مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

(الرد على من أنكر من الجهمية (١) أن يكون الله سبحانه شيئا)

الحمد لله الذي علا على الخلائق ، فلم يغب عنه خفيات الأمور ، وكل شيء عنده بمقدار ، المنشئ لما أنشأه (٢) ، فشيأه شيئا كما شاء ، وجعله متناهيا محدودا ، آثار الصنعة له لازمة ، وأعلام العبودية فيه بينة ، فأنشأ ما أنشأ نحوين : أحدهما مبتدأ لا من شيء.

والثاني منقول من شيء إلى شيء ، ومحوّل من حال إلى حال ، ومن طبيعة إلى طبيعة ، كالمضغة تقلب من نطفة إلى علقة ، والعلقة حولت مضغة ، ثم جسّدها (٣) لحما وأنشأها إنسانا (٤) ، فصيّره بشرا مخالفا للبهائم ، في الشكل والهيئة ، احتجاجا من الله على خلقه ، بما أراهم من آياته فيهم.

وأن الله تبارك وتعالى وسم المعاني بأن قال : هي شيء ، لإخراجه لها من العدم إلى الوجود لا أنه (٥) وصفها بهذه الصفة بمعنى ، ولا فرق بينها وبين شيء ، إذ قال لها : إنها أشياء ، لأنه أخبرنا أنه خالق كل شيء ، فكل شيء سواه هو (٦) خلق شيء ، وكل خلق شيء ، فقد خلق النار والثلج ، فالثلج شيء ، والنار شيء ، وليس أحدهما بالآخر شبيها في لون ولا طبيعة ولا فعل ، وإنما تماثلا في الشيئية ، وقد اختلفا في الصفات ، وإنما سميت الأشياء بأن قيل لهذا : شيء وهذا شيء ، لإثبات الأشياء بأنها موجودة ، وأنها ليست بعدم ، وقد قال الله في كتابه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. ذلك دليل على أن الله شيء لا كالأشياء ، إذ الأشياء تهلك ، وهو المهلك لما يشاء منها ، وقد قال الله في كتابه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩]. فأخبر أنه

__________________

(١) الجهمية : نسبة إلى جهم بن صفوان ، تفردوا بأن لا فعل للعبد ، بل هو كالشجرة ، وفناء الجنة والنار ، وأن الإيمان المعرفة.

(٢) في (ب) و (د) : المشيء ما شاء. وسقط من (ب) : ما شاء.

(٣) في (ب) و (د) : جسدا.

(٤) في (أ) : إنشاء.

(٥) سقط من (ب) و (د) : إلى الوجود. وفي (أ) : الوجود لأنه.

(٦) سقط من (ب) : هو.

٤٦١

شيء أكبر الأشياء ، ولو قال قائل : أي (١) الملائكة أفضل؟ لم يجز أن يقال : بعض المؤمنين من الآدميين هو أفضل ، لأن الآدميين (٢) ليسوا ممن ذكر في المسألة.

كذلك قال : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً). علمنا أنه أجرى على نفسه الذكر أنه شيء ليس كالأشياء.

فإن سأل من الجهمية سائل : فقال : هل الله شيء؟

قيل له : نعم. الله شيء لا يشبّه بالأشياء ، الأشياء مشيّأة ، وهو سبحانه شيء لا مشيّأ.

فإن قال : أنت شيء؟

قيل له : نعم. أنا شيء مشيّأ لا أني غير مشيّأ ، والله شيء لا مشيّأ ، بل الله مشيئ الأشياء لا يشبهه ما شيّأه. وليس في قولي : أنا شيء والله شيء تشبيه ، لما فصلناه من معنى الشيء والمشيّأ ، وأن قولي أيضا شيء اسم لازم للجميع ، وجار على كل معنى ، وثابت على كل موجود مشيّأ ، كان أو يكون ، ولا يقضي بإيقاعه على المسمين ـ مفردا ـ ائتلاف ولا اختلاف ، وذلك أنك تقول : الفيل شيء ، والذرة شيء ، وهما غير مشتبهين في قولك : هذا شيء وهذا شيء ، وكذلك تقول : الإنسان شيء ، والشيطان شيء ، وهما لا يتماثلان ، وقد أوقعت على كل واحد منهما أنه شيء ، وكذلك تقول : آدم صلى الله عليه شيء ، وربنا شيء ، وهما غير متماثلين.

فإن قال : أليس آدم مخلوقا والذّرة مخلوقة؟!

قيل له : بلى.

فإن قال : هل يتماثلان في أنهما خلق لله؟

قيل له : نعم.

فإن قال : ما فرق ما بين شيء وشيء وخلق وخلق؟

__________________

(١) في (أ) : أن (مصحفة).

(٢) سقط من (ب) و (د) : هو أفضل ، لأن الآدميين.

٤٦٢

قيل له : إن الخلق اسم له خلاف ، وخلافه خالق ، ولو قال القائل : الخالق مخلوق كذب ، ولو قال القائل : الخالق شيء لم يكذب ، والخالق هو خلاف المخلوق ، ولا يوجد لشيء خلاف إلا شيء مثله موجود ، ولا شيء إلا موجود ، ولا موجود لا يكون لا خلاف ولا يكون خلافا.

فإن قال قائل : إن لا شيء خلاف شيء.

قيل له : قد أنبأناك أن الشيء خلاف شيء ، ولا يكون شيء خلاف لا شيء ، ولا يكون لا شيء له خلاف ، ولا يجوز أن يقال : للا شيء اتفاق ولا اختلاف ، لأن هذا عدم لا يتوهم.

