مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

فأرسلت ، ولم أكن عالما فعلّمت ، فلا تقولوا فيّ فوق طولي) (١).

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧)) [الضحى : ٧]. فسماه ضالا ثم هداه ، ولم تكن ضلالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضلالة شرك ، ولا كضلالة قريش ، ولا كضلالة اليهود والنصارى ، غير أنه كان ضالا (٢) عن الشرائع ، أي جاهلا بالشرائع حتى بصّره الله وهداه وعرّفه ، ولم يجهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رب العالمين.

أما بلغك قول الله سبحانه لنبيه : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤]؟! وهل تكون الزيادة إلا من نقصان ، فما لم يكن لرسول الله صلى الله عليه ، فلا يكون لأحد من خلق الله ، وكل عالم بعد جهل يعلم ، ولا بد أن يقع اسم الجهل على كل خلقه ، كيلا يشبّه أحد من خلقه به ؛ لأن الله لم يجهل ولم يتعلم. ولم يزل عالما ، وكل خلقه بعد جهل تعلموا ، والله سبحانه لم يجهل ولم يتعلم. ولو كان على ما قالت الروافض بأن الأئمة علماء غير متعلمين ، ولا يجوز الجهل في وقت من الأوقات على أحد من الأئمة ، فسبحان الله أفليس قد شبهتموه (٣) برب العالمين ، إذ لم يجهل صاحبكم ولم يتعلم ، أو ليس قد شبهتموه بالله بقولكم ، إذ (٤) زعمتم أنه يعلم الغيب ، ويعلم أعمال العباد (ومواضعهم ، وكل رجل باسمه ونسبه ، ويعلم ما تلفظونه ، ويعلم ما في قلوب العباد) (٥) ، فسبحان الله عما يقولون! وهل هذه إلا صفة رب العالمين؟!

__________________

(١) لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ ، ووقفت على حديث طويل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخره : (لا تطروني كما أطري ابن مريم ، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله). أخرجه البخاري رقم (٣١٨٩) أحمد بن حنبل رقم (١٤٩ ، ١٥٩ ، ٣١٣ ، ٣٦٨) ، والدارمي برقم (٢٦٦٥) ، وأبو داود ١٠١ برقم (١٠٤) ، وفي بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ٢ / ٨٨٣ (٩٥٢) ، : (لا ترفعوني فوق حقي ، إن الله اتخذني عبدا ، قبل أن يتخذني نبيا). والطبراني في الكبير. ٣ / ٢٨٨. (٢٨٨٩) ، بلفظ :

(اتخذني رسولا).

(٢) في (أ) و (ج) : ضلال.

(٣) في (أ) و (ج) : شبهوه.

(٤) في (ب) : إن. وسقط من (أ) و (ج).

(٥) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

٥٤١

وتأولوا قول الله سبحانه في كتابه ـ لقوله ـ : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٠] فيزعمون أن الله ورسوله والأئمة يرون أعمال العباد ، فسبحان الله! كيف يرى ما غاب عنه ، وإنما قال الله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) إنما عنى تبارك وتعالى أي : فسيرى المؤمنون والأنبياء في الآخرة أعمالكم إذا ظهر الغيب ، وانكشف الستر ، وكان فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، واستبان للخلق (١) المطيع من العاصي ، والكافر من المؤمن ، والصالح من الطالح ، فكم من مستور عليه يجرّ إلى عذاب أليم ، وكان عند الناس على خلاف ذلك في دار الدنيا.

ولو رأى أحد ممن وصفت الروافض ، من الأنبياء والأئمة ، من غير أن يخبر لم يكونوا يموتون بالسم ، ولم يكونوا ليأكلوا السم ، (٢) فيعينوا على أنفسهم بالقتل ، وقد قال تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩]. أو ليس من أكل شيئا من السم وهو يعلم أن فيه نفسه ، فقد أعان على قتلها؟ فإن زعموا أنه (٣) أكل السم من الخوف. يقال لهم : من أي شيء يخاف؟ فإن زعموا أنه إنما يخاف من القتل. فقل (٤) لهم : أو ليس قتله بالسم (٥) فلا يأكل حتى يقتل مظلوما ، خير له من أن يقتل نفسه وهو معين عليها.

وكيف يعلم وقد قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩]. يعني من حوادث الدنيا ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠٠]. فكيف (٦) يرى أعمال العباد؟! هذا كتاب الله يكذب قولكم. ولو كان

__________________

(١) في (ب) : الخلق.

(٢) يشير إلى سم جعدة بنت الأشعث لزوجها الإمام الحسن ، وسم المأمون للرضا وغيرهما.

(٣) في (ب) و (د) : أنهم أكلوا من الخوف. وفي (ج) : أنهم أكلوا السم من الخوف.

(٤) في (ب) و (د) : فقيل.

(٥) في (أ) و (ج) : في السم.

(٦) في (ب) و (د) : وكيف يرى أفعال.

٥٤٢

الأمر على ما وصفتهم ، لم يقل تبارك وتعالى بخلاف قولكم ، لقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وقد قال تبارك وتعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٢٩]. فهل أصحابكم إلا من الأنفس ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٣]. فقد جمعت هذه الآية جميع ولد آدم ، لأن كل ولد آدم خرجوا من بطون النساء ، كل نبي وغيره ، وقد أخبرنا أنهم لم يعلموا شيئا حتى علّموا ، وقد قال ـ تصديق ما قلنا في محكم كتابه ـ : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢]. وجميع دعواكم مكذّب له كتاب الله ، فيا سبحان الله ما أعظم ما تقولون! وهل الشرك إلا دون ما تزعمون.

فإن زعموا أنهم (١) يجهلون تأويل كتاب الله ، والنظر فيه ، ويحتجون علينا بشيء ، وتأويله خلاف ما يظنون (٢).

يقال لهم : كيف ذلك؟

فإن زعموا أنه ليس لأحد ينظر في تأويل كتاب الله ، ولا يحتج به إلا الأئمة.

يقال لهم : أخبرونا عن القرآن كله ليس لأحد ينظر في كتاب الله ، ولا يحتج به إلا الأئمة ، ولا يتدبر إلا هم؟

فإن قالوا : نعم.

فقل لهم : فلم يتعلم الناس كتاب الله وهم لا يتدبرونه (٣)؟ وكيف وقد أكذب (٤) الله قولكم بقوله تبارك وتعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد: ٢٤]. أفترى هذا قول (٥) الله للأئمة؟!

