتحول (١) طريق الشام. فهذا مثل من وضع الرجاء في غير موضعه.

فإن اعتل معتل بقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦]. فأطمع من فعل فعالا دون الشرك من الكبائر في المغفرة بهذه الآية.

قيل له : إن الله عزوجل قد قال في موضع آخر من كتابه ، لنبيه صلوات الله عليه وآله : (* قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)) [الزمر : ٥٣]. ففي هذه الآية إطماع لجميع المؤمنين والمشركين وغيرهم ، وليست تلك الآية بأوضح في الغفران (٢) من هذه الآية ، فيطمع للمشركين فيها.

فإن قال قائل لا أطمع (٣) للمشركين لإجماع المسلمين ، بطل الاعتلال بالآية. وقيل له : إن الأمة لم تجمع إلا من قبل خبر الله. وكذلك أثبتنا نحن وعيد الله على الفاسقين من قبل خبر الله بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)) [النساء : ١٤]. ونحو ذلك من الآيات. فكل من مات على معاصي الله مصرا غير تائب إلى الله ، فهو من أهل وعيد الله وعقابه.

ومعنى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أنه يغفر للمجتنبين الصغير ، (٤) إذ أخرج الكبير من أن يكون مغفورا بقوله : (ما

__________________

(١) في (ب) : إلا يتحول طرق.

(٢) في (ب) و (د) : في القرآن.

(٣) في (ب) : فإن قال قائل لا أطمع لهم فيها بآية أخرى قيل له كذلك لا أطمع ولأهل الكبائر ، كما لا يطمع الذين كفروا في آية أخرى. فإن قال لا أطمع للمشركين. وكذلك في (د) : إلا أنه قال للذين أشركوا الآية أخرى. والظاهر أن الزيادة زيادة سهو.

(٤) في (ب) : للمجتنبين الكبائر وهو أيضا دون الشرك وإن كان صغيرا ، فوقع الاستثناء على ذلك الغير.

٦١٠

لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨]. وبغير ذلك من الوعيد ، وبيّن أنه يعد بالمغفرة الصغير قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)) [النساء : ٣١]. وقد يغفر الكبير لمن تاب منه ، فيكون قوله : (لِمَنْ يَشاءُ). أي : لمن تاب من الكبائر.

[موالاة المؤمنين]

وعلى العبد أن يوالي أولياء الله حيث كانوا وأين كانوا ، أحياءهم وأمواتهم وذكورهم وإناثهم. ويكون أحبهم إليه وأكرمهم عليه ، أفضلهم عنده ، وأتقاهم لربه ، وأكثرهم طاعة له.

والمؤمنون هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في كتابه ، وبيّن أحكامهم في سنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)) [الأنفال : ٢]. وقال جل ثناؤه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)) [المؤمنون : ١ ـ ٥]. فوصفهم بأعمالهم الصالحة حتى قال جل ثناؤه : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)) [المؤمنون : ١٠ ـ ١١]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)) [الحجرات : ١٥]. فقد دخل في هذه الصفة كل طاعة ، لأن الجهاد في سبيل الله يأتي على كل طاعة ، فمن أطاع الله في أداء فرائضه ، واجتناب محارمه ، فهو مجاهد بنفسه لربه ، في إتباع أمره ، وترك هوى نفسه ، فلا جهاد أفضل من مجاهدة النفس ، ليردها من هواها فيما يرديها ، ومن مجاهدة

__________________

وفي (ج) : الكبير الصغير. وفي (د) : للمجتنبين الكبير والصغير وهو.

٦١١

الشيطان عدو الرحمن. فمن عمل ذلك فهو مؤمن ، لأن الإيمان طاعة لله.

وللمؤمنين يقول الله جل ثناؤه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧)) [الأحزاب : ٤٧]. وقال جل ثناؤه : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)) [الأحزاب : ٤٣ ـ ٤٤]. فهذا ما وصفهم الله به في كتابه ، وحكم لهم فيه ، وفي سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وبالولاية لهم ثبوت عدالتهم وشهادتهم ، وحسن الظن بهم ، والنصيحة لهم ، والإحسان إليهم ، والثناء عليهم.

* * *

٦١٢

[معاداة الكافرين]

وعلى العبد أن يعادي أعداء الله الكافرين ، أين كانوا وحيث كانوا ، أحياءهم وأمواتهم ، وذكورهم وإناثهم ، وقد وصفهم الله جل ثناؤه وبيّن أحكامهم كلهم ، أهل الكتابين والمجوس والصابئين ، وغيرهم من المشركين والملحدين ، والمصرين والمرتدين والمنافقين ، فأمر بقتل بعضهم ، وترك قتل بعضهم ، وأخذ الجزية ، وترك نكاح نسائهم ، وترك أكل ذبائحهم.