فإن قالوا : لم أجزت أن تقول : شيء وشيء وهما لا يشتبهان؟

قيل : من قبل أني ثبّتّهما ونفيت عنهما العدم ، وأخرجتهما من التعطيل.

فإن قال : لم قلت لا شيء؟

قلت : لنفي إثباته ، وقلت : لا شيء لإخراجه من الوجود ، وليس قولي هذا شيء ولا شيء تشبيه ولا غير تشبيه ، وقول القائل : هذا شيء ، وهذا شيء لا يجب به تشبيه ، لأن التشبيه لا يجوز إلا على ضد أو مثل.

واعلم أن الضد هو غير الخلاف ، وبيان ذلك أن كل ضد خلاف ، وليس كل خلاف ضدا ، والضد هو المضادّ ، والخلاف هو الغير الذي ليس بمضاد ، وذلك لأنك تقول : هذا خلاف الله ، ولا تقول : هذا ضد الله.

فإن قال قائل : ما بالك إذا قلت : لا شيء لا يقع اتفاق ولا اختلاف؟

قيل له : من قبل أن لا شيء عدم والعدم (١) ليس بموجود ، ولا هو موهوم ، ما هو فيكون له شبيه ، والشيء إثبات ووجود وموهوم إذا قلت : شيء ما هو ، وأي الأشياء هو؟ إلا رب العالمين ، فإنه شيء خالق الأشياء ، وليس كالأشياء. وإنما قلت : إنه هو شيء لأثبته موجودا ، وقولي : شيء ليس فيه تشبيه ، لأني إنما أشيئه بقولي : شيء ، وقد

__________________

(١) في (ب) و (د) : عدم العدم.

٤٦٣

يشتبه قول شيء وشيء (١) ، ولا يشتبه المسمى ، إلا أن أوقع عليه من أيّ الأشياء هو وما هو؟ فحينئذ يشتبه المسميان ، (٢) فأما شيء وشيء فليس فيه اشتباه المعاني ، وإن استوى قول شيء وشيء.

وقد يقال : الخنزير شيء ، والكلب شيء ، والانسان شيء ، وليس [في] هذا الاسم ، الذي هو إثبات الشيء (٣) منهم مدح ولا تهجين ، إذا كانت التسمية مبهمة مفردة في الذكر ، ولذلك لم يقع به تشبيه إذا قلنا : إن الله شيء ، والإنسان شيء.

فإن قال : فإذا سميت الله شيئا فقد سميته بما لا مدحة له فيه.

قلت : إني إذا سميته شيئا ذكرته سبحانه بكلام آخر أصله به ، فيكون مديحا ، لقولنا : الله شيء واحد كريم ، والله شيء واحد عزيز ، والله شيء ليس كالأشياء ، فيكون ذلك مدحة ، ولا يذكر العبد التقي ربه إلا وهو فيما ذكر من أسمائه مادح ، فإذا سمى الله العبد بأنه شيء لم يفرده ، حتى يقول : الله شيء لا كالأشياء ، فيكون الكلام كله مقرونا بكلام آخر على ما ذكرنا ، كان كله مديحا ، وقول القائل للشيء هذا شيء ، كلام مرسل غير مقرون بما يتجلى به (٤) المعنى ، فليس بذم ولا مدح ، لقولك عرفت شيئا ، ولا يكون المعروف عندك مذموما ولا ممدوحا ، حتى تقرنه بكلام آخر ، فتقول : عرفت شيئا هو صالح ، وعرفت شيئا هو فاسد ، فيكون هنالك الذم والمدح ، فلا يدرك بقولك هذا شيء وهذا شيء ائتلاف ولا اختلاف ، فلا يرسل القول على الله بأنه شيء إلا مقرونا بكلام آخر ، فيقول : هو شيء ليس كالأشياء ، فيكون قولك : هو شيء بالصلة المقرونة مديحا ، فكذلك يقول القائل : هذا الثوب شيء حسن أفضل من غيره ، فيكون بما أجرى به الثوب مديحا ، وإذا كان مرسلا لم يكن له مدحا ولا ذما.

__________________

(١) في (ب) و (د) : شيء بشيء.

(٢) في (ب) و (د) : المسميات.

(٣) في (ب) و (د) : إثبات لشيء.

(٤) سقط من (ب) و (د) : به.

٤٦٤

(الرد على من أنكر أن يكون الله واحدا ليس بذي أبعاض)

الحمد لله الذي عن شبه كل شيء تعالى ، وشاهد كل ملاء وهو في السموات العلى ، على العرش استوى ، ولا يخفى عليه النجوى ، وهو يرى ولا يرى ، سبحانه ، فليس عليه شيء يخفى ، وليس كمثله شيء ، وهو الواحد الصمد الباري المصور ، وليس بصورة بل هو مصوّر الصورة ، وهو السميع العليم ، قال الله عزوجل : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنعام : ١٩]. يخبر بوحدانيته في آي كثير.

والواحد في اللغة له معان :

أحدها : البائن بالفضل والسؤدد.

ومعنى آخر يقول الناس : هذا شيء واحد ليس له نظير في الشبه.

