مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

العدل والتوحيد

٥٨١
٥٨٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على ما أسبغ علينا من نعمه ، ومنّ علينا من إحسانه وكرمه ، وبيّن لنا من الهدى ، وأنقذنا من الضلالة والردى ، بإقامة حججه ، وتواتر رسله ، صلوات الله عليهم ، ومحكم آياته ، وتفصيل بيناته ، رحمة لعباده ، ودعاء لهم إلى ثوابه ، وإخراجا لهم من عقابه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) [النساء : ١٦٥]. و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤١].

[عقائد يجب الإيمان بها]

أما بعد : فإن الذي يجب على العبد أن يكون عاملا بطاعة الله ، التي لا يقبل الله عزوجل غيرها من طاعته إلا بأدائها ، ولا يكون مؤمنا حتى يفعلها.

أن يؤمن بالله وحده لا شريك له ، ولا يتخذ معه إلها ، ولا من دونه ربا ولا وليا ، وأن يؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، وبالحساب والجنة والنار ، وبالجزاء بالأعمال ، وأن الآخرة هي دار القرار ، لا ينقطع ثوابها ، ولا يبيد عقابها ، ولا يموت فيها أهلها ، وهم في جزائهم خالدون. ويؤمن بوعد الله جل ثناؤه ووعيده ، وأخباره ، وكل ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما أمر به ونهى عنه صلوات الله عليه من العمل بالمفروض بطاعة الله ، والاجتناب لمعاصي الله ، والولاية لأوليائه ، والمعاداة لأعدائه ، والرضى بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله. فإذا فعل ذلك كان مؤمنا ، مسلما محسنا ، من المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

[التوحيد]

ولا يكون العبد مؤمنا حتى يعلم أنه مخلوق مرزوق ، وأنه ذليل مقهور ، وأن له خالقا قديما ، عزيزا حكيما ، ليس كمثله شيء في وجه من الوجوه ، ولا معنى من المعاني ، وأن ما سواه من الأشياء كلها من عرشه ، وملائكته ، ورسله ، وسماواته ، وأرضه ،

٥٨٣

وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ، مما أخرجه الله جل ثناؤه ، من تمكين العباد وأفعالهم ، لم يجعل لأحد عليه قدرة ولا استطاعة ، ولا عند أحد منهم معرفة في شيء من بدوّ ذلك وإنشائه ، ومن أعمل منهم فكره ليبلغ معرفة شيء من ذلك بقي حسيرا ، منقطعا مبهورا ، ولا جعل إلى أحد في شيء منه سبيلا ، ولا جعل لأحد فيه محمدة ولا ذما ، لأنه جل ثناؤه لم يستعن على إنشاء ما أنشأ بأحد ، ولم يشاركه في ملكه أحد ، ولم يؤامر في تدبيره أحدا ، فهو الواحد الأحد ، الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان.

فهو الدائم بلا أمد ، الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣].

وجميع ما أدركته ببصرك ووهمك ، ووقع عليه شيء من حواسك ، أو كيّفته بتقديرك ، أو حددته بتمثيلك ، أو شبهته بتشبيهك ، أو وقّت له وقتا ، أو حدّدت له حدا ، أو عرفت له أولا ، أو وصفت له آخرا ، فهو محدث مخلوق ، والله تبارك وتعالى خالق الأشياء ، لا من شيء خلقها ، ولا على مثال صوّرها ، بل أنشأها وابتدأها ، فدبرها بأحكم تدبير ، وقدرها بأحسن تقدير.

فهو جل ثناؤه ، لا يشبه الخلق ولا يشبهه الخلق ، لأنه الخلاق الذي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. لم يخص بذلك شيئا دون شيء ، بل عم الأشياء كلها ، ما كان منها وما يكون ، فلا شبيه له ولا عديل ، لا الضياء ولا الأنوار ، ولا الظلمات ولا النار. وذلك أن النور والظلمة مخلوقان محدثان ، يوجدان ويعدمان ، ويقبلان ويدبران ، ويذهبان ويجيئان ، ويوصفان ويحدان. والخالق جل ثناؤه ليس كذلك ، لأن الخالق جل وعز قديم لم يزل ، والمخلوق لم يكن ، فآثار الصنعة في المخلوق بينة ، وأعلام التدبير قائمة ، والعجز فيه ظاهر ، والحاجة له لازمة ، والآفات به نازلة ، فأنت تراه مرة ماثلا ، ومرة آفلا زائلا.

