مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ج ١

المؤلف:

القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام


المحقق: عبدالكريم أحمد جدبان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الحكمة اليمانية للتجارة والتوكيلات العامة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك قوله صلوات الله عليه :

إني امرؤ مذهبي التوحيد أظهره

والعدل أبديه تارات وأخفيه

ما كلف الله نفسا فوق طاقتها

ولا يعاقب إلا بعد تنبيه

ولا يعذب طفلا ما جنى أبدا

بذنب آبائه في النار يخزيه

وقال صلوات الله عليه :

تدرعت درعا للقنوع حصينة

أصون بها عرضي وأجعلها ذخرا

وأعددت للموت الإله وعفوه

وأعددت للفقر القناعة والصبرا

وقال صلوات الله عليه :

أنست إلى التّوحّد طول عمري

فمالي في البرية من أنيس

وجانبت اللئام فطاب عيشي

وجاننبني لذلك كل بوس

لأن الحر في الدنيا قليل

ونفسي لا تميل إلى خسيس

وأغناني قنوعي عن لئيم

أمد إليه ضري أو رئيس (١)

* * *

__________________

(١) الترجمان / ١٠٥ (مخطوط).

٤١

زهد الإمام

انقطع الإمام القاسم رضوان الله عليه ، إلى الله تعالى ... وعاش معه يرتل كتابه ويتدبر آياته. يسير أغواره ناظرا فيه بنور الله ، عارضا عليه سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معمقا حصيلته من ذلك بالمخزون الشعوري والوجداني الهائل الذي منحه الله إياه .. المتمثل بحمل هم الآخرة والدنيا ... هم الوقوف بين يدي الله ، وهم المسئولية عن عباده.

لقد سلك الكثيرون صراط التزكية ، العلم ، العمل ، إلا أن الإمام وفقه الله جل وعلا أن يبلغ في كل ذلك الذرى ... لتصبح تجربته خطا وميزانا.

لا التزكية وحدها طريق إلى العلم .. ولا العمل وحده .. بل إنهما معا بمعزل عن العمل ، زوبعة سرعان ما تتلاشى.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)) [البقرة : ٢٨٢].

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

(العلم يزكو على الانفاق) نهج البلاغة ـ الحكم ـ ١٤٧.

ولا انفاق للعلم أفضل من مواجهة سلاطين الجور بكلمة الحق .. ودعوة المستضعفين إلى نصرة دين الله وإعلاء كلمته.

وبمقدار البراءة من الطواغيت تكون ولاية الرحمن (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) [البقرة : ٢٥٦] حتى يدخل الله الولي في درعه الحصينة التي يجعل فيها من يشاء ، فيصبح عينه التي بها يبصر ، وسمعه الذي به يسمع ، ويده التي بها يبطش.

وكما تصبح الرمية رمية الله .. تصبح الكلمة كلمة الله تسديدا من الله لعبده ، ووفاء بوعد الذكر لمن ذكره ، والاستجابة لمن دعاه.

ومعارضة الإمام للسلطة الحاكمة لم تكن طمعا في منصب ، أو حرصا على حطام الدنيا ، بل كانت أداء للأمانة وأمرا بالمعروف ، ونهيا عن المنكر ، تماما كما قال جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام : والله إن خلافتكم هذا لا تساوي عندي عفطة عتر إلا أن أقيم حقا أو أدحض باطلا.

٤٢

ورع الإمام

كان الإمام القاسم يمثل سيرة جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام في ورعه وخشيته لله ، فكان في رقابة دائمة لله سبحانه وتعالى ، ينحسس مواطن رضاه فيتبعها ، ومواطن غضبه فيجتنبها.

قال الإمام أبو طالب : حدثني أبو العباس الحسني رحمه‌الله قال : سمعت أبا زيد بن محمد العلوي رحمه‌الله يقول : قلت لمحمد بن منصور : الناس يقولون : إنك لم تستكثر من القاسمعليه‌السلام. قال : بلى ، صحبته فيما كنت أقع إليه خمسا وعشرين سنة. فقلنا له : إنك لست تكثر الرواية عنه! قال : كأنكم تظنون أنا كلما أردناه كلمناه! من كان يجسر على ذلك منا؟! ولقد كان له في نفسه شغل ، كنت إذا لقيته كأنما ألبس حزنا لتأسفه على الأمة ، وما أصيب به من الفتنة من علماء السوء وعتاة الظلمة (١).

وروى الإمام أبو طالب عن أبي عبد الله الفارسي ـ وكان خادم الإمام القاسمعليه‌السلام وملازمه في السفر والحضر ـ قال : دخلنا معه عليه‌السلام حين اشتد به الطلب ـ أظنه قال : أوائل بلاد مصر ـ فانتهى إلى خان ـ يعني فندقا ـ فاكترى خمس حجر متلاصقات ، فقلت له : يا بن رسول الله نحن في عوز من النفقة ، وتكفينا حجرة من هذه الحجر. ففرغ حجرتين عن اليمين وحجرتين عن اليسار ، ونزلنا معه الوسطى فيهن. وقال : هو أوقى لنا من مجاورة فاجر ، وسماع منكر (٢).

وروى أبو الفرج الأصبهاني أن الإمام القاسم : أراد الخروج واجتمع له أمره ، فسمع في عسكره صوت طنبور ، فقال : لا يصلح هؤلاء القوم أبدا ، وهرب وتركهم (٣).

وروى الإمام أبو طالب عن أبي عبد الله الفارسي قال : حججنا مع القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، فاستيقضت في بعض الليل وافتقدته ، فخرجت وأتيت المسجد الحرام ، فإذا أنا به وراء المقام لاطئا بالأرض ساجدا ، وقد بل الثرى بدموعه ، وهو

__________________

(١) الإفادة / ١٢٥. تتمة المصابيح / ٣٢٧. الشافي ١ / ٢٦٥.

(٢) الإفادة / ١٢٥.