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بأنهم.

(٢) في (ب) و (د) : تظنون.

(٣) في (أ) و (ج) : لا يتدبرون فيه.

(٤) في (ج) : كذّب.

(٥) في (ج) : قال.

٥٤٣

فإن قالوا : نعم.

فقل : أفلا ترون (١) أن الله قد عاب أئمتكم إذ تركوا تدبر كتاب الله ، وعابهم فقال: (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)!

فإن قالوا : ليس هذا في الأئمة ، وإنما هذا في العوام (٢) : أن ينظروا في كتاب الله ويتدبرون فيه (٣).

يقال لهم : أفلا ترون أن الله ألزم العباد النظر في كتابه ، وقد (٤) قال تبارك وتعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١]. أو ليس عابهم لما تركوا النظر في كتابه ، ومعرفة ما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، ومعرفة الأولياء من الأعداء ، فلمّا تركوه عابهم بذلك! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رويتم وروينا : (أيها الناس خلفت فيكم الثقلين فتمسكوا بهما لا تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (٥). وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

__________________

(١) في (ج) : ترى.

(٢) في (أ) و (ج) : هذا للعوام. وفي (د) : هو في العوام.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ويتدبرون فيه.

(٤) سقط من (ب) و (د) : وقد.

(٥) هذا الحديث ورد بألفاظ متفاوتة فممن أخرجه وفيه لفظ (وعترتي) الإمام زيد بن علي في المسند / ١٠٤ ، والإمام الرضى في الصحيفة / ٤٦٤ ، والحافظ محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه / ١٦٧ رقم (٦٤٦) ، والإمام أبو طالب في الأمالي ١٧٩ ، والمرشد بالله في الأمالي / ١٥٢ ، والدولابي في الذرية الطاهرة / ١٦٦ رقم (٢٢٨) ، والبزار ٣ / ٨٩ رقم (٨٦٤) عن علي.

وأخرجه مسلم ١٥ (بشرح النووي) ١٩٩ ، والترمذي ٥ / ٦٢٢ رقم (٣٧٨٨) ، وابن خزيمة ٤ / ٦٢ رقم (٢٣٥٧) ، والطحاوي في مشكل الآثار ٤ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ٤١٨ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٥ / ٣٦٩ (تهذيبه) ، والطبري في ذخائر العقبى / ١٦ ، البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٠ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ رقم (٤١٦٩) ، والنسائي في الخصائص ١٥٠ رقم (٢٧٦) ، والدارمي ٢ / ٤٣١ ، وابن المغازلي في المناقب ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٢ / ١٢ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٨ ، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم.

وأخرجه عبد بن حميد ١٠٧ ـ ١٠٨ في (المنتخب) ، وأحمد ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، ـ

٥٤٤

(أيها الناس قد كذب على الأنبياء الذين كانوا من قبلي ، وسيكذب علي من بعدي ، فما أتاكم فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فهو مني ، وإن لم يوافق كتاب الله فليس مني) (١) فكيف يدعونا (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

ـ وأورده السيوطي في الجامع الصغير ١٥٧ رقم (٢٦٣١) ، ورمز له بالتحسين ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٦ رقم (٩٤٥) ، وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت. وأخرجه أبو يعلى في المسند ٢ / ١٩٧ و ٣٧٦ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ١٧٧ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٣١ و ١٣٥ و ٢٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧ ، ٦ / ٢٦ ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٥ رقم (٩٤٣) ، وعزاه إلى البارودي ورقم (٩٤٤) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وأبي يعلى. عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ / ٤٤٢ ، وهو في الكنز ١ / ١٦٨ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد.

وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٦٢١ رقم (٣٧٨٦) ، وذكره في كنز العمال ١ / ١١٧ ، رقم (٩٥١) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بن عبد الله. والكنجي في كفاية الطالب ١١ ، وابن سعد في الطبقات ٤ / ٨ ، ورواه في العقد الفريد ٢ / ٩٥٨ ، و ٣٤٦. وفي تذكرة الخواص / ٣٣٢ ن ورواه نورا الدين الحلبي في إنسان العيون ٣ / ٣٠٨ ، والعزيزي في السراج المنير شرح الجامع الصغير ١ / ٣٢١ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة / ٢٤ ، وشهاب الدين الخفاجي في نسيج الرياض ٣ / ٤١٠ ، والثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير آية الاعتصام ، وآية (أيها الثقلان). والرازي في تفسير آية الاعتصام ٣ / ١٨ وهو في تفسير النظام النيسابوري ١ / ٢٥٧ ، ٤ / ٩٤ ، وفي تفسير ابن كثير الدمشقي ٣ / ٤٨٥ ، و ٤ / ١١٣ ، ورواه في البداية والنهاية في ضمن حديث الغدير وابن الأثير في النهاية الجزء الأول ، والسيوطي في الدر المنثور / ١٥٥ ، وذكره في لسان العرب في مادة عترة ومادة ثقل وحبل ، والشيرازي في القاموس في مادة ثقل ، والزبيدي في تاج العروس في مادة ثقل أيضا. وشرح نهج البلاغة ٦ / ١٣٠ في معنى العترة ، ومدارج النبوة لعبد الحق الدهلوي / ٢٥٠ ، والمناقب المرتضوية لمحمد صالح الترمذي الكشفي / ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ٤٧٢ ، ومفتاح كنوز السنة ٢ / ٤٤٨ ، ومصابيح السنة للبغوي ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦. والصواعق المحرقة / ٧٥ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ١٣٦ ، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار / ١١٠. وينابيع المودة / ١٨ ، ٢٥.

(١) رواه الإمام زيد بن علي في الرسالة المدنية / ٨ والإمام الهادي في كتاب القياس / ١٣٢ ، وفي تثبيت الإمامة / ٥٢ ، والديلمي في البرهان ، والإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٦٣ ، والشرفي في المصابيح / ٨٩ ، والرازي في المحصول ٤ / ٣٠٠. وأبو الحسين البصري في المعتمد ٢ / ٥٥٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٦٥ (١٥٢٢) والطبراني في الكبير. ٢ / ٩٧ (١٤٢٩). بلفظ : (ليكثر علي الكذابة ، فما حدثتم به عني ، فاعرضوه على كتاب الله عزوجل ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف ـ

٥٤٥

ويأمرنا بشيء ليس لنا فيه النظر؟ لقوله : (اعرضوه على كتاب الله) (١).