فلما كانت هذه صفة كل مخلوق ، ولم يجز أن تضاف صفة المخلوق إلى الخالق عز وجهه ، لأن الخالق لا يكون في صفة المخلوق ، تبارك وتعالى الخالق أن يكون له شبه البشر ، هو الحامد نفسه قبل أن يحمده أحد من خلقه. فقال تبارك وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

٥٨٤

بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)) [الأنعام : ١]. يقول جل ثناؤه إن الكفار عبدوا إلها غير الله ، فقالوا هو ضياء ونور ، ومن جنسه النار والنور ، وجعلوا معه إلها آخر ، فقالوا : هو ظلمة ومن جنسه كل ظلمة. فعدلوا بالله جل ثناؤه حين شبهوه بالأنوار ، وجعلوا معه آلهة من الظلمات ، فأكذبهم الله جل ثناؤه إذ قال : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). تكذيبا لهم إذ شبهوه وعدلوا به ، وأكذب جل ثناؤه الذين شبهوه بالإنس من اليهود وغيرهم من المشركين ، جهلا به وجرأة عليه ، فقال جل ثناؤه مع ما بيّن لهم في عقولهم من وحدانيته ، ونفى شبه الخلق عند ما يرون من أدلته وأعلامه ، التي تدعوهم إلى معرفته وتوحيده ، من خلق السماوات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ، ومن أنفسهم لو أحسنوا النظر ، وأعملوا في ذلك الفكر ، فقال جل ثناؤه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤]. وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧].

كذلك الله عزوجل شاهد كل نجوى ، عالم السر وأخفى ، قريب لا بمجاورة ، بعيد لا بمفارقة ، شاهد كل غائب ، آخذ بناصية كل دابة ، وعليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ، أقرب إلينا من حبل الوريد ، وخائل بيننا وبين قلوبنا (١) لا بتحديد ، وهو مع قربه منا مدبر السماوات العلى ، وشاهد الأرضين السفلى ، وعليم بما فيهن وما بينهن وما تحت الثرى ، وهو على العرش استوى ، وهو مع كل نجوى ، وهو في ذلك لا كشيء من الأشياء.

[أسباب وعلل التشبيه]

ولقد ضل قوم ممن ينتحل الإسلام من المشبهة الملحدين ، الذين شبهوا الله عز ذكره بخلقه ، وزعموا أنه على صورة الإنسان ، (٢) وأنه جسم محدود ، وشبح مشهود ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) : قولنا.

(٢) إشارة إلى ما رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تقبح الوجه فإن آدم خلق على ـ

٥٨٥

واعتلّوا بآيات من الكتاب متشابهات ، حرفوها بالتأويل ، ونقضوا بها التنزيل ، كما حرّف من كان قبلهم من اليهود والنصارى كلام الله عن مواضعه ، وبأحاديث افتعلها الضلال ، من بغاة الإسلام ، فحملها عنهم الجهال. فيها الإلحاد والكفر بالله ، وأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها ، (١) ولم يعنوا بتصحيحها ، (٢) فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

[الرؤية]

فكأنما تأولوا قول الله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣]. فقالوا إن الله عزوجل يرى بالأبصار في الآخرة ، وينظر إليه جهرة ، خلافا لقول الله جل ثناؤه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣]. (٣) جهلا بمعاني الآية وتأويلها.

__________________

ـ صورة الرحمن.

أخرجه الطبراني في الكبير ١٢ / ٣٤٠ (٠١٣٥٨) ، وابن أبي عاصم في السنة / ٢٢٩. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. سبحان رب العزة عما يصفون.

(١) للاطلاع على تلك الأحاديث يمكن الرجوع إلى البحث الذي وضعته في ذلك بعنوان : الصلة بين عقائد الوهابية والتوراة اليهودية.

(٢) لما لم يعرضوها على القرآن.

(٣) عن أنس رضي الله عنه :

«أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول :

«يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ، وما تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا بحر ما في قعره ، ولا جبل ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.

فوكّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأعرابي رجلا ، فقال : إذا صلى فائتني به ، فلمّا صلّى أتاه ، وقد كان أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب من بعض المعادن ، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب ، وقال : ممّن أنت يا أعرابي؟ قال : من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله ، قال : هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال : للرحم بيننا وبينك يا رسول الله ، قال : إن للرحم حقا ، ولكن ـ

٥٨٦

فأما أهل العلم والإيمان ، ففسروها على غير ما قال أهل التشبيه المنافقون ، فقالوا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقول : مشرقة حسنة ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقول : منتظرة ثوابه وكرامته ورحمته ، (١) وما يأتيهم من خيره وفوائده. وهكذا ذلك في لغات العرب. وبلغاتها ولسانها نزل القرآن ، يقولون : إذا جاء الخصب بعد الجدب : قد نظر الله جل ثناؤه إلى خلقه ، ونظر لعباده. يريدون أنه أتاهم بالفرج والرخاء. ليس يعنون أنه كان لا يراهم ثم صار يراهم.