(٣) مقاتل الطالبين / ٥٥٦.

٤٣

يقول : إلهي من أنا فتعذبني؟! فو الله ما يشين ملكك معصيتي! ولا يزين ملكك طاعتي(١).

وكان عليه‌السلام ذا صلة قوية بالله ، ويقين عظيم.

قال أبو الفرج الأصبهاني : وأخبرنا أحمد بن سعيد ، عن محمد بن منصور ، قال : سمعت القاسم بن إبراهيم يقول : أعرف رجلا دعا الله في ليلة ، وهو في بيت فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان فجاءه السرير. فتهدل البيت عليه رطبا.

قال : وسمعت القاسم يقول : أعرف رجلا دعا الله فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي من دعاك به أجبته. وهو في ظلمة ، فامتلأ البيت نورا.

قال محمد : عنى به نفسه (٢).

كان الإمام القاسم آية في الزهد في الحياة ، لا يسترعي انتباهه مال ولا جاه ، خبر الدنيا كما خبرها جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلم يرفع إليها رأسا ، ولم يسع إليها بقدم.

قال الإمام أبو طالب : وأما زهده عليه‌السلام فمما اتفق عليه الموافق والمخالف ، ومن أحب أن يعرف طريقته فيه ، فلينظر في كتاب (سياسة النفس) ، وكان الناصر الأطروش رضي الله عنه إذا ذكره يقول : زاهد خشن (٣).

ولّد هذا الزهد في مباهج الحياة عند الإمام ، إضافة إلى العلم المستبطن لحقائق الأشياء ولّد لديه عرفانا يلحقه بعرفان جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الذي قال : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا.

روى الإمام أبو طالب عن عبد الله بن أحمد بن سلام رحمه‌الله أنه قال عن نفسه ، أو عن أبيه : لست أجسر على النظر في (كتاب الهجرة) للقاسم عليه‌السلام ، وأومئ

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦.

(٢) مقاتل الطالبين / ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٣) الإفادة / ١١٧.

٤٤

إلى أن ذلك لما فيه من التخشين والتشديد في الزهد وترك الدنيا ، والتباعد من الظالمين (١).

* * *

__________________

(١) الإفادة / ١٢٦.

٤٥

مرحلة العطاء

تلك مرحلة تلقيه العلم والمعارف ، وهذه مرحلة العطاء ، فما موقعه في سلم العطاء؟ وما عطاؤه؟

ما إن كان يتناهى إلى سمعه شبهة تلقى على الإسلام ، إلا ويهب هبة الأسد الهصور ، ويثب وثبة العالم الخبير ، ليبددها ويجليها ، بحكمة الحكيم المستبصر ، وأناءة العالم المتنوّر.

الفلسفة اليونانية والفلاسفة

فها هو يفند مزاعم فلاسفة اليونان ، ويهدم صروحها ، فلقد أخذت رسالة الدليل الكبير في الرد على الزنادقة والملحدين والفلاسفة طابعا حواريا ، بين الشبهة والدليل ، والسؤال والإجابة ، والملحد والشيخ ، وهو أسلوب فلسفي قديم ، آثره الفلاسفة في كتاباتهم سيما إذا كانوا يجادلون ويناظرون الآخر ، الحجة بالحجة ، والدليل بالدليل ، بقصد الإقناع والوصول إلى الحقيقة.

إذا فضّل القاسم بن إبراهيم الحوار الجدلي الإقناعي على غيره ، فجاء أسلوبه سلسا سهلا ، يتحلى بالوضوح والبرهان ، وكلماته جزلة سهلة معبرة عن دلالاتها ، فلم نجد في أسلوبه ولا كلماته غريبا أو وحشيا من القول أو غامضا من العبارة ، وبالجملة كان أسلوبه فلسفيا خالصا ، لم يلجأ فيه للمناورة أو المداورة أو الأساليب المغالطة والسفسطة ، بل مال للتبسط ، فاعتمد الاستقراء إلى حد كبير ، وكانت النتيجة الكلية هي الإجابة عن مغالطات الفلاسفة ، وتفنيد دعاواهم الساذجة.

إذا ما تعرضنا إلى ثقافة القاسم بن إبراهيم الفلسفية ، نجده على وعي ودراية كاملة بالفلسفية اليونانية القديمة على الرغم من وجوده إبان عصر الترجمة بما يعنى أنه عرفها قبل قيام المأمون بترجمة الفلسفة اليونانية ، وهضمها وصار في طور أرقى وهو نقدها والتعرض لها بالفحص الدقيق ، خصوصا في جانبها الميتافيزيقي أو الغير الإلهي.

كما كان على دراية ومعرفة أيضا بالفلسفات الشرقية وتعرض لها بالنقد ،

٤٦

والفحص الدقيق في ضوء المنهج الإسلامي القائم على توحيد الخالق.

وقفة مع العمل والعصر :

ويعد عمل الإمام الإمام القاسم بن إبراهيم من الأعمال الفريدة في عصره ، لكثرة الأدباء والمؤرخين واللغويين في عصره ، ولم نجد من أرخ للمعارك الفلسفية والجدلية بين المسلمين وغيرهم ، وهي من أهم ثقافات ذلك العصر الذي عاش فيه ، فمثلا نجد من يؤرخ للفرق الإسلامية والثورات كثورة الزيدية أو الخوارج أو الزنج ، ولا يؤرخ للجدل الذي وقعت بسببه هذه الثورات فلا ندري لم اهتم المؤرخون بتسجيل الحروب والمعارك السياسية ولم يولوا الفكر الباعث على هذه الأحداث قدر هذا الاهتمام؟! وإذا كنا بصدد الحديث عن المناظرات بين الإسلاميين والزنادقة ، فإن الأمر يصدق إلى حد بعيد.