وقوله صلى الله عليه وعلى آله : (تمسكوا بالثقلين) (٢) فإن كان الإمساك بالقرآن

__________________

ـ كتاب الله فردوه). ، والشافعي في الرسالة / ٢٢٤. بلفظ : (ما جاءكم عني ، فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فأنا قلته ، وما خالفه فلم أقله). وابن معين في تاريخه ٣ / ٤٤٦. بلفظ : (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله). والآمدي في الإحكام ٢ / ٧٦. والصاغاني في الموضوعات / ١٠. والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٧٠. وقال رواه الطبراني ، والرازي في المحصول ٣ / ٩١. والسيوطي في الجامع الصغير ١ / ٧٤ (١١٥١). بلفظ : (أعرضوا حديثي على كتاب الله ، فإن وافقه فهو مني ، وأنا قلته). وروى الخطيب البغدادي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة ، مما جاء موافقا لكتاب الله وسنته فهو مني ، وما جاءكم مخالفا لكتاب الله وسنتي فليس مني).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما حدثتم عني مما تعرفونه فخذوه وما حدثتم عني مما تنكرونه فلا تأخذوا به ، فإني لا أقول المنكر ، ولست من أهله). الكفاية في علم الرواية / ٤٣١.

وروى نحوه في معانى الأخبار : ٣٩ / ٣٠.

وفي كنز العمال (اعرضوا حديثي على كتاب الله ، فإن وافقه فهو منّي وأنا قلته).

ورواه القاضي بن عبد الجبار في فضيلة الاعتزال ، وطبقات المعتزلة بلفظ! سيأتيكم عني حديث مختلف ، فما وافق كتاب الله فهو مني ، وما كان مخالفا لذلك فليس مني). الاعتصام ١ / ٢٢. وروى الكليني عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه). الكافي : ١ / ٦٩. ويؤكد معنى الحديث ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٨) : عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم.

وأخرجه أحمد باختلاف يسير برقم (٨٢٤١).

وقد ضعف حديث العرض أغلب المحدثين من أهل السنة ، وتضعيفهم غير مقبول ، وترك العرض على الكتاب هو الذي أوقعهم في مزالق خطيرة في العقيدة والشريعة ، فحكموا السنة على القرآن ، ومن ثم قبلوا كثيرا من الأحاديث التي تقتضي تشبيه الله بخلقه ، أو تمس قدسية الأنبياء أو نحو ذلك مما يخالف مقتضى العقول وثوابت العقيدة ، ومقاصد الإسلام ، إضافة إلى قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ). أي : إلى كتابه. لأنه المحفوظ من التحريف والزيادة والنقصان ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

(١) في (ج) : فيكف كان يدعونا.

(٢) سبق تخريجه.

٥٤٦

هو القراءة ، فقد قرأه جميع أهل الأهواء ، فهم ممن حفظ وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمسكوا بكتاب الله.

فإن زعموا أنه لا يكون التمسك إلا النظر فيه ، والقيام بما فيه ، والعمل به ، فقد أطلقوا للخلق ينظرون (٢) فيه ، ويعرفون الحق من الباطل ، وقد وجدنا كتاب الله مكذبا لجميع دعواكم (٣).

ثم قالت الروافض : إن الإمامة وراثة يرث ابن عن أب ، وتأولوا كتاب الله ، وزعموا أن (٤) أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.

فإن كان الأمر على ما وصفت الروافض ، أفليس الابن أولى بالأب من الأخ ، وأحق بالوراثة؟ وأقرب رحما؟ لأن الابن من الأب ، والأخ ليس من الأخ أفليس على مذهب قولكم : أن الحسن بن الحسن أولى بأبيه من الحسين؟! أو ليس لا يرث الحسين مع الحسن بن الحسن؟! لقول الله تبارك وتعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ) [النساء : ١٧٦]. أوليس إذا كان الولد قطع ميراث الأخ والعم؟! أوليس الحسن بن الحسن قطع ميراث الحسين بن علي بن الحسن؟! إذا كانت الإمامة على ما وصفتم من الوراثة.

فإن زعموا أن حسينا أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقعد من حسن بن حسن.

يقال لهم : أوليس قد خرج الأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي بن أبي طالب بعد موته؟ وخرج من علي إلى الحسن ، وكان يجب على الحسين طاعة حسن ، والأمر للحسن دون الحسين ، ويخرج من الحسن إلى الحسن ، أو ليس ابن الحسن أولى بالحسن من حسين؟

__________________

(٢) في (ب) و (د) : أن ينظروا فيه ويعرفوا.

(٣) في (أ) : مكذبا لدعواكم.

(٤) في (ب) و (د) : بأن.

٥٤٧

فإن زعموا أن الحسن والحسين هما مشتركان في هذا الأمر ، وورثا عليا جميعا ، فقد تركوا قولهم ، ودعواهم بالوصية ، إذا كانا مشتركين في هذا الأمر ، فمن قام به فهو صاحبه.

فإن زعموا أنه ليس للحسين أن يقوم في وقت حسن ، فقد قطعوا الأمر من الحسين في زمان الحسن ، لأن طاعة حسن واجبة على حسين ، وقد حاز الأمر الحسن دون الحسين ، وورثه ابنه (١) الحسن بن الحسن.

فإن (٢) قالوا : لا يرث حسن بن حسن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وحسين قائم ؛ لأن الحسين أقعد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن كان أقرب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وأقعد فهو أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥ ، الأحزاب : ٦]. وإنما هذه الآية يعني بها أرحام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٣) وحسين أقرب رحما برسول الله عليه‌السلام من حسن بن حسن.

يقال لهم : قد بطلت دعواكم في صاحبكم ، لأنه ليس في جميع آل أبي طالب أبعد رحما من صاحبكم ، لا يلحق برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا بثمانية آباء ، وصاحبكم التاسع ، وفي ولد فاطمة من هو أقرب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه ، من ليس بينه وبين النبي إلا أربعة آباء ، أوليس هذا أقرب رحما ، وأقرب قرابة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، (من الذي زعمتم ، فليس لصاحبكم مع هذا أمر ولا نهي ؛ لأن هذا أقرب قرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). (٤) وأقعد ، فهذا أبطل لدعواكم.