وأما ـ غيرهم من أهل الأديان ، من العرب والعجم ، والمرتدين عن الإسلام إلى هذه الأديان المنصوصات من الكفر ، أو إلى الإلحاد ، أو إلى صفة الله بالتشبيه له بخلقه ، والافتراء عليه بالتظليم له في عباده ، بأن كلفهم ما لا يطيقون ، وعذب أطفالهم بما لا يكسبون ، إذ خرجوا مما عليه الأمة مجمعون من سنة نبيهم صلوات الله عليه وعلى آله ، إذا أجمعوا أن الخارج منها كافر ، فهؤلاء كلهم يستتابون من كفرهم ـ فإن تابوا وإلا قتلوا ، لا يقبل منهم غير ذلك ، ولا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم إن كن كفارا ، ويفرق بينهم وبين نسائهم إذا أسلمن ، من حرائرهن وإمائهن ، ولا يرثون ، ويرث المؤمنون أموالهم.

هذا حكم المرتدين منهم ، وبهذا حكم الله جل ثناؤه في جميع الكافرين ، ما خلا من كان منهم له عهد من رسلهم ، ودخل بأمان إلى المسلمين في دارهم ، أو كان بينه وبينهم صلح وعقد ، فهؤلاء يوفى لهم بعهدهم ، ولا ينقض شيء من عهدهم.

[معاداة الفاسقين]

وعلى العبد أن يعادي أعداء الله الفاسقين ، الذين أقروا ثم فسقوا ، من كانوا وحيث كانوا ، أحياءهم وأمواتهم ، وذكورهم وإناثهم ، الذي يسعون في الأرض فسادا ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويركبون كبائر الإثم والفواحش ، أولئك لهم اللعنة

٦١٣

ولهم سوء الدار ، ونلعنهم كما لعنهم الله (١) ونتبرأ منهم ، من كانوا وحيث كانوا ، من قريب أو بعيد. وهكذا قال تبارك وتعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)) [المجادلة : ٢٢]. فكل من أتى كبيرة من الكبائر ، أو ترك شيئا من الفرائض المنصوصة ، على الاستحلال لذلك فهو كافر مرتد ، حكمه حكم المرتدين. ومن فعل شيئا من ذلك اتباعا لهواه ، وإيثارا لشهواته ، كان فاسقا فاجرا ما قام على خطيئته ، فإن مات عليها غير تائب منها ، كان من أهل النار ، خالدا فيها وبئس المصير. يبيّن ذلك قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦)) [الانفطار : ١٣ ـ ١٦]. ومن لم يغب من النار فليس منها بخارج ، ومن لزمه الفسق والفجور من كان فهو من أهل النار ، إلا أن يتوب ، لقول الله جل ثناؤه : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥]. وقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)).

[الفاسق]

ومن أتى كبيرة فهو فاجر فاسق. يبيّن ذلك قول الله جل ثناؤه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)) [النور : ٤]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)) [النور : ٢٣]. فإذا كان قاذف المحصنة فاسقا ملعونا ، فالزاني بالمحصنة أعظم جرما ، والسارق ، وقاتل النفس ، بغير الحق ، وآكل أموال اليتامى ظلما ، وغير ذلك من كبائر الذنوب. وكذلك من فعل ذنبا من الكبائر فهو فاسق في إجماع الأمة.

__________________

(١) في (أ) : الدار ونلعنهم ونتبرأ منهم. وفي (ج) : الدار ، ويلعنهم الله ويتبرأ منهم.

٦١٤

والفاسق ـ لله جل ثناؤه ـ عدوّ ، حكم الله فيه (١) ما أنزل من حدوده. من قتله إذا قتل ظلما ، أو أفسد في الأرض بغيا ، وقطع يده إذا كان سارقا ، وجلده إذا زنا ، وإن زنا وهو محصن قتل بالحجارة رجما ، وإذا قذف المؤمنين والمؤمنات جلد الحدّ ، وغير ذلك (٢) من النكال ، لما يكون منه من الفعال ، (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٣٣]. (٣) مع ما نهى الله عزوجل عنه من ولايته ، وأمر به من جرح عدالته ، وإبطال شهادته ، وسوء الظن به ، والحجر عليه في ماله إذا أنفقه في معاصي ربه ، حتى يؤنس رشده ، وغير ذلك من الأحكام عليه ، من سوء الثناء ، وإلزامه القبيحة من الأسماء ، فليس هو من المؤمنين في أسمائهم ، ولا رضيّ أفعالهم ، لمجانبة المؤمنين في أعمالهم وطيبهم. ولا من الكافرين ولا يسمى بأسمائهم ، (٤) لمخالفته الكافرين في جحدهم ، وفريتهم على ربهم ، واستحلالهم لما حرم الله عليهم. ولا هو من المنافقين لاستسرار المنافقين الكفر في قلوبهم ، ولكنه فاسق. ذلك اسمه ، وعليه حكمه.