فلا نجد في كتب الفرق الإسلامية متى ظهر لفظ الزندقة على وجه اليقين ، ولكن نجده بكثرة على ألسنة الشعراء ، ويقينا لم يكن اللفظ ولا أصحابه ذا شأن في العصر الأموي عنه في العصر العباسي ، ويرجع ذلك لطبيعة العصر العباسي العلمية ، ودخول الثقافات الأخرى على الثقافة الإسلامية مما دعا لإعادة النظر في كل شيء ، وتأثرت مناهج العلوم الإسلامية بالمناهج الوافدة بما تحمله من شك فلسفي وجدل ، كما أن الثقافة الإسلامية في العصر الأموي كانت ذات طابع نقلي نصي ، فلم يكن هناك جدال حول النص القرآني ، ومع احتكاك المسلمين بغيرهم واختلاطهم بالثقافات الشرقية والغربية ، بدأ علم الجدل والدفاع عن العقائد في مقابل الآخر والذي هو صاحب السيادة في هذا المجال.

أيضا مركزية السلطة واستبداد العرب بالحكم في العصر الأموي ، ساعد على استقرار أو لنقل ركود الثقافة العربية ، ومع استيلاء العباسيين على الحكم ، وظهور حكومات فارسية أخذت تروج لأديانها ولغاتها ، فبدأ المسلمون يدافعون عن دينهم في مواجهة المانوية والزرادشتية والمزدكية ، وكذلك الزنادقة والفلاسفة.

ولم تكن المواجهة مع الآخر فكرية فقط ، ولكن اتخذت طابعا سياسيا ، فكان للمهدي دور بارز في قمع الزنادقة والتنكيل بهم ، واستحدث وظيفة في جهاز الحكم

٤٧

جديدة ، وهي صاحب الزنادقة يتعقبهم في كل مكان.

ويذكر الطبري أن الأمر في العصر العباسي الأول لم يكن هينا ، فقد ظهرت كتب الإلحاد والزندقة من مانوية وديصانية ومرقونية ، وظهرت أسماء لامعة ومعروفة من أصحاب هذه المؤلفات كحماد عجرد ، ويحيى بن زياد ، وابن المقفع ، ويعزي للمهدي أيضا بأنه أول من أمر المتكلمين بالرد على الملاحدة والزنادقة ، إذا لم يقتصر جهد المهدي على إنشاء إدارة للبحث عن الزنادقة ومحاكمتهم ، بل أضاف إلى ذلك هيئة علمية لمناظرتهم والتأليف والرد عليهم.

وحقيقة الأمر إن طبيعة العصر وانفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم اجتماعيا وثقافيا وكذلك اقتصاديا ، قد أدى لدخول الناس في دين الله أفواجا ، واختلفت مقاصد المسلمين الجدد بين صادق في إيمانه ومدع فيه ، وجاء خطأ الجميع في النظر والفهم ، ليصب تيارا عاتيا من الأفكار التي تأثر بها الإسلام تأثرا شديدا عقيدة وفكرا وتطبيقا ، ولذلك كان من الطبيعي أن يظهر المتكلمون الكبار لمواجهة هذه التيارات العاتية الطارئة على الدين.

وقد شط بشعراء العصر العباسي ، وكثير منهم غير عرب ، الهوى والمجون ، فقد تزندقوا من غير إلحاد ، وتناولوا الدين وفرائضه في شعرهم.

ولكن الحق يملي علينا القول بأن المجون غلب الشعراء ، ولم يقصد أكثرهم الإلحاد والكفر ، وإن كانت تبدأ بالاستخفاف بالدين في ليالي المجون وحول موائد الخمر وتنتهي بخلع رداء الدين والخروج منه!

أما الزندقة بمفهومها الخاص ، فقد ظهر في العصر العباسي مؤمنون في الظاهر كفار في الباطن ، فطرق الزنادقة باب الدين والأدب والعلم والفلسفة لينفثوا سمومهم ، فعملوا بشكل جماعي وفردي ، ولذلك صعب القضاء عليهم تماما ، وتعددت الأغراض من إيمان المجوس والمانوية ، فآمن بعضهم لغرض دنيوي ولتحصيل الغنى ، وآمن آخرون لإفساد العقيدة من الداخل ، كطابور خامس ، بعد عجزهم عن حربها في الميادين العسكرية والمواجهة والقتال.

وبدا واضحا أثر المواجهة الثقافية في مجال الحديث النبوي ، والذي تعرض لهجمات

٤٨

شرسة من أعداء الإسلام فتناول الزنادقة الحديث بالإفساد والوضع لإفساد العقيدة وزعزعة المسلمين عن دينهم ، لأنه يضرب الأساس الثاني من التشريع فلا يستقر للمسلمين أمر ، وكيف يطمئنون لدين أسسه غير موثوق بها؟!

وإذا قد تجرأ المجوس والملاحدة على حرب الإسلام ليس في مجال الأدب فقط كما فعل صالح بن عبد القدوس وألف كتابا يسمى (الشكوك) ، ولكن تطرق حربهم إلى علوم الدين ، واعتمدوا في أحيان كثيرة أسلوب التقية والمراوغة ، وكذلك اتخذوا من سياسة الدولة شركا للإيقاع بالمسلمين في براثن الزندقة.

وهكذا عني المسلمون في هذا العصر ، بالزندقة والزنادقة ، وكان أغلب الزنادقة والملحدين من غير العرب لتأثرهم بثقافاتهم السابقة على الإسلام ، وبيئاتهم التي نشئوا فيها وتربوا عليها.

ولذلك نقول إن رد المسلمين على الزنادقة والملاحدة أمر طبيعي وقد سجلت كتب الفهارس وغيرها أسماء لامعة في هذا المجال كأمثال واصل بن عطاء (في الرد على المانوية) ، وأبي علي الجبائي في (الرد على أهل النجوم) ، (والمشبهة) ، أما أبو الهذيل العلاف فقد ألّف عشرات الكتب في الرد على المخالفين ، ومحمد بن شجاع الثلجي المعتزلي المتوفي سنة (٢٦٦ ه‍) (في الرد على المشبهة).