فإن زعمت الروافض أن الحسن بن الحسن كان صبيا ، وحسين بالغ ، ولا يكون إمام المسلمين إلا بالغا ، فصدقتم. يقال لهم أخبرونا عن صاحبكم علي بن موسى حين

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : ابنه.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : فإن.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

٥٤٨

مات ، أليس كان ابنه ابن أربع سنين أو ثلاث؟ وابنه محمد (١) حين مات كان ابنه (٢) صغيرا؟ فلم (٣) نصبتم الأطفال إذا لم يجز لطفل أن يكون إمام المسلمين؟! هذا يبطل دعواكم ، ويدخلكم (٤) فيما عبتم!!

وزعمتم أنه لا يصلح حسن بن حسن أن يكون إماما لأنه طفل صغير ، ثم نصبتم الأطفال ، وزعمتم أنهم أئمة ، وهما أصغر سنا من حسن بن حسن وكيف ـ ويحكم ـ يكون طفل إمام المسلمين؟! وليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، ولا حكم الإسلام أن يصلى خلف طفل ، ولا تؤكل ذبيحته ، ولا تقبل شهادته ، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ، ولا يؤمن على ماله ، فمن لم يؤمن على هذه الأشياء ، ولا تأمنه على ألف درهم أو أقل أو أكثر ، فكيف يأمنه الله على أحكام دينه ، ودماء عباده ، وفروجهم؟! ويقيمه مقام الأنبياء؟! لقوله تبارك وتعالى : «حجّة بلغة» (٥). فلا تكون الحجة لله في أرضه إلا عند بلوغه.

وقوله تبارك وتعالى في الأطفال (٦) اليتامى (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦]. فيا عجبا ممن لم يأمنه الله على ماله

__________________

(١) محمد الجواد بن علي الرضا الهاشمي القرشي ، أبو جعفر ولد سنة (١٩٥ ه‍) بالمدينة قبل وفاة أبيه ، قيل : بأربع سنوات ، وقيل : بسبع ، تاسع الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية كان رفيع القدر كأسلافه ، ذكيا طلق اللسان قوي البديهية ، كفله المأمون بعد وفاة أبيه ورباه وزوجه ابنته أم الفضل ، وتوفي ببغداد سنة (٢٢٠ ه‍).

(٢) علي الهادي بن محمد الجواد ، أبو الحسن العسكري عاشر الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، وأحد الأتقياء الصلحاء ، ولد بالمدينة سنة (٢١٢ ه‍) فعمره يوم وفاة أبيه (٨) سنوات. وشيء به إلى المتوكل فاستقدمه إلى بغداد وأنزله في سامراء ، وكانت تسمى مدينة العسكر فنسب إليها ، توفي بسامراء ودفن بها سنة (٢٣٤ ه‍).

(٣) سقط من (ب) : فلم.

(٤) في (أ) و (ج) : ودخولكم.

(٥) الآية الكريمة هكذا : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام / ١٤٩]. ولعلها اشتبهت بقوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) [القمر / ٥].

(٦) في (ب) و (د) : أطفال.

٥٤٩

إلا عند بلوغه فكيف يأمنه على خلافته؟!

وقد رويتم وروينا أن جعفر بن أبي طالب جلس بين يدي النجاشي فقرأ آية من الإنجيل ففهمها جعفر فضحك ، فغضب النجاشي! فقال : يا جعفر أبكتاب الله تهزأ؟! والله إن الله أنزل على موسى في التوراة ، وعلى داود في الزبور ، وعلى عيسى في الإنجيل ، وعلى نبيئك في القرآن (أن (١) إذا ولي الخلائق الأطفال نزلت عليهم من السماء لعنة ، أو أفرغت عليهم من السماء لعنة) (٢) فكيف ـ ويحكم ـ يكون الطفل إمام المسلمين.

وإن زعمت الروافض بأن يحيى بن زكريا كان صبيا وكان نبيئا!

يقال لهم : أحكم الأنبياء وحكم الأئمة واحد؟

فإن قالوا : نعم.

يقال لهم : فبم بان الأنبياء من غيرهم؟ إلا أن الأنبياء أعطوا ما لم يعط غيرهم من الأئمة ، وأعطي الأئمة ما بانوا به من سواهم من الخلائق. مع أن يحيى بن زكريا لم يرسل إلى أحد من خلق الله ، وكان نبيا ولم يكن مرسلا ، ولم يل أحكام الأمة ، وكانت الأحكام إلى غيره ـ إلى زكريا ـ مع أن يحيى دعاء زكريا إذ قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥]. وقال : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)) [الأنبياء : ٨٩]. وقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران : ٣٨]. فوهب الله يحيى إجابة لزكرياء ، وكان في وقت يحيى الحجة زكرياء.

فإن زعمت الروافض أن عيسى بن مريم تكلم في المهد صبيا.

يقال لهم : أفتزعمون أن عيسى بن مريم ، وصاحبكم شيء واحد؟! ألا ترى أن الله يعجّب به خلقه ، وأخبرهم بقدرته إذ قال : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)

__________________

(١) في (ب) و (د) : وأنه.

(٢) لم أقف على هذه القصة. وفيها إشكال ، وهو ذكر النجاشي لنزول ما ذكر في القرآن. من أين عمله؟! وأيضا أين هو؟!

٥٥٠

[آل عمران : ٤٦]. وقال تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠]. لأنه لم يكن في ولد آدم خلق (١) مثله ، خلق من غير أب ، ولم يقل : إن صاحبكم(٢) آية منه مع أنه يستبين (٣) من صاحبكم للناس خلاف ما استبان من عيسى ويحيى وهما نبيان ، فتحتجون علينا بحجة الأنبياء ، وتساوون أصحابكم بالأنبياء ، ونرى (٤) أفاعيلهم خلاف أفاعيل الأنبياء ، إذ أخذوا التّقيّة من المخلوقين دينا ، وهذا يحيى بن زكرياء لم يخف غير الله ، ولم يدار في دينه ، استبقاء على بدنه ، حتى قتل صلى الله عليه ، ومع أن يحيى لم يلبس اللّيّن ، ولم يأكل الطيب ، وكان باكيا آثار الدموع بخديه ، حتى مضى إلى الله،صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا عيسى بن مريم تكلم في المهد صبيا ، لم يحبس كلامه تقية على نفسه ، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وكان يحيي الموتى بإذن الله ، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، لم يتق أحدا من خلق الله ولم يراقبه ، وكانوا يقولون : ساحر مجنون كذاب كاهن. فلم يسعه كتمان ما جعل الله فيه بما عاين من تكذيب الخلق له ، مع أن فعل عيسى بان من فعل صاحبكم.