ويقال : هذا وهذا واحد يراد أنهما متماثلان ، وقد يقول المرء : قولي وقولك واحد ، أي مثله ، ويقال : لأقل قليل القلة هذا شيء واحد ، يراد ثباته وتعطيل الثاني ، بمعنى ليس له نظير ولا شبيه ، بمعنى أنه ليس فيه اختلاف ، وهذا معنى قولنا الله واحد ليس من عدد ، ولا هو عدد ، كما الانسان واحد عدد ، كما أن الإنسان أعضاء وكل عضو يقال إنه واحد ، فإذا اجتمعت الأعضاء قيل واحد ، فهو واحد عدد آحاد ، وهو من عدد آحاد مثله ، لأنك تقول : هذا إنسان واحد ، وتقول الآخر واحد فصاعدا ، فكل واحد منهما واحد من عدد ، وليس الله سبحانه واحدا من عدد ، على معنى ما ذكرنا من معاني الواحد من غيره.

وقد قالت العرب : إن فلانا واحد قومه أي : سيدهم ، وهو واحد القوم ، وإن كان له الاتباع والعبيد والأموال.

ويقال : إن فلانا واحد الناس. أي : ليس له نظير ، يعنون في السؤدد والكرم.

واعلم أن الله واحد في الربوبية والعز والكبرياء ، واحد بنفسه لا بغيره ، وهو واحد لا ثاني معه ، ولا مثل له في صفة ولا ذات ، ولا في قول ولا في فعل ، ولا في معنى من المعاني كلها ، ولا له مثل في صفة ولا في معنى شرف وفضل ، ولا يزول عنه هذا المعنى الذي هو شرف في كل معنى ، إذ لا شيء يشبهه ، ولا هو شيء يشبه شيئا ، ولو جاز

٤٦٥

أن يكون له مثل في معنى ، وكان ذلك يكون شرفا لجاز أن يكون مثل غيره بكل معنى ، ويكون ذلك له شرفا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومعنى من معاني الواحد هو الأول الفرد ، ذلك في الحساب والعدد بيّن ، إذ (١) لا يكون العدد إلا به ، لأنك تقول : واحد واثنان ، فالثاني بالواحد كان ، ولو لا الواحد الذي هو أول الثاني ، ما كان الثاني قبل الأول ، كان واحدا ، أكثر (٢) العدد الذي لا يحصى ، وهو المكثر لكل معدود ، العدد الواحد يستزيد وبه يزاد ، ولو لا هو ما كانت الزيادة ، وكل ما زاد الحساب فبالواحد (٣) زاد ، والواحد هو المفرد لما سواه ، وهو أقدم من كل ما به ازداد ، وكثرة العدد تزداد به ، وتنقص به ، فالواحد الذي به يزداد العدد وهو مقيم لكثرته ، وبه يكون النقصان ، وبه استوى الحساب ، وبه يقل الكثير ، ويكثر القليل ، ويفرق بين الكثير والقليل.

فكذلك يقال الله واحد : بمعنى أول الأشياء ، وبه كان كل شيء ، وهو مشيئها ، ومدبرها ، بنفسه لا بغيره ، ولا يتغير لتكثيرها ولا لتقليلها ، ولا عند بطلانها ، ولا يختلف سبحانه عند شيء من اختلافها ، وهو سبحانه القائم بإنشائها ، لا يتغير ولا يدخل في التغيير ، بل التغيير داخل على ما أنشأ ، ولم يزل الله قبل أن يكون الشيء شيئا ، ثم إنه أراد إنشاء ما أنشأ ، فأنشأ ما أراد إنشاءه على ما شاء ، واضطر المنشأ إلى التغيير والزوال ، والحطوط (٤) والنقص والنماء.

والله سبحانه واحد في معناه ، لا في معاني ما أنشأه (٥) وهو الواحد لا من عدد ، ولا فيه عدد به تجزّأ ، وليس شيء يقال : إنه واحد في الحقيقة غير الله ، وكل واحد سوى الله فهو ذو عدد مجزأ ومن عدد ، وذلك أنك تقول للواحد من الخلق : إنه له فوق

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولا.

(٢) في (ب) و (د) : أكثر من العدد.

(٣) في (ب) : بالواحد.

(٤) الحطوط : الحدر من علو إلى أسفل.

(٥) في (ب) و (د) : ما أنشأه الله وهو (زيادة).

٤٦٦

وتحت وأمام (١) وخلف وشمال ويمين ، وكل واحد كما ذكرنا غير الآخر ، فهذا غير واحد مما يضمه (٢) اسم الواحد ، وهذا الواحد هو العدد ، ومن عدد كثير من اللون وغير ذلك ، هو من عدد له أشباه ، والله واحد ليس بشيء من هذه المعاني المنقوصة شبيها ، لأنه ليس له نظير.

فإن قال قائل : لم لا يكون قولك واحد تشبيها ، وقد قلت لغير الله واحد؟!

قيل له : إنا لم نقل لغير الله واحد ، بمعنى ما قلت إن الله واحد ، وليس واحد كالله في ربوبيته ووحدانيته ، وليس من هو واحد في الحقيقة ليس بجزء ولا باثنين سوى الله ، وكل ما سوى الله فقد يقال واحد وهو أكثر من اثنين إذا حدد على وجه ما فسرنا من الحدود التي تلزم الخلائق ، وذلك لأن كل واحد مما سوى الله فمسدس ، وهو أكثر من اثنين. وإن قيل : إنه واحد على ذكرنا ، فليس (٣) الله بواحد كمعنى الآحاد المعدودة ، وإنما هو إله واحد ، ليس له ند ولا له شبيه ، تعالى عما يقول المشبهون علوا كبيرا.