كما رد المتكلمون على أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى ، فنجد لأبي على الجبائي كتابا في الرد على اليهود والنصارى.

ومن هنا تتجلى أهمية كتاب الإمام القاسم بن إبراهيم في الرد على الزنادقة والملحدين والفلاسفة ، في ثقافة المواجهة والرد على الآخر ، ومحاورته دفاعا عن الدين ، وإيضاحا لحجج المخالفين ، وتحقيقا لمبدإ الجهاد في سبيل الله علميا ، وهو أحد مهام علم أصول الدين.

وهكذا نجد رسالة الإمام القاسم في الدفاع عن الدين في مواجهة المخالفين ، اعتمد فيها على المنهج الفكري الإسلامي القائم على الكتاب والسنة ، وصريح العقل بعيدا عن المنهج الفلسفي اليوناني ، مع علمه به ، وآمن بأن صحيح المنقول لا يتعارض مع صريح المعقول إن سلمت العقول من التشويش والخلط ، وسلمت النوايا في الاستقبال والفهم.

٤٩

طريقة الإمام القاسم في تناول قضايا الرسالة :

اعتمد الإمام القاسم على دليل الصنعة والإحكام والإتقان في الخلق في استدلاله على الخالق وجودا وتوحيدا بالأدلة القرآنية والعقلية ، وحقيقة قدم مفهوما جيدا محصلته أن كل عقلي هو نقلي والعكس صحيح ، ولا انفصال عن الدليلين وكلاهما يعاضد الآخر.

ثم نقد المنهج اليوناني في تصوره لإدراك النفس ، وبين أن ذات الخالق مفارقة لغيرها من الذوات ، وأن ما يعقل أو يدرك بالحس أو البرهان العقلي ، كذات ، أو بأحدهما فالله خلافه ، فيقول : (لا بد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله ، في تصحيح كل ما وصفنا صفة بعد صفة في معرفة الله ، ليأتي المعرفة بالله من بابها ، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها).

فيرى أن المعرفة بالله تحتاج إلى منهج يفضي إلى اليقين ، والإدراك الحسي أو النفسي غير كافيين في هذا الصدد : (ففاسد أن يكون الله سبحانه بواحد منهما مدركا أو معروفا) والنفوس تتباين ، وغير معقول أن يكون الحق إحداها (وكل نفس فذات قوى شتى مختلفة ، كل صفة فيها فسوى غيرها من كل صفة ، واختلاف قوى كل نفس فمعروف غير منكر ، منها التوهم والفكر ، وغيرهما من التذكر والخطر).

فيتعرض للإدراك النفسي ويبين حقيقة وماهيته ، وكما أنه لا يدرك تعالى بهذه الطريقة ، فإنه لا يدرك بالوهم أو بالتشبه بالأجسام أو الظن ، أو بالدلالة على موجود مشاهد ، وكذلك لا يدرك بحال واحدة مما سبق أو بكلها ، كما أنه لا يدرك بكونه خلاف الأشياء كلها ، فالله لا يدرك بما يدرك به خلقه.

وينفي أن يكون خلاف الموجودات هو العدم لكونه : (وإنما قولنا في العدم ، إنه خلاف في الوهم ، لا في حقيقة العدم موجودة ، ولا عين منه قائمة ولا محدودة ، وإنما يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان ، بما يدرك في العقل والعلم من الاختلاف ببت الإيقان).

ثم يبين أن الخلاف المتبقي بين ما يحس ويعقل ، والقرآن الكريم قدم الأدلة القائمة

٥٠

والشهادة القاطعة على وجوده ، في الأنفس والآفاق ، والأرض والسماء وما بينهما ، كل شيء شاهد على العلم به ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)) [فصلت : ٥٣].

واستعرض الإمام القاسم العديد من الشواهد والأدلة القرآنية على وجود الله في الأنفس كدليل الخلق والنطفة ، وكذلك خلق الجماد والنبات ، واختلاف وتباين المخلوقات النباتية ، وخلق الحي من الميت والميت من الحي.

وقدم الإمام القاسم تحليلا رائعا للآيات الدالة على وجود الله وعظمة خلقه للأكوان ، ويصدق ذلك على تفسيره وتناوله لآيات سورة الواقعة ، ولفت الأنظار إلى حجاج القرآن العقلي الجدلي للكفار حين يسألهم : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥] ، مبينا أن الكفار لم يسعهم أمام قدرة وعظمة الخلق إلا أن يثبتوا الخالق.

كما أنه وقف مع القرآن الكريم في تطور خلق الإنسان ، وكذلك تطور أحواله بعد خروجه إلى الحياة حتى موته ، مشيرا إلى أن ذلك كله يدل على الخالق الواهب للحياة وراعيها ، حتى تطرق إلى الأنسجة الحية في نموها وحياتها وموتها.

وآية الله في خلق البحار وما فيها ، وكيف هي آية مبهرة معجزة ، والفلك التي تجري فيها آية أخرى ، وخلق الليل والنهار ، والنجوم في السماء ، والفلك والمجرات العظيمة : (فصدق الله تبارك وتعالى ، ذو الملك والقدرة والأمثال العلى ، إنه لهو الله ربنا ، ومنّا منه كان خلقنا وتركيبنا ، له الملك ومنه عجيب التدبير ...).

ومن أروع ما قدمه تحليله لآيات خلق العالم والكون ، وكيف فتق الله السماوات والأرض ، وهو بصدد استدلاله على الخالق بشواهد خلقه من الإتقان والحكمة .. (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ

٥١

وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)) [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٣].

ثم تعرض لدليل خلق الماء والجبال ، وتناول مبحثا فيزيقيا في خلق الأرض ، وهل هي كرة أم لا؟ وفي كونها ، هل هي فضاء أو في ماء أو هواء؟ وتعرض لأدلة المخالفين بالنقد وسخر من التصورات الخرافية والساذجة بما يدل على أن هذا المبحث لو مضى فيه المسلمون لمنتهاه لبلغوا شأوا عظيما.