وليس كل الأنبياء ولوا حكم الأمة ، وإنما كان بعضهم نبي نفسه ، وبعضهم نبي أهله، وبعضهم نبي أهل بيته ، وبعضهم نبي قرابته ، وبعضهم نبي قومه.

وليس حكم الأنبياء كحكم غيرهم ممن دونهم ، مع أنه قد مضت سنة بني إسرائيل ، وهذه سنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : خلق.

(٢) في (ب) و (د) : وأمه وآية.

(٣) في (ب) و (د) : مع أنه سيبين. وهذا كما ترى إثبات. والذي في (أ) و (ج) : مع أنه لم يستبن ، نفي. فالمعنى على النفي رغم أن كلمة (خلاف) ثابتة في جميع النسخ إلا أني أرى أنها زائدة مع النفي ، فيصبح المعنى : ولم يستبن من صاحبكم للناس ما استبان من عيسى. ليصح التفريق بينهما. أما مع الإثبات كما في (ب) و (د) : فالمعنى كذلك أيضا. والله أعلم بالصواب.

(٤) في (ب) و (د) : وترى.

٥٥١

فإن زعموا أن السنة لم تزل من لدن آدم إلى يومنا هذا ، فقد كذّبوا كتاب الله ، لقول الله تبارك وتعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٦]. وقد حرم الله على بني إسرائيل الصيد يوم السبت ، وأحل لنا ، وقد حرم الله عليهم الشحم وأحل لنا ، لقول الله سبحانه : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٤٦]. أفلا ترى أن عيسى حلّل لأمته الذي حرم موسى على أمته.

فإن زعموا واحتجوا بقول الله : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)) [الإسراء : ٧٧]. ثم قال : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٥٥] أي : بالدعوة ؛ لأن دعوة الأنبياء واحدة ؛ لأن كلهم دعوا إلى طاعة الله ونهوا عن معصيته ، غير أن في الشرائع لكل أمة شريعة ، وأحل لأمة ما حرم على غيرها ، محنة من الله وامتحانا ، مع أن الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوة بعد الصفوة ، لذلك ورث حسين الإمامة ، لأنه كان خير أهل زمانه ، مع ما كان فيه من الدلائل في نفسه ، والآثار من نبيه ، وإجماع الأمة على أنه خير أهل زمانه ، وهو وأخوه (سيدا شباب أهل الجنة) ، (١) فهل يكون لأحد أن يتقدم على من هو خير منه؟! فالإمامة لا تكون إلا لخير أهل الأرض ، يستبين للناس فضله وزهده وعلمه ، وإنما الإمامة نقلة وصفوة وخيرة ، ولم تزل كذلك من لدن آدم ، تنقل من صفوة إلى صفوة.

ولو أن النبوة والإمامة كانت وراثة لم تخرج (من اليمن إلى غيرها ، إذ كان هود نبيا ، كان يحيز (٢) الأمر في ولده ، فلم يخرج) الأمر منه (٣) إلى غيره ، لكن (١) إنما هي صفوة

__________________

(١) رواه الإمام الهادي في العدل والتوحيد. / ٦٩. مرسلا ، وأبو عبد الله العلوي في الجامع الكافي ، ورواه الإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٣٣ ، وابن عساكر في ترجمة الحسن / ٧٨. والحاكم ٣ / ١٨٢ ، برقم (٤٧٧٨) و (٤٧٧٩) و (٤٧٨٠) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١٤٩ ، برقم (٨٥٢٧) ، وأبو يعلى ٢ / ٣٩٥ ، برقم (١١٦٩) ، والطبراني في الكبير ٣ / ٣٥ ، برقم (٢٥٩٨) و (٢٥٩٩) و (٢٦٠٤) ، والترمذي برقم (٣٧٠١) و (٣٧١٤) ، وابن ماجة برقم (١١٥) ، وأحمد برقم (٥٦٨) و (١٠٥٧٦) و (١١١٦٦) و (١١١٩٢) و (١١٣٥١) و (٢٢٢٤٠) و (٢٢٢٤١).

(٢) في نسخة : يصير. أشار إليها في : (ب) و (د).

(٣) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين سهوا. وفي نسخة : منهم إلى غيرهم. أشار إليها في : (ب) و (د).

٥٥٢

بعد صفوة ، كذلك يصطفي الله من كل قوم خيرهم ، فاصطفى من اليمن هودا وصالحا وشعيبا (٢).

فإن زعم زاعم أن هودا وصالحا وشعيبا من ولد إبراهيم. يقال لهم : ألا ترون أن الله قص علينا خبرهم ، ثم قال في كتابه ، عن قول صالح لقومه : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) [الأعراف : ٧٤]. هذا من قبل إبراهيم.

ثم اصطفى الله من الأعاجم إبراهيم خليله ، فجرت النبوة والخلافة والإمامة في ولده ، ثم جرت من ولده في ولد إسحاق ، ثم اصطفى من ولد إسحاق يعقوب ، ثم اصطفى من ولد يعقوب يوسف ، ثم اصطفى من ولد إسحاق أيوب ، وهو من غير ولد يعقوب ، ثم جرت الصفوة في ولد يعقوب ، حتى انتهت الصفوة إلى موسى بن عمران ، ولم يكن موسى من يوسف ، ثم جرت الصفوة في يوشع بن نون ، وكان يوشع خير أهل زمانه ، ثم جرت الصفوة في ولد هارون ، وإنما تنتقل الصفوة من بطن إلى بطن من بني إسرائيل حتى انتهت الصفوة إلى عيسى بن مريم.

ثم جرت الإمامة والزعامة فيمن تبع عيسى بن مريم ، حتى انتهت كرامة نبوة الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى جميع النبيين ، فانتقلت من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل ، وجرى الأمر والصفوة في ولد إسماعيل ، إذ صار الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وجرى الأمر في ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفوة بعد الصفوة.

[صفة الإمام]

وإنما الصفوة (٣) لا تكون إلا في أخير أهل زمانه ، وأكثرهم اجتهادا ، وأكثرهم

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولكن.