ومعنى من معاني الواحد إذا أرادوا به دفع الاختلاف وحذف الجميع ، كما قال الكميت (٤) بن زيد الأسدي :

فضمّ قواصي الأحياء منهم

فقد رجعوا كحيّ واحدينا

فإن قال قائل : فإذا قلت : إن الواحد من الحساب في جميع العدد ، فكذلك يقول

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : وأمام.

(٢) سقط من (د) : مما. وفي (ب) : واحد بضم اسم.

(٣) في (ب) و (د) : وليس.

(٤) الكميت بن زيد الأسدي شاعر الهاشميين من أهل الكوفة ، اشتهر في العصر الأموي. وكان عالما بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها ، ثقة في علمه. ولد سنة ٦٠ ه‍ ، وتوفي سنة ١٢٠ ه‍.

أشهر شعره الهاشميات ترجمت إلى الألمانية ، يقال إن شعره أكثر من خمسة آلاف بيت. والبيت من قصيدة له تسمى المذهبة التي مطلعها :

لنا قمر السماء وكل نجم

تشير إليه أيدي المهتدينا

هجى بها أهل اليمن تعصبا لمضر.

٤٦٧

الله في كل شيء.

قيل له : إن الله تبارك وتعالى في كل شيء مدبره ، لا محويّ ومع كل شيء رقيب لا يحاط به ، وليس هو في شيء من الأشياء ، بمعنى كون الشيء في الشيء ولا شيء مع الشيء ، كما (١) الله في الأشياء ، ومع الأشياء على غير الإحاطة ، ولا يعزب الله فيها ولا هي تعزب عن الله ، وذلك لأن كل ما كان في فعله لم يقطعه ، فالعرب تقول : إنه في فعله ، كذلك الأشياء فعل الله ولم يقطع تدبيره منها ، فلذلك قلنا : إن الله بكل مكان ، فهو في كل شيء ليس بغائب عن شيء ، وقد حقق الله مقالتنا في كتابه بقوله : (وَما كُنَّا غائِبِينَ) [الأعراف : ٧]. وقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦]. وكذلك: (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ...) الآية [المجادلة : ٧].

ألم تر إلى المرء يصبح صائما ثم يقوم مصليا وهو في ثغر (٢) ، فيقال : إن فلانا في صلاته وصيامه ورباطه ، ويقال له ذلك في حال أقل قليل كونه في أفعاله ، وأفعاله أفعال مختلفات بعضها غير بعض ، ليس فعل يشغله عن الآخر ، وهو في الوقت الذي هو في هذا الفعل فاعل للفعل الآخر ، وليس فعله له بحاو ، ولا فعله أيضا فيه محويّ ، فالله (٣) أقرب من الأشياء من الشيء (٤) إلى نفسه ، وهو بكل شيء أنظر وألطف.

فإن مجن (٥) السائل من أهل التشبيه ، وذكر الأكبال (٦) والقيود ، وقال : هل الله فيها.

قيل له تقدس الله وجل أن نذكره بكلام فيه تهجين (٧) ، ولا يجوز أن نذكر أن الله في شيء ذكره تصغير بالمذكور ، من أجل أن الله أخذ علينا في ميثاق الكتاب أن لا

__________________

(١) في (ب) : كما قال الله.

(٢) الثغر : جبهة الحرب.

(٣) في (ب) و (د) : والله.

(٤) سقط من (ب) : الشيء.

(٥) المجون : ألا يبالي الإنسان ما صنع.

(٦) الأكبال : جمع كبل. وهو : القيد.

(٧) التهجين : التقبيح.

٤٦٨

نذكره إلا بالأسماء الحسنى ، ومن الأسماء الحسنى كل اسم لا يكون معناه عند السامع محتمل التهجين ، وقول القائل : ربه في السلاسل والكبول تصغير بذكر الله وتهجين ، تعالى الله عزوجل ، وارتفع عن ذلك وعن أن نذكره به ، لأن المذكور بهذا مذكور بالإحاطة والقلة ، والله عن ذلك يتعالى ، وإذا ذكر الرب بالاسم العام كان له تعظيما ، وإذا ذكر بالاسم الخاص كان له تهجينا ، ولا يعرف الرّبّ من ذكره بهجنة ، وقد دللنا على معنى صحيح ، إذ قلنا إن (١) الله في الأشياء مبثوثة ، وإن خص السائل ذكر شيء هو بالمذكور تصغير وتهجين ، ويذكر ما يكون حواء وإحاطة لم يجز الجواب فيه بنعم!

فإن سأل السائل ما الله تبارك وتعالى إذا قلتم : هو الواحد؟!

قلنا : معنانا (٢) أن الله واحد أي : لا واحد سواه ، إلا وله شبيه (٣) ، والله واحد ليس له شبيه ، وهو يقيم الأشياء ، وهو القائم بها لا بغيره قامت الأشياء ، وليس الله بذي أعضاء ، بعضها لبعض مؤيد ولا ممسك ، بل الله واحد ليس سواه واحد في معناه ، وليس واحد سوى الله إلا وقيامه بغيره ، وذلك أن الحركة لا تقوم في وقتها إلا بمتحرك ، كذلك اللون لا يقوم إلا بملوّن ، والطول لا يقوم إلا بمطوّل ، لأن ما ذكرنا كلها أجزاء ، وإنما يقوّم بعضها بعضا ، ولا يكون الجميع إلا باتصال الأبعاض ، ولما كان على الجميع الأجزاء ، جاز أن يكون مع الجميع ثان ، وجاز أن يقال : هذا كان غير هذا. كذلك لا يقوم شيء مما ذكرنا من الخلق إلا في زمان ومكان ، والله القائم بنفسه لا تجري عليه الأزمنة ، ولا تحويه الأمكنة (٤).