وقال الله جل ذكره وهو يذكر أهل النار : (لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧]. تأويل ذلك : أنهم لا

__________________

ـ وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عزوجل».

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ١٥٨) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.

وأخرج ابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وابن عدي ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ). قال : لو أن الإنس والجن والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفّوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال : لا يحيط بها أحد بالله.

وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن قتادة (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال : هو أجلّ من ذلك وأعظم أن تدركه الأبصار.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) يقول : لا يراه شيء وهو يرى الخلائق. الدر المنثور ٣ / ٣٣٥.

(١) قال بعضهم إن (إلى) اسم وليست حرف جرّ ، وهي مفرد آلا وهي النعم ، قال الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). فعلى هذا يكون معنى الآية : نعمة ربها منتظرة.

أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر الثواب من ربها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر منه الثواب. الدر المنثور ٨ / ٣٦٠.

وهو المروي عن علي والحسن وسعيد بن جبير والضحاك. رواه الطوسي في مجمع البيان ٦ / ١٢٨.

٥٨٧

يرجون من الله جل ثناؤه ثوابا ، ولا يفعل بهم (١) خيرا ، وأهل الجنة ينظر الله إليهم وينظرون إلى الله جل ثناؤه ، ومعنى ذلك أنهم يرجون من الله خيرا ، ويأتيهم منه خير ويفعله بهم ، وليس معنى ذلك أنهم ينظرون إليه جهرة بالأبصار ، عز ذو الجلال والإكرام ، وكيف يرونه بالأبصار ، وهو لا محدود ولا ذو أقطار ، كذلك جل ثناؤه لا تدركه الأبصار ، ومن أدركته الأبصار فقد أحاطت به الأقطار ، ومن أحاطت به الأقطار ، كان محتاجا إلى الأماكن ، وكانت محيطة به ، والمحيط أكبر من المحاط به وأقهر بالإحاطة ، فكل من قال إنه ينظر إليه جل ثناؤه على غير ما وصفنا من انتظار ثوابه وكرامته ، فقد زعم أنه يدرك الخالق ، ومحال أن يدرك المخلوق الخالق جل ثناؤه بشيء من الحواس ، لأنه خارج من معنى كل محسوس وحاس ، فكذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه درك الأبصار ، وإحاطة الأقطار ، وحجب الأستار ، فتعالى الله عن صفة المخلوقين ، علوا كبيرا لا إله إلا هو رب العالمين.

[شبه المشبهة]

وتأولت أيضا المشبهة قول الله تبارك وتعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٦٢]. وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧]. وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) [الفجر : ٢٢]. وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]. وقوله : (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج / ٦١ ، لقمان / ٢٨ ، المجادلة / ١]. وقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨ ، ٣٠]. وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم ، وبأنه عزوجل عندهم في ذلك كله على معنى المخلوقين ، وصفاتهم في هيئاتهم وأفعالهم ، فكفروا بالله العظيم ، وعبدوا غير الله الكريم.

وتأويل ذلك كله عند أهل الإيمان والتوحيد : أن الله عزوجل ليس كمثله شيء ،

__________________

(١) في (ب) : لهم.

٥٨٨

فأما قوله تبارك وتعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٦٢]. يعني : بقدرتي وعلمي. يريد أني على ذلك قادر وبه عالم ، توليت ذلك بنفسي لا شريك لي في تدبيري وصنعي ، لا أن قدرتي وعلمي ونفسي غيري ، بل أنا الواحد الذي لا شيء مثلي. وقد بيّن معنى هذه الآية في آية أخرى ، فقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)) [آل عمران : ٥٩]. وقال جل ذكره : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النحل : ٤٠] يريد إذا كونا شيئا كان. وقال تبارك وتعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)) [يس : ٧١]. يقول : مما عملت أنا بنفسي.

وقال جل ثناؤه : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٥٨] ، وتأويل ذلك عند أهل العلم : بل نعمتاه مبسوطتان على خلقه ، نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وقيل في تأويله : بل رزقاه (١) مبسوطان على خلقه ، رزق موسع ، ورزق مضيق ، (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). أي : يفعل من (٢) ذلك ما هو أصلح لعباده. كذلك قال جل ثناؤه : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١]. يعني : له الملك. وكذلك تقول العرب : الملك بيد فلان. وقد قبض فلان الملك والأرض. وذلك في قبضته وبيمينه. يعنون : في قدرته وملكه. كذلك السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما في قبضة الله وبيمينه. يعني : في قدرته وملكوته وسلطانه ، اليوم ويوم القيامة وفي كل وقت. كما قال جل ثناؤه : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١]. فالأمر يومئذ واليوم بيده. وقال تبارك وتعالى لمن عصاه وهو يساق إلى النار : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠]. و «بما كسبت يداك» (٣). يريد : بما كسبت أنت بقولك وفعلك ، ليس يعني : يده دون بدنه وجوارحه.