(٢) في (أ) و (ج) : وشعيبا وإبراهيم. وهو سهو من الناسخ.

(٣) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : وإنما الصفوة.

٥٥٣

تعبدا ، وأطوعهم لله ، وأعرفهم بحلال الله وحرامه ، وأقومهم بحق الله ، وأزهدهم في الدنيا ، وأرغبهم في الآخرة ، وأشوقهم للقاء الله.

فهذه صفة الإمام. فمن استبان منه هذه الخصال فقد وجبت طاعته على الخلائق.

فتفهموا وانظروا هل كان بيننا وبينكم اختلاف في علي بن أبي طالب؟! ثم من بعده في الحسن بن علي؟! أو هل اختلفنا من بعده في الحسين بن علي؟ أو هل اختلفنا في محمد بن علي (١)؟ أو هل ظهر منهم رغبة في الدنيا ، أو طلب أموال الناس؟ أو هل بخلوا بما عندهم؟ أو هل اتخذوا القصور والمراكب والخدم والأتباع؟ أليس قد مضوا إلى الله على البصيرة؟!

فلو أردنا أن نجحد الحق لجحدناهم من بعد الحسين بن علي ، فصيرناه في أهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عامة ، ولكن اتبعنا الحق حيث أمرنا الله باتباعهم ، وأقررنا بالفضل لمن جعل الله فيه الفضل ، فلم نر فيهم من طلب الأخماس من التجارة ، ولا من صانع ، ولا من زارع ، ولا من حمّال يحمل على رأسه ، ولم يستأثر بما جعل الله لأهل بيت نبيهم على أهل بيت نبيئهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ففي دون هذا التّفهّم.

فإن زعمت الروافض أن ذا في صاحبنا بما وصفتم من الدلائل (٢) الإمامة والزهد والفضل.

يقال لهم : ما لنا لا نرى ما تصفون؟

فإن قالوا : إنه في دار تقية.

فيقال لهم : أفتظهر منكم معصية الله على التقية؟ فإن قالوا : نعم.

يقال لهم : فهل ظهر من أحد من الأنبياء أو الأئمة أو الدعاة إلى الله مثل علي والحسن والحسين ، أو علي بن الحسين ، (٣) ...

__________________

(١) يريد الباقر. رغم أن الزيدية لا تعده عليه‌السلام من الأئمة الذين قاموا وجاهدوا.

(٢) في (ب) : لاديل. مصحفة. وفي (د) : من دلائل.

(٣) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي عليه‌السلام أبو الحسن زين العابدين ، ولد ـ

٥٥٤

أو محمد (١) بن علي ، أو غيرهم ممن دعا إلى الله ، الذين لم نختلف فيهم إذ كانوا أئمة؟ وجعل الله فيهم ذلك ، أو هل طلبوا ما ليس لهم من أموال الناس غيرهم؟ أو هل أظهروا المعصية بالتقية؟ استبقاء على أنفسهم ومخافة (٢) على دمائهم؟ أو ليس صبروا على أمر الله؟ وقاموا بحق الله ، حتى قتل بعضهم ، ونشر بعضهم ، وأحرق بعضهم ، وأغلي بعضهم في القدور ، ودفن بعضهم أحياء ، وغرّق بعضهم في البحار ، وسمّر بعضهم بالمسامير ، وعذبوا بألوان العذاب؟! فما كان يمنعهم أن يظهروا التقية فينجوا من أعداء الله ، إذا (٣) كانت التقية من المخلوقين دينا على ما وصفتم؟! وقد قال تبارك وتعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١٠٩]. وهل الركون إليه إلا الاتباع له على ما يريد ، وتصديقه من (٤) وجهة ما يقول ، وسكناه معه في داره على غير منابذة ، وهو على غير الدعاء إلى الله وطلب الجهاد ، وقد قال الله تبارك وتعالى يصبّر المؤمنين على ما يصيبهم فيه سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا

__________________

ـ سنة ٣٨ ه‍ وتوفي سنة ٩٤ ه‍ ، ركن من أركان الدين ، وإمام من أئمة المسلمين ، وهو أشهر من أن يترجم له. وقد وضع في ترجمته وسيرته كتب.

(١) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، أبو جعفر الباقر ، من أكابر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولد سنة ٥٩ ه‍ في حياة جده ، وتوفي سنة ١١٤ ه‍ وقيل : ١١٨ ه‍ روى عن أبيه ، وعن أبي سعيد وجابر وأبي الطفيل وعدة من الصحابة ، وعنه أولاده وأخوه زيد وعبد الله بن الحسن وخلائق.

وفيه روى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : (إنك ستعيش حتى تدرك رجلا من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فأقرأه مني السلام) فلما دخل محمد بن علي على جابر وسأله عن نسبه فأخبره قام إليه فاعتنقه وقال له : (جدك يقرأ عليك السلام) ، رواه الهيثمي في المجمع ١ / ٢٢ ، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه ٥١ / ٤١ ، وهو في الوافي بالوفيات ٤ / ١٠٢ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ / ٢٤١ ، وقال : وأقرأه جده الحسين السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والكليني في أصول الكافي ١ / ٤٦٩ ، ٤٧٠ ، والكشي في رجاله ٢٧ ٢٨.

(٢) في (ب) و (د) : مخافة.

(٣) في (أ) و (ج) : إذ.

(٤) في (ب) و (د) : في.

٥٥٥

اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)) [آل عمران : ١٤٦]. وقال : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤]. ثم قال : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)) [البقرة : ٤١ ـ ٤٢]. وقال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)) [البقرة : ١٥٩ ـ ١٦٠]. فكيف يجوز لأحد من الأئمة يكتم الحق ، ويظهر من نفسه خلاف ما يعلم؟ أو ليس من رأى فعله من المستضعفين اقتدى به ، لما يعاينون من ظاهر فعله ، فهم مصيبون إذ غاب عن المستضعفين الناصر ؛ إذا اقتدى بالإمام.

فإن قلتم : نعم. فقد وجب لمن خالفكم الإيمان. وإن قلتم : إن الذي رأيتم من الإمام هو التقية ، والذي أخبركم خلاف الحق ، والحق ما تقولون ، وإنما كتمتم الحق تقية منكم ، أفليس تدعونا (١) إلى أن نصدقكم على ما قلتم ونكذبه فيما قال لنا؟ فأنتم إذن أولى بالصدق منه ، وأنتم أئمة إذ تأمروننا أن نقتدي بما تقولون ، ونترك ما قال.