واعلم أن العدد من الحساب أصله وجوب الغير ، ولا يقع الغير إلا على اثنين فصاعدا ، فإن كان الاثنان جنسين مختلفين ، جاز أن يقال : هذا غير هذا ، فإن كانا مؤتلفين قيل : هذا وهذا واحد ، وهذا واحد وهذا واحد ، وكان كل واحد منهما غير الآخر.

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : إن.

(٢) معنانا : أي : مقصدنا الذي عنيناه وقصدناه.

(٣) في (ب) و (د) : تشبيه.

(٤) في (ب) و (د) : الأماكن.

٤٦٩

وقد يقال للمؤتلفين الذين هما واحد : إن أحدهما غير الآخر ، كعملي غير عملك ، وإذا كان عملهما دينا قال : هذا وهذا واحد ، وكل ما ذكرنا يحتمل التضعيف والزيادة ، ويحتمل التضعيف أضعافا ، وكل ما احتمل الزيادة لم يكمل أبدا ، فقد يحتمل النقصان ، وكل ما احتمل النقصان أمكن أن يبيد ، وهو أبدا منقوص من صفة الكامل ، والله واحد لا بهذا المعنى ، ولكنه واحد في معناه الذي ليس يشبه (١) معاني البشر ولا الحساب ، وهو إسقاط الثاني ، وليس ثان مع الله ، ولا واحد غيره في معناه كهو ، وإثباته واحدا تعطيل الثاني ، وفي تعطيل الثاني توحيد الأول ، والواحد الباقي الذي ما سواه فان.

* * *

__________________

(١) سقط من (ب) : الذي. وفي (أ) و (ج) و (د) : لا يشبه.

٤٧٠

(الرد على من زعم أن لله وجها كوجه الإنسان)

الحمد لله الذي كل شيء هالك إلا وجهه ، الذي به قامت سماواته وأرضه ، واستوى على عرشه ، فلا شيء في استوائه يماثله ، لأنه عن شبه كل شيء تعالى ، وهو لكلنا شاهد ولنا باري ، وكلنا عليه لا يخفى سامع النجوى ، والعالم بما في الضمير وأخفى.

اعلموا رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه كلامه ، لسانا عربيا مبينا ، أوجز البلاغات وأبلغه إيجازا ، وليس للأميين (١) في اللغة أن يتأولوا في الكتاب ما لا يدركه المتأولون من رباني (٢) اللغة والكتاب ، وقد علم رباني اللغة أن لها تصاريف المذاهب وفنون الجهات ، وأنها ذات قيم (٣) وأمواج وأطناب ولطائف ودقائق في بيان.

وإن فرقة من البدعيّة (٤) استعجمت في كتاب الله ، وسارعت في تأويله من غير فصاحة بالتأويل ، ولا فهم في التنزيل ، ولا آلة في العلم باللغات ، فتأولت بالعجمة إذ تأولته ، ولما سمعوا كلام الله وما فيه من قول المطعمين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٥] ، وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]. إن

__________________

(١) قال قطرب : الأمية الغفلة ، والجهالة ، وأيضا معناها : قلة المعرفة.

(٢) الرباني : المتألّه العارف بالله. قيل منسوب إلى الربّان. وقيل إلى الرب ، أي : الله تعالى ، فالرباني كقولهم : إلهيّ ، وزيادة النون فيه كزيادته في جسماني ، قال علي عليه‌السلام : أنا رباني هذه الأمة. والجمع ربانيون ، قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ). (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ). والرّبي : بمعنى : الرباني في قوله تعالى : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وقيل الرباني : لفظ في الأصل سرياني.

(٣) القيم : جمع قامة ، وأمواج جمع موج وهو : الاضطراب. وأطناب : جمع طنب ومن معانيها : الطرائق. ولطائف : جمع لطيفة. واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي. ودقائق : جمع دقيقة ، والدقيق : الغامض. والمعنى الإجمالي : أن للغة العربية نواح عديدة وأبعادا وغوامض ، لا تفهم إلا للمتبحرين في علومها.

(٤) البدعية نسبة إلى البدعة. واستعجم : التبس.

٤٧١

لله تعالى عزّ عن ذلك وجها كوجه الإنسان.

ونحن سائلوهم وبالله نستعين ، ما ذا أراد الله بقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) شيء منه دون شيء؟ أم هو الله تبارك وتعالى يبقى؟! لأنه ليس بذي جوارح متفاوتة ، فإن رجعوا إلى النظر ، وتصفية الجواب ، علموا أن الله أراد بقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، يعني : يبقى ربك ، وإن كان شيء غيره فان ، لأن الله ليس مبعّضا يبقى وجهه دون أبعاضه ، تعالى الله عن التبعيض.

فإن تقحّم (١) ذو حيرة غمرات الكفر ، وزعم أن له أبعاضا أحدها وجه!!

قيل له : أخبرنا عن تلك الأبعاض التي أحدها وجه تفنى دون الوجه؟!

فإن زعم أنها تفنى دون الوجه صرح بشركه ، وإن زعم أن الأبعاض التي هي غير الوجه تبقى مع الوجه!