وقال جل ثناؤه لنبيه ، صلوات الله عليه وعلى أهله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٤]. يعني : ما ملكتم أنتم ، وتقول العرب : أسلم فلان على يدي فلان. يريدون :

__________________

(١) في (أ) و (ج) : نعمتاه مبسوطتان.

(٢) في (أ) و (ج) : يفعل لذلك.

(٣) لا يوجد آية كما ذكر الإمام فلعله اشتبهت عليه بقوله (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٢٣٠].

٥٨٩

بقوله وأمره. ويقولون :

 ...............................

بيد الله أمرنا والفناء (١)

يريدون : بالله عمرنا والفناء. ويقولون : نواصينا بيد الله ، ونحن في قبضة الله. يريدون في هذا كله : أنّا في قدرته وملكه ، ليس يذهبون إلى يد كيد الإنسان أو غيره من الخلق.

ومعنى قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) [الفجر : ٢٢]. يقولون : جاء الله جل ثناؤه بآياته العظام في مشاهد القيامة ، وجاء بتلك الزلازل والأهوال ، وجاء بالملائكة الكرام ، فتجلت الظّلم ، وانكشفت عن المرتابين البهم ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. وليس قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ). أنه جاء من مكان ، ولا أنه زائل ولا حائل ، (٢) أو منتقل من مكان إلى مكان ، أو جاء من مكان إلى مكان ، تبارك الله وتعالى عن ذلك. بل هو شاهد كل مكان ، ولا يحويه مكان ، وهو عالم كل نجوى ، وحاضر كل ملأ.

كذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠]. كما قال جل ثناؤه : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)) [يس : ٤٩]. وكذلك قال جل ثناؤه : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦]. وقال : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢]. يعني بذلك كله : أنه أتاهم بعذابه وأمره. ليس أنه أتاهم بنفسه زائلا ، وكان في مكان فكان عنه منتقلا. وكذلك يقول القائل للرجل إذا جاء بأمر عجيب : لقد أتى فلان أمرا عجيبا. يريدون : أنه فعل شيئا أعجبه. فذلك تأويل المجيء من الله جل ثناؤه. لا هو بالانتقال ولا بالزوال ، لأن الزائل مدبّر محتاج ، لو لا حاجته إلى الزوال لم يزل. فلذلك نفى الموحدون عن الله جل ثناؤه الزوال والانتقال.

__________________

(١) لم أقف على هذا البيت.

(٢) في (ب) و (د) : أو حائل.

٥٩٠

[القرآن كلام الله مخلوق]

وقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤]. فذهبت المشبهة إلى أن الله تعالى عما قالوا علوا كبيرا : تكلم بلسان وشفتين ، وخرج الكلام منه كما خرج الكلام من المخلوقين ، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة.

ومعنى كلامه جل ثناؤه لموسى صلوات الله عليه عند أهل الإيمان والعلم : أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء ، فسمعه موسى صلى الله عليه وفهمه ، وكل مسموع من الله جل ثناؤه فهو مخلوق. لأنه غير الخالق له وإنما ناداه الله جل ثناؤه ، فقال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [القصص : ٣٠]. والنداء غير المنادي ، والمنادي بذلك هو الله جل ثناؤه ، والنداء غير الله ، وما كان غير الله مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق ، لأنه لم يكن ثم كان بالله وحده لا شريك له.

وكذلك عيسى صلوات الله عليه كلمة الله وروحه ، وهو مخلوق كما قال الله في قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)) [آل عمران : ٥٩]. وكذلك قرآن الله وكتب الله كلها ، قال الله جل ثناؤه : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣]. يريد : خلقناه. كما قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦]. يقول : خلق منها زوجها. وقال جل ثناؤه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) [الأنبياء : ٢]. وقال تبارك وتعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) [القلم : ٤٤]. وقال سبحانه : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) [طه : ٩٩]. فكل محدث من الله جل ثناؤه فمخلوق ، لأنه لم يكن فكان بالله وحده لا شريك له ، فالله أول لم يزل ولا يزول.

وأما قوله : (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١). فمعنى ذلك : أنه لا تخفى عليه الأصوات ولا اللهوات ، ولا غيرها من الأعيان ، أين ما كانت وحيث كانت ، في ظلمات الأرض

__________________

(١) وهما في حق الله بمعنى عالم. والدليل على ذلك قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [التوبة / ٧٨] ، والسر : ما انطوت عليه الضمائر قال تعالى : «فأسر يوسف في نفسه» والضمير لا يسمع بل يعلم ، وقوله (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي : علمت.