وبيّن منهج القرآن في جدال الكفار والمشركين من الصابئة وعبدة النجوم والكواكب ، على لسان إبراهيم عليه‌السلام ، وحجاجه لهم في منهج استقرائي رائع على وجود الخالق ووحدانيته ، وكونه الأحق بالعبادة والخضوع والتسليم : (والحمد لله على ما أبان من برهانه وحجته ؛ لإبراهيم صلى الله عليه في محاجته ، وفي ذلك ما يقول سبحانه فيه ، لإبراهيم صلى الله عليه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)) [الأنعام : ٨٣].

وينتهي الإمام القاسم إلى أن دليل الصنعة والخلق ، والنظر في النفس والأكوان كان منهج الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، فهكذا كان إبراهيم ونوح ويوسف وموسى ، وينجح في تحريك الأدلة نحو الوحدانية وعبادة الله الواحد ، وأن هذا مما تقبله العقول وترتضيه الفطر السليمة ، فالتأمل والنظر مما ميز الله به الإنسان على الحيوان ، وجميع رسل الله وفوا بهذا الدور في سبيل تدليلهم على وجود الله ووحدانيته. ثم يورد الآيات : (* قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ ...) [إبراهيم : ١٠].

ويعلق على كل هذا الآيات المبهرة فيقول : (فصدق الله لا شريك له ، في أن من لم يعرف هذا كله ، صنعا له وخلقا ، وحقا يقينا صدقا ، فهو في أبين الضلال ، وأخبل صاغر الخبال ، والحمد لله كثيرا رب العالمين ، على ما أبان من حججه على الملحدين ... وكيف يشك ملحد في صنع الله للأشياء كلها ، أو فيما يرى من دق الأشياء أو جلها ، وقد يرى كيف أحكمت فاستحكمت ، وانقادت للصنعة فتقوّمت ...)!

ويتطرق الإمام القاسم بعد ذلك إلى صفات الله تعالى ، فهو غني غير محتاج ، واحد أحد فرد صمد ، وعظيم عليم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وما ليس كمثله شيء فهو خلاف لكل شيء.

٥٢

وقد عرّفنا الله عليه بالتوفيق منه لنا والهداية واللطف. وبيّن أنه منزه عن كل تجسيم أو تشبيه ، ورد على الحشوية والمشبهة والمجسمة في تصوراتهم للإلهية الساذجة ..

وإذا كان هناك من الفلاسفة من أنكر وجود الله والبعث والنشور ، فإن من المسلمين من تشوش مفهومه للعدل الإلهي ، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بقضية التوحيد ، وكما احتاج الأمر في التوحيد إلى تنزيه الخالق من تصورات وأوهام باطلة لا تليق إلا بما يدرك أو يتصور من الأجسام والأعراض والأكوان ، فإن الإلهية أيضا تحتاج إلى البراءة من مثل هذه الأوهام في العدل ، وقضية العدل عند الإمام القاسم ترتكز على حكمة الله وعدله ، وما يليق بحكمه في خلقه.

فالله عزوجل الذي أنزل الحق والميزان ، ليكون الحكم بين الناس بالعدل والقسط أحق بهذا التصور ، وبكل كمال من خلقه ، وهو يمتدح بكمالات ما يمتدح به خلقه ، ولا يتصور أن يكون خلقه عدولا وهو غير عادل ، كما لا يتصور أن يكون الحق والعدل والواجب والخير بمفهومين مختلفين بين الله وخلقه كما يقول البعض ، أو أن يظلم عباده ولا يكون ظلمه لهم ظلما .. وهذا تصور لا يليق بالله ، مع أن بعض المسلمين أجاز مثل هذا التصور الموهوم المرفوض في كل العقول على الله ، حيث قالوا بأن ما يقبح من الخلق لا يقبح من الله ، وما هو ظلم في حق العباد ليس ظلما في فعل الله وأمره!

وبصدد الأصل الثالث من أصول الزيدية ، بيّن الإمام القاسم أن الله لا يخلف وعدا أو وعيدا : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، وأنه تعالى لا يخلف الميعاد. وهذا الأصل جاء في مواجهة تصور آخر غريب على الإسلام يقول بأن الله أن يدخل العصاة والكفار الجنة ، والمؤمنين النار ، أو يخرج الأولين ويدخلهم الجنة ، كل ذلك بلا جناية من المطيعين أو طاعة من المسيئين! .. في كلام باطل ، وتصور قبيح لا يليق بذات المخلوقين ، فضلا عن ذات الخالق!

ثم عاد ثانية فتحدث عن قضية الجبر والاختيار في حق الخلق ، وأثبت أن الإنسان مخير حر في أفعاله ، وهو أصل من أصول التكليف من غيره ، يبطل ويصير الوحي والنبوات والرسالة والأوامر والنواهي ... باطلة لا معنى لها.

٥٣

ثم توجه لولده ، الذي كتب هذه الرسالة إرشادا له ، في مناظرة الملحدين والزنادقة والفلاسفة الدهريين ، ناصحا له بالتمسك بالتقوى والعمل الصالح ، حتى ينال لطف الله وهداياته التي تعينه على قضية الإيمان والعمل بمقتضياتها ، فكما أن الفرق يلحق الليل والنهار ، والظلمات والنور ، والعالم والجاهل ، والمهتدي والكافر المعاند ، كذلك يلحق من علم فعمل بما علم ، ومن علم فعصى واستكبر ، وهو أمر لا يتحقق إلا بالتقوى وموالاة المؤمنين أهل الطاعة والخشية.