قيل له : من أين قلت إن كلها تبقى؟! وقد قال الله عزوجل في كتابه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، والأبعاض التي هي غير الوجه هي شيء ، وقد قال الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، ولن تجدوا حجة (٢) تدفعون بها الفناء عن الأبعاض التي هي سوى الوجه ، إلا أن ترجعوا إلى قولنا. وقد قال الله في كتابه : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)) [الروم : ٣٩]. وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، فليس على الأوهام الطالبة إليه للحق في تأويل هذا مئونة ، إذا نظرت بصافي عقلها استبان أن معنى قوله : (تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي تريدون الله وثوابه ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لله ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

وللوجه في القرآن معان في اللغة.

قال بعض العرب :

__________________

(١) التقحم : الرّمي بالنفس فجأة بلا رويّة.

(٢) في (أ) : تجدوا علينا حجة.

٤٧٢

أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له

بالله ليس له شبيه (١)

ومعنى تعنو الوجوه ، أي : تستأسر (٢) النفوس ، وكل امرؤ أسير يرى على أنه لله مستأسر ، وإنما أراد بوجهه ذاته ، فلما أن قال : أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له ، ثم قال بالله ، علمنا أنه إنما استعاذ بالله في قوله : أعوذ بوجه من تعنو الوجوه له.

وقال آخر :

إني بوجه الله من شر البشر أعوذ

من لم يعذ الله دمر (٣)

وقال آخر :

إلهي لا ربّ لنا غير وجهه

وليس له من صاحب لا ولا ندّ (٤)

دليل على أنه أراد بذكره وجه الله أي : الله ، ولم يرد بذكره وجهه ، إنه بعض دون أبعاض ، لأن الله سبحانه ليس بذي أبعاض.

قال ذو الرّمّة (٥) :

أقمت لها وجه المطي فما درى

أجائرة أعناقها أم قواصد

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) [طه : ١١١]. قال : استأسرت ، صاروا أسارى كلهم. الدر المنثور المنثور ٥ / ٦٠١.

(٣) لم أقف عليه.

(٤) لم أقف عليه.

(٥) ذو الرمة : غيلان بن عقبة بن نهيس العدوي ، من مضر شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره كان شديد القصر دميما أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال. عشق ميّة المنقرية واشتهر بها. ولد سنة ٧٧ ه‍ ، وتوفي سنة ١١٧ ه‍ ، بأصبهان ، وقيل بالبادية ، له ديوان شعر مطبوع في مجلد ضخم. والبيت من قصيدة له مطلعها :

ألا أيها الربع الذي غيّر البلى. أنظر ديوانه.

٤٧٣

فجعل للمطي وجها ، وليس ذلك الوجه على ما يعقل من وجه الإنسان.

وقال آخر :

أعوذ بوجه الله من شر معقل

إذا معقل راح البقيع وهجرا (١)

وهذا دليل على أنه استعاذ بالله.

وقال آخر :

وتطلّب المعروف في كل وجهة

تخطى إلى المعروف نحو ابن عامر (٢)

ويقال في اللغة : أخبرنا بالخبر على وجهه ، ولا يتوهم للخبر وجه على ما يعقل من وجوه البشر ، وقال الله سبحانه : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) [البقرة : ١٤٨]. أي لكلّ قبلة(٣).

وقال آخر في تأويلها : ولكلّ ملة.

ويتأول بعض أهل العلم : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) [النساء : ٤٧]. أي ملّة نمسخهم (٤) يعني أهل الملل ، وإنما صارت الملة وجها ، لأن صاحبها يتوجه إلى الرب بها.

وقال الشاعر :

درست وجوههم فكل آخذ

غير الطريق وكلهم متحير (٥)

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، يعني بذلك أهل الأديان يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجه الله حيث توجه المؤمنون. الدر المنثور / ٣٥٧.

(٤) أخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع الأزرق قال له : أخبرني عن قول الله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) ، قال : من قبل أن نمسخها على غير خلقتها. الدر المنثور ٢ / ٥٥٥. وهو في مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس (بتحقيقنا).

(٥) لم أقف عليه.

٤٧٤

فهذا دليل على أن الله أراد بقوله : (من قبل أن نطمس وجوها) أي : مللا.

وقال آخر :

أضحت وجوههم شتّى فكلهم

لوجهته فضلا على الملل (١)

وقال عباس (٢) بن مرداس السلمي :

أكليب ما لك كل يوم ظالما

والظلم أنكد وجهه ملعون

وقال الله عزوجل : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢]. أي من أخلص دينه لله (٣) فجعل للدين وجها.

وقال الشاعر :

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

لأرض تحمل صخرا ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له

المزن تحمل عذبا زلالا (٤)

وفي ذلك دليل على أنه أراد بالوجه الدين ، وقال الله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) [الروم : ٤٣ ، ٣٠]. ولم يرد الوجه دون القلب وسائر الأبعاض ، وإنما تأويل أقم وجهك ، أي : أقم نفسك للدين ، وتأويل أقم نفسك للدين إنما هو : بالدين ، وقال الله سبحانه : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢]. يعني : صدر النهار. وقال

__________________

(١) لم أقف عليه.

(٢) عباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي من مضر ، شاعر فارس ، من سادات قومه ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم قبيل فتح مكة ، وكان من المؤلفة قلوبهم مات في خلافة عمر سنة ١٨ ه‍ ، جمع الدكتور يحيى الحبوري ما بقي من شعره في ديوان مطبوع. والبيت مطلع قصيدة مكونة من سبعة أبيات انظر ديوانه.