٥٩١

والبر والبحر. ليس يعني : أنه سميع بصير بجوارح أو بشيء سواه ، فيكون محدودا ، أو يكون معه غيره موجودا ، تعالى الله عن ذلك.

وأما قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧]. فإنما يعني : إياه لا غيره. يقول : كل شيء هالك إلا هو. وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ليس يعني بذلك : وجها في جسد ، ولا جسدا إذا وجه ، تعالى الله عن هذه الصفات ، التي هي في المخلوقين موجودات.

وأما قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٣٠ ، ٢٨]. يريد : يحذركم الله إياه لا غيره. وقوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]. يريد : تعلم أنت ما أعلم ولا أعلم أنا ما تعلم إلا ما علمتني. ليس يعني : أن له نفسا غيره بها يقوم. تعالى عن ذلك. وقد يقول القائل : هذا نفس الحق ، ونفس الطريق ، وكذلك : هذا وجه الكلام ، ووجه الحق ، يريدون بذلك كله : هو الحق ، وهذا هو الكلام ، وهذا هو الطريق. ليس يذهبون إلى شيء غير ذلك. فتعالى الله عن صفات المخلوقين علوا كبيرا ، هو الذي لا كفؤ له ولا نظير له ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١].

فكل من وصف الله جل ثناؤه بهيئات خلقه ، أو شبهه بشيء من صنعه ، أو توهمه صورة أو جسما ، أو شبحا ، (١) أو أنه في مكان دون مكان ، أو أن الأقطار تحويه ، أو أن الحجب تستره ، أو أن الأبصار تدركه ، أو (٢) أنه لم يخلق كلامه وكتبه ، والقرآن وغيره من كلامه وأحكامه ، أو أنه كشيء مما خلق ، أو أن شيئا من خلقه يدركه ، مما كان أو يكون ، بجارحة أو حاسة ، فقد نفاه وكفر به وأشرك به. فافهموا ذلك ، وفقنا الله وإياكم لإصابة الحق ، وبلوغ الصدق.

__________________

(١) الشبح : الشخص.

(٢) في (أ) و (ج) : وأنه.

٥٩٢

[العدل]

وعلى العبد : إذا وحّد الله جل ثناؤه ، وعرف أنه ليس كمثله شيء ، أن يتّقيه في سره وعلانيته ، ويرجوه ويخافه ، ويعلم أنه عدل كريم ، رحيم حكيم ، لا يكلف عباده إلا ما يطيقون ، ولا يسألهم إلا ما يجدون ، ولا يجازيهم إلا بما يكسبون ويعملون. وهكذا جل ثناؤه قال ، يدل بذلك على رحمته لنا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، و (... إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧]. وقال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧]. فلم يكلف الرحيم الكريم أحدا من عباده ما لا يستطيع ، بل كلفهم دون ما يطيقون ، ولم يكلفهم كل ما يطيقون. وعذرهم عند ما فعل بهم من الآفات التي أصابهم بها ، ووضع عنهم الفرض فيها ، فقال لا شريك له : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور : ، الفتح : ١٧٦١]. لأنهم لا يقدرون أن يؤدوا ما فرض الله عليهم ، ولم يقل جل ثناؤه : ليس على الكافر حرج ، ولا على الزاني حرج ، ولا على السارق حرج. وذلك أنه لم يفعل ذلك بهم ، ولم يدخلهم فيه ، ولم يقض ذلك ولم يقدره ، لأنه جور وباطل ، والله جل ثناؤه لا يقضي جورا ولا باطلا ولا فجورا ، لأن المعاصي كلها باطل وفجور ، والله تعالى أن يكون لها قاضيا ومقدرا ، بل هو كما وصف نفسه ، جل ثناؤه إذ يقول : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧]. بل قضاؤه فيها كلها النهي عنها ، والحكم على أهلها بالعقوبة والنكال في الدنيا والآخرة ، إلا أن يتوبوا فإنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات.

أليس قال جل ثناؤه في الصيام : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥]. (١) فوضع عن المرضى الصيام ، لأنهم لا يقدرون عليه ، ووضعه عن المسافر وإن كان يقدر عليه ، يخبرهم أنه إنما يفعل ذلك لأنه يريد بهم اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، ووضع عنه الصلاة قائما إذا لم يقدر على القيام ، وأباح له أن يصلي جالسا ، وإن لم يقدر على الصلاة

__________________

(١) في المخطوطات : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ ....) والآية كما أثبت.