ويستدل على صدق المؤمن بفعله ما أمر به ، ويخرج من ذلك لبيان أن القبح والحسن عقليان ، وأن أرباب الحكمة مأمورون شرعا بالإيمان والإقرار بمعرفة الله بعد النظر والاستدلال عقلا ، وبيان حال وهيئة وصفة من جهل الصانع : (أما رأيت العامة لما هي فيه من الجهل بالله الأعلى ، إذ جهلت ما قلنا مما كثر الله على معرفته الأدلاء ، كيف قلّت بحقائق الأمور علومها ، وضلت بعد جهلها بمعرفته حلومها ، فقالت في دينها بكل قول متناقض مذموم ..). فمن جهل الله تعالى تخبط في الأوهام الباطلة ، والتصورات الخرافية المحيرة.

أما معصية إبليس فقد كانت منه ، ولو أطاع وتاب لقبل الله منه توبته وطاعته ، ثم تطرق الإمام القاسم لصفات المؤمن ، وحقيقة الإيمان ، وصفات أهل الجنة وصفات أهل النار.

وعند هذه النقطة الفاصلة تناول الإمام القاسم المرجئة بالنقد ، وتعرض لمفهوم الإيمان عندهم : (وزعم أن الله لا يعذب من أقرّ به وبرسله وكتبه بلسانه ، وإن ارتكب كل كبيرة من كبائر عصيانه) ، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة! .. وبين أهمية العمل بالنسبة للإيمان ، وهو ما اتفق عليه جمهور المسلمين.

وتناول مفهوم الحق والباطل ، وأقسامهما والولاء والبراء ، وأثر تصور المجبرة للعدل الإلهي في إلحاق كل نقيصة بخالقهم ، وينتهي إلى أن من كفر وعاند الحقيقة والفطرة والبراهين والاستدلالات العقلية ، خسر نفسه ولم يربحها وعاند نفسه لا غيره ، حتى إن فرعون نفسه لم يكن كافرا بحقيقة الإلهية ، ولم يناد على نفسه بها على وجه الحقيقة ، إذ ليس في مخلوق ، مهما كان شأنه ، جرأة على فعل مثل هذا ، إلا أنه قال لقومه أنه إلههم ، أي سيدهم وحسب .. ولم يتجاسر على ما يعتقده بعض الناس من أنه نادى على نفسه

٥٤

بالإلهية ، ويذكّر بأدلة الله في كل شيء وآيات صنعه لها ، على حقيقة ذاته تعالى.

الملاحدة

وهذا أحد الملاحدة في مصر ، يلقي بشبهاته على علماء المسلمين في عصره ، فلا يجد من يتصدى لشبهاته بالتفنيد ، ويأخذ بيده إلى مرفأ الأمان ، بالحجة والبرهان. بل ينتقص علماء الإسلام ، ويهزأ بالإسلام ، سيما عند ما يجابه بالطرد والشتائم من العلماء العاجزين عن رد شبهته ، ونزل الإمام القاسم مصر فوجد أهل مصر يحبون آل البيت حبا شديدا ، وفتحوا بيوتهم له ، وأخفوه عن أنظار السلطة ، ومع ذلك لم يكن غائبا عما يحدث في الحياة العامة ولا في مجالس الحكام والعلماء ، وما ينزل ويحل في العامة من حوادث ، وما يجد في الحياة من حوله.

وكأثر من آثار تسامح المسلمين حكاما وشعبا مع غيرهم من أهل الذمة والكفار والملحدين والمجوس والمانوية الثنوية وغيرهم ، بدأ هؤلاء في غزو الحياة الثقافية الإسلامية ، كما أشرنا من قبل ، يناظرون العلماء ويتحرشون بالعامة ، بغية هزيمة الإسلام فكريا بعد أن هزمهم عسكريا واجتماعيا.

وسمع الإمام القاسم بما أنزل أحد الملحدين بجمهور العلماء في مصر من نكبة عرفها العامة والخاصة وسار بذكرها الركبان ، وهو في إحدى دور المصريين متخفيا ، فلم يطق ما حل بالمسلمين ونزل بالعلماء ، واقترح على صاحب الدار أن يرتب له مع هذا الملحد لقاء ومناظرة ، ينازله فيها وينتصف للإسلام وأهله منه. فأتاه به ، فلما دخل عليه قال له : (إنه بلغني أنك تعرضت لنا ، وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك ، تريد أن تصيد أغمار بهم بحبائلك ، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله ، والذب عن دينه ، ونطفت على لسان شيطان رجيم ، (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)) [النساء : ١١٨].

فقال الملحد : أما إذا عبت أولئك وعيّرتهم بالجهل ، فإني سائلك وممتحنك ، فإن أنت أجبت ، وإلا فأنت إذا مثلهم.

فقال الإمام القاسم ـ واضعا قواعد فن الحوار ـ : قل ما بدا لك ، وأحسن

٥٥

الاستماع ، وعليك بالنصفة ، وإياك والظلم ، ومكابرة العيان ، ودفع الضرورات والمعقولات ، أجبك عنه ، وبالله أستعين وعليه أتوكل ، وهو حسبي ونعم الوكيل).

فيسأله الملحد عن الأدلة التي يعتمد عليها في إثبات الصانع ، فيجيبه الإمام بآيات قرآنية مثيرة لدفائن العقول.

ثم انطلق من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) [الحج : ٥ ـ ٦]. إلى مناقشة كون النطفة جسما ، والجسم مكونا من عرض وجوهر ، وهو محدث ، وكل محدث يحتاج إلى محدث قديم وهو الله ، الذي يخالف الأكوان ولا يشبهها في شيء منها ، وإلا كان مثلها ، ودليل القديم والمحدث مشهور ومعروف عند المتكلمين (١).

وكذلك تطرق إلى دليل الموجود والمعدوم ، أو الممكن والواجب ، وهو دليل فلسفي معروف هو الآخر (٢) ، ويقوم على فكرة أن العالم جائز الوجود ولذلك فهو محدث ، والله عزوجل واجب الوجود ولذلك فهو قديم.

وهذا يدل على تمكن الإمام القاسم من معرفة الفلسفة القديمة وهضمه لها هضما جيدا ، وأن كثيرا من أدلتهم في الميتافيزيقا وإثبات الغيبيات دخلت العالم الإسلام وعرفها وأعاد صياغتها مرة أخرى في إطار المنهج الإسلامي.