(٣) أخرج ابن جرير عن مجاهد (من أسلم وجهه لله) قال : أخلص دينه. الدر المنثور ١ / ٢٦٣.

(٤) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل. أبو سعيد أحد العشرة. أنظر المعارف لابن قتيبة / ٥٩ ، والأغاني للأصفهاني ٣ / ١٧ ، وتفسير ابن جرير الطبري ١ / ٣٩٣ ، وإيثار الحق على الخلق / ٥٣.

٤٧٥

بعض أهل العلم : أول النهار (١). فذكر الله للنهار وجها ، ولم يرد به وجها من الوجوه التي أمر بغسلها عند الوضوء ، وقد يجوز في اللغة القول بأن (٢) هذا وجه المتاع ، وهذا وجه القوم وفاضلهم ، وهذا وجه الدار ، وهذا وجه الكلام ، هذا وجه العمل ، معنى قولهم هذا وجه الكلام ، أي : صدقه وبيانه ، ووجه العمل أي : العمل به صواب. وقال الله تعالى : قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) [المائدة : ١٠٨] أي : يأتوا بها على صدقها (٣).

وتأويل قول الله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) له معان :

منها ما أريد به وجه الله من العمل الطيب ، والقول الحسن (٤).

ومعنى آخر في : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). إلّا هو (٥). ومن أراد هذا المعنى قرأ وجهه مرفوعا ، وله سوى هذا أيضا ، (٦) من أراده قرأه مفتوحا ، والمعنى فيه : ثواب اللهعزوجل.

وقال الله عزوجل في كتابه : قال تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦]. فمعنى هذا الوجه معنى واحد ، وهو الوجه الذي في الناس ، وذلك عن الله عزوجل منفيّ ، وقوله : قال تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]. دليل على أنه الله ، لأن الشرقي والغربي بين المشرق والمغرب لا يكون جهتهم جميعا تلقاء وجه الله ، لأن وجهه : الذي هم مقابلون دون ما سواه ، فبطل قولهم في تأويلهم : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) أخرج ابن جرير عن قتادة ، والربيع ، في قوله تعالى : (وَجْهَ النَّهارِ) ، قالا : أول النهار. الدر المنثور ٢ / ٢٤٠.

(٢) في (أ) و (ج) : القول بمثل هذا.

(٣) أخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) ، يقول : ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم. الدر المنثور ٣ / ٢٢٦.

(٤) أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سفيان قال (كل شيء هالك إلا وجهه). قال : ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة. الدر المنثور ٦ / ٤٤٧. وفي تفسير الغريب للإمام زيد بن علي عليه‌السلام / ٢٤.

وهو قول مجاهد. انظر تفسير سفيان الثوري / ١٩٤.

(٥) انظر تفسير الإمام زيد بن علي / ٢٤٤.

(٦) في (أ) و (ج) : وله شواهد أيضا.

٤٧٦

وزعموا أن وجهتهم جميعا تلقاء وجه الله ، وبطل قولهم : (خلق آدم على صورة وجه الله) (١) ، لأن الصورة وجه ، وهي لا تواجه إلا ما كان تلقاءها ، ومما يبطل به قولهم في

__________________

(١) في جميع المخطوطات : تؤده وجه الله. ولم أهتد فيها إلى معنى يتوافق مع السياق ، ومعنى تؤدة : في اللغة : التمهل والرزانة. والذي يبدو أنها تصحّفت من كلمة صورة ، سيما والحديث المشار إليه ذكرت فيه الصورة.

الحديث أخرجه البخاري (فتح ١١ / ٣). ومسلم (٤ / ٢٠١٧ رقم ١١٥). في الصحيحين من حديث أبي هريرة بلفظ (خلق الله آدم على صورته). ومثل هذا موجود في التوراة ، فقد جاء في القسم الأول من الفصل الخامس من سفر التكوين : (لما خلق الله آدم ، خلقه على صورة الله). وهذا الحديث باطل مردود إن لم يمكن حمله على وجه صحيح. قال الحافظ ابن حجر (قوله : خلق الله آدم على صورته). تقدم بيانه في بدء الخلق ، واختلف إلى ما ذا يعود الضمير ، فقيل : إلى آدم ، أي : خلقه على صورته التي استمر عليها إلى أن أهبط ، وإلى أن مات ، دفعا لتوهم من يظن أنه لما كان في الجنة كان على صفة أخرى. أو ابتدأ خلقه كما وجد لم ينتقل ـ في النشأة كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة. وقيل : للرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ، ولا أول لذلك. فبيّن أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. وقيل : للرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره. وقيل للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فعل نفسه. (قلت يريد أن القائلين بأن الإنسان مخير في فعله قدرية ، وهم يعتقدون أن الانسان مسيّر لا مخير. وهذه عقيدة المجبرة وقد أبطلها الإمام القاسم عليه‌السلام بكتاب الرد على المجبرة ، من هذا المجموع). ثم قال ابن حجر : وقيل إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية ، وأن أوله قصة الذي ضرب عبده ، فنهاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال له : الله خلق آدم على صورته. انتهى كلام ابن حجر فتح الباري (١١ / ٣).