٥٩٣

جالسا ، صلى مضطجعا أو مستقبلا ، فإن لم يقدر على ذلك بشيء من جوارحه فلا شيء عليه. فعل ذلك رحمة ونعمة ونظرا لعباده.

ومن لم يكن له مال فلا زكاة عليه ، وإن كان ذا مال ـ فحال (١) عليه الحول ـ وهو مائتا درهم فعليه خمسة دراهم ، فإن نقص من مائتي درهم شيء ، (٢) قلّ أو كثر فلا شيء عليه فيها ، وكل أمر لا يستطيقه العبد فهو عنه موضوع ، وكلّف مما يستطيع اليسير. يريد لله جل ثناؤه بذلك التخفيف عن (٣) عباده تصديقا لقوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)) [النساء : ٢٨]. وقال جل ثناؤه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨]. يقول : من ضيق.

وقال تبارك وتعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤]. فلم يؤت أحد من قبل الله تبارك وتعالى في دينه ، وإنما يؤتى العبد من نفسه بسوء نظره ، وإيثار هواه وشهوته ، ومن قبل الشيطان عدوه ، يوسوس في صدره ويزين له سوء عمله ، ويتبعه فيضله ويرديه ، ويهديه إلى عذاب السعير.

وقال الله جل ثناؤه يحذر عباده الشيطان : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٣]. وقال تبارك وتعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [البقرة : ٢٦٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)) [فاطر : ٦]. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

وعلى العبد أن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم الحليم ، وأن الله جل ثناؤه عالم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، وأنه أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، وأنه لم يجبر أحدا على معصية ، ولم يحل بين أحد وبين الطاعة ، فالعباد العاملون والله جل ثناؤه العالم بأعمالهم ، والحافظ لأفعالهم ، والمحصي لأسرارهم وآثارهم ، وهو بما يعملون خبير.

__________________

(١) في (ب) و (د) : وحال.

(٢) في المخطوطات : شيئا. لعلها مصحفة.

(٣) في المخطوطات : من. ولعلها كما أثبت.

٥٩٤

[الهدى والضلال]

وعلى العبد أن يعلم أن الله جل ثناؤه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وأنه لا يضل أحدا حتى يبين لهم ما يتقون ، فإذا بيّن لهم ما يتقون ، وما يأتون وما يذرون ، فأعرضوا عن الهدى ، وصاروا إلى الضلالة والردى ، أضلهم بأعمالهم الخبيثة حتى ضلوا ، كذلك قال جل ثناؤه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧]. وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [البقرة : ٢٦ ـ ٢٧]. وقال تبارك وتعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥]. وقال جل ثناؤه : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥].

وقد يجوز أيضا أن يكون معنى يضل : أن سمّاهم ضلّالا ، وشهد عليهم بالضلال ووصفهم به ، من غير أن يدخلهم في الضلالة ويقسرهم عليها ، فإن رجعوا عن الضلالة وتابوا ، وصاروا إلى الهدى ، سمّاهم مهتدين ، وأزال عنهم اسم الضلال والفسق. ولم يبتدئ ربنا جل ثناؤه أحدا بالضلالة من عباده ، ولا وصف بها أحدا من قبل أن يستحقها ، وكيف يبتدئ أحدا من عباده بالضلالة؟! كما قال القدريون الكافرون الكاذبون على الله. والله جل ثناؤه ينهى عباده عنها ، ويحذرهم إياها. ويقول : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء: ١٧٦]. يعني لئلا تضلوا. وقال جل ثناؤه : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)) [إبراهيم : ١]. وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١]. ولو ابتدأهم بالضلالة كان قد غيّر ما بهم من النعمة قبل أن يغيروا ، سبحانه هو (١) أرحم الراحمين ، وخير الناصرين. يريد بذلك وصف نفسه.

وأمّن (٢) الخلق أن يكون لهم ظالما ، أو بغير ما عملوا مجازيا ، فقال جل ثناؤه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣].

__________________

(١) في (ب) و (د) : سبحانه وهو.

(٢) في (أ) و (ج) : وأمر مصحفة.