فإن زعمتم أنه على الحق ، وقد رأى الناس خلاف ما تقولون ، ورووا منه خلاف ما تنسبون ، وسمعوا منه خلاف ما تدعون ، فاقتدوا به إذ زعمتم بأنه (٢) إمام افترضت طاعته! أو ليس يجب على الناس أن يطيعوه فيما يأمرهم ، ويمتنعوا عما ينهاهم ، ثم تكلفون الناس أن يتبعوا قولكم ، ويتركوا قوله ، فأنتم إذا الذين افترض الله طاعتكم ، وأنتم الصادقون ليس هو!

ثم زعمتم أنه إمام مفترض الطاعة ، أفليس على مذهب قولكم هو إمام هدى وإمام ضلالة ، إذ هداكم وأضل غيركم آخرين ، (٣) حين أفتاكم بالحق ، وأفتى غيركم بالباطل ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : تدعوننا.

(٢) في (ب) : أنه.

(٣) في (ب) : وآخرين. ولعلها مقلوبة والصواب. وأضلّ آخرين عيركم.

٥٥٦

وعلمكم حكم الله ، وعلم غيركم خلاف حكم الله؟

وكيف وقد قال تبارك وتعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]. أفترى جميع الحكمين سواء ، حكم ما أخبرك ، وحكم ما أخبر غيرك؟ هما جميعا من حكم الله ، وهما حكمان متضادان ، إلا أن تقولوا : إنه حجة على بعض دون بعض ، لناس مخصوصين ، وليس حجة على الآخرين.

[الحجة الغائبة]

فإن زعمتم أنه حجة على الكل ، فالواجب عليه أن يهديهم أجمعين ، ويدلهم ويبصرهم ، ويعرفهم بنفسه.

وكيف يكون حجة يحجب نفسه من الناس ، ولا يبين لهم؟! أرأيتم إذا وقفوا بين يدي الله بم يحتج عليهم؟ أبما دعاهم فعصوه؟ أم بما بيّن لهم فخالفوه؟ أو بما حجبهم نفسه فجهلوه؟ فكيف تثبت له عليهم حجة ، ولم تبلغهم حججه ، ولم يعرفوا اسمه ، ولم يعرّف بنفسه.

فإن زعمتم بأن له أن يكتم ، لأن الله قال في محكم كتابه : (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٦]. وهو قال لهم : (رَجُلٌ) ولم يكن الرجل بحجة ، لأن الحجج فيما مضى أنبياء وأوصياء الأنبياء ، وهذا رجل مؤمن أثنى الله عليه ، ولم يكن بنبي ولا حجة.

فإن زعموا أن صاحبنا يكتم كما كتم المؤمن.

يقال لهم : أو ليس زعمتم أن صاحبكم حجة ، وهل للمؤمنين أن يبينوا (١) ما بيّن الحجج ، يسع المؤمن أن يكتم ، ولا يسع الحجة أن يكتم؟! مع أن مؤمن آل فرعون كتم الإيمان قبل أن يبين الله لخلقه ، فلما بيّن الله لخلقه لم يسعه الكتمان بعد البيان ، مع أنه كان في عبدة الأوثان ، وفي دار من يدعي. الربوبية من دون الله ، ويجحد رب

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يثبتوا. مصحفة.

٥٥٧

العالمين ، وصاحبكم في دار الإقرار والمعرفة ، وتصديق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإن جهلوا الأحكام والشرائع ، فليس لأحد أن يكتم العلم من طالبه بعد بيان الأنبياء ، وليس الحجة حجة إلا من احتج على خلق الله ، ولم يلبّس دين الله.

فإن زعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم حين ظهر.

يقال لهم : ومتى كتم رسول الله صلى الله عليه؟ أو ليس قال الله لنبيه : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)) [المدثر : ١ ـ ٢]. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستند إلى الكعبة ، والناس يومئذ مشركون جهال ، عبدة أوثان ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. لم يتق أحدا من خلقه ، فاحتمل (١) الأذى ، وصدع بأمر الله ، وقام بحق الله ، واحتج على خلق الله ، وصبر على ما أصابه ، حتى أبلغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السامع والعاصي ، والخاص والعام ، والأبيض والأسود ، فمرة يرمون ساقيه ، وأخرى يرمونه ، ويتشاورون في قتله ، فثبتت حجته على الخلق.

فإن زعمتم أن الأئمة يقومون مقام الأنبياء ، فالواجب عليهم أن يحتملوا الأذى كما احتمله الأنبياء.

[صفة الإمام]

ولا يكون حجة إلا داعيا إلى الله مجتهدا ، زاهدا فيما في أيديكم ، عالما بحلال الله وحرامه ، أقوم خلق الله ، وأبصره بدينه ، وأرأفه بالرعية ، وأقومه لدين الله ، أمين الله في أرضه ، صادق اللسان ، سخي النفس ، راغبا فيما عند الله ، زاهدا في الدنيا ، مشتاقا إلى لقاء الله.

فإن زعموا : أن هذا في صاحبهم.

يقال لهم : أو ليس إظهار التقية استبقاء على نفسه من الموت ، ورغبة في دار الدنيا ، على أن يترك فيها ، ولا يفطن له فيقتل؟ فليس هذا الزهد ، ولا الرغبة ، إذ أظهر من

__________________

(١) في (ب) و (د) : واحتمل.

٥٥٨

نفسه خلاف ما يعلم من الحق. فسبحان الله ما أبين تكذيب دعواكم! وأبطل قولكم! وعبث ما أنتم فيه! إذ نرى فيكم ضعفاء فقراء محاويج ، من شيخ ضعيف ، أو أرملة ضعيفة ، أو يتيم طفل ، أو مديون مغموم ، أو غريب محتاج إلى النكاح ، أو فقير محتاج لا حيلة له ، ولا مبيت عنده ، وزعمتم أنه يعرف مكانكم ، ويرى أفاعيلكم ، ويعلم حالكم (١) ، أو ليس عليه أن يغيّر حالكم ، ويفرّج على مغمومكم ، ويقضي عن مديونكم؟! إذ زعمتم أنه قام مقام النبيين.