قلت : وتلك القصة التي أشار إليها الحافظ مروية في مسند أحمد (٢ / ٤٣٤). ورواها البخاري بنحوه في الأدب المفرد (٧٣). وابن أبي عاصم في سننه (٢٢٨ ـ برقم (٥١٦) (٥٢١). والبيهقي في الأسماء والصفات (٢٩١). بتحقيق الكوثري. وذكرها الحافظ ابن حجر نفسه في الفتح (٥ / ١٣٩). وهي بلفظ (لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فإن الله خلق آدم على صورته). أي : صورة المقول له قبح الله وجهك ... ويؤكد هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه (٤ / ٢٠١٧). من حديث أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته). تأمل!! وأما المشبهة : فإنهم يحملونه على معناه الظاهري ، ويعتقدون أن لله وجها وصورة ، بل قد وضعوا في ذلك كتبا مثل : عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن. للتويجري.

٤٧٧

زعمهم ، أن الله على العرش دون ما سواه ، وأن الملائكة يسبحون من حول العرش ، فقد أحاط المسبحون بالمسبّح ، إذ هم حوله ، ولا يكون توجيههم وتسبيحهم تلقاء وجه الله. وإن قالوا : إن جهتهم جميعا ، وإن الله هو (١) أينما تولّوا ، رجعوا إلى التوحيد الأول.

* * *

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) و (د) و (ه) : هو.

٤٧٨

(الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين

تعالى عن ذلك)

الحمد لله الذي يدرك الأبصار ، ولا تدركه الأبصار (١) ، وهو الواحد المتكبر ، العزيز القهار : قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. زعم قوم من أهل الجهل أن العباد غدا يعاينون ربهم جهرة ، ينظرون إليه كما ينظر بعضهم بعضا ، محاطا به محدودا ، وتأولوا قول الله عزوجل : قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٢٣) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣]. وقوله تعالى : (* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) (٢) وَزِيادَةٌ [يونس : ٢٦]. وقوله : قال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) [المطففين : ١٥] ، وقوله : يخبر عن موسى عليه‌السلام : قال تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، ونحن مقرّون بالنظر من أولياء الله في جنته على غير تحديد ولا إحاطة ، جل الله وعز وتعالى علوّا كبيرا.

والنظر له في لغة العرب معان :

__________________

(١) وعن أنس رضي الله عنه :

«أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول : «يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار ، وما تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا بحر ما في قعره ، ولا جبل ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.

فوكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأعرابي رجلا ، فقال : إذا صلى فائتني به ، فلمّا صلّى أتاه ، وقد كان أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب من بعض المعادن ، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب ، وقال : ممّن أنت يا أعرابي؟ قال : من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله ، قال : هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال : للرحم بيننا وبينك يا رسول الله ، قال : إن للرحم حقا ، ولكن وهبت لك الذهب بحسن ثنائك على الله عزوجل)).

قال الحافظ الهيثمي في (مجمع الزوائد) في (١٠ / ١٥٨) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.

(٢) في جميع المخطوطات : (لَهُمُ الْحُسْنى). والآية كما أثبت. وهو سهو من النساخ.

٤٧٩

أحدها : أن يلاقي الشيء جهرا ، ويحيط به بالعيان بإدراك وتحديد ، فيقال نظر إليه ، وعوين وأدرك وأبصر وجوهر.

ومعنى آخر : من معاني النظر لا بالعيان من بصر البصر ، ولكن ينظر إليه بأفعاله ، ومن ذلك قول العرب : انظر إلى شرائع الدين ما أحسنها ، انظر إلى كلام عبد الله ما أفصحه وأبينه ، انظر إلى ما صنع الله بعباده ، وانظر إلى الذين جابوا الصخر بالواد ما ذا صاروا إليه ، فتجيب العقول له قد (١) نظرت إلى ذلك كله ورأيته ، لا بعيان البصر.

ويقال : إنه قد نظر في لغة العرب وما ينظر فلان إلا إلى الله ، ثم إلى محمد ، ويقول: ما ينظر إلا إلى عبد الله ، وعبد الله (٢) غائب. ومن ذلك النظر إلى الشيء بأفعاله وآياته لا بروحه وشخصه ، وتقول : رأيت نفس زيد حين خرجت لا تريد بذلك نظر العين للروح ، ويقال : رأيت عقل زيد صحيحا ، ونظرت إلى عقله ، فرأيت عقلا حسنا.

والعقل روحاني لا يرى بالعيون ، لأنه ليس بشبح (٣) ولا لون ولا جسم ، ويقال : أحسنت النظر وأسأت النظر.

ومن ذلك قول الشاعر :

لا يزال وإن كانت له سعة

إلى الذي راه لم يظفر به نظر (٤)

ولذلك تقول : رأيت حلم زيد وعقل عبد الله ، وإنما رأيت الحلم والعقل بأفعال لهما ، مع أشياء كثيرة ، مما يجوز في اللغة ، كقولك انظر إلى شدة غضبه ، وانظر إلى شدة فرحه ، وانظر إلى عمه وعداوته ، وهذه كلها روحانيات خفيات لا تدرك بأنفسها وقد تدرك بأفعالها ، ويقال : رأينا غضبه ورضاه وما أشبه ذلك.

وقال الله : قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) [الفجر : ٦] ، والذي قيل له : ألم تر هو النبي صلى الله عليه ، وإنما النبي بعد قرون قبلها عاد ، فرأى كيف فعل

__________________

(١) في (ب) : فقد.

(٢) سقط من (ب) : وعبد الله.

(٣) الشبح : الشخص.

(٤) لم أقف على هذا البيت ولا قائله.

٤٨٠