وقد بيّن الله جل ثناؤه أن الفاسق اسم من أسماء الذنوب ، لقوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات : ٥]. ومن لم يتب من فسقه وظلمه ، فهو من أهل النار ليس بخارج منها ، ولكنه وإن كان في النار فليس عذابه كعذاب الكافر ، بل الكافر أشد عذابا.

فلا يغتر مغتر ، ولا يتّكل متّكل ، على قول من يقول ـ من الكاذبين على الله وعلى رسوله ، صلوات الله عليه وعلى أهله ـ أن قوما يخرجون من النار بعد ما يدخلونها ، يعذبون بقدر ذنوبهم. (٥) هيهات أبى الله جل ثناؤه ذلك!! وذلك أن الآخرة دار جزاء ،

__________________

(١) سقط من (ب) : فيه.

(٢) في (ب) و (د) : الجلد. وفي جميع المخطوطات : وعير ذلك لما يكون من النكال. إلا أنه أشار في (أ) إلى زيادة (لما يكون) ، وهو الوجه.

(٣) الآية هكذا (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ ...) [المائدة / ٣٣].

(٤) في (أ) و (ج) : وطيتهم. ولعلها مصحفة.

(٥) أخرج مسلم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال : بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ، ثم قيل : يا أهل ـ

٦١٥

والدنيا دار عمل وبلوى ، فمن خرج من دار البلوى إلى دار الجزاء ، على طاعة أو معصية ، فهو صائر إلى ما أعد الله له خالدا فيها أبدا.

فالله الله في أنفسكم بادروا وجدوا ، وتوبوا قبل أن تحجبوا عن التوبة. ومع ذلك فإن(١) الأمة مجمعة على أن أهل الوعيد من أهل النار.

قال (٢) بعض الناس : إنما عنى بالوعيد المستحلين ، وتواعد به المذنبين ، ليزجرهم عن أعمال الفاسقين.

فقيل لهم : أفيجوز على أحكم الحاكمين ، أن يوعد بعقوبة الكافرين ، من ليس منهم من المذنبين ، وهو يعلم أنه لا يوقع بهم ذلك يوم الدين؟!

فهل يكون من الكذب ، والهزل من القول؟! إلا ما وصفهم به أرحم الراحمين ، إذ كان يوعد قوما بعقوبة قوم آخرين ، لم يكونوا لمثل أعمالهم التي أوجب الله لهم العقوبة عليها عاملين.

وقال بعضهم : إن قوما يخرجون من النار بعد ما يدخلونها.

فقيل لهم إذا اجتمعتم أنتم وأهل الحق على الدخول ، ثم خالفتموهم في الخروج ، فالحق ما اجتمعتم عليه من الدخول ، والباطل ما ادعيتموه ـ بلا إجماع ولا حجة ـ من الخروج. والأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة ، أو ترك طاعة فريضة كالصلاة والزكاة والصيام ، من أهل الملة فهو فاسق. (فكلهم قد أقر (٣) بأنه فاسق) (٤) (وهي مختلفة في غير ذلك من أسمائه.

فقال بعضهم : هو مشرك فاسق منافق. وقال بعضهم : هو فاسق كافر.

__________________

ـ الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الجنة تكون في حميل السيل. أخرجه مسلم ١ / ١٧٢ ، وابن ماجة ٢ / ١٤٤١ ، وأحمد ٣ / ٧٨ ٧٩ ، وابن خزيمة ٢٧٣ ٢٨٠ ، والدارمي ٢ / ٣٣١ ، وأبو عوانة ١ / ١٨٦ ، وغيرهم.

(١) في (أ) و (ج) : إن.

(٢) في (ب) و (د) : فقال.

(٣) في (ب) : أقروا.

(٤) سقط ما بين القوسين من (أ).