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب : ٤٣]. فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي ضعفاء أمته حتى يستأثرهم على نفسه وعياله ، وقد

__________________

(١) عن إبراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبد الله ليلة ممسيا فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أمي معي فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت عليها فلما كان من الغد صليت الغداة وأتيت أبا عبد الله فقال مبتدئا : يا بن مهزم ما لك وللوالدة أغلظت لها البارحة ...

دلائل الإمامة / ١١٥ ، بصائر الدرجات : ٢٦٣ / ٣ ، مناقب ابن شهرآشوب ٤ / ٢٢١ ، إثبات الهداة ٣ / ١٠٢ (٨٨).

ونقل عن أبي الحسن الرضا أنه كان جالسا وعنده إسحاق بن عمار ، فدخل عليه رجل من الشيعة ، فقال له : يا فلان ، جدد التوبة وأحدث العبادة ، فإنه لم يبق من عمرك إلا شهر ، قال إسحاق : فقلت في نفسي : وا عجباه كأنه يخبرنا أنه يعلم آجال الشيعة أو قال : آجالنا ، قال : فالتفت إليّ مغضبا ـ لأنه عرف ما اختلج في صدره ـ وقال : يا إسحاق وما تنكر من ذلك ... يا إسحاق أما إنه يتشتت أهل بيتك تشتتا قبيحا ، ويفلس عيالك إفلاسا شديدا. رجال الكشي / ٣٤٨ ترجمة إسحاق بن عمار.

وعن أبي كهمس قال : كنت بالمدينة نازلا في دار بها وصيفة تعجبني ، فانصرفنا ليلة ممشانا فاستفتحت الباب ففتحت لي ورددت يدي إلى ثدييها فقبضت عليهما ، فلما كان من الغد دخلت على أبي عبد الله فقال : يا أبا كهمس تب إلى الله عزوجل مما صنعت البارحة. دلائل الإمامة / ١١٥.

وعن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله ذات يوم جالسا إذ قال : يا أبا محمد هل تعرف إمامك؟ قلت : إي والله الذي لا إله إلا هو وأنت هو ووضعت يدي على ركبته أو فخذيه ، فقال : صدقت ، قد عرفت فاستمسك به. قلت : أريد أن تعطيني علامة الإمام؟ قال : يا أبا محمد ليس بعد المعرفة علامة. قلت : ازداد إيمانا ويقينا ، قال : يا أبا محمد ترجع إلى الكوفة وقد ولد لك عيسى ومن بعد عيسى محمد ومن بعدهما ابنتان ، واعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا وأسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وأنسابهم وما يلدون إلى يوم القيامة ، وأخرجها فإذا هي صفراء مدرجة. كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي ٢ / ٤٠٢.

٥٥٩

قال الله تبارك وتعالى في أهل بيته صلى الله عليه وعليهم وسلم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)) [الإنسان : ٨] (١). فلم يبخلوا بطعامهم على الأسير ، وهو كافر ، واستأثروا على أنفسهم. فكيف كان ينبغي لصاحبكم أن يستأثر بالمال على المستضعفين الفقراء من أصحابه؟ وقد قال الله سبحانه في أهل بيت نبيئه صلى الله عليه وعليهم : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر / ٩ ، التغابن / ١٦] (٢). وقد قال في المؤمنين : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، فقد وصف المؤمنين بالرحمة بعضهم لبعض ،

__________________

(١) رواه ابن الأثير في أسد الغابة ٥ / ٥٣٠ في ترجمة فضة النوبية ، والواحدي في أسباب النزول / ٣٣١ ، والمحب الطبري في الرياض ٢ / ٢٢٧ ، والذخائر / ١٠٢ ، والسيوطي في الدر عند تفسير الآية ٦ / ٢٩٩ ، والشبلنجي في نور الأبصار / ١٠٢ ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ٣٩٤ (١٠٤٢ ١٠٦٦) ، والصدوق في أماليه المجلس ٤٤ حديث رقم (١١) ، والكوفي في المناقب ١ / ١٧٧ (١٠٣) و (١٠٤) و (١٠٥) ، والثعلبي في تفسيره عند تفسير السورة ، وابن البطريق في خصائص الوحي المبين / ١٠٠ عن الثعلبي ، وفي العمدة ١٨٠ برقم (٥٧٠) ، والخوارزمي في المناقب / ١٨٨ في الفصل : (١٧) ، وابن حجر في الإصابة في ترجمة فضة ٤ / ٣٨٧ ، والحبري في تفسيره ٣٢٦ / (٦٩) ، وابن المغازلي في المناقب / ٢٧٢ برقم (٣٢٠) ، والزمخشري في الكشاف عند تفسير السورة ٤ / ١٦٩ ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٢٨١ ، وأبو حيان في البحر المحيط ٨ / ٣٩٥ ، والقرطبي في تفسيره / ١٩ ، والبغوي في معالم التنزيل ٧ / ١٥٩ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب / ٢٠١ ، ٣٤٥ ، في قصة مطولة ، ثم قال : هكذا رواه الحافظ أبو عبد الله الحميدي في فوائده ، وما رويناه إلا من هذا الوجه ، ورواه الحاكم أبو عبد الله في مناقب فاطمة ، ورواه ابن جرير الطبري أطول من هذا في سبب نزول هل أتى. والقندوزي في ينابيع المودة ٢ / ١٠٨ ، وفرات الكوفي في تفسيره ٢ / ٥١٩ (٦٧٦) و (٦٧٧) و (٦٧٨) و (٦٧٩) و (٦٨٠).

(٢) نزلت الآية في علي وفاطمة عليهما‌السلام. أخرج الحاكم الحسكاني بسنده إلى أبي هريرة قال : إن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الجوع ، فبعث إلى بيوت أزواجه فقلن : ما عندنا إلا الماء!! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لهذا الليلة؟ فقال علي : أنا يا رسول الله. فأتى فاطمة فأعلمها ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية ، ولكنا نؤثر به ضيفنا!! فقال علي : نوّمي الصبية ، وأنا أطفئ السراج للضيف. ففعلت وعشوا الضيف ، فلما أصبح أنزل الله فيهم هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ). الآية. شواهد التنزيل عند تفسير الآية برقم (٩٩٢). وأخرجه الطوسي في أماليه ١ / ١٨٨. وأخرج نحوه الكوفي في المناقب ٢ / ٥٥٤.

٥٦٠