ويعترض عليه الملحد بأن فريقا من الفلاسفة لا يرى حدوث الأعراض (الأحوال) في اصطلاح الإمام ، ويتناول الحجاج عليه وينطلق منه إلى الحديث على الشيء ، وكون

__________________

(١) انظر إرشاد الجويني / ٢٨.

(٢) انظر مناهج الأدلة لابن رشد / ١٤٤.

٥٦

القديم شيئا ، وشيئية المعدوم ، وهي أشياء في صميم الجدل الإسلامي مع الآخر ، والخصم في هذه المحاورة ملحد عنيد ، وغير مسالم بالمرة ، ويتطرق الإمام القاسم إلى نفي الأعراض عن القديم ، وكذلك نفي التصورات السلبية عن القديم ، فهو لا شبيه له وليس من عدد ، ونقد اليونان في تصورهم للصورة والهيولى ، وهو بذلك يسبق كثيرين من مفكري اليونان الذين نقضوا المنطق ، وهو من المفكرين الإسلاميين المجددين ، والذين أنصفوا التراث الإسلامي وأعادوا له الحياة والحركة والفاعلية وامتد تأثيرهم على القرون التي تلتهم.

أريد أن أقول بلا استطراد إنه ينبغي تلمس الفكر الحر والتجديدي المحافظ على أصالته في تراث فريق من الإسلاميين منهم الإمام القاسم بن إبراهيم ، وحفيده الهادي يحيى بن الحسين المتوفي سنة (٢٩٨ ه‍) ، وابنه الناصر أحمد بن يحيى المتوفي سنة (٣٢٥ ه‍).

ثم ناقش الملحد في فكرة الكمون ، وتبعها بنقض مقالة الدهريين القائلين بأن الطبيعة خلقت نفسها بنفسها ، وناقشه في الموجود بالقوة والموجود بالفعل عند ما قال له : (إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية ..) ، وهو كلام ساذج متداعي البناء ، وما كان على الإمام القاسم إلا إثبات أن حكم الأصول في الخلق هو حكم الفروع ، وقد كان ، فاختلط على الملحد.

ثم ذهب الإمام القاسم إلى وضع أسس للمعرفة إذا سار عليها الملحد استطاع الفهم والتمييز : (اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة ، فمنها ما يعرف بالحس ، ومنها ما يعرف بالنفس ، ومنها ما يعرف بالعقل ، ومنها ما يعرف بالظن والحسبان) ، وهكذا يقدم الإمام القاسم بحثا رائعا في المعرفة ، في أثناء تناوله لقضية الإلهية من حيث الوجود.

ثم يتناول قضية علة الكون والفساد ، وانتهى ببيان كون الله علة الأشياء وفسادها ، أي : كوّنها وأفسدها من غير ما ضرورة ولا اضطرار.

ويقترب الملحد من محطة التسليم ، وتتكون لديه مسلّمات الفهم وبديهياته على يد الإمام القاسم ، ويتزعزع طاغوت الكفر في عقله وقلبه ، ويتوقف عنده الأمر على إثبات وحدانية الله الموجود الخالق ، ويتناول الإمام القاسم الدليل على الوحدانية من خلال المنهج القرآني ، فيستعين بدليل التمانع في استطراد رائع يدل على قدراته الفلسفية

٥٧

والكلامية في الإقناع البرهاني ، ويتخذ من كلام الملحد عن وجود الخير والشر في العالم دليلا على الوحدانية أيضا.

ويتساءل الملحد عن علة خلق الله للعالم ، فيرده الإمام القاسم إلى كون الله الواحد الأحد القديم ، غنيا قادرا حكيما ، فلا شك أنه خلق العالم لغاية وعلة وسبب ، ولا يسع الإمام القاسم سوى الاستعانة بالنص ، في كونه تعالى خلقنا من أجل الابتلاء والامتحان والاختبار الذي تتعدد مراتبه ودرجاته وأنواعه ، والله في كل ما خلق حكيم قادر ، ولم يخلق العالم لحاجة لأنه الغني ، والقديم لا يحتاج ، ولا يسأل عن علة خلقه للأشياء ، لأن السؤال في حقه ممتنع ومرفوض ، وإلا دعا إلى الدور.

ثم فسر ـ بفكرة الاستحقاق والعوض وإحسان الله لعباده ـ ما يحدث في هذا العالم من الآلام ، فلحكمة رآها البارئ عذّب عباده بالموت ، وأصاب بعضهم بالأمراض والابتلاء في البدن والمال والأولاد ، لداعية الإحسان إليهم بعد ذلك ، ولكن ما الذي يبرر أنها إحسان ، ولم أرغم عباده على ابتلاءات هو أرادها لهم ، وما وجه الإحسان في علمه تعالى بمصائر عباده وجهلهم بها ، ولم جعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء ، بعضهم في نعمة وسرور ، وآخرون في شر وغم؟ .. كل هذه تساؤلات وجّه مثلها وقريبا منها الملحد ليتسنى له فهم ما يفعله الله بعباده .. أي ما الذي يعلل أفعاله.

ثم أعقب ذلك بالحديث عن الرسالة والنبوءات ، وهل ما جاء به الأنبياء معقول أم لا ، أو هل تعقل الشرائع وتعلل أم لا؟ .. وما المعجزات وكيف تكون؟ .. لم يهدم الله بنية هو صانعها .. ولما ذا خلق البعث والنشور ، وما الدليل عليه وكيف يكون؟

وقد رد الإمام القاسم على تساؤلات الملحد بالأدلة الشافية الكافية من المنقول والمعقول ، وسار به سيرا حميدا بلا لبس أو غموض ، حتى انتهى به الأمر أن يسلم وينطق بالشهادتين على إثر هذه المناظرة ، ويقول : (تعست أمة ظلت عن مثلك). وأسلم وحسن إسلامه ، وصار من مريدي الإمام ومحبيه ، والآخذين عليه ، مما يعني أن المناظرة حققت أهدافها كاملة ، وتكلل جهد الإمام القاسم بالنجاح ، عند ما توفر عنده المنهج السليم ، والعلم الذي صدق قواعد منهجه ، وسبق كل ذلك نية صالحة في هداية الخلق ، والدفاع عن الشرع والدين ، ونعجب أشد العجب عند ما نعلم أنه كان يجادل عن دينه وينصره ، وهو مطارد غريب شريد بعيد عن الأمن بين الأهل والأوطان!