٥٩٥

وقال سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تبارك وتعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]. وقال عز ذكره : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]. فللعبادة خلقهم ، وبطاعته أمرهم ، ومن ظلمه أمّنهم ، وبنعمته ابتدأهم ، بما جعل لهم من العقول والأسماع والأبصار ، وسائر الجوارح والقوى ، التي بها يصلون إلى أخذ ما أمرهم به ، وترك ما نهاهم عنه ، ثم ابتدأهم جل ثناؤه بالنعمة في دينهم ، بأن بيّن لهم ما يأتون وما يذرون ، ثم أمرهم بما يطيقون. أراد بذلك إكرامهم ، ومن المهالك إخراجهم ، بيّن ذلك بقوله في الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)) [البلد : ٨ ـ ١٠]. هما : الطريقان ، الخير والشر فيما سمعنا. يقول الله سبحانه : بيّنا له الطريقين ، ليسلك طريق الخير ويجتنب طريق الشر. وقال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [النجم : ٢٣]. وقال عزوجل : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢)) [الليل : ١٢]. وقال جل ثناؤه : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى : ٣]. وقال تبارك وتعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [النحل : ٩] (١). وقال سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]. وقال لنبيه صلوات الله عليه وعلى آله : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)) [سبأ : ٥٠]. فأمر نبيه صلى الله عليه أن ينسب ضلاله (٢) إن كان منه إلى نفسه ، والهدى إلى ربه تبارك وتعالى ، وقد علم الله جل ثناؤه أن لا يكون من نبيه ضلالة أبدا ، وأن لا يكون منه إلا الهدى ، وإنما أمر بذلك تأديبا لخلقه ، وأن ينسبوا ضلالتهم إلى أنفسهم ، وينزهوا منها ربهم ، وأن

__________________

(١) أي : وعلى الله بيان الطريق المستقيم ، كقوله (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ومن السبيل طريق جائر أي : عادل عن الحق ، فعلى الله بيان الطريقين وآخر الآية (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يعني : لو شاء مشيئة جبر وقسر وإلجاء لهداكم الطريق المستقيم. ولكنه أمر تخييرا ونهى تحذيرا ليتم التكليف. وعلى الناس الاختيار فمن عمل صلاحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

(٢) في (ب) و (د) : ضلالة إن كانت.

٥٩٦

ينسبوا هداهم إلى ربهم الذي به اهتدوا ، وبعونه وتوفيقه رشدوا.

[القدرة قبل الفعل]

والقدريون المفترون يكرهون أن ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش ، ولا يقرون أن الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى ولا بالتقوى ، قبل أن يصيروا إلى هدى أو تقوى ، خلافا لقوله ، وردا لتنزيله ، وإبطالا لنعمه ، وهو يقول جل ثناؤه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٠]. يأمرهم بالتقوى إذ (١) كانوا لها مستطيعين ، فلو لم يكن لهم عليها استطاعة لما أمرهم بها ، ولو كانت استطاعة لغيرها لم يجز أن يقول : «اتّقوا ما الله استطعتم» ، إذ كانت الاستطاعة لغير التقوى. وقال جل ثناؤه : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [الأعراف : ١٧١]. (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢]. فقد أمرهم أن يأخذوا لأن الأخذ فعلهم ، والأمر والقوة فعل ربهم ، فلم يأمرهم جل ثناؤه أن يأخذوا ، حتى قوّاهم على ذلك قبل أن يأخذوا.

وكذلك قال في الصيام : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة : ١٨٤]. يعني : على الذين يطيقون الصيام ولا يصومون فدية ، ونحو ذلك مما في القرآن. وذلك كله دليل على أن القوة قبل الفعل ، إذ كان الفعل لا يكون إلا بالقوة ، وكلما كان بشيء يكون ، أو به يقوم ، فالذي يكون الشيء أو يقوم به فهو قبله ، كذلك الأشياء كلها بالله جل ثناؤه كانت وبه قامت ، وهو قبلها. فكذلك القوة فينا قبل فعلنا ، إذ كان فعلنا لا يكون ولا يقوم ولا يتم إلا بها ، وكذلك يقول الناس : بقوة الله فعلنا. لا كما تقول القدرية المشبهون : إن الله جل ثناؤه لم يبتدئ العباد بالقوة! فأنعم عليهم بها قبل فعلهم! ولكنها كانت منه مع فعلهم.

ففيما وضعناه دليل وبرهان ، أن القوة من الله جل ثناؤه في عباده قبل فعالهم ، إذ كان بطاعته لهم آمرا ، وعن معصيته لهم ناهيا ، نعمة أنعم بها الله عليهم ، وأحسن بها

__________________

(١) في (ب) و (د) : إذا.

٥٩٧

إليهم. والقوة عندنا على الأعمال هي الصحة والسلامة من الآفات في النفس والجوارح ، وكل ما يوصل (١) به إلى الأفاعيل ، إذ كانت الصحة والسلامة تثبت الفرض ، وإذا زالت زال الفرض ، ذلك موجود في العقول ، وفي أحكام الله جل ثناؤه ، وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي إجماع الأمة. لا يعرفون غير ذلك ، ولا يدينون إلا بذلك.

فليتق الله عبده ، وليعلم أن الله جل ذكره يبتدئ العباد بالنعم والبيان ، ولا يبتدئهم بالضلال والطغيان ، صدّق ذلك قوله لا شريك له : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ٨]. وقال جل ثناؤه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٢].