٦١٦

وقال بعضهم : فاسق منافق. فكلهم قد أقر بأنه فاسق) (١) واختلفوا في غير ذلك من أسمائه. فالحق ما أجمعوا عليه من تسميتهم إياه بالفسق ، والباطل ما اختلفوا فيه. ففي إجماعهم الحجة والبرهان ، نسأل الله التسديد والتوفيق ، لما يحب ويرضى.

والأسماء في الدين والأحكام ، عند ذي الجلال والإكرام ، ليس لأحد من المخلوقين أن يضع اسما وحكما على أحد من العالمين ، فيما هم به مأمورون وعنه منهيون ، فمن استحل شيئا من ذلك برأيه ، عن غير كتاب الله جل ثناؤه ، وسنة رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو من الضالّين إذ كان عند الله كبيرا. لأن الحكم في ذلك كله لرب العالمين ، لقوله جل ثناؤه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧].

وعلى العبد أن يتجنب (٢) الفاسقين ، والمعونة لهم على فسقهم ، والمجالسة لهم على لهوهم ومعاصيهم ، وعليه أن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، لأن على كل مؤمن إذا رأى منكرا مما يجوز أن يغيره هو ، أن يغيره بكل ما يقدر عليه ويحل له ، وإن كان مما لا يجوز أن يغيره (إلا لإجماع المؤمنين بالتعاون ، فعليهم وعليه أن يغيروا) (٣) بكل إمكانهم ، بالسيف إن لم يجز إلا بالسيف ، وبما دون السيف إذا اكتفي به ، وأدنى ذلك النهي باللسان. فإن لم يمكنه ذلك لتعبه لتخوفه (٤) الهلاك أو تقية ، فإنكار ذلك بالقلب ، والعزم على التغيير إذا أمكن الأمر. ولا يترك صاحب المنكر حتى يتوب منه ، أو يقام فيه حكم رب العالمين ، ويدارى أهل المنكر ، ويوعظون بأرق الوجوه ، فإن أبوا إلا المقام على المنكر ، فإن قدر على إزالتهم عنه فلا يؤخر ذلك ، وإن لم يقدر على إزالتهم جونبوا بمجانبة جميلة ، وقطعت الولاية عنهم ، ولا يدعا لهم بخير حتى يتوبوا إلى ربهم ، إنه (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الشورى : ٢٥].

__________________

(١) سقط ما بين القوسين من : (ج).

(٢) في (ب) : يتقي.

(٣) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٤) في (ب) و (د) : بخوفه.

٦١٧

[التوبة]

وعلى العبد أن يتقي الله في سر أمره وعلانيته ، ويستغفر الله ويتوب إلى الله من ذنوبه ، فإنه يقبل التوبة عن عباده ، بذلك وصف نفسه جل ثناؤه ، فقال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)) [طه : ٨٢]. ثم دعا عباده إلى التوبة ، ثم أخبرهم أنه يقبلها ، فقال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)) [هود : ٩٠]. وقال : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٣١].

فمن تاب إلى الله قبل توبته ، وإن كانت ذنوبه عدد الرمل ، (١) وأكثر من ذلك ، لأنه كريم ، وهو بعباده رءوف رحيم ، يقبل التوبة ويقيل العثرة ، ويقبل المعذرة ، ويغفر الخطيئة ، إذا صحت من العبد التوبة. وقال جل ثناؤه : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. ومن تاب من ذنبه ، قبل الله توبته وأحبه ، كذلك قال جل ثناؤه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢]. يعني : المتطهرين من الذنوب. فمن أحبه الله لم يعذبه ، وكان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وكان من أهل الجنة لا شك فيه. وكذلك أخبر تبارك وتعالى عن ملائكته : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ

__________________

(١) يشير إلى حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاثا غفر الله وإن كان عليه من الذنوب مثل رمل عالج. أخرجه محمد بن منصور المرادي في الذكر ٢٤٢ (٢٧٣) ، والترمذي ٥ / ٤٣٨ (٣٣٩٧) ، ورمل عالج هو : الصحراء الشرقية في الجزيرة العربية.

٦١٨

وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [غافر : ٧ ـ ٨]. والله جل ثناؤه لا يخلف الميعاد.