٥٨

وصدق الله العظيم ، إذ يقول : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، ويقول : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، ويقول : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١].

ويبدو أن حركية الإسلام وسره الفاعل في أتباعه ما زال يسري روحا نابضة حية ، فنجد المجاهد البوسناوي المعروف (علي عزت بيجوفيتش) يؤلف كتابا يسميه (الإسلام) يدافع فيه عن عقائد الإسلام في محاوراته مع الملحدين من أبناء الشيوعية في الغرب ، ونجد (رجاء جارودي) المسلم الفرنسي والمفكر الإسلامي الكبير الذي أغنى المكتبة الإسلامية بكثير من الأفكار ، التي كانت في حاجة إليها في مواجهة القوة العاتية للآخر ، الذي لم ير أمامه سوى الإسلام عدوا يحاربه بكل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية ، نجد هذا المهتدي للإسلام يواجه الشيوعية مرة والصهيونية العالمية مرة أخرى ، ثم ينتقل بالمواجهة إلى تحدي النموذج الغربي ، مبشرا ببزوغ فجر الإسلام من جديد ، واندحار هذه الحضارة المادية الغاشمة وآلاتها بكل ما فيها من غطرسة ، وما أريد قوله إن هؤلاء امتداد طبيعي لأمثال الإمام القاسم بن إبراهيم من علماء الأمة الإسلامية.

الزندقة وابن المقفع الزنديق

وهذا ابن المقفع الزنديق ، يلقي بشبهاته على المسلمين ، فلا يجد من يتصدى له ، إلا الإمام القاسم رغم الفارق الزمني بين ابن المقفع وبين الإمام القاسم ، إذ قتل ابن المقفع سنة (١٤٢ ه‍) وولد الإمام القاسم سنة (١٦٩ ه‍) ، فالفارق بينهما (٢٧ سنة) ، والاحتمال الأكبر أن الإمام أجاب عليه وعمره (٣٠ سنة) ، فيكون الفارق الزمني بين كتابيهما (٥٧ سنة).

والعقائد الشرقية تعد من أطول العقائد عمرا ، وأبعدها في التاريخ ، وعلى الرغم من احتدام المعركة بين الإسلام والإلحاد والزندقة ومع العقائد الدينية كاليهودية والنصرانية ، إلا أن شأن الثنوية والعقائد الشرقية بدا وكأنه قد انتهى ، وهو ما لم يعترف به عبدة الأصنام ، والسيخ والبرهمية والهندوس وعبدة النار ، التي لم تطفأ منذ أوقدوها وعبدوها وصارت رمزا لحضارتهم.

٥٩

وإذا كانت الصدامات الحضارية قد أخذت أعلى منحنى لها في العصر العباسي مع المجوسية والمانوية وغيرها في الشرق ، ثم هدأت تماما ، فلم نجد كتبا ولا مؤلفات بعد ذلك ترد على عقائدهم ، إيمانا من غلبة التوحيد وأنصاره عليهم ، إلا أن أعداء الإسلام لم يؤمنوا أبدا بهذا السلام ، وما حدث ويحدث بين المسلمين والهندوس والسيخ في شبه القارة الهندية يدل على ذلك ، وأحداث كشمير التي تعد بؤرة للصراع الحقيقي بين المسلمين ، وهذه العقائد تمثل أصدق تمثيل حقيقة الصدام الحضاري بين الإسلام كثقافة وحضارة وعقيدة ، وغيره من ثقافات الشرق الأقصى.

وكذلك صدام المسلمين الحضاري مع عبدة بوذا وماني في شبه القارة الصينية ، وعدم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم أو المشاركة في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للصين ، فضلا عن هضم الكثير من حقوقهم ، وتجاهل جماعات حقوق الإنسان في الغرب لوضع المسلمين هناك ، كل ذلك يشهد بأن الصراع لم يمت بين التوحيد والاثنينية ، وبين من يشعلون النار في المعابد تحت أقدام تمثال بوذا وماني وأصحاب العقيدة الخالدة.

لقد ظل الإنسان في التاريخ يعبد الله ويوحده ما دامت هدايات السماء تترى وتتابع عليه ، إلا في زمن الفترات التي انقطع فيها الوحي ، وغابت عنه الرسل ، ضل وعبد الأصنام والأوثان ، واخترع دينا أرضيا يرضاه ويشبع هواه وقناعاته الشخصية.

ولذلك تتمثل إشكالية العقيدة الثنوية وغيرها من العقائد الشرقية في عبادتهم لآلهة أرضية أو حتى سماوية محسوسة ملموسة متعددة ، أما التوحيد والصمدية وتقديس الذات عن مشابهة المخلوقين فقد غاب عنهم ، أو لنقل غابوا عنه.

فإله واحد للخير والشر والنور والظلام ، خلق الإنسان والملائكة والشياطين ، لا يقبل الهدايا والرشا والفساد ، لم يدركوه.

وينقد الإمام القاسم تقسيم الثنوية في عقائدهم الأشياء إلى قسمين ، نور وظلمة ، خير وشر ، أرض وسماء ، ملائكة وشياطين.

وكل مخلوق نتج عن مزاج النور والظلمة وتزاوجهما ، رغم أن كلا منهما يمثل اتجاها وهو في نفسه إله ، ورغم عداوة كل منهما للآخر ، وأنهما متنافران لطبيعة كل

٦٠