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يوصف. تصحيف.

٥٩٨

[المعاصي فعل الإنسان وتزيين الشيطان]

فمن أحسن فليحمد الله جل ثناؤه ، إذ أمره بالخير وأعانه عليه ، ومن أساء فليذم نفسه فهي أولى بالذم ، (١) وليضف المعصية (٢) إذ كانت منه إلى نفسه الأمارة بالسوء ، وإلى الشيطان إذ كان بها آمرا ولها مزيّنا ، كما أضافها الله جل ثناؤه إليه ، (٣) وأضافها الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون حين عصوا الله إلى أنفسهم ، قال آدم وحواء صلوات الله عليهما حين عصيا في أكل الشجرة : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف : ٢٣]. فأخبر سبحانه أن الشيطان دلّاهما بغرور ، ثم حذّر أولادهما من بعدهما إعذارا إليهم ، وتفضلا عليهم ، فقال : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧].

وقال موسى صلوات الله عليه حين قتل النفس : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٥]. وقال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي

__________________

(١) روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى أربعة من العلماء وهم : الحسن بن أبي الحسن البصري ، وواصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وعامر الشعبي رحمهم‌الله يسألهم عن القضاء والقدر يعني بمعنى الخلق لأفعال العباد؟

فأجابه أحدهم : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهو قوله عليه‌السلام : (أتظن أن الذي نهاك دهاك ، إنما دهاك أسفلك وأعلاك ، وربك بري من ذاك).

وأجابه الثاني فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قولهعليه‌السلام : (أتظن أن الذي فسح لك الطريق ، لزم عليك المضيق).

وأجابه الثالث فقال : لا أعرف إلا ما قاله علي عليه‌السلام وهو قوله كرم الله وجهه : (إذا كانت المعصية حتما ، كانت العقوبة ظلما).

وأجابه الرابع فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عليه‌السلام وهو قوله كرم الله وجهه : (ما حمدت الله عليه فهو منه ، وما استغفرت الله منه فهو منك). فلما بلغ ذلك الحجاج بن يوسف قال : قاتلهم الله لقد أخذوها من عين صافية. ينابيع النصيحة / ١٥٧ ١٥٨.

(٢) في (أ) و (ج) : إن. وفي (ب) : إذا. تصحيف.

(٣) أي إلى الشيطان.

٥٩٩

فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)) [القصص : ١٦].

وقال يونس صلوات الله عليه وهو في بطن الحوت تائبا من ظلمه لنفسه ، ومقرا بذنبه: (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٢]. وقال غيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم نحو ذلك ، وقال الصالحون نحو ذلك عند زلتهم. فنقول كما قال أنبياؤه ورسله صلوات الله عليهم ، وكما قال الصالحون من عباده ، فنضيف المعاصي إلى أنفسنا ، وإلى الشيطان عدونا ، كما أمرنا ربنا ، ولا نقول كما قال القدريون المفترون : أن الله جل ثناؤه قدّر المعاصي على عباده ، ليعملوا بها وأدخلهم فيها ، وأرادها منهم وقلّبهم فيها كما تقلب الحجارة ، وشاءها لهم وقضاها عليهم حتما ، لا يقدرون على تركها. وأنه في قولهم يغضب مما قضى ، ويسخط مما أراد ، ويعيب ما قدّر ، ويعذب طفلا بجرم والده ، وأنه يحمد العباد ويذمهم بما لم يفعلوا ، ويجزيهم بما صنع بهم ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (١).

هذا مع زعمهم أن أفعال العباد كلها طاعتها ومعصيتها صنعه وخلقه ، هو تولى خلقها وإحداثها ، خلافا لقول الله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) [الواقعة : ٢٤]. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)) [الزخرف : ٦١]. وقوله لأهل المعاصي : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٢]. و (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة / ٩ ، المجادلة / ١٥ ، المنافقون / ٢]. و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور / ١٦ ، التحريم / ٧]. فكفروا بالله كفرا لم يكفر به أحد من العالمين ، لعظيم فريتهم على ربهم جل ثناؤه ، ورميهم إياه بجميع جرمهم ، تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا! وتقدس وجل ثناؤه!! أليس في كتابه ، وفي حجة عقول خلقه ، عدله عليهم وإحسانه ، وبراءته من ظلمهم؟! إذ قال جل ثناؤه : (* إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)) [النحل : ٩٠].

فو الله لو لم ينزل على عباده إلا هذه الآية في عدله لكان فيها البيان والنور ، وهي

__________________

(١) سقط من (ب) : ويجزيهم بما صنع بهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا هذا.

٦٠٠