[التوبة من حقوق الله]

فالتوبة لها وجوه وتفسير ، فكل ذنب بين الله وبين عباده وإمائه نحو الزنا ، وشرب الخمر ، وإتيان الذكران بعضهم بعضا ، وإتيان النساء بعضهن بعضا ، واستماع محارم اللغو واللهو والعكوف عليها ، وقول الزور ، وقذف أهل الإحصان من الرجال والنساء بالرفث والخناء والفجور ، والكذب ، والمرح ، والخيلاء ، والكبرياء ، والرياء ، والعجب ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، والنظر إلى ما لا يحل من العورات ، وغيرها ، والفرار من الزحف لا ينحرف إلى قتال ولا يتحيز إلى فئة ، والكذب ، (١) والغيبة ، والنميمة ، وما أشبه ذلك من الذنوب ، ومعاداة أولياء الله ، وموالاة أعداء الله ، فالتوبة من ذلك كله بالندم على ما مضى ، والاستغفار بالقلب واللسان بلا إصرار ، والعزم أن لا يعود إلى شيء من ذلك أبدا ، قليلا كان أو كثيرا.

[التوبة من حقوق المخلوقين]

وأحب إلينا أن ينظر إلى ما كان أذى لمسلم أو معاهد ، فيستحله ويعتذر إليه منه ويرضيه ، وكل ذنب كان بين العبد وبين الناس مسلمهم ومعاهدهم ، من سرقة ، أو ربا في أموالهم ، أو أخذ مال بغير حق في جناية ، أو غصب ، أو إدخال ضرر عليهم في الأبدان كالقتل ، والجراحات كالضرب الشديد ، (كان إذا قدر على ذلك وكان له مال) (٢) فإن لم يكن مال جعله دينا عليه ، وعزم على أن يرده إلى أهله إذا قدر عليه ، أو على ذريتهم إن كان أهله ماتوا. ويندم على أخذه وحبسه ، ويستغفر الله ، ويعطي من

__________________

(١) تكرر ذكر الكذب.

(٢) يعني : فيتحلل من كل ذلك حالا إن كان له مال. وسقط من (أ) ما بين القوسين.

٦١٩

نفسه أن لا يعود إلى مثل ذلك أبدا ، ولا تجزيه التوبة من الأخذ حتى يرد إذ (١) كان حابسا ، وإن استوهبه منهم ووهبوه له بطيبة أنفس (٢) منهم ، كان ذلك له (٣) حلالا ، بعد الإقرار لهم على أجمل الوجوه. وإن صالحوه وأخذوا بعضا وتركوا بعضا ، على غير اقتسار لهم كان ذلك جائزا.

وإن لم يعرف أصحاب المال الذي أخذ منهم المال وأيس أن يعرفهم ، أو يعرف ورثتهم ، تصدق بمقدار ما أخذ منهم على المساكين ، فإن جاءوا بعد ذلك إليه أخبرهم أنه قد تصدق بذلك عنهم ، فإن رضوا لم يكن عليه شيء ، وإن أرادوا حقهم رده عليهم ، إذا قدر عليه ، وكانت صدقته له. وإن كان محتاجا إليه فأنفقه على نفسه ، وجعله دينا عليه لأهله ، فإن تاب قبل القدرة على أدائه إليهم من غصبه المال ، وإنفاقه إياه على نفسه ، كانت توبته مقبولة عند الله جل ثناؤه ، وكان المال له لازما حتى يعينه الله على قضائه.

وإن كان الذي أخذ أموالهم غائبا في بعض البلدان ، فلم يقدر على الخروج إليهم به لعلة مرض ، أو علة حائلة بينه وبين ذلك ، أوصى أن يبعث به إليهم ، لأن عليه أن يوصل إليهم حقوقهم حيث كانوا ، ويستحلهم من أخذه وإنفاقه وغصبه ، ثم لا شيء لهم عليه بعد ذلك. وتوبته مقبولة فيما بينه وبين الله جل ثناؤه.

وإن لم يكن يدر كم المال الذي أخذ من أموال الناس ، متفرقهم ومجتمعهم ونسي ، وكثر ذلك عليه ، فليتحرّ ما لكل واحد على قدر مبلغ علمه ورأيه ، ويحتط لنفسه ، ويزيد على نفسه حتى يكون الغالب عليه في حكمه (٤) ورأيه ، أن قد استغرق جميع حقوقهم ، وأدى إليهم أموالهم وزاد ، فإن النفقة له في ذلك. فإن زاد كان له أجره ، وإن نقص قليلا لم يضره ، بعد أن يتعمد الوفاء. وذلك كله توبته إلى الله جل ثناؤه مما كان منه في ذلك ، من أخذ وحبس عن أهله ، وهو عنده بندم واستغفار ، وعزم على أن لا

__________________

(١) في (ب) و (ج) : إذا.

(٢) في (ب) : بطيبة نفس منهم.

(٣) في (ب) : كله.

(٤) في (ب) و (د) : الغالب على علمه ورأيه.

٦